من البنيوية إلى ما بعد الحداثة
كتاب ” الفكر العلمي الجديد” الذي ترجمه إلى العربية عادل العوا، يرى أن التجربة العلمية ماهي إلا تطبيق للعقل ونظرا لذلك فإنه يعتقد “وخلافا لما درج عليه ديكارت أن الأهم هو العقل” حيث “يذهب باشلار إلى إبراز ما للتجربة من أهمية قصوى”
*********************
ربطها بكتاب الذاكره
الأسباب العميقة لارتباطنا بمكان ما خصوصا البيت، الذي هو رمز الألفة المحمية، فهو يرى أن البيت أكثر من منظر طبيعي، هو ظاهرة نفسية، حتى لو رأينا صورا خارجية له؛ فهو مكاننا الذي ينطق بالألفة والحماية، الوسيلة التي نرسي بها جذورنا يوما بعد يوم في هذا العالم.
يقول باشلار إن "كل كتاب جيد يجب أن تعاد قراءته بمجرد الانتهاء منه، فبعد القراءة التخطيطية الأولى تأتي القراءة الخلاقة"، يبدو أن القراءة الأولى لا تكشف لنا إلا القليل، وكتابه هذا لا تكفيه قراءة واحدة؛ في البداية ينكشف عالم باشلار الغريب بحذر ولكن مع القراءات المتكررة ينفتح الكتاب ويمنحنا صورا فنية نبني بها روابط وعلاقات جديدة مع الأماكن التي لم نعد نشعر بها، يحكي باشلار أنه عندما انتقل لباريس كان منزعجا من صوت السيارات في المدينة كل صباح، لكنه عندما قرأ صورة وردت في قصيدة للشاعرة ايفون كاروتش، التى بدا لها فجر المدينة "همهمة قوقعة فارغة" أعانته هذه الصورة لأن يستيقظ برفق وبشكل طبيعي وكتب: "كل صورة جيدة، إذا عرفنا
كيف نستخدمها" فمن المريح بالتأكيد تحييد الأصوات غير الأليفة لجعلها أقل عدائية؛
تجنب باشلار دائما أن يعطي نفسه اسم الناقد الأدبي لأنه لم يكن يهدف أبدا إلا لمتعة ولذة القراءة
فكرة "تعليق القراءة"، وهو يعني بتعليق القراءة أي أننا عندما نقرأ وصفا لحجرة فإننا نتوقف لنتذكر حجرتنا نحن، يقول: "إذا أردنا أن نقدم للقارئ "قيم الألفة" فعلينا أن ندفعه إلى حالة من تعليق القراءة، لأن القارئ لن يستطيع دخول حالة حلم اليقظة إلا عندما يتوقف عن قراءة ذكرياتي عن حجرتي، وعندما يكون الذي يسترجع ذكرياته شاعرا فإن روح القارئ تزدحم بالأصداء، وتعيش ذلك النوع من الذبذبات التي كما يقول منكوفسكي، "تمنح طاقة البدء للوجود"، وهذا يعني أن قراءة المكان في الأدب تجعل القارئ يتوقف ويضع الكتاب جانبا، يكتب: "إن قيم الألفة تمتلك جاذبية تجعل القارئ يتوقف عن قراءة حجرتك: إنه يرى حجرته مرة أخرى، إنه بعيد عنك الآن يصغي لذكرياته عن أب وجدة، عن أم أو خادم، باختصار عن الإنسان الذي يسيطر على أحب ذكرياته"
لم نتوقع أصلا أن بإمكان أحلامنا التي عايشناها أن تسطر في كلمات
كيف يمكن أن يتحول الإنسان من عالم إلى شاعر. باشلار "أكثر الشعراء فلسفة والفيلسوف الأكثر شاعرية" هكذا يطلق عليه، فمسيرته كانت مختلفة وغير متوقعة، فقد ظل دائما خارج التصنيف، باشلار (1884 - 1962) الذي درس فلسفة العلوم وقدم أفكارا متميزة في هذا الحقل تحولت عناوين كتبه من "العقل العلمي الجديد، تكوين العقل العلمي، العقلانية والتطبيقية، المادية العقلانية" إلى "جماليات المكان وشاعرية أحلام اليقظة"، من المثير أن القليلين ممن يقرأون كتبه في فلسفة الجمال لا يعرفون شيئا عن الجزء الأول من حياة هذا الرجل الغريب.
Jun 25, 2019
***********************
الباحث عند تلمس معرفته من بابها الفلسفي لابد أن يولي عقله جهة الغرب. لن أنشغل هنا بمسائل من نوع الاستلاب للغرب والمحافظة على الخصوصية بل سأقفز سريعا إلى أفق التجربة الفلسفية في الغرب، حيث تعمل العقول بشكل مدهش بحياة كاملة لإبداع الجديد من الأسئلة والجديد من محاولات الإجابة بحيث يبدو المشهد الفكري منبثقا دوما ومتفتحا على المزيد المزيد من الآفاق. في وقت انسجنت كثير من العقول هنا في دوائر وهمية منذ زمن سحيق.
من هنا جاء الاهتمام بهذا البحث الهام للدكتور عمر مهيبل الذي كان قد زود المكتبة العربية بعمل جاد بعنوان "من النسق إلى الذات : قراءة في الفكر الغربي المعاصر". وها هو الآن يطرح بين أيدينا عمله الجاد حول إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة.
في هذه الحلقة سنهتم بالجزء المخصص في هذا الكتاب للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار المعروف بفيلسوف القطيعة، الوجه الآخر للاتصال. يقول عمر مهيبل في شرح أسباب اختياره لباشلار بالذات، رغم أن الكثير كانوا يتوقعون دراسة برغسون وهو فيلسوف اتصالي بامتياز، يقول مهيبل "لقد رأينا منهجيا أن البداية كرونولوجيا ومعرفيا إنما تكون من الفيلسوف غاستون باشلار الذي يجسد في تحديدنا المنهجي الوجه الآخر لجدل التواصل وهو اللاتواصل،
باشلار يرى أن المعرفة العلمية الحقة، الموضوعية، إنما تبدأ عندما يستطيع الفكر العلمي قطع صلته بهذه المعرفة الأولية الساذجة قطعا جذريا".
من هو باشلار ؟
بشكل سريع باشلار هو فيلسوف علم ( أبستمولوجي ) يهتم بشكل أساسي بالقيام بتحليل نفسي للمعرفة العلمية، بمعنى أن باشلار يطبق مفاهيم علم النفس على المعرفة العلمية بحكم أنها متأثرة أيضا باللاشعور والكبت وغيرها من الفرضيات النفسية،
دراسته الثانوية عمل موظفا في البريد حتى سنة 1913حين حصل على الليسانس في الرياضيات والعلوم. ثم عين مدرسا للفيزياء والكيمياء في مدرسة ثانوية ثم حصل على الدكتوراه في الآداب ( قسم الفلسفة ) من السوربون سنة 1927.وفي سنة 1930أصبح أستاذا للفلسفة في جامعة ديجون ثم عين أستاذا لتاريخ العلوم وفلسفتها في قسم الفلسفة بكلية الآداب ( السوربون ) بجامعة باريس واستمر في هذا المنصب إلى وقت تقاعده 1954.وتوفي سنة 1962في باريس.
في ملاحظات أولية يسجلها عمر مهيبل على فلسفة باشلار يصل إلى أن قيمة هذه الفلسفة تتمثل في رفضها لا غير، رفضها للأنساق الفلسفية المثالية والعقلانية ونقدها. إلا أن قراءة باشلار تظهر أن الفلسفة التجريبية البحتة أيضا كانت محلا لنقدها ورفضها، فقد كان في منطقة وسطى بين العقلانية المثالية والتجريبية المثالية أيضا، يسمي باشلار هذه المنطقة ب "العقلانية التطبيقية"
الأبستمولوجي عند باشلار له مهمة محددة هي عبارة عن التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية. تحليل نفسي يكون موضوعه الأساس لا شعور الباحث في مجال العلوم بينما يتمحور هدفه حول اكتشاف جملة العوائق التي تعيق السير الحسن لعملية المعرفة.
الأنساق الفلسفية القائمة غير قادرة على فهم التفكير العلمي بسبب التعارض بين خصائصها وخصائص التفكير العلمي. تبرز أساسا في كونها، أي الأنساق الفلسفية، أنساق غائية مما يعني انغلاقها فيما لا ينسجم مع غايتها المحددة. فيما يمتاز العلم بانفتاحه على كل الآفاق. كما أن الأنساق الفلسفية تعاني مشكلة لغوية فلغتها عاجزة عن تحديد مقاصد العلماء تحديدا حقيقيا أو أن تبلور رؤية واضحة لمفاهيم العلم.
************************
القطيعة الإبستمولوجية عند غاستون باشلار
القطيعة المعرفية هي عبارة عن قفزات نوعية تحدث في تاريخ العلوم وتحدث القطيعة الإبستمولوجية، عند نشأة علم جديد أو نظرية علمية جديدة قاطعا الصلة مع ما سبقه من علوم ومعارف.
إن القطيعة إعلان عن ميلاد علم جديد غير مرتبط بما قبل تاريخه، ميلاده ولا تعبر القطيعة الباشلارية عن تغيير مفاجئ، إنما المقصود المسار المعقد الذي يتكون في أثنائه نظام لم يعرف من قبل.
إن النظريات العلمية المستجدة في كل عصر، لا يمكن النظر إليها على أنها استمرار النظريات السابقة، فلا يمكن مثلا إرجاع فيزياء إنشتاين إلى فيزياء نيوتن ولا فيزياء نيوتن إلى غاليلي {1564-1642} ومنه إلى أرسطو.
إن كل نظرية علمية مبنية على أسس مخالفة للنظريات السابقة عنها، ومفهوم القطيعة بلغة باشلارية متجادل مع مفهوم العائق، فإذا كانت العوائق سببا في تباطؤ واختلال المعرفة العلمية وجمودها، فإن القطيعة هي الفعل الابستمولوجي الذي تمة به تجاوز هذه العوائق ونشيط الفكر العلمي بعد جموده، ولذلك باشلار في كتابه “جدلية الزمن”، يحث على النظر إلى تاريخ الاكتشافات والإبداعات العلمية وفق منهج إيقاعي RYTHMIQUE على وزن {عائق – قطيعة} ، {خمول – نشاط} فتاريخ العلوم ليس ترابطا زمنياCHRONIQUE على منوال الديمومة البرغسونية، يقول باشلار “إننا حين نفحص شتى تصاميم تسلسل الحياة النفسية ورقة ورقة، نلاحظ الانقطاعات في النتاج النفساني، فإذا كان تمة تواصل وهو غير موجود أبدا في التصميم الذي يجري فيه فحص خاص، مثال ذلك أن التواصل هي فعالية الدوافع الذهنية، لا يكمن في التصميم الذهني، إننا نفترضها في تصميم الأهواء والغرائز والمصالح”[1]
إذن مفهوم القطيعة الإبستمولوجية مفهوما أساسيا عند غاستون باشلار وهو مفهوم يعبر في نظره عن فترات الانتقال الكيفي في تطور العلوم، فبقدر ما تحدث تلك الكيفية بقدر ما تحدث قطيعة إبستمولوجية في الفكر العلمي الجديد والفكر السابق له.
إذن تاريخ العلوم هو تاريخ القطائع الإبستمولوجية، قطائع منهجية على مستوى التصورات وعلى مستوى المناهج، وهي قطائع نابعة من داخل العلم، وتاريخ العلوم من ناحية تاريخية يهتم بتتبع تاريخية إنتاج التصورات العلمية، فكل علم له سيرورته الخاصة.
يمر العلم بمراحل يعرف فيها تارة تباطؤات نتيجة العوائق، وأحيانا أخرى نوعا من التسارع بسبب حدوث قطيعة بين مرحلة وأخرى، ولذلك هاجم باشلار مؤرخي العلوم الذين قدموا العلم كرواية متسلسلة مليئة بالمغامرات.
إن أصحاب النظرية الاتصالية يرون بأن التاريخ، حوادثه متسلسلة نتيجة اتصال الزمان، فكل مرحلة تؤثر فيما يتلوها من مراحل، فالمعرفة العلمية عند هؤلاء مجرد امتداد للمعرفة العامية، ويمكنني بهذا الصدد أن أعرض عليكم السجال بين الرأي الإتصالي وفيلسوف القطيعة باشلار في الأدلة التالية:
أنطلق من سؤال، هل الماضي دليل على تقدم الحاضر أم الحاضر دليل على تطور العلم؟
الإتصاليون يقولون باستمرارية التاريخ، فلكل حدث تاريخي له جدور وأصل أول والمعرفة العلمية لم تنشأ إلا ببطيء، فالعلم ولد تدريجيا من رحم المعارف العامية وأطروحتهم تتلخص في العبارة التالية : “فما دامت البدايات بطيئة فالتطور مستمر”[2]
“ومن أبرز الفلاسفة الممثلين للنزعة الاستمرارية، ندكر الإبستمولوجية الكونتية التي تعتبر بأن الفكر مر بمراحل متصلة من اللاهوتية إلى الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية، وإميل ميرسون الذي يعتقد بأن دور العالم هو وضع نظرية تفسير الظواهر الطبيعية بأسبابها الحقيقية، فكل ظاهرة هي نتيجة لظاهرة سابقة، {الفكر التلقائي قريب من الفكر العلمي}، وآخرون مثل برغسون…إلخ.”[3]
وبالتالي ما نلاحظه مع هؤلاء أن العقل الإنساني يظل هو ذاته عبر كل مراحل تاريخ الفكر العامي استمرارا للفكر العلمي المعاصر واستمرارا للفكر العلمي السابق له.
أما باشلار فهو يقول: “إن في تاريخ العلوم قفزات كيفية ينتقل بفضلها إلى نظريات جديدة، لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد استمرار للفكر السابق، فبقدر ما تتحقق تلك القفزات الكيفية، بقدر ما تتحقق قطيعة ابستمولوجية بين الفكر العلمي والمعرفة العامية”.[4]
ومن هنا يتضح لنا، أن باشلار يصر على أنه لا يوجد هناك تواصل بين الماضي والعلم الراهن، فالجديد لا يؤكد حضوره إلا بتجاوزه للقديم، ويصنف باشلار مفهوم القطيعة الإيبستمولوجية إلى مستويين:
المستوى الأول: تكون فيه القطيعة بين المعرفة العامية والمعرفة العلمية.
المستوى الثاني: تكون فيه القطيعة بين النظريات العلمية الجديدة والنظريات العلمية السابقة عنها.
يرفض باشلار النظرة الاستمرارية في تطور النظريات العلمية، والتي ترى بأنه يجب البحث عن أصول كل نظرية علمية في الماضي السحيق لتطور العلم الطبيعي، وتؤكد الاستمرارية على هذا المستوى بأن التفكير العلمي بدأ بسيطا، متعثرا، بطيئا في تقدمه، ثم بعد ذلك عرف تغيرات سريعة.
فهذا الطرح يعارضه كليا باشلار في حديثه عن تاريخ العلوم الذي يتميز في نظره “بأهم صفة وهي الانقطاعات المتكررة التي تشهدها نظرياته، لأنه يريد أن يبين بأنه في تاريخ العلوم هناك قفزات تجعل العلم يبدع نظريات جديدة، لأن الجديد لا يؤكد حضوره إلا بتجاوز القديم، فليس هناك تواصل بين الماضي والعلم الراهن”.[5]
كما أن الاختلاف يكمن أيضا في الموضوع المدروس، “فالموضوع الذي يدرسه العلم المعاصر يختلف عن الموضوع المدروس في العلم الكلاسيكي، فموضوع العلم المعاصر ليس المعطى الحسي فحسب بل يكون موضوعا للفكر في حد ذاته وذلك ما نلمسه في الأبحاث الجديدة التي دشنها الميكرو فيزياء، ففي سياق الفكر الأشد تآلفا وتماسكا لا يمكننا الانتقال من جوهر إلى آخر بواسطة فكر متواصل”،[6] وبوجه أعم، كيف لا يمكن رؤية أي تمايز في المظهر وفي الهيئة هو علامة انقطاعات مطلقة؟
هذا يعني أن الموضوع يثم بناؤه من جديد دون أي اعتبارات واقعية، بهذا المعنى تعد ابستمولوجية باشلار نموذجا جديدا، حيث يوظف مفهوم القطيعة في لحظات مختلفة لتطور العلم، وطرحت سؤال بهذا الصدد، أين أصبحت الإبستمولوجية الباشلارية تتحدث عن مفاهيم لا استمرارية؟
يرى باشلار أن العلم لا يقوم على منهج واحد، بل هو دائم البحث عن مناهج جديدة فتقدمه مرهون بمدى قوة المنهج المستخدم، يكون تقدمه مرهون باستحداثه لطرق جديدة. هذه المناهج يكون بوسعها دائما مواكبة مستجدات الحقل المعرفي والعلمي ومواجهة الصعوبات التي قد يصطدم بها العقل، “لأن العقل العلمي دائم البحث عن الجديد، ولا يمكننا أن نمتلك خاصية العقل العلمي، طالما غير متأكدين في كل لحظات الحياة الفكرية من إعادة بناء معرفتها بكاملها”.[7]
يقول باشلار: “المرحلة المعاصرة فهي بالتحديد تستنفذ القطع بين المعرفة العامية والمعرفة العلمية، بين التجربة العامية والتقنية العلمية، وهنا يوجه نقده للفيلسوف، بالقول، الفيلسوف لا يذهب بعيدا ويرى ليس من المهم معايشة العلم الحالي الذي يعرف انفجارات أي ثورات من كل جانب والتي فجرت الإيبستمولوجية التقليدية”[8]
كما يرى باشلار أن الإيبستمولوجي، إن لم يتمكن من مسايرة الكشوف العلمية المعاصرة لا يستطيع فهم تطور المعرفة العلمية، فالعلم المعاصر قطع صلته تماما بالمعرفة على الصعيدين النظري والتطبيقي، ولذلك يلح باشلار على معاصرة العلم لوعي تاريخه فحاضر العلم دليل على تقدمه عن الماضي. إن مؤرخ العلوم عليه أن يقوم بحركة تراجعية ليدرك القطائع الحاصلة في المعرفة العلمية.
فالثقافة العلمية إن سادت لمدة من الزمن، لابد من أن تهدم العلم الذي مثله الماضي، لأن العلم في مبدئه يعارض الرأي العامي الساذج والسطحي فهي معرفة سيئة التفكير تترجم الحاجات إلى معارف وتنظر إلى الظواهر بطريقة نفعية، واعتقاد الفكر العامي امتلاكه للمعرفة فإن هذه الوثوقية تمنع من التعرف. لا يمكن تأسيس أي شيء لذا يجب تخريبه، إن الرأي الأول عائق يجب تذليله.
وهنا سأقف وقفة بشكل سريع على فلسفة العلم عند باشلار، وأبرز الانتقادات التي توجه بها إليها:
– عاب باشلار على نظريات المعرفة التقليدية استغلالها الإيديولوجي للعلم لأنها وظفت نتائج العلم لخدمة الفلسفات التي تقوم عليها، إن مثل هذه الفلسفات المغلقة على نفسها لا تستطيع متابعة التطورات العلمية المعاصرة، ويقول باشلار، “عندما ندرس المسالك المتعددة التي يسير عليها التقدم الرياضي للميكانيكا الموجية {…} سرعان ما نتأكد من قصر النظر الفلسفات التقليدية”[9]
فاستخدام المذاهب الفلسفية في ميادين بعيدة عن أصلها الروحي، عملية دقيقة ومهمة، إذا ما راعت خصوصية العلم لكنها مخيبة للآمال في أغلب الأحوال، “لأن هذه الأنساق حيث تفكر في العلم بطريقة فلسفية ميتافيزيقية، تبقى جامدة وعقيمة ولا تستطيع مواكبة حركية المعرفة العلمية، وإذا فسرنا العلم بمبادئ الفلسفة وتأملات ميتافيزيقية نجد أنفسنا أمام ضرورة تطبيق فلسفة غائية ومغلقة على فكر علمي متفتح”.[10]
إن مثل هذا التوظيف يغضب العلماء والفلاسفة والمؤرخين، لأن العلماء يرفضون إدخال الفكر الميتافيزيقي في منظومتهم العلمية ولا يعتبرون إلا بما تقدمه التجربة المخبرية، إن كانوا في مجال العلوم التجريبية وبالبرهنة العقلية إن كانوا في العلوم الرياضية، في حين يصر الفلاسفة على تناسق الفكر البشري ووحدته وشموليته. ولذلك يطرح الفيلسوف دائما اشكالية المعرفة بمقتضى هذه الوحدة، فهو ينتقي من العلم النتائج التي تلائم مذهبه الفكري.
ما يمكن قوله في الأخير، أن استعمال مفهوم “القطيعة الإبستمولوجية” من قبل غاستون باشلار، لأنه لم يكن بإمكانه أن يتقبل التاريخ العلمي على أنه مجرد تكديس للمعلومات، مؤكدا على دور الثورات العلمية، في تحقيق قفزات نوعية يثم الانتقال بفضلها إلى نظريات جديدة لا يمكن أبدا اعتبارها استمرارا لنظريات سابقة عليها.
[1] باشلار غاستون، جدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الجزائر 1983 ص 8
[2] BACHELARD GASTON, MATERIALISME RATIONNEL P.U.F. PARIS 1963 P 210
[3] فؤاد كامل وآخرون ..الموسوعة الفلسفية المختصرة، دار القلم د-ط، د-ن ص 116 /محمد وقيدي، فلسفة المعرفة عند باشلار ص 82
[4] بوعزة ساهل، أوراق باشلارية، دار القرويين الدار البيضاء ص 1، 2001 ص9 ص 33
[5] مدخل إلى فلسفة العلوم، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الطليعة لبنان ط 1، 1988 ص 76
[6] غاستون باشلار “جدلية الزمن” ترجمة خليل أحمد خليل المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع لبنان ط 3 1992 ص 38
[7] غاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ص 09 ترجمة خليل أحمد خليل المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ص 198
[8] BACHELARD. G MATERIALISME RATIONNELLE, OP CIT. P 210
[9] محمد وقيدي: ما هي الإيبستمولوجيا ص 23 مكتبة المعارف للنشر بيروت ط 2 1987
[10] غاستون باشلار، فلسفة الرفض، ترجمة د خليل أحمد خليل، دار الحداثة بيروت ط1 1985 ص 5
*************************
صدر حديثاً كتاب بعنوان "القطيعة الابستمولوجية: رحلة مفهوم بين العلم والثقافة"، لمحمد مستقيم.
يهدف هذا المصنف إلى تقديم مجموعة من المفاهيم الابستمولوجية باعتبارها أدوات وظيفية تكون قابلة للاستنبات في تربة الثقافة العربية المعاصرة،
إن العقل العربي اليوم في حاجة إلى جهاز مفاهيمي ابستمولوجي نقدي لإعادة النظر في كثير من القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وعلى رأسها قضايا التراث، وكيفية التعامل معها من منطلق عصري يستحضر المنجزات المعرفية والعلمية للثقافة الإنسانية والفكر العالمي. إن التأخر التاريخي الذي تحدث عنه مفكرو النهضة في الثقافة العربية المعاصرة لا زال ممتدا إلى اليوم، في حين يعرف العالم تطورا كبيرا على كافة المستويات كان من نتائجها ظهور الثورة الرقمية التي غيرت وجه العالم وفرضت علينا الانخراط في مسار العولمة
نحن في حاجة إلى مكتسبات المعرفة العلمية الحديثة من أجل تحديث العقل العربي، وليس هناك من سيقوم بهذه العملية غير الفاعلين ضمن هذه الثقافة والمشتغلين في مجالات الفكر والنقد. من جهة أخرى، فالدرس الأكاديمي العربي اليوم في حاجة كذلك إلى تحديث آليات اشتغاله عبر إدماج المفاهيم الابستمولوجية في البرامج التكوينية والبحث العلمي، لأن غياب التفكير النقدي جعل المؤسسات الجامعية عند العرب تعمل على تخريج أطر "علمية" تفكر بطريقة تقليدية لا فرق بينها وبين من يتخرج من كليات الشريعة وأصول الدين.
إذا كان تاريخ الفكر الابستمولوجي هو تاريخ النظريات التي تفسر حركية العلم وتطوره عبر مختلف الأزمان والعصور، فإن المفاهيم هي أدوات إجرائية يتم استعمالها من أجل قراءة تلك المسارات التي طبعت هذا الصنف من التفكير الإنساني. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعدد المفاهيم والنظريات التي تفسر الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية، يكشف أن بنية العقل البشري ليست بنية ثابتة مكونة من بديهيات ومبادئ مطلقة ونهائية، بل هي سلسلة من التطورات النوعية التي تقود العلم إلى التطور المستمر. وقد ركزنا في القسم الأول من هذا الكتاب على عينة من المفاهيم التي نرى أنها تشير بالفعل إلى تلك التحولات والثورات بل والقطيعات التي حدثت في فترات تاريخية معينة. وهي مفاهيم تبقى نماذج ممثلة فقط، كما أشرنا إلى ذلك، دون أن تختزل باقي المفاهيم الأخرى. كما أن هذه المفاهيم لا تعكس فقط العلاقة التي تربط العلم بالفلسفة، بل تربط المعرفة العلمية بمجالات فكرية وثقافية وتاريخية، خصوصا تلك المفاهيم الرحالة التي تخترق الأقاليم المعرفية والمجالات التداولية التي نشأت فيها لتعبر نحو آفاق معرفية جديدة ومختلفة عن الأولى. وهذا ما جعلنا نخصص القسم الثاني من الكتاب لكيفية تمثل وتطبيق مفهوم القطيعة الابستمولوجية عند ثلاثة أعلام من الفكر العربي المعاصر، وهم عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون.