الأحد، 10 ديسمبر 2023

نظرية القطيعة الإبستيمولوجية. غاستون باشلار

من البنيوية إلى ما بعد الحداثة
كتاب ” الفكر العلمي الجديد” الذي ترجمه إلى العربية عادل العوا، يرى أن التجربة العلمية ماهي إلا تطبيق للعقل ونظرا لذلك فإنه يعتقد “وخلافا لما درج عليه ديكارت أن الأهم هو العقل” حيث “يذهب باشلار إلى إبراز ما للتجربة من أهمية قصوى”

*********************
ربطها بكتاب الذاكره
الأسباب العميقة لارتباطنا بمكان ما خصوصا البيت، الذي هو رمز الألفة المحمية،  فهو يرى أن البيت أكثر من منظر طبيعي، هو ظاهرة نفسية، حتى لو رأينا صورا خارجية له؛ فهو مكاننا الذي ينطق بالألفة والحماية، الوسيلة التي نرسي بها جذورنا يوما بعد يوم في هذا العالم.

يقول باشلار إن "كل كتاب جيد يجب أن تعاد قراءته بمجرد الانتهاء منه، فبعد القراءة التخطيطية الأولى تأتي القراءة الخلاقة"، يبدو أن القراءة الأولى لا تكشف لنا إلا القليل، وكتابه هذا لا تكفيه قراءة واحدة؛ في البداية ينكشف عالم باشلار الغريب بحذر ولكن مع القراءات المتكررة ينفتح الكتاب ويمنحنا صورا فنية نبني بها روابط وعلاقات جديدة مع الأماكن التي لم نعد نشعر بها، يحكي باشلار أنه عندما انتقل لباريس كان منزعجا من صوت السيارات في المدينة كل صباح، لكنه عندما قرأ صورة وردت في قصيدة للشاعرة ايفون كاروتش، التى بدا لها فجر المدينة "همهمة قوقعة فارغة" أعانته هذه الصورة لأن يستيقظ برفق وبشكل طبيعي وكتب: "كل صورة جيدة، إذا عرفنا 
كيف نستخدمها" فمن المريح بالتأكيد تحييد الأصوات غير الأليفة لجعلها أقل عدائية؛

 تجنب باشلار دائما أن يعطي نفسه اسم الناقد الأدبي لأنه لم يكن يهدف أبدا إلا لمتعة ولذة القراءة
فكرة "تعليق القراءة"، وهو يعني بتعليق القراءة أي أننا عندما نقرأ وصفا لحجرة فإننا نتوقف لنتذكر حجرتنا نحن، يقول: "إذا أردنا أن نقدم للقارئ "قيم الألفة" فعلينا أن ندفعه إلى حالة من تعليق القراءة، لأن القارئ لن يستطيع دخول حالة حلم اليقظة إلا عندما يتوقف عن قراءة ذكرياتي عن حجرتي، وعندما يكون الذي يسترجع ذكرياته شاعرا فإن روح القارئ تزدحم بالأصداء، وتعيش ذلك النوع من الذبذبات التي كما يقول منكوفسكي، "تمنح طاقة البدء للوجود"، وهذا يعني أن قراءة المكان في الأدب تجعل القارئ يتوقف ويضع الكتاب جانبا، يكتب: "إن قيم الألفة تمتلك جاذبية تجعل القارئ يتوقف عن قراءة حجرتك: إنه يرى حجرته مرة أخرى، إنه بعيد عنك الآن يصغي لذكرياته عن أب وجدة، عن أم أو خادم، باختصار عن الإنسان الذي يسيطر على أحب ذكرياته"
لم نتوقع أصلا أن بإمكان أحلامنا التي عايشناها أن تسطر في كلمات

 كيف يمكن أن يتحول الإنسان من عالم إلى شاعر. باشلار "أكثر الشعراء فلسفة والفيلسوف الأكثر شاعرية" هكذا يطلق عليه، فمسيرته كانت مختلفة وغير متوقعة، فقد ظل دائما خارج التصنيف، باشلار (1884 - 1962) الذي درس فلسفة العلوم وقدم أفكارا متميزة في هذا الحقل تحولت عناوين كتبه من "العقل العلمي الجديد، تكوين العقل العلمي، العقلانية والتطبيقية، المادية العقلانية" إلى "جماليات المكان وشاعرية أحلام اليقظة"، من المثير أن القليلين ممن يقرأون كتبه في فلسفة الجمال لا يعرفون شيئا عن الجزء الأول من حياة هذا الرجل الغريب.

Jun 25, 2019
***********************
 الباحث عند تلمس معرفته من بابها الفلسفي لابد أن يولي عقله جهة الغرب. لن أنشغل هنا بمسائل من نوع الاستلاب للغرب والمحافظة على الخصوصية بل سأقفز سريعا إلى أفق التجربة الفلسفية في الغرب، حيث تعمل العقول بشكل مدهش بحياة كاملة لإبداع الجديد من الأسئلة والجديد من محاولات الإجابة بحيث يبدو المشهد الفكري منبثقا دوما ومتفتحا على المزيد المزيد من الآفاق. في وقت انسجنت كثير من العقول هنا في دوائر وهمية منذ زمن سحيق.

من هنا جاء الاهتمام بهذا البحث الهام للدكتور عمر مهيبل الذي كان قد زود المكتبة العربية بعمل جاد بعنوان "من النسق إلى الذات : قراءة في الفكر الغربي المعاصر". وها هو الآن يطرح بين أيدينا عمله الجاد حول إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة.

في هذه الحلقة سنهتم بالجزء المخصص في هذا الكتاب للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار المعروف بفيلسوف القطيعة، الوجه الآخر للاتصال. يقول عمر مهيبل في شرح أسباب اختياره لباشلار بالذات، رغم أن الكثير كانوا يتوقعون دراسة برغسون وهو فيلسوف اتصالي بامتياز، يقول مهيبل "لقد رأينا منهجيا أن البداية كرونولوجيا ومعرفيا إنما تكون من الفيلسوف غاستون باشلار الذي يجسد في تحديدنا المنهجي الوجه الآخر لجدل التواصل وهو اللاتواصل،
باشلار يرى أن المعرفة العلمية الحقة، الموضوعية، إنما تبدأ عندما يستطيع الفكر العلمي قطع صلته بهذه المعرفة الأولية الساذجة قطعا جذريا".

من هو باشلار ؟
بشكل سريع باشلار هو فيلسوف علم ( أبستمولوجي ) يهتم بشكل أساسي بالقيام بتحليل نفسي للمعرفة العلمية، بمعنى أن باشلار يطبق مفاهيم علم النفس على المعرفة العلمية بحكم أنها متأثرة أيضا باللاشعور والكبت وغيرها من الفرضيات النفسية، 
دراسته الثانوية عمل موظفا في البريد حتى سنة 1913حين حصل على الليسانس في الرياضيات والعلوم. ثم عين مدرسا للفيزياء والكيمياء في مدرسة ثانوية ثم حصل على الدكتوراه في الآداب ( قسم الفلسفة ) من السوربون سنة 1927.وفي سنة 1930أصبح أستاذا للفلسفة في جامعة ديجون ثم عين أستاذا لتاريخ العلوم وفلسفتها في قسم الفلسفة بكلية الآداب ( السوربون ) بجامعة باريس واستمر في هذا المنصب إلى وقت تقاعده 1954.وتوفي سنة 1962في باريس.

في ملاحظات أولية يسجلها عمر مهيبل على فلسفة باشلار يصل إلى أن قيمة هذه الفلسفة تتمثل في رفضها لا غير، رفضها للأنساق الفلسفية المثالية والعقلانية ونقدها. إلا أن قراءة باشلار تظهر أن الفلسفة التجريبية البحتة أيضا كانت محلا لنقدها ورفضها، فقد كان في منطقة وسطى بين العقلانية المثالية والتجريبية المثالية أيضا، يسمي باشلار هذه المنطقة ب "العقلانية التطبيقية"

 الأبستمولوجي عند باشلار له مهمة محددة هي عبارة عن التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية. تحليل نفسي يكون موضوعه الأساس لا شعور الباحث في مجال العلوم بينما يتمحور هدفه حول اكتشاف جملة العوائق التي تعيق السير الحسن لعملية المعرفة. 
الأنساق الفلسفية القائمة غير قادرة على فهم التفكير العلمي بسبب التعارض بين خصائصها وخصائص التفكير العلمي. تبرز أساسا في كونها، أي الأنساق الفلسفية، أنساق غائية مما يعني انغلاقها فيما لا ينسجم مع غايتها المحددة. فيما يمتاز العلم بانفتاحه على كل الآفاق. كما أن الأنساق الفلسفية تعاني مشكلة لغوية فلغتها عاجزة عن تحديد مقاصد العلماء تحديدا حقيقيا أو أن تبلور رؤية واضحة لمفاهيم العلم.

************************

القطيعة الإبستمولوجية عند غاستون باشلار

القطيعة المعرفية هي عبارة عن قفزات نوعية تحدث في تاريخ العلوم وتحدث القطيعة الإبستمولوجية، عند نشأة علم جديد أو نظرية علمية جديدة قاطعا الصلة مع ما سبقه من علوم ومعارف.
إن القطيعة إعلان عن ميلاد علم جديد غير مرتبط بما قبل تاريخه، ميلاده ولا تعبر القطيعة الباشلارية عن تغيير مفاجئ، إنما المقصود المسار المعقد الذي يتكون في أثنائه نظام لم يعرف من قبل.
إن النظريات العلمية المستجدة في كل عصر، لا يمكن النظر إليها على أنها استمرار النظريات السابقة، فلا يمكن مثلا إرجاع فيزياء إنشتاين إلى فيزياء نيوتن ولا فيزياء نيوتن إلى غاليلي {1564-1642} ومنه إلى أرسطو.
إن كل نظرية علمية مبنية على أسس مخالفة للنظريات السابقة عنها، ومفهوم القطيعة بلغة باشلارية متجادل مع مفهوم العائق، فإذا كانت العوائق سببا في تباطؤ واختلال المعرفة العلمية وجمودها، فإن القطيعة هي الفعل الابستمولوجي الذي تمة به تجاوز هذه العوائق ونشيط الفكر العلمي بعد جموده، ولذلك باشلار في كتابه “جدلية الزمن”، يحث على النظر إلى تاريخ الاكتشافات والإبداعات العلمية وفق منهج إيقاعي RYTHMIQUE على وزن {عائق – قطيعة} ، {خمول – نشاط} فتاريخ العلوم ليس ترابطا زمنياCHRONIQUE على منوال الديمومة البرغسونية، يقول باشلار “إننا حين نفحص شتى تصاميم تسلسل الحياة النفسية ورقة ورقة، نلاحظ الانقطاعات في النتاج النفساني، فإذا كان تمة تواصل وهو غير موجود أبدا في التصميم الذي يجري فيه فحص خاص، مثال ذلك أن التواصل هي فعالية الدوافع الذهنية، لا يكمن في التصميم الذهني، إننا نفترضها في تصميم الأهواء والغرائز والمصالح”[1]
إذن مفهوم القطيعة الإبستمولوجية مفهوما أساسيا عند غاستون باشلار وهو مفهوم يعبر في نظره عن فترات الانتقال الكيفي في تطور العلوم، فبقدر ما تحدث تلك الكيفية بقدر ما تحدث قطيعة إبستمولوجية في الفكر العلمي الجديد والفكر السابق له.
إذن تاريخ العلوم هو تاريخ القطائع الإبستمولوجية، قطائع منهجية على مستوى التصورات وعلى مستوى المناهج، وهي قطائع نابعة من داخل العلم، وتاريخ العلوم من ناحية تاريخية يهتم بتتبع تاريخية إنتاج التصورات العلمية، فكل علم له سيرورته الخاصة.
يمر العلم بمراحل يعرف فيها تارة تباطؤات نتيجة العوائق، وأحيانا أخرى نوعا من التسارع بسبب حدوث قطيعة بين مرحلة وأخرى، ولذلك هاجم باشلار مؤرخي العلوم الذين قدموا العلم كرواية متسلسلة مليئة بالمغامرات.
إن أصحاب النظرية الاتصالية يرون بأن التاريخ، حوادثه متسلسلة نتيجة اتصال الزمان، فكل مرحلة تؤثر فيما يتلوها من مراحل، فالمعرفة العلمية عند هؤلاء مجرد امتداد للمعرفة العامية، ويمكنني بهذا الصدد أن أعرض عليكم السجال بين الرأي الإتصالي وفيلسوف القطيعة باشلار في الأدلة التالية:
  • تاريخ العلوم
أنطلق من سؤال، هل الماضي دليل على تقدم الحاضر أم الحاضر دليل على تطور العلم؟
الإتصاليون يقولون باستمرارية التاريخ، فلكل حدث تاريخي له جدور وأصل أول والمعرفة العلمية لم تنشأ إلا ببطيء، فالعلم ولد تدريجيا من رحم المعارف العامية وأطروحتهم تتلخص في العبارة التالية : “فما دامت البدايات بطيئة فالتطور مستمر”[2]
“ومن أبرز الفلاسفة الممثلين للنزعة الاستمرارية، ندكر الإبستمولوجية الكونتية التي تعتبر بأن الفكر مر بمراحل متصلة من اللاهوتية إلى الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية، وإميل ميرسون الذي يعتقد بأن دور العالم هو وضع نظرية تفسير الظواهر الطبيعية بأسبابها الحقيقية، فكل ظاهرة هي نتيجة لظاهرة سابقة، {الفكر التلقائي قريب من الفكر العلمي}، وآخرون مثل برغسون…إلخ.”[3]
وبالتالي ما نلاحظه مع هؤلاء أن العقل الإنساني يظل هو ذاته عبر كل مراحل تاريخ الفكر العامي استمرارا للفكر العلمي المعاصر واستمرارا للفكر العلمي السابق له.
أما باشلار فهو يقول: “إن في تاريخ العلوم قفزات كيفية ينتقل بفضلها إلى نظريات جديدة، لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد استمرار للفكر السابق، فبقدر ما تتحقق تلك القفزات الكيفية، بقدر ما تتحقق قطيعة ابستمولوجية بين الفكر العلمي والمعرفة العامية”.[4]
ومن هنا يتضح لنا، أن باشلار يصر على أنه لا يوجد هناك تواصل بين الماضي والعلم الراهن، فالجديد لا يؤكد حضوره إلا بتجاوزه للقديم، ويصنف باشلار مفهوم القطيعة الإيبستمولوجية إلى مستويين:
المستوى الأول: تكون فيه القطيعة بين المعرفة العامية والمعرفة العلمية.
المستوى الثاني: تكون فيه القطيعة بين النظريات العلمية الجديدة والنظريات العلمية السابقة عنها.
يرفض باشلار النظرة الاستمرارية في تطور النظريات العلمية، والتي ترى بأنه يجب البحث عن أصول كل نظرية علمية في الماضي السحيق لتطور العلم الطبيعي، وتؤكد الاستمرارية على هذا المستوى بأن التفكير العلمي بدأ بسيطا، متعثرا، بطيئا في تقدمه، ثم بعد ذلك عرف تغيرات سريعة.
فهذا الطرح يعارضه كليا باشلار في حديثه عن تاريخ العلوم الذي يتميز في نظره “بأهم صفة وهي الانقطاعات المتكررة التي تشهدها نظرياته، لأنه يريد أن يبين بأنه في تاريخ العلوم هناك قفزات تجعل العلم يبدع نظريات جديدة، لأن الجديد لا يؤكد حضوره إلا بتجاوز القديم، فليس هناك تواصل بين الماضي والعلم الراهن”.[5]
كما أن الاختلاف يكمن أيضا في الموضوع المدروس، “فالموضوع الذي يدرسه العلم المعاصر يختلف عن الموضوع المدروس في العلم الكلاسيكي، فموضوع العلم المعاصر ليس المعطى الحسي فحسب بل يكون موضوعا للفكر في حد ذاته وذلك ما نلمسه في الأبحاث الجديدة التي دشنها الميكرو فيزياء، ففي سياق الفكر الأشد تآلفا وتماسكا لا يمكننا الانتقال من جوهر إلى آخر بواسطة فكر متواصل”،[6] وبوجه أعم، كيف لا يمكن رؤية أي تمايز في المظهر وفي الهيئة هو علامة انقطاعات مطلقة؟
هذا يعني أن الموضوع يثم بناؤه من جديد دون أي اعتبارات واقعية، بهذا المعنى تعد ابستمولوجية باشلار نموذجا جديدا، حيث يوظف مفهوم القطيعة في لحظات مختلفة لتطور العلم، وطرحت سؤال بهذا الصدد، أين أصبحت الإبستمولوجية الباشلارية تتحدث عن مفاهيم لا استمرارية؟
يرى باشلار أن العلم لا يقوم على منهج واحد، بل هو دائم البحث عن مناهج جديدة فتقدمه مرهون بمدى قوة المنهج المستخدم، يكون تقدمه مرهون باستحداثه لطرق جديدة. هذه المناهج يكون بوسعها دائما مواكبة مستجدات الحقل المعرفي والعلمي ومواجهة الصعوبات التي قد يصطدم بها العقل، “لأن العقل العلمي دائم البحث عن الجديد، ولا يمكننا أن نمتلك خاصية العقل العلمي، طالما غير متأكدين في كل لحظات الحياة الفكرية من إعادة بناء معرفتها بكاملها”.[7]
يقول باشلار: “المرحلة المعاصرة فهي بالتحديد تستنفذ القطع بين المعرفة العامية والمعرفة العلمية، بين التجربة العامية والتقنية العلمية، وهنا يوجه نقده للفيلسوف، بالقول، الفيلسوف لا يذهب بعيدا ويرى ليس من المهم معايشة العلم الحالي الذي يعرف انفجارات أي ثورات من كل جانب والتي فجرت الإيبستمولوجية التقليدية”[8]
كما يرى باشلار أن الإيبستمولوجي، إن لم يتمكن من مسايرة الكشوف العلمية المعاصرة لا يستطيع فهم تطور المعرفة العلمية، فالعلم المعاصر قطع صلته تماما بالمعرفة على الصعيدين النظري والتطبيقي، ولذلك يلح باشلار على معاصرة العلم لوعي تاريخه فحاضر العلم دليل على تقدمه عن الماضي. إن مؤرخ العلوم عليه أن يقوم بحركة تراجعية ليدرك القطائع الحاصلة في المعرفة العلمية.
فالثقافة العلمية إن سادت لمدة من الزمن، لابد من أن تهدم العلم الذي مثله الماضي، لأن العلم في مبدئه يعارض الرأي العامي الساذج والسطحي فهي معرفة سيئة التفكير تترجم الحاجات إلى معارف وتنظر إلى الظواهر بطريقة نفعية، واعتقاد الفكر العامي امتلاكه للمعرفة فإن هذه الوثوقية تمنع من التعرف. لا يمكن تأسيس أي شيء لذا يجب تخريبه، إن الرأي الأول عائق يجب تذليله.
وهنا سأقف وقفة بشكل سريع على فلسفة العلم عند باشلار، وأبرز الانتقادات التي توجه بها إليها:
– عاب باشلار على نظريات المعرفة التقليدية استغلالها الإيديولوجي للعلم لأنها وظفت نتائج العلم لخدمة الفلسفات التي تقوم عليها، إن مثل هذه الفلسفات المغلقة على نفسها لا تستطيع متابعة التطورات العلمية المعاصرة، ويقول باشلار، “عندما ندرس المسالك المتعددة التي يسير عليها التقدم الرياضي للميكانيكا الموجية {…} سرعان ما نتأكد من قصر النظر الفلسفات التقليدية”[9]
فاستخدام المذاهب الفلسفية  في ميادين بعيدة عن أصلها الروحي، عملية دقيقة ومهمة، إذا ما راعت خصوصية العلم لكنها مخيبة للآمال في أغلب الأحوال، “لأن هذه الأنساق حيث تفكر في العلم بطريقة فلسفية ميتافيزيقية، تبقى جامدة وعقيمة ولا تستطيع مواكبة حركية المعرفة العلمية، وإذا فسرنا العلم بمبادئ الفلسفة وتأملات ميتافيزيقية نجد أنفسنا أمام ضرورة تطبيق فلسفة غائية ومغلقة على فكر علمي متفتح”.[10]
إن مثل هذا التوظيف يغضب العلماء والفلاسفة والمؤرخين، لأن العلماء يرفضون إدخال الفكر الميتافيزيقي في منظومتهم العلمية ولا يعتبرون إلا بما تقدمه التجربة المخبرية، إن كانوا في مجال العلوم التجريبية وبالبرهنة العقلية إن كانوا في العلوم الرياضية، في حين يصر الفلاسفة على تناسق الفكر البشري ووحدته وشموليته. ولذلك يطرح الفيلسوف دائما اشكالية المعرفة بمقتضى هذه الوحدة، فهو ينتقي من العلم النتائج التي تلائم مذهبه الفكري.
ما يمكن قوله في الأخير، أن استعمال مفهوم “القطيعة الإبستمولوجية” من قبل غاستون باشلار، لأنه لم يكن بإمكانه أن يتقبل التاريخ العلمي على أنه مجرد تكديس للمعلومات، مؤكدا على دور الثورات العلمية، في تحقيق قفزات نوعية يثم الانتقال بفضلها إلى نظريات جديدة لا يمكن أبدا اعتبارها استمرارا لنظريات سابقة عليها.
[1] باشلار غاستون، جدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الجزائر 1983 ص 8
[2] BACHELARD GASTON, MATERIALISME RATIONNEL P.U.F. PARIS 1963 P 210
[3]  فؤاد كامل وآخرون ..الموسوعة الفلسفية المختصرة، دار القلم د-ط، د-ن ص 116 /محمد وقيدي، فلسفة المعرفة عند باشلار ص 82
[4] بوعزة ساهل، أوراق باشلارية، دار القرويين الدار البيضاء ص 1، 2001 ص9 ص 33
[5]  مدخل إلى فلسفة العلوم، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الطليعة لبنان ط 1، 1988 ص 76
[6] غاستون باشلار “جدلية الزمن” ترجمة خليل أحمد خليل المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع لبنان ط 3 1992 ص 38
[7]  غاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ص 09 ترجمة خليل أحمد خليل المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ص 198
[8] BACHELARD. G MATERIALISME RATIONNELLE, OP CIT. P 210
[9]  محمد وقيدي: ما هي الإيبستمولوجيا ص 23 مكتبة المعارف للنشر بيروت ط 2 1987
[10]  غاستون باشلار، فلسفة الرفض، ترجمة د خليل أحمد خليل، دار الحداثة بيروت ط1 1985 ص 5

*************************
صدر حديثاً كتاب بعنوان "القطيعة الابستمولوجية: رحلة مفهوم بين العلم والثقافة"، لمحمد مستقيم.
يهدف هذا المصنف إلى تقديم مجموعة من المفاهيم الابستمولوجية باعتبارها أدوات وظيفية تكون قابلة للاستنبات في تربة الثقافة العربية المعاصرة،
إن العقل العربي اليوم في حاجة إلى جهاز مفاهيمي ابستمولوجي نقدي لإعادة النظر في كثير من القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وعلى رأسها قضايا التراث، وكيفية التعامل معها من منطلق عصري يستحضر المنجزات المعرفية والعلمية للثقافة الإنسانية والفكر العالمي. إن التأخر التاريخي الذي تحدث عنه مفكرو النهضة في الثقافة العربية المعاصرة لا زال ممتدا إلى اليوم، في حين يعرف العالم تطورا كبيرا على كافة المستويات كان من نتائجها ظهور الثورة الرقمية التي غيرت وجه العالم وفرضت علينا الانخراط في مسار العولمة

نحن في حاجة إلى مكتسبات المعرفة العلمية الحديثة من أجل تحديث العقل العربي، وليس هناك من سيقوم بهذه العملية غير الفاعلين ضمن هذه الثقافة والمشتغلين في مجالات الفكر والنقد. من جهة أخرى، فالدرس الأكاديمي العربي اليوم في حاجة كذلك إلى تحديث آليات اشتغاله عبر إدماج المفاهيم الابستمولوجية في البرامج التكوينية والبحث العلمي، لأن غياب التفكير النقدي جعل المؤسسات الجامعية عند العرب تعمل على تخريج أطر "علمية" تفكر بطريقة تقليدية لا فرق بينها وبين من يتخرج من كليات الشريعة وأصول الدين.

إذا كان تاريخ الفكر الابستمولوجي هو تاريخ النظريات التي تفسر حركية العلم وتطوره عبر مختلف الأزمان والعصور، فإن المفاهيم هي أدوات إجرائية يتم استعمالها من أجل قراءة تلك المسارات التي طبعت هذا الصنف من التفكير الإنساني. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعدد المفاهيم والنظريات التي تفسر الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية، يكشف أن بنية العقل البشري ليست بنية ثابتة مكونة من بديهيات ومبادئ مطلقة ونهائية، بل هي سلسلة من التطورات النوعية التي تقود العلم إلى التطور المستمر. وقد ركزنا في القسم الأول من هذا الكتاب على عينة من المفاهيم التي نرى أنها تشير بالفعل إلى تلك التحولات والثورات بل والقطيعات التي حدثت في فترات تاريخية معينة. وهي مفاهيم تبقى نماذج ممثلة فقط، كما أشرنا إلى ذلك، دون أن تختزل باقي المفاهيم الأخرى. كما أن هذه المفاهيم لا تعكس فقط العلاقة التي تربط العلم بالفلسفة، بل تربط المعرفة العلمية بمجالات فكرية وثقافية وتاريخية، خصوصا تلك المفاهيم الرحالة التي تخترق الأقاليم المعرفية والمجالات التداولية التي نشأت فيها لتعبر نحو آفاق معرفية جديدة ومختلفة عن الأولى. وهذا ما جعلنا نخصص القسم الثاني من الكتاب لكيفية تمثل وتطبيق مفهوم القطيعة الابستمولوجية عند ثلاثة أعلام من الفكر العربي المعاصر، وهم عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون.

الثلاثاء، 5 ديسمبر 2023

الثروة واللذة والسلطة، ولا يلتفت إلى سمو الروح ونبل الأخلاق، وفيوضات المحبة

 «يتحتم علينا، كما يقول أرسطو، أن نحشر في زمرة التعساء أولئك الذين يجعلون لاكتساب الثروة أهمية تفوق العناية بطباعهم وأخلاقهم». 

الجمعة، 1 ديسمبر 2023

بضاعتنا رُدّت الينا . الليبرالية «في أحوالنا وأحوال سوانا»

خروج من الانتماءات الضيقة الليبرالية سبيلا لتجاوز الفوات الحضاري العربي 

 علوم الغرب وتقدّمه ونهضته ذات أصول في حضارتنا العربية. وأنّ ما يتحدّانا به من إنجازات علمية وثقافية إنما هو "بضاعتنا رُدّت الينا" وهي المقولة المتوارثة من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وفرنسيس المراش ورشيد رضا الى راشد الغنوشي ومحمد عابد الجابري وحسنين توفيق ابراهيم وسواهم.

 هذا الإدعاء الذي يبلسم "وعينا الشقي" يتجاوز حقيقة أنّ الحداثة شكّلت فضاءً جديداً بالفعل، بما أرسته من قيم وتصورات غير مسبوقة بصدد الإنسان وموقعه في الكون، والعقل الإنساني ومرجعيته المطلقة، والسلطة وشرعيتها، ما أسّس لمفاهيم الفرد والحرية الفردية والعقد الإجتماعي والمجتمع المدني.

 "لماذا تأخّر العرب وتقدّم الآخرون؟

العرب لم يعرفوا إلاّ حداثة معطوبة مستوردة لم يشاركوا في إنتاجها أو صنعها.

فهل كانت ثورة الغرب الحداثية نتيجة لأفكار هوبز ولوك وروسو ومونتيسكيو، أم أنّ مجتمعات الغرب بديناميتها الإجتماعية والسياسية والثقافية هي التي أنتجت مثقفين مثل هوبز ولوك وروسو ومونتيسكيو، وأفكاراً مثل العقد الإجتماعي، ودولة الحق، والحرّية السياسية والإجتماعية؟

*

يستعيد المفكر السياسي حازم صاغيّة في كتابه «في أحوالنا وأحوال سوانا» (دار الساقي 2003) هذه الإشكالية، من موقع التشديد على الدور الذاتي، وأول هذا الدور «يطال مكافحتنا نظامَ القرابة الموسع - طائفية، إثنية.. مما كافحه غيرنا ممن تقدموا»

 عام 1902 اندلعَ السجالُ بين محمد عبده وفرح أنطون حول الدين والحرية والعِلم والعَلمَنة، وفي عام 1925 دعا علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحُكم» إلى فصل الدين عن الدولة، وفي عام 1926 كَتَبَ طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وفي عام 1937 وَضَعَ إسماعيل أدهم رسالته «لماذا أنا ملحد؟».

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنشئت دار الكُتب المصرية وصَدرت صحفٌ ومجلاتٌ مثل «الأهرام» و«المُقتطف» و«المقطم» في مصر، و«حديقة الأخبار» و«نفير سورية» في لبنان، وفي هذه الحقبة أيضاً، تعرَف العالَمُ العربي إلى المسرح والفن الروائي والسينما، وذلك كله كان على صلةٍ بالغرب والثقافة الغربية التي تأثر بأفكارها ومبادئها رواد نهضتنا الحديثة، من رفاعة الطهطاوي وبطرس البستاني إلى جرجي زيدان وطه حسين، مرورًا بجبران خليل جبران، وأمين الريحاني، ومن دون أن يذهب هؤلاء إلى ادعاء التبعية الكاملة للغرب أو أبوته لنا.

نشأة الإخوان المسلمين في عام 1928، ونكبة فلسطين في عام 1948، وانقلاب جمال عبد الناصر في عام 1952، ليحل محلها الالتحاق بالسرديات الشعبوية والاتجاه إلى عسكرة الثقافة.

راجت نظريات المنظر الشيوعي الايطالي أنطونيو غرامشي في «المثقف العضوي» حيث خَنَقَ العضوي الثقافي وقيده بمهماتٍ يصعب ردها إلى الثقافة، في حين لم يكن الالتزام هو قضية المثقف، بل الديمقراطية التي أساسها الحريات العامة، وقد انتهت تجارب مثقفينا العضويين، حتى مع أحزابهم وقياداتهم، إلى المهانة والأذى الذي بَلَغَ حد القتل، وفيما نزل بفرج الله الحلو، ورئيف خوري وصلاح الدين البيطار، وعبدالخالق السمرائي، وسواهم أدلة ساطعة على المآل البائس للمثقف العضوي والثقافة على السواء، فقد أسفر ذوبان الثقافة في السياسة عن ضمورِ الإبداع الثقافي، وتراجُعِ الدور المركزي للمثقفين في الدفاع عن الحرية.

 نظريةَ ابن خلدون في «العصبية» لما تتميز به من راهنيةٍ لفَهْمِ مُجتمعاتنا العربية، فما يُعانيه العالَمُ العربي من تفكُّكٍ وأزماتٍ وصراعاتٍ يَجِدُ تفسيرَه في سياساتِ العصبية، إذ إن «الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تَستحكم فيها دولة» على ما رأى ابن خلدون.

 اليمن ولبنان وليبيا والعراق وفلسطين، وغيرها لانتفاء غلبة عصبية «أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب منها وتتم الرئاسة لأهلها».

الإصلاحُ الديني الذي دشَّن عصرًا جديدًا في الغرب، فلا يعوِّل المؤلف على إصلاحٍ مُشابهٍ له مُمكن في الإسلام في الظرف العربي الراهن لافتقاره إلى حاملٍ اجتماعي يرتكز عليه، على عكس الإصلاح الأوروبي الذي جاء جزءًا من عملية تاريخية عريضة وسَّعت نِطاق الحرية والفردية، وفي مقابل الصعود الشامل الذي أحاط بالإصلاح الأوروبي، يغمرنا في العالم العربي اليوم محيط من التراجع والتبديد يتسع بإيقاعٍ يومي، حتى إن ما كان مُتاحًا مع محمد عبده ثم تلاميذه يبقى على تواضعه أكبر بلا قياس مما هو مُتاح اليوم.

ترافَقَ هذا التراجع مع تدميرِ مُدنٍ ثلاث من مُدن المشرق العربي هي من أهم مدنه وأعظمها الموصل في عام 2014، وحلب في عام 2016، ثم بيروت في عام 2020،

 تفضيل بل تبني الليبرالية مقابل الإيديولوجيات القومية والماركسية والإسلامية، فالليبرالية أساسها الأول الاعتقاد بأن الحرية هي القيمة السياسية الأولى، وأن الفرد يتقدم على الجماعة وبقيمة قائمة بذاتها، وبكرامة وفرادة إنسانيتَين، وأنه وحده صاحب القرارات التي تتعلق بحياته؛ ولذلك فإن قرارات الأفراد التي لا تنبع من دينٍ أو تقليدٍ موروث أو عواطف، هي وحدها القرارات العقلانية، فالمعرفة من منظورٍ ليبرالي ليست نصًا مقدسًا أو شبه مقدس، بل هي التفحص العلمي والنقدي الحر والمتواصل.


الخميس، 23 نوفمبر 2023

اقوي كتاب نمط العيش الامبريالي

الربحية والمنافسة 

هوية عقلها الأمني الذي لا يثق بـ»العقل السياسي» ولا بـ»العقل الأخلاقي» وربما يتهمهما بـ»الاستقالة» لأنهما يلجآن إلى الجدل والمراجعة في حسم مواقف لا تحتاج إلى عقل قاض، بقدر حاجتها إلى عقل مجرم.


الشعب غير جاهز للديموقراطية"

سيتعرض أنصار الليبرالية والديمقراطية لمزيد من التهميش على يد الإسلاميين والقوميين وغيرهم من مؤيدي البدائل السلطوية

 "الحاكم لا يريد، والشعب غير جاهز"

 التعليم الجيد هو أساس القوة الاقتصادية والعسكرية


السبت، 18 نوفمبر 2023

الهوية ***********




جدلية الهوية والعلاقة مع السلطة لا يخلو منهما خطاب الأزهر وقت الأزمات
Jun 3, 2020
الباحثة بسمة عبدالعزيز في كتابها “سطوة النص.. خطاب الأزهر وأزمة الحكم” خطاب المؤسّسات الدينية الرسميّة ووظائفه في وقت الأزمات السياسية العاصفة. ويُعالج – تحديدا – خطاب مؤسسة الأزهر وثيق الصلة بالأزمة العاصفة التي اجتازتها مصر في الفترة من يونيو إلى أغسطس 2013.
*
الهوية الثقافية في ظل العولمة

نحن نشاهد عبر الأقمار الصناعية الصور عبر العالم
نتعلم أنماط الحياة المختلفة الأخرى , من الضروري أن يحصل التلاقح الفكري والعلمي في كوكبنا الجميل ،
بشرط الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية والنمط السلوكي والفكري والثقافي لخصوصية الامة والهوية الثقافية على المستوى الفكري والعقيدة.أصبحت مجتمعات العالم المختلفة تعتمد أكثر فأكثر على بعضها البعض تطور نتحدث عنه عادة من حيث عملية العولمة العولمة هي عملية معقدة وغامضة تتضمن مجموعة متنوعة من الأبعاد الثقافية والسياسية والتكنولوجية والاقتصادية والبيئية.
ثورة المعلومات التكنولوجية وإعادة هيكلة الرأسمالية وضعت شكلا جديدا من أشكال المجتمع ، مجتمع الشبكة. العولمة والمعلوماتية ،نفذت من خلال شبكات المال والتكنولوجيا والطاقة ، وتحول العالم ونحن نعيش في عالم متزايد الترابط ، الأمر المثير للاهتمام هو أن هذه التغييرات التي حدثت في عصرنا يمكن أن تكون كبيرة وسريعة لدرجة أنها خلقت مشاكل اجتماعية ، ليس فقط داخل المجتمع المحلي ولكن أيضًا على المستوى العالمي وقواعد لعبة الحياة 

*


Feb 6, 2019

الهوية هي الشخص ذاته فهي الشخص بكُل كيانهُ، التربية، الأهل، التعليم، الدين، وسائل إعلام، التوجُهات والسلوك ويتفاعل الفرد مع تلك العوامل حسبما يري هو العالم. فتأثُر الشخص بالأفكار الدينية لا يحدث بمعزل عن الأفكار المجتمعية السائدة، المسيحي البروتستانتي المصري قد لا تكون له نفس الهوية الدينية للمسيحي البروتستانتي الألماني، الثقافة المجتمعية تلعب دوراً في تشكيل الهوية، والمسلم السني المصري قد يختلف عن مثيله في تايلاند. الهوية مفهوم مُتغير ومتفاعل مع الواقع ولا توجد به ثوابت جامدة غير قابلة للتغيير.
لا تُحدد الهوية سلفاً من الآخرين، الشخص له مُطلق الحرية أن يُحدد هويتهُ دون قيود، ولكن العوامل المحيطة وهي كثيرة ومتعددة تحدد الكثير من معالم الهوية الشخصية
تكوين هوية حقيقية للفرد يرتبط بمدي تمتع الفرد بحرية كافية. فبدون الحرية تتكون هوية مُشوهه، حيثُ إنها تكونت بُناء على قناعات الآخرين من ناحية والضغوط المجتمعية والصور النمطية من جهة أخرى 
فنحنُ نسلُك بطريقة ما نتيجة التعوُد على سلوكِ ما، ثُم يُدعم هذا السلوك بقُبول الآخرين له، وهؤلاء الآخرون غالباً ما يُكونوا القوة المؤثرة في ذاك المُجتمع المعني. وهذا لا يعني بالضرورة أن ذاك السلوك إيجابي أو سلبي ولكنهُ يعني إنهُ السلوك المقبول. فقبول سلوكِ ما في مُجتمعِ ما في وقتِ ما يظل دائماً وأبداً أمراً نسبياً.
وبُناء على هذا نجد الكثير من السلوكيات المقبولة أو غير المقبولة في كُل المُجتمعات. ففي المملكة المتحدة من غير المقبول بأي حالِ من الأحوال أن يصدُر عنك صوتاً خلال تناول الحساء والعكس مقبول تماماً في كوريا. في هذه الحالة تتوقف الإجابة عن سؤال ما هو السلوك المُحبب والأكثر قبولاً اجتماعيا على ثقافتك أنت، ومدى قُربها أو بُعدها عن إحدى الثقافتين وليس بالضرورة عن السلوك في حد ذاته.
وهذا لا يعني أساساً تفضيل سلوكِ عن سلوك آخر، لكن ذاك يعني أن على كُل شخص مُراجعة كافة السلوكيات التي يقوم بها. وتتم هذه المراجعة في إطار الوعي بالمنطق وليس ما تم استلامه من الأجداد. وهذا الأمر ليس باليسير ولكنهُ يتطلب جِهودِ مضنية وصراع مع القوى المُحافِظة وتلك القوى المُحافظة غالباً ما تُحاول أن تُحافظ على مُعظم الأشياء دون تغيير.
وهُنا تكمُن قيمة وصلابة فكرة الحرية. حيثُ إن الحرية هي المحك الأساسي لكُل سلوك إنساني يتم عن قناعة تامة وليس عن عادة أو قُدسية وهمية.
والإنسان هو المسؤول الأول عن تكوين هويتهُ وكينونتهُ. وليس من حق كائنِ ما كان أن يُحدد لهُ سلفاً الطريق الذي سوف يسلُكه. فلو قرر شخص مصري يعيش في إحدى قُرى صعيد مصر أن يُطيل شعرهُ فسوف يجد الكثير من المُضايقات والتحرُشات من كُل الآخرين بدءا من أقرب الأهل إلى أي عابر سبيل. سيكون لديهم الحق في وصفهُ بأبشع الصفات. والمسألة تكمُن في اختفاء أي شكل من أشكال الدعم، ولا أقصُد هُنا دعماً للشعر الطويل، فهذا ليس بيت القصيد، المعنيِ هُنا بالمناقشة هو دعم الحرية الشخصية تحت أي ظروف.
و كُلما ذاد دعم الحُريات، تحددت الهوية الحقيقية للأفراد. فالقهر يمحي الهوية. فلن نستطيع تبيُن حقيقة هوية الأفراد إلا في وجود الحرية المطلقة.
فالإنسان يعيش حياة طبيعية بقدر ما يتمتع بحُرية في اتخاذ كُل قراراته المصيرية 
وغير المصيرية.

++++++++++++
د. منصور الجنادى يكتب: من أنا؟

رئيس تحرير جريدة كورير النمساوية، ذات يوم: «من أنا؟ وإلى أى مجتمع أنتمى؟ هذه أسئلة تُخِيفنى». مسألة الهوية تُقلقه، ككثير من الأوروبيين.
على العكس من ذلك، حدث فى مناقشة لباحثة تسويقية أن سألت مجموعة سيدات من الطبقات الهندية الفقيرة عن هويتهن، فانفجرن جميعًا فى ضحك لا ينتهى، رغم محاولة الباحثة اليائسة شرح ما تقصده من سؤالها.

تسألنى من أنا؟ ألا ترانى أمامك؟ أنا عب باسط اللى إنت عارفه يا أستاذ». هذا إن لم يبدأ فى الشك فى قواك العقلية.

بين «الباحث» عن هُويَّته، و«الجاهل» الذى لا يفهم سؤال الهوية، هناك أنواع أخرى من البشر. مثلًا «الرافض»: فى أحد المؤتمرات الأوروبية عن تعايش الثقافات، نهض أستاذ جامعى من الشرق الأوسط وقال «أيها السادة، يُسعدنى أن أناقش معكم أى موضوعات ترونها، إلّا هُويتى». هذا البروفيسور يرفض إذن أن تكون هويته موضوعًا للنقاش أو محل تساؤل.
وبجانب «الباحث» و«الجاهل» و«الرافض»، نكتفى بنوع أخير، هو «المُراوغ»، الذى يسمح لك بالنقاش والسؤال والشك فيما تريدـ حتى هويته ـ ولكنه فى قرارة نفسه على يقين من أنه يعرف الإجابة التى لا تقبل الشك، ولن يتزحزح عنها قيد أُنملة، ولكنه يتظاهر فقط بالثقافة والليبرالية وحق الجميع فى السؤال والنقاش، بينما ينوى فى النهاية سحبك من رقبتك عنوة إلى النتيجة التى وصل إليها هو، وليس أنتما معًا.

الجاهل لا يُلام، وعلاجه التعليم. الرافض والمراوغ «واثقان»، وعلى قناعة ورضا بهويتهما، ولا يرغبان فى تغييرها، بعكس الباحث الذى يقرأ ويتعلم ويناقش بحثًا عن هُوية. جميع المواقف تُحتَرم، فللجميع الحق فى اختيار ما يرونه صوابًا. الثقة والقناعة والرضا أهداف يسعى إليها الكثير من البشر، ولكن المسألة تختلف بعض الشىء عندما يتعلق الأمر بالنظر أبعد قليلاً من موضع أقدامنا، وعندما نُفكِّر بعض الشىء فى أولادنا وأحفادنا. فى أى عالم سيعيشون وبأى هوية ينجحون؟

الواقع هو العكس تمامًا. الناجحون هم من يعيدون البحث عن هويتهم مرارًا وتكرارًا، أما الأقل حظًا من النجاح فهم من يتمسكون بهويتهم. فى أوج الحضارة الإسلامية رحب العرب بمزج هويتهم بالهويتين الفارسية والأندلسية وغيرهما، وجنوا ثمار التعددية وتعانق الحضارات. أما اليوم ـ فى زمن المحن العربية- فهناك من أساتذة الجامعات من هم مستعدون لمناقشة أى موضوع، إلَّا هُويَّتهم.

الأوروبى الذى يُقلقه مسألة هُويَّته هو من استطاع التقدم، بترسيخ مجموعة من القيم المتحضرة كالعدل والحرية والديمقراطية فى دستوره، وإلزام الجميع بحكم القانون. هُم لا يبحثون عن الهوية نجاة من الضياع، ولكن عن قناعة بأن الهوية كائن حى يتغيَّر مع تطور الحياة. أما «الواثقون» فيفضلون هُويَّة ثابتة، بصرف النظر عن تغيُّرات الحياة (إن رأوا فى الحياة تَغييرًا).

الباحثون يبحثون عن التعَلُّم من الآخرين، والواثقون همُّهم الوحيد هو تَعليم الآخرين.
الباحثون يرون أنفسهم «جزءًا من» البشر، والواثقون يرون أنفسهم «فوق» البشر.
لذلك ينجح الباحث، ويُنتج ويَزداد ثراء، بينما يفشل الواثق ويستهلك ويزداد فقرًا.
ولتفادى سوء الفهم: ليس لهذا علاقة من بعيد أو قريب بالعقائد. فالعقائد، أيًا كانت، ليست فقط حاجة إنسانية، ولكنها ضرورة سيكوـ عصبية أيضًا، أى شرط لسلامة وظائف المُخ، وأساس للصحة النفسية والسلوكية.
ولكن العقائد كثيرة وحمالة أوجه، وتختلف من ثقافة لأخرى. العقيدة فى حد ذاتها لا تعنى بالضرورة التحجر والانفصال عن الواقع، أو التعالى عليه.
سؤال «من أنا؟» هو الطريق الوحيد والفعَّال لفهم «من هو». صديقًا كان أم عدوًا.
البحث الدائم عن الهوية لا يعنى رفض الجسم، ولكنه تجديد للدماء.
والانتماء إلى أى شىء كان يجب ألا يكون نقيضًا للانتماء إلى البشر.

++++++++++++++

الهوية في زمن العولمة 2020

الهوية هي وجود وماهية غير أنها لا تمثل جوهرًا ثابتًا ومتعاليًا على الزمان والمكان، بل حال متحركة ومتداخلة، إنها «صيرورة» بالمعنى المجازي والتاريخي الذي يتيح تضمينها إشكاليات وأزمات هي لازمة لها، والهوية من حيث هي كذلك، هو ذلك الكل من العلاقات والصلات (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والثقافية) وهي ترتبط باللغة والتاريخ والمصير الواحد والمصالح المشتركة، والمحددة بأبعادها وعلاقاتها التي تتمثل في علاقة الأنا (الذات) بالأنا، وعلاقة الأنا بالواقع (العمل، المعرفة، الأفكار) في سيرورته، وعلاقة الأنا بالآخر، غير أن هذه الأبعاد ليست انشطارات منعزلة بل تحكمها علاقة جدلية مترابطة ومتحركة.

الاحتكاك الأول أو الصدمة الحضارية التي مثلها الغرب (في عصوره الحديثة) إزاء الهوية العربية المنكسرة تمثل في احتلال نابليون لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، وبداية الاتصال بالغرب عن طريق البعثات التعليمية والإرساليات التبشيرية المسيحية، ثم السيطرة الاستعمارية (الكولينيالية) الغربية على تركة الرجل المريض المتمثل في الخلافة العثمانية، بعد إفشال وإجهاض إقامة الدولة العربية الكبرى، وهو ما شكل عامل تحدٍّ خطير، وحفز الهوية العربية– الإسلامية المنهكة والسقيمة والمتوترة بفعل قرون من الجمود والتخلف الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية، في ذات الوقت الذي استيقظت فيه أوربا من سباتها، وولجت عصر النهضة (القرن السادس عشر) وفكر الأنوار والثورات وخصوصًا الثورة الفرنسية (القرن الثامن عشر) والثورة الصناعية في بريطانيا (القرن التاسع عشر) وما أعقبها من تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، إزاء هذا الوفد الجديد والقوي والمتحكم الذي هو الغرب فإن الهوية العربية– الإسلامية المرتبكة والحائرة اتخذت ثلاثة توجهات وَسَمَتْ ما سُمِّيَ بعصر النهضة العربية.

الاتجاه الأول هو الممانعة والرفض عبر الانكفاء على مفهوم محدد وثابت لهوية (القومية والدين) قائمة تستحضر الماضي التليد باعتباره المستقبل المنشود حيث يكون الحاضر هو المستقبل الماضي كردِّ فِعلٍ استيهاميٍّ دفاعيٍّ وارتكاسيٍّ إزاء الانتهاكات والسيطرة والاستلاب الذي مارسه الآخر المتمثل في الأجنبي، المستعمر الأوربي، المسيحي الملحد، المنتصر، المتفوق، المتعالي، المدنِّس، هذه الصور المتداخلة والمتناقضة للآخر تمثلت في أعمال وكتابات وأطروحات العديد من رجالات عصر النهضة. وقد عبر جمال الدين الأفغاني رغم كتاباته التنويرية عن هذه الهواجس حيث نادى بضرورة قيام «الجامعة الإسلامية» كردٍّ على محاولات السيطرة والهيمنة الاستعمارية الغربية التي عَدَّها الخطر الرئيس والمباشر.

الاتجاه الثاني تمثل في السعي للمواءمة ما بين الأنا والآخر وقد عبر عنها رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وذلك من خلال المصالحة بين الدين (الأنا- نحن) والعلم (الآخر) ونادى محمد عبده بالدولة المدنية في كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية»، في حين رفض علي عبدالرازق الدعوة إلى إحياء الخلافة وأكَّدَ على مدنية الدولة في الإسلام وذلك في كتابه «أصول الحكم في الإسلام»، وناهض عبدالرحمن الكواكبي انطلاقًا من «الأنا» العروبية «أي عمومية إسلامية» استبدادية، والجدير بالذكر أن من ذكرت كلهم رجال دين (أزهريون) كبار.

الاندماج في الآخر

الاتجاه الثالث دعا إلى الاندماج الكلي أو الجزئي في الآخر وتمثل ثقافته وحضارته باعتبارها ظاهرة إنسانية شاملة (فرح أنطوان وسلامة موسى) أو من خلال الاحتكام إلى العقل والعقلانية وتوطينها ضمن مكونات الهوية الوطنية باعتبارها ظاهرة محايدة توجد في الحضارات والمجتمعات الحية كافة (طه حسين). إذًا إزاء الآخر نشطت هويات مفترضة مشرقية وعربية وإسلامية ووطنية تعايشت وتساكنت مع هويات فرعية (ثاوية) قوية تمثلت في الهويات الإثنية والقبلية والدينية والطائفية والمذهبية، وتصدرت ثنائية العروبة والإسلام في تحديد هوية السكان العرب، حيث أخذ القوميون العرب والإسلاميون يسبغون مواصفات ثابتة هي أصل وجوهر مثل العروبة أولًا، وأن العرب مادة الإسلام، أو الإسلام أولًا وأن الإسلام روح العروبة، وفي الواقع إن الصراع حول الماضي في حقيقته هو صراع حول الحاضر والمستقبل، أي حاضر ومستقبل نريد؟

وأخذت تتصدر الثنائيات والمقابلات المصطنعة ما بين الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الخصوصية والكونية، النقل والعقل، وبين هذا وذاك عُدَّ الغرب (الاستعماري) مصدرَ كل الشرور التي عاينها الشرق والعرب والمسلمون، وهذا صحيح جزئيًّا، غير أنه لم يجر في المقابل الالتفات إلى الواقع المزري (التخلف والجهل والأمية والفقر والاستبداد) الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية قرونًا عدة، كما غاب أو غُيِّبَ الجوهري والأساسي في الحضارة الغربية وهو تقديمها للهوية السياسية على ما عداها من هويات فرعية، حيث أقامت رابطة وهوية جديدة على أساس مفهوم الدولة – الأمة المستند إلى المبادئ الدستورية والقانونية (العقد الاجتماعي) والتميز والفصل بين المجالين الديني والمدني، والتأكيد على مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وترسيخ منظمات ومؤسسات المجتمع المدني التي تستوعب وتحترم المكونات (الهويات) الفرعية الأُخَر كافة.

إننا في سياق زمن يتسم بكونية الثقافة وعالميتها، ومع أن هذه العملية منجز إنساني حقيقي لا يمكن تجاهله فضلًا عن العجز عن مواجهته، فلا بد هنا من الإشارة إلى الجوانب المتناقضة لهذه العملية خصوصًا في عصر العولمة حيث يتم ذلك على حساب تهجين وتطويع واستتباع الهويات والثقافات الوطنية الأخرى، وتمييع خصائصها ومقوماتها لصالح ثقافة استهلاكية سائدة يجري استنباتها عن طريق استخدام معطيات الثورة العلمية- التكنولوجية خصوصًا في مجال الاتصال والتوصيل، وتجري عملية تجنيس وإعادة صياغة للتفكير والسلوك والمفاهيم والذائقة ونمط الحياة والمعيشة بما يتناسب مع مصالح مراكز التحكم والسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب وتهميش للهويات المختلفة.

تشظي الهوية

واجه المشروع النهضوي العربي (منذ بداياته في منتصف القرن التاسع عشر) بتياراته وروافده المختلفة رغم الجهود والإسهامات المميزة لرجال النهضة وفكر التنوير طريقًا مسدودًا، وأُجْهِضَ، وبالتالي لم يتسنَّ لمشاريع الإصلاح (الفكري– السياسي) ولقيم الحرية والعقلانية والتنوير والتقدم أن ترسخ وجودها، في ظل عوائق وعقبات موضوعية وذاتية تمثلت في بنية اجتماعية أبوية (بطريركية) متخلفة، وفي الهيمنة الاستعمارية، وطبيعة الأنظمة العربية التابعة لها، ومحدودية مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو ما وسم تلك المشاريع بالعجز عن توليد نسق من المفاهيم والمقولات الجديدة التي تستجيب لخصائص وظروف تشكل وتطور المجتمعات العربية.

موقف العرب من الغرب كان ملتبسًا ومتناقضًا منذ البداية فهو من جهة الغرب القوي والمتطور صناعيًّا وعلميًّا وحضاريًّا وتسود مجتمعاته قيم الحرية والديمقراطية ومن جهة أخرى فهو الغرب الاستعماري المتعالي الذي مارس سيطرته واستبداده بحق الشعوب العربية ونهب واستباح خيراتها وحدَّ وعرقل من تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، كما أجهض تطلعاتها في التوحد القومي في إطار دولة عربية واحدة في أعقاب تفكك السلطة العثمانية، ووقوع معظم البلدان العربية تحت السيطرة والهيمنة (الغربية) الاستعمارية، وهو الأمر الذي حفز المزاج الشعبي الرافض لا للحالة الاستعمارية فحسب بل لنظمه وقيمه، وبخاصة أن الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت من خلالها البرجوازية والفئات الوسطى في المجتمعات العربية طبعتها بطابع المحافظة والازدواجية والانتقائية، أضف إلى ذلك مستوى وعي وإدراك الناس ونفسيتهم الاجتماعية وتراثهم والأسطورة والترميز المتحكم في وجودهم وذاكرتهم التاريخية الممتدة إلى تفاصيل حياتهم وتفكيرهم وسلوكهم.

مما تقدم تبين لنا كيف أن المشروع النهضوي واجَهَ منذ بداياته أزمته البنيوية التي هي جزءًا من أزمة الواقع العربي بمستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد أدى كفاح الشعوب وحركة التحرر في البلدان العربية لنيل استقلالها وتحقيق سيادتها الوطنية إلى بروز ومن ثم ترسيخ الدولة (القطرية) الوطنية، ومع موضوعية وضرورة هذه العملية تاريخيًّا فإنها شكلت بداية الانتكاس للمشروع القومي العربي؛ إذ أصبحت العلاقة الملتبسة ما بين الهويات الوطنية المتشكلة والهوية القومية (العروبة) المحور الرئيسي الذي تتمفصل حوله مشاريع العمل العربي المشترك كافة، والصراعات والتناقضات أيضًا كافة، وبذا تحققت عملية قطع تاريخي منعت وعاقت قيام وتبلور الهوية (الأمة) العربية في أطار دولة واحدة خلافًا لما تم في مناطق عديدة من العالم قديمًا وحديثًا، فالأمة العربية هي من الأمم القليلة التي لم تحقق وحدتها القومية بعد، غير أن هناك تجربة تاريخية متميزة وناجحة تمثلت في عملية توحيد معظم شبه الجزيرة العربية (منبع العرب والعروبة والإسلام) التي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.

لقد توطدت وترسخت مواقع الدولة الوطنية في موازاة ضمور المشروع القومي، وبخاصة بعد إخفاق المحاولات الوحدوية لأسباب عديدة أبرزها إغفال وتجاهل التمايزات والتباينات القطرية والقفز عليها، وفرض وتحقيق المشاريع الوحدوية بأساليب فوقية (تسلطية) واستعراضية، وتجاهل المبادئ الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأقليات الإثنية والدينية والمذهبية، ولا ننسى بالطبع تدخلات الاستعمار والقوى الغربية والصهيونية وإسرائيل لإجهاض وإفشال تلك التجارب. كما أن التجمعات القومية (الجامعة العربية) والإقليمية للتعاون العربي فشلت هي الأخرى في تحقيق الحد الأدنى من التنسيق والتكامل وهو ما أصاب مجمل النظام العربي بالترهل والوهن والعطب، وليس أدل على ذلك من إقدام النظام العراقي السابق على احتلال دولة الكويت (2 أغسطس 1990م) وإرهاب وتشريد شعبها تحت شعار عودة الفرع إلى الأصل وتطبيقًا لمفهوم الإقليم– القاعدة، إلى جانب تهديد دول الخليج العربي الأخرى، وهو ما شكل حالة فريدة وشاذة ضمن معطيات العصر الراهن من حيث التوسل بالعامل القومي للتغطية على سياسات قطرية بل ممارسات (ذات منحى عشائري– طائفي) متطرفة تتسم بالفردية والتسلط والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان والإرهاب إزاء شعبه وجيرانه في آنٍ واحد.

مثل هذه المواقف والسياسات المتهورة وجهت ضربة قاصمة لمفهوم الأمة العربية وللنظام العربي، وعمَّقت ظاهرة الاستقطاب والانقسام ليس بين الأنظمة العربية فقط، بل على مستوى الشعوب ونخبها وتياراتها المختلفة، وهو ما أخلّ وأضرّ بالعلاقة الجدلية المفترضة ما بين الوطني والقومي، وأضعف الموقف العربي برمته إزاء التحديات الإقليمية والدولية، وتعمق الارتهان والتبعية للخارج وعلى جميع المستويات، وانعكس ذلك في ضمور وتآكل شرعية الدولة العربية التي فاقمها الفشل في تحقيق أي من الشعارات والأهداف الوطنية والقومية الكبرى التي رفعتها.

كل ذلك أدى إلى تشظي الهوية الوطنية والقومية، وتصدر الهويات (الإثنية والمناطقية والقبلية والدينية والمذهبية) الثانوية القاتلة، في حرب الجميع ضد الجميع، أو المأكلة الكبرى وفقًا للفيلسوف البريطاني توماس هوبز.

*

أزمة الهوية والصراع عليها


 لماذا لم تتجه البرجوازية في منطقتنا مثل البرجوازية في أوروبا إلى إقصاء الدين من حياة المجتمع، وتفصل الدين عن الدولة وتعامل البشر على أساس الهوية الإنسانية والمواطنة بغض النظر عن عرقه وجنسه ودينه وطائفته؟ وكان الجواب دائما خاصة من قبل مثقفي نفس الطبقة بأن البرجوازية العربية متخلفة، وعلينا ألّا نجابه الدين بالنقد السياسي والفكري كي لا نجرح مشاعر المسلمين. إلا أن الحقيقة التي تكمن خلف كل تلك المبررات هي أن الدين في منطقتنا هو أكثر الأسلحة الأيديولوجية فتكا سواء في تخدير الجماهير وخداعهم وتسكين آلام فقرهم وعوزهم، وقد عبرت جماهير العراق في تظاهرات يوليو 2015 عن الدين بشعارها المشهور “باسم الدين باكونا الحرامية”!

في نفس الوقت استخدم الدين، وهنا أتحدث تحديدا عن الإسلام في مواجهة الحركات الثورية والتحررية في مجتمعاتنا وتصفية كل معارض للنظام السياسي إذا ما طالب بالحرية والمساواة.

تبين لنا التجربة أن الطبقة البرجوازية العربية كأنظمة سياسية حاكمة بخبرات مراكز الدراسات الفكرية والسياسية الغربية وأجهزة مخابراتها بأن الدين لعب دوراً وعاملا مهما وحيويا في معركتها الفكرية والسياسية والاجتماعية خلال أكثر من قرن لمواجهة الحركة الشيوعية الثورية والتحررية في المجتمع إبان الحرب الباردة.

الحفاظ على “الإسلام” بتفسير البخاري وابن تيمية وابن العثيمين والباز والحرس القديم في الأزهر والخميني ومحسن الحكيم بات يصارع رأس المال في منطقتنا ويتناقض مع وجوده ومستلزمات استثماره، وبات يرعبه ويجرده من أي مأوى.

في زمن بحاجة إلى الاستثمار في الطاقة النظيفة للحفاظ على العالم، وفي مستقبل أصبح ينذر بنفاد النفط، فالطبقة البرجوازية بحاجة إلى تجديد أدواتها لتوفير الحماية لرأس المال وتأمين مستلزمات استثماره، وإن أحد ميادين الاستثمار هو السياحة وجذب رؤوس الأموال إلى مساحات يستمتع أصحابها بالحريات الفردية. أي أن العلمانية وتجديد تفسيرات أولي الألباب الأولين باتت حاجة ملحة وضرورة لاستمرار وجود الطبقة البرجوازية. فالإسلام السياسي الذي يستند على تفسيرات أولي الألباب تحول إلى عائق جدي أمام تطور واستثمار رأس المال. ولذلك نجد لغة جديدة ولهجة حديثة وخطابا سياسيا متمدنا يخاطب مجتمعاتنا.

 القومية العربية والإسلام كانا دائما في صراع مع بعضهما، صراع بين الأجنحة البرجوازية على السلطة. وحاول المثقفون والمنظرون البرجوازيون المزاوجة بين الاثنين وحل التناقضات بينهما. وفي خضم التحولات التي جاءت بعد احتلال العراق وبعد ذلك اندلاع الثورتين التونسية والمصرية، وإدخال الطائفية كهوية جديدة في الصراع بين الأجنحة المتصارعة على السلطة والنفوذ في المنطقة، إلا أنه سرعان ما سقطت الطائفية، وسقطت أيضا الأيديولوجية الإسلامية بالرغم من الدعم المالي والسياسي والعسكري لكل الجماعات الإسلامية الإرهابية في المنطقة من قبل الغرب قبل الشرق. وهكذا تبحث الأنظمة التي رفعت يوما راية الإسلام في مواجهة الشيوعية ثم الطائفية في مواجهة بعضهما، تبحث اليوم عن هوية جديدة، وها هي تتشبث من جديد بالعلمانية التي قالت يوما عنها كفرا.

الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة الحاكمة. وإن المبررات بأن غالبية المجتمع هي من المسلمين ولا يجوز المساس بها لم تكن أكثر من ترهات، وبينتها التجربة السعودية؛ فقيادة المرأة للسيارة وإنهاء دور مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحجيم تدخل رجال الدين في تطاولاتهم واستهتارهم بالحياة الشخصية للأفراد في المجتمع، وحق السفر للمرأة بدون محرم وحق سكن المرأة لوحدها وإقامة الحفلات الغنائية، والعمل على تغيير المناهج التعليمية التي تستند على نشر الكراهية لغير المسلمين والنساء ووضع تفسيرات البخاري وابن تيمية في الرفوف وتقصير أكثر عدد من الأيادي للوصول إليها وتناولها..الخ، جاءت بقرار من الطبقة الحاكمة في السعودية.

أحدثت هذه التغييرات الكبيرة هزة عنيفة في المجتمع. ويبين التأييد الواسع والكبير في صفوف الشعب السعودي لسياسات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على الصعيد الفكري والاجتماعي على أن الغالبية المطلقة لجماهير السعودية متمدنة ومتحضرة وتريد وتطمح إلى الاندماج في المجتمع الإنساني المتحضر المتمدن والعاشق للحرية. وثانيا، إن ما يحدث في المنطقة العربية هو بحث عن هوية جديدة تستطيع أن تأتي بالمجتمع إلى التحولات والتطورات وحاجات النظام الرأسمالي كما أشرنا. ثالثا، مع كل هذه التغييرات في الخطاب السياسي والدعائي والإعلامي لن تتجرأ هذه الطبقة على إقصاء الدين عن الدولة وحياة المجتمع.

فالسوق الرأسمالية اليوم هي سوق عالمية ولا يمكن الفصل بين السوق العراقية والسوق السعودية أو الإماراتية أو الصينية أو الأميركية. وهذه السوق بحاجة إلى إزالة كل المعوقات التي أمامها، ومنها تقنين الإسلام وترويضه بما لا يتعارض مع التطورات الجديدة.

 ما يميز السلطة السياسية في العراق أنها سلطة ميليشياوية، تعتاش وتمول نفسها من سرقة النفط والمحاصصة. إنها لا تفكر كطبقة برجوازية منسجمة تمثل نفسها وتسوق نفسها على أنها تمثل كل الطبقات الاجتماعية وتشكل حكومة على أساسها.

المجتمع العراقي ليس مثل المجتمع السعودي أو الإماراتي وأن التغييرات الحاصلة على صعيد رفع العلمانية والمدنية والتحضر بقامتها في المجتمع ليس بسبب الإصلاحات من الأعلى، كما جاءت في قرارات الطبقة الحاكمة في السعودية أو كما جاءت في مناهج الأزهر في مصر، بل إن الجذر الاجتماعي المتمدن والمتحضر والتحرري يضرب في عمق تاريخ العراق الحديث.

الدعوة والصدر ورجال الدين من الصف الثاني العنصريين الذين فشلوا في إقناع مريديهم بهويتهم الإسلامية، فتحولوا إلى عنصريين بامتياز عندما وجهوا الإهانات إلى لون محمد رمضان، يبغون من وراء كل هذه الضجة احتكار حلم وأماني وتطلعات الإنسان في العراق عبر فرض هوية إسلامية هم أنفسهم متورطون فيها. ولكن والحق يقال إن مدن العراق تعلم بأن حمل هوية تالفة وممزقة أفضل من ألّا تحمل أية هوية وأنت تعبر المفارز والسيطرات الأمنية.

Dec 24, 2021
*
مفهوم "هوية الأمة" لم يعد مفهوماً ثقافياً أو دينياً فقط، بل أصبح يعتمد على ثلاثة أركان رئيسة هي "الثقافة" و"الاقتصاد" و"القوة العسكرية"

 اللغة والدين حاضرين في كل حوار حول الهوية العربية والإسلامية
من أمِن العقاب أساء الأدب
الدولة الليبرالية تخدم نفسها حرية التعبير البرجوازية لا حرية الفعل 

نعيد حساباتنا ونعمل على بناء قوتنا الذاتية وإلا سنظل هكذا نُظلم ونُهان دون أن نستطيع أن نفعل شيئاً.
من يهن يسهل الهوان عليه
"جامعة الدول العربية" أو "منظمة التعاون الإسلامي"، فهذان الكيانان لم يتطورا كي يحققا أركان الهوية (الثقافة والاقتصاد والقوة العسكرية)

السيف أصدق أنباء من الكتب..... في حده الحد بين الجد واللعب

الأخلاق والسلطة"، فلا يوجد أخلاق دون وجود قوة تحميها، كذلك لا يوجد هوية دون وجود قوة تؤكد وجودها وتحميها. ومأزق الهوية العربية والإسلامية المعاصرة ناتج عن ضعفنا وليس لعدم وجود مخزون ثقافي يمكن أن نقدمه للعالم.

العمى الأخلاقى".. الفيلسوف الألمانى البارز يورجن هابرماس يعلن دعمه لإسرائيل