الجمعة، 26 يوليو 2024

بين المعرفة وبين العبادة تلازم وعلاقة جدلية تبادلية

  الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف، فخلفقت الخلق لكي أعرف»

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

 العالم وخلق الإنسان فيض من قدرته المطلقة ورحمته الواسعة، وأن إليه يرجع الإنسان وجميع الخلائق في يوم القيامة للحساب والجزاء، وأن لا مفر من ذلك ولا مهرب، يترتب عليه حتماً بحسب العقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم رد فعل، هو اختصاصه بالطاعة المطلقة والعبادة الصادقة بنية خالصة، وأن لا قيمة للمعرفة بدون الطاعة والعبادة ولا يترتب عليها أثر ولا يستحق صاحبها الثواب عند الله تبارك وتعالى.

المعرفة مقدمة ضرورية للعبادة الصحيحة المقبولة

تجردوها من حب الذات والأنانية ومخالب الشيطان الرجيم والتعلق بعالم الدنيا والمادة والاستغراق في الشهوات والملذات الحسية من أجل مرضاته، فإنه يجعل لكم شرحاً للصدور وثباتاً في القلوب وتسكيناً في النفوس وقوةً في البصيرة ونوراً ملكوتياً في العقول تمشون به في الناس، وستستطيعون به التفريق بين الهدى والضلال، والحق والباطل في العقيدة، وبين الصواب والخطأ في الرأي في مختلف الأمور والشؤون، وبين الفضيلة والرذيلة في الأخلاق، وبين الحلال والحرام، والطاعة والمعصية في العمل، وبين الصديق والعدو، والسعيد والشقي في العلاقات



الأربعاء، 24 يوليو 2024

الطغاة . بؤس السياسة

برهان غليون 

 لا تكاد دولة عربية واحدة تنجح في الهرب بنفسها من دائرة الانهيار والفوضى والاضطراب الشامل الذي يدمّر أسس السلام والتفاهم والتضامن داخل المجتمع الواحد

1- حصاد نصف قرن من الحماقة السياسية وانعدام المسؤولية الجماعية:

2 - "الظلم المنذر بخراب العمران" وبالغزو الأجنبي.

جمعت النظم العربية الفساد إلى انعدام الكفاءة إلى غياب أي حسّ بالمسؤولية الوطنية أو حتى الأخلاقية

3 - الانتحار الجماعي أو سياسة قتل الذات.

لا تجد النظم العربية معركة تستحقّ الخوض بتصميم وإصرار لا حدود لهما، وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، سوى المعركة ضد "الإسلام"

 لا تكفّ فيه عن بناء "الحسينيات" في كل مكان تطأه أقدام مليشياتها وسائحيها، حتى لو اضطرها ذلك إلى اختلاق مراقد صحابة وأولياء لم يسمع بهم أحد من قبل في المناطق التي لا أثر للتشيّع فيها. وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه عن بناء الجامعات والمدارس والمعاهد العلمية التي تستخدم اللغة الفارسية، وفي الوقت الذي تجعل فيه من نفسها حامية الحقوق الإسلامية في فلسطين والقدس، وتعزّز مواقعها العسكرية والسياسية والفكرية في قطاع غزة، لا تجد النظم العربية معركة تستحقّ الخوض بتصميم وإصرار لا حدود لهما، وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، سوى المعركة ضد "الإسلام" الذي تعتقد خطأ، كما أوهمها بعض المتسمّمين بداء "الحداثة"، من أشباه باحثين إسلامويين أو علمانويين، أنه مصدر الخطر الوجودي عليها، لما ينطوي عليه فكره وتعاليمه من بذور التطرّف والتمرّد والتوحش والفتنة والنوازع الإرهابية. وهي بذلك تتخلى من تلقاء نفسها عن أهم رأسمالها الروحي والثقافي والحضاري دفعة واحدة ومن دون مقابل: عن الإسلام وعن الإرث العربي وعن فلسطين وعن القدس وعن قيم السيادة والاستقلال التي يمثلها التمسّك بالهوية والدفاع عن الكرامة الذاتية الوطنية والدينية. وهي تعتقد أنها بذلك تحمي نفسها ومجتمعاتها من بذور التمرّد أو الاحتجاج الذي تنسبه للاعتقاد الديني، وهي على ثقةٍ من أن تقرّبها من الدول المركزية الكبرى، وشراء ود الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا هو الذي يضمن لها الحماية والرعاية والمؤازرة عند الشدة، في وقتٍ لا تقوم فيه إلا بحفر قبرها بيديه

ويشير ذلك كله إلى أنها تعيش في حالة من الهوس الدائم حول مصيرها ومستقبلها، ولا ترى معركةً تستحق أن تُخاض اليوم على اتساع الرقعة العربية سوى معركة تصفية الحساب مع الإسلام السياسي وغير السياسي، ومع كل من لا يزال يفكّر في استلهام مبادئه أو الاستفادة منه لبناء قوى سياسية أو أيديولوجية قادرة على التحرّك والعمل ككيانات فاعلة ومنظمة. لكن النتيجة واضحة، أن المجتمعات العربية تجد نفسها ضحية ثلاث حروب متقاطعة في الوقت نفسه: الحرب الكبرى التي تشنها النخب الحاكمة على قوى النقد والإصلاح والاحتجاج الناشئة، أو التي من المحتمل نشوؤها والعمل على قتلها في المهد قبل أن تنضج أو تتحول إلى واقع، والحرب التي يمثلها الغزو الإيراني الإيديولوجي والسياسي والعسكري أيضا في المشرق باسم الإسلام، ودفاعا عنه ودفاعا عن فلسطين والقدس المقدسة، وعن قيم الاستقلال والسيادة الإقليمية تجاه التدخلات الأجنبية القادمة من خارج المنطقة. والثالثة حرب التدخلات الغربية، الأميركية والروسية والتحالف الدولي باسم الحرب العالمية على الإرهاب، وما تقود إليه من عنفٍ أعمى ساهم في تفكيك بنى المجتمعات وتدمير مدنها وقراها وتهجير سكانها أكثر مما قضى على الشبكات الإرهابية الحقيقية، كما تظهر ذلك تسوية مدن تاريخية عديدة، في العراق وشرق الفرات، بالأرض، والقضاء على حضارتها وشعبها وتحويلها إلى أثرٍ بعد عين.

باختصار أكثر، إذا تمكّنت النظم العربية التي جمعت الفساد إلى انعدام الكفاءة إلى غياب أي حسّ بالمسؤولية الوطنية أو حتى الأخلاقية، من البقاء، سيحتاج العرب إلى قرن آخر كي يتمكّنوا من استعادة أنفاسهم ووعيهم وإعادة بناء هويتهم وثقافتهم ومجتمعاتهم، وربما لن يستعيدوا شيئا أبدا، ويصبحوا مناطق مفتوحة أمام أي غزو ومسرح حروب متقاطعة للدول الطامعة فيها، كما كانت عليه الجزيرة العربية وحواشيها السورية والعراقية قبل الإسلام، أي مرتعا لإماراتٍ تعيش في حماية الإمبرطوريات القوية، وتوظف شبابها جنودا في حمايتها، وتوفير شروط السلام والازدهار لشعوبها، كما كان حال إمارتي المناذرة والغساسنة أيام زمان.

لم يعد العداء للأمة، أي لفكرة الشعب السيد المسؤول، يمثل، كما ذكرت قبل ثلاثة عقود، وظيفة الدولة في عهد النخب الحاكمة وبطاقة نيلها الشرعية لدى المنظومة الدولية السائدة. لقد أصبحت، أكثر من ذلك، مركز تنظيم التحالف بين القوى المحلية والأجنبية للإيقاع بالشعوب وسلبها حقوقها وحرياتها حتى أصبح من الصعب التمييز بين الغزو الداخلي والغزو الخارجي. هكذا تتحلل الأمم وتتحول هشيما يقدم للقوارض من النخب الحاكمة ما يعزز حلمها في البقاء الذي تتوهم أن يكون الى الأبد. بئس الساسة وبئس السياسة وبئس المصير

*Mar 5, 2021

الاعتقاد الإسلامي السائد اليوم في معظم المجتمعات الإسلامية، والعربية منها بشكل خاص، ينزع إلى التركيز على الجانب العنفي في العقيدة، وإلى القبول السهل بالعنف والتسامح معه

ومع ذلك، لا يوجد شك في أن الاعتقاد الإسلامي السائد اليوم في معظم المجتمعات الإسلامية، والعربية منها بشكل خاص، ينزع إلى التركيز على الجانب العنفي في العقيدة، وإلى القبول السهل بالعنف والتسامح معه ومع ممارسيه أحيانا كثيرة، سواء في العلاقات بين المسلمين أنفسهم أو وبينهم ومن يختلف معهم أو يقف في وجه تطلعاتهم. وكذلك أن اللجوء المفرط، الفردي والجماعي، إلى العنف يشكل اليوم أحد سمات سلوك المسلمين أو تيارات ومذاهب وتنظيمات إسلامية كثيرة عاملة في الحقل السياسي، المحلي والعالمي. وربما لم يستسلم المسلمون عامة للاعتقاد بفضيلة القوة وأولوية الرهان عليها في تحقيق الأهداف السياسية في أي حقبةٍ سابقةٍ من تاريخهم، كما هو حالهم اليوم للأسف. وللأمانة، يشاركهم في ذلك جميع الذين خسروا رهاناتهم ومستقبلهم بسبب ضعفهم وتسلط أصحاب القوة الغاشمة عليهم، سواء كانت قوة الاستبداد والديكتاتورية الدموية أو قوة التدخلات العسكرية الفتاكة والرهيبة التي تحصد، منذ عقود، شبابهم وتدمر مدنهم وقراهم الفقيرة. 

 الاعتقاد الإسلامي، أو النسخة الحديثة الأكثر انتشارا منه، والتي عمل عليها مصلحون كثر في جميع مناطق العالم الإسلامي، الهندي والايراني والعربي والتركي والأفريقي والآسيوي، من دون توقف منذ أكثر من قرن ونصف، لا يمر بأزمة عميقة. بالتأكيد لا. فلم يكن الاسلام اعتقادا مفتتا، ومن دون مرجعية ثابتة وواضحة للمسلم، أو الذي يريد أن يعتنق الإسلام، كما هو عليه اليوم، حتى أصبح فيه من الصعب على المسلم العادي أن يميز الصحيح من الخاطئ والأصيل من المزوّر، لكثرة ما ظهر من تأويلاتٍ وتفاسير متضاربة، همشّت النص الأول نفسه، وشوشت عليه، كما لم يحصل في أي حقبة سابقة، حتى ليكاد كل مسلم أن يصوغ إسلامه، حسب رغبته ومصالحه. وبينما كان يكفي للاعتراف باسلام الفرد قبل عدة عقود لفظ الشهادة، أي تأكيد الإيمان بالله الواحد وبرسالة نبيه محمد، أصبح أي اختلاف في النظر في أبسط جزئيات الحياة اليومية، التي ليس لها علاقة أصلا بالإيمان، كافية للتكفير وإخراج المسلم من دينه. 

أصبح أي اختلاف في النظر في أبسط جزئيات الحياة اليومية، التي ليس لها علاقة أصلا بالإيمان، كافية للتكفير وإخراج المسلم من دينه. 

ولا نستطيع أن نفهم الطلب المتزايد على خطاب العنف، بما في ذلك البحث عن مبرّراته في عصور خالية، من دون أن نفكر في الأوضاع التي تجعل من امتلاك العنف ومراكمته أولويةً، للحفاظ على البقاء في مجتمعات تقوم فيها السلطة، وبالتالي المكانة والموقع والموارد المعيشية، وربما حياة الأفراد، على العنف والقدرة على الأذى والدمار. 

ما يعني أننا لا يمكن أن نفهم ما تتمتع به اليوم قيم التطرّف من جاذبية، إن لم نبحث عن  جذورها في تطرّف الواقع المعيشي نفسه. وبالمثل، لن نفهم "أزمة الإسلام" وما يعيشه من تفتت وتشتت في فكره وسلوك أتباعه، من دون معرفة الإجتياح السياسي لمرجعياته الدينية في كل بقاع العالم، وبشكل خاص في مناطقه الرئيسية في المشرق والعالم العربي وآسيا وأفريقيا وأوروبا ما بعد الاستعمارية. وسوف ندرك بسرعة أن الإسلام المستباح، فكرا وقيما وأخلاقا، أي عقيدة، هو جزء من الاستباحة التي تعيشها المجتمعات العربية وعديد من المجتمعات الإسلامية الأخرى، بسبب انهيار نظمها الاجتماعية، وخيانة نخبها السياسية والثقافية، وتغوّل الدول والسلطات القائمة على عموم مصالح الناس، وتدمير شروط حياتهم الطبيعية. سنجد حتما أن خطاب الحرب الذي يفسر صعود الإسلام السياسي ويغذيه ويصنعه ليس سوى الإنعكاس المباشر والحتمي للحرب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والأخلاقية، وأحيانا للحروب الأهلية الكامنة والمشتعلة التي يعيشها المسلم أو أكثر المسلمين العاديين، في مجتمعاتهم وخارجها، منذ عقود، وتطغى على وجودهم وتسلبهم إيمانهم وإنسانيتهم. 

*

ديفيد هيرست الطغاة ربما انتصروا في معركة  لكن الصراع لم ينته

موقع ميدل إيست آي (Middle East Eye)- أن 2021 هو العام الذي أقيمت فيه "جنازة رسمية" لما سمي الربيع العربي بعد أن تم استبعاد كل الحكومات والبرلمانات التي كانت إما خاضعة لسيطرة الإسلاميين أو مدعومة منهم، وكل من وصلوا للسلطة عبر صناديق الاقتراع.

خلال الصيف الماضي، حينما قام الرئيس التونسي قيس سعيد بتجميد البرلمان وعزل رئيس الوزراء وأعلن أنه سيحكم بمراسيم في خطوة وصفها حتى مستشاروه بأنها "انقلاب دستوري" سقطت تونس مجددا تحت نفس الظل الاستبدادي الذي قضت العقد الماضي محاولة الهرب منه، ووجد الإسلاميون في هذا البلد أنفسهم منبوذين ووحيدين يعاملون مثل "تيار سياسي مسموم" خارج الأبواب المغلقة للبرلمان.

الغرب -الذي لم يتوقف قط عن الخلط بين الإسلام السياسي والراديكاليين العنيفين- الصعداء بعد أن بدا له أن الربيع العربي لم يتحول إلى "شتاء إسلامي" وكانت روسيا تنظر باستمرار لهذا الربيع على أنه "ثورة ملونة" أخرى دبرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) مثل تلك التي كانت في يوغسلافيا السابقة وجورجيا وأوكرانيا، وكانت قوتها تكفي لإسقاط إمبراطوريات بكاملها.

الصينيون فيرون في زوال الديمقراطية هذا -يضيف الكاتب- تبريرا لحملتهم المستمرة ضد مسلمي الإيغور، أما إيران التي كانت علاقتها معقدة مع الإخوان المسلمين -تماما مثل عدد من الزعماء العرب- فلم ترحب أبدا بهم لكونهم تحدوا ادعاء "الجمهورية الإسلامية" بأنها الممثل الوحيد للإسلام.

 الآن فصاعدا فإن نموذج الدولة العربية الوحيد الذي نجا هو نظام الحكم المطلق -سواء أكان عسكريا أو ملكيا- المؤسس فوق هيكل الشرطة السرية والقوات الخاصة والصحفيين العملاء.

أما المعارضة، سواء كانت علمانية أو إسلامية، فقد تعفن رموزها في السجون ومات كثير منهم هناك، وينتظر من تمكنوا حتى الآن من الفرار لحظة الإبلاغ عنهم من قبل الجيران، أما من استطاعوا النفاد بجلودهم فيعيشون في قلق دائم على مصير ذويهم وعائلاتهم الذين تحولوا فعليا إلى رهائن داخل الوطن.

*Dec 24, 2021

الطغاة يتشابهون والشعوب تتشابه حين يتعلق الأمر بطاعة الطغاة.

أضاف الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون إلى سلسلة قراراته الغريبة والصادمة قرارا منع بموجبه الضحك في الأيام العشرة التي يتم فيها إحياء ذكرى وفاة والده.

*
Dec 30, 2021

لا توجد ديمقراطية تنزل من السماء، أو يتم استيرادها بنقل الدساتير والقوانين الديمقراطية من الغرب الديمقراطي، لكن توجد شعوب تناضل الطغاة حتى تفرض عليهم إرادتها وتكون لها السيادة عليهم تختارهم وتعزلهم حسب مشيئتها أو شعوب تخنع ثم تخضع ثم ترضخ ثم تنحني فيركبها الطغاة وأعوان الطغاة، كم من طغاة كانوا أتقياء مخلصين للدين سواء في تاريخ المسيحية الأوروبية أو إسلام الشرق الأوسط.

لا دين ديمقراطي او ديكتاتوري بل 
يدعو الإنسان، كل الإنسان، الحاكم والمحكوم والقوي والضعيف والغني والفقير، يدعوهم للتحلي بالفضائل والخيرات وصالح الأعمال وينهاهم عن الرذائل والشرور وطالح الأعمال

 المساواة ثم العدالة، القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، نظرية كاملة في الحكم الرشيد

 الزكاة للدولة نوعاً من العصيان المدني من شأنه القضاء على الدولة الوليدة في مهدها، وهنا حقق وأكد معنى الدولة كسلطة سيادية عليا تحتكر الحق الشرعي في استخدام القوة لفرض النظام والقانون.

صار الحكم بالتوارث والاحتكار وليس بالتوافق والتراضي والبيعة بالقهر والإكراه والقسر، واختلت قاعدة المساواة لصالح تمييز المقربين على من سواهم كما اختلت قاعدة العدل ليكون الظلم شرعياً ما دام صادرا عن الحاكم المتمكن المتغلب، ولم يعد احتكار الدولة للحق الشرعي في استخدام القوة الغرض منه- كما أراد أبو بكر والخلفاء الراشدون- فرض النظام وبسط سلطة القانون وإنما صار الغرض منه حماية الحكم القائم وقمع المعارضين والمنافسين والخصوم.

تقاليد شرقية طغيانية تحت اسم الإسلام تتناقض تماماً مع الروح العملية الليبرالية الديمقراطية التي امتازت بها سياسة أبي بكر الصديق ومن بعده الخلفاء الراشدين.

 الانتخابات في إيران- منذ الثورة الإسلامية 1979- ليست أكثر من أدوات في تعميق الديكتاتورية الدينية. فالحكم الإسلامي في إيران لم يكن أكثر من جزء من حالة دينية غير ديمقراطية عمت أرجاء الشرق الأوسط في عقد السبعينيات من القرن العشرين، ديكتاتورية دينية جاءت على النقيض من الروح الليبرالية الديمقراطية المنفتحة على روح العصر والمعبرة عن أشواق الأسوياء في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة كما عبرت عنها الثورة الدستورية في إيران 1906 ثم الثورة المصرية من أجل الاستقلال والدستور 1919م ، وقد تضافرت العوامل لتفريغ الشحنة الوطنية الليبرالية في ظل ديكتاتوريات عاتية في مواجهة الشعبين الإيراني والمصري ثم خانعة وخاضعة للأمريكان والصهيونية، فسلم رضا بهلوي مصير إيران للتطرف الديني، ومثله فعل صديقه المقرب أنور السادات في مصر

الاثنين، 15 يوليو 2024

الحدس ***

Oct 11, 2019 Nov 23, 2021
فيلسوف الحدس برجسون

كان هنرى برجسون هو ثالث الفلاسفة الذين درَستُهم وأحببتُهم وأنا طالبٌ فى قسم الصحافة بكلية الآداب بسوهاج بعد كارل ياسبرز وسورين كيركجارد، وبعد تخرُّجى حرصتُ أن أقرأ أعمالهم، خُصوصًا أنَّ أهل الفلسفة والأدب فى مصر قد اهتموا بنقل جهودهم إلى اللغة العربية.

والفيلسوف الفرنسى هنرى برجسون (١٨ من أكتوبر ١٨٥٩ - ٤ يناير ١٩٤١) علَّمنى أن أعود إلى الروح، وأعوِّل عليها فى كل أمرٍ أراه، أو أقْدِم على فعله؛ لأنَّ الرُّوح تستمد قدرتها وقوَّتها من الباطن، ولعل كتبه: «الطّاقة الرّوحيّة، الضَّحك، التطوُّر الخالق بترجمة الدكتور محمد محمود قاسم»،

 على وجه الخُصُوص، قد أفادتنى كثيرًا فى الاتكاء على الرُّوح، حيث الحدْس والشُّعور الباطنى، واعتبارها مذهبًا أبديًّا لا يبلَى، ولا تتخطاه مذاهب أخرى، وإن كان هناك فى عصره وعصرنا من يرفضُ الروح مفضِّلا ما هو مادى.
فأنا مثلا صرتُ فى حياتى، وأنا فى سنٍّ مبكِّرة أن أعتمد الحدْس (الإدراك الصوفى) مرشدًا، حيث تنكشفُ ذاتى، وتسعى إلى الوصُول إلا ما لا يُدْرَك بوسائل ووسائط أخرى.
فحقيقة الحدس- الذى يأتى عن طريق الحوَاس- أنه تجربة «البحث عن الحقيقة الحية»، عبر الإشراق أو الفيض.
وتعلمتُ من هنرى برجسون الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب عام١٩٢٧ ميلادية أن الإنسان لا يُقاس بعدد سنوات عمره؛ لأنَّ العُمر الحقيقى لا يُحسب بعدد الثوانى والدقائق والسَّاعات والأيام والأسابيع والشُّهور والسنوات، ولكن يتم حسابه بالوقت النفسى (الزمان النفسى أو الزمان الداخلى)، وهو الوقت الذى يعيشه الإنسان، ويستمتع به؛ إذْ هو الوقت الحقيقى الذى يُنْظَر له، ويمكن التعويل عليه، وهو عندى الأدق، وليس «الوقت العلمى الذى يُقَسِّم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، وهو وقتٌ ثابتٌ لا يتغير». ولا يمكن التعامل به فى أمور القلب والعاطفة، لأن الحب أعلى مرتبةً ومكانًا من مسألة السن، حيث لا يمكن تحديد مسار ومصير العشق بعمر المحب، أو عمر المحبوب.
وتعلمتُ من صاحب عبارة «البقاء للأصلح»، والذى درَستُهُ للمرة الأولى فى حياتى فى مادة «الفكر العالمى المعاصر» التى كان يُدرِّسها لى عبدالرازق حجَّاج الذى لم يكن قد نال درجة الدكتوراه بعد وقتذاك، وألا أكون مذهبيًّا، أى لا أدع نفسى مسجونةً فى مذهبٍ بعينه تتبناه وتدافع عنه، من دون أن أجرب وأغيِّر وأطوِّر أدائى، رافضًا الجاهز والجامد.

برغسون على المقابلة بين الديمومة والزمان، باعتبار أنّ الديمومة هي الخبرة المعيشة للزمان، في حين أنّ الزمان الخارجي هو زمان مجرّد وقابل للقيس والتحديد؛ بمعنى أنّ الديمومة تطلق على الزمان النفسي أو الداخلي؛

*

 الحدس التجريبي، والحدس العقلي، والحدس الكشفي الصوفي والحدس الفلسفي. معظم الناس لا يعرفون إلا الحدس الصوفي.

الحدس الإشراقي وهو ارتفاع النفس البشرية إلى المبادئ العالية حتى تصبح مرآة مجلوّة تجاور جانب الحق فتمتلئ بالنور الإلهي الذي يغشاها، لكنها لا تنحل فيه بالكامل. وقد جرت العادة على تسمية هذا الامتلاء بالنور الإلهي كشفاً روحياً أو إلهاماً. حدس يرتقي من مشاهدة الصور الحسية إلى إدراك الحقائق المطلقة.

الحدس الديكارتي 
 الاطلاع العقلي المباشر على الحقائق البديهية. وقد أوضح أنه لا يقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة، ولا الانخداع لخيال فاسد المباني، وإنما يقصد به التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه، بدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب، أي أنه يقصد به التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده، أي أن الحدوس أعمال عقلية يدرك بها الذهن بعض الحقائق تقع فيه بشكل مباشر من دون تعاقب. والأمور التي يدركها العقل بالحدس عديدة، منها أشكال الأشياء وحركتها. ومنها الحقائق الأولية التي لا تقبل الشك كعلمي أني موجود لأني أفكر. ومنها المبادئ العقلية التي تربط الحقائق بعضها ببعض. لكل هذا كان ديكارت يسمي الحدس «النور الطبيعي» وهو لا يقصد به إلا غريزة العقل. وبنى الفيلسوف الألماني لايبنتز على الأصل الديكارتي، وقرر أن الحقائق الأولى التي نعرفها بالحدس نوعان: حقائق العقل وحقائق الواقع.

حدس فلسفي كانط
 الاطلاع المباشر على معنى حاضر بالذهن من جهة أنه حقيقة جزئية. وعند جون ديوي تكون الحقيقة الجزئية إما مثالية كما في الحدس العقلي الذي يجمع بين تصور الشيء ووجوده، وإما مستفادة من الإحساس بصورة قبلية كإدراك الزمان والمكان، وإما أن تكون بعدية كنتائج التجارب.

 شوبنهاور، فقد ذهب إلى أن الحدس هو المعرفة الحاصلة في الذهن دفعة واحدة من غير نظر أو استدلال عقلي
شوبنهاور حديث بديع عن الحدس الجمالي الذي يراه أكمل صور الحدس، حيث ينسى الإنسان نفسه في لحظة من الزمان، فلا يُدرك إلا حقيقة الشيء الذي يتأمله.

برغسون، فيعرّف الحدس على أنه عرفان من نوع خاص وتعاطف باطني، فهو ينقلنا إلى باطن الشيء ويطلعنا على ما فيه من طبيعة لا تعبّر عنها اللغة، ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة. إنه النقيض للفلسفة المادية المحبوسة في ظاهر الشيء.

مذهب الحدسية 
الحدس هو محدد المعرفة 
 اعتماد المعرفة على الحدس العقلي، والأخرى التي تقرر أن إدراك وجود الحقائق المادية إدراك حسي مباشر وليس إدراكاً نظرياً.

 الميتافيزيقا قد تكون مضللة للغاية، لكنها ستوصلنا إلى نتائج مذهلة عندما يدعمها العلم وتصدقها التجربة، أقصد التجربة بمعناها الواسع. عندما نقارن بين تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة فلربما لاحظنا أن العلم عبر تاريخه قد اتخذ الأفكار الفلسفية موضوعاً للدراسة محاولاً إثباتها أو نفيها. العوالم الموازية التي تحدثت عنها الفيزياء الكمومية هي في الأساس فكرة لجوردانو برونو الذي قُتل حرقاً ذات نهار في سنة 1600. هذا هو أفضل ما يمكن أن يكون، العلم خادماً للفلسفة لا العكس.


الاثنين، 1 يوليو 2024

لوك فيري.. فيلسوف الخلاص / آلان باديو كتابه «في مديح الحُب»

Apr 11, 2021

  أحدثوا تحولا عميقا في الأوساط الفلسفية السائدة، برموزها المعروفة أمثال جاك دريدا وجاك لاكان وجيل دولوز وميشال فوكو...، لاعتقادهم أنّ الفلسفة ضلت الطريق بتوغلها في مباحث فكرية ومعرفية عويصة ومعقدة لا يفهمها إلا خاصّة الخاصّة. لقي هذا التيار الجديد نجاحا غير مسبوق لانتهاجه خطابا مبسَطا في تحليل القضايا الراهنة التي تشغل إنسان هذا العصر

 إلى جانب لوك فيري، أندري كونت سبونفيل وميشال أونفري.

نشر إنتاجه منذ 1985 بكتاب ينتقد الفكر الفلسفي السائد، وعنوانه «مقال في مناهضة الإنسية المعاصرة» ثم أصدر كتابا بعنوان «النظام الإيكولوجي الجديد» وآخر بعنوان «الإنسان الإله أو معنى الحياة». في كتابه «تعلم الحياة» اعتبر لوك فيري أن فلسفته تقوم على مبدأ الخلاص، أي فلسفة البحث عن الخلاص دون اللجوء إلى أي قوى خارجية. إنها تساعد على قهر المخاوف التي تشل الحياة، فلا أحد في نظره يستطيع أن يحل محلها، إنها تعلم الحياة وتعلم عدم الخوف من مختلف أوجه الموت وتخطي تفاهة اليومي وقد أثبتت الفلسفات القديمة هذه القدرة على الحضور في حياتنا المعاصرة بخلاف تاريخ العلوم الذي يخضع لمنطق الدحض والتجاوز.

بهذا المعنى لن تصبح الفلسفة مجرد تأمل نقدي كما يراها الكثيرون، بل تتحدد من خلال أبعاد ثلاثة أساسية هي: النظرية «كيف نرى العالم ونفسره»، وعلم الأخلاق «ما الذي سنتفق عليه فيما بيننا كجماعة إنسانية»، وقبلهما وبعدهما الخلاص «كيف نجابه كبشر معرفتنا بزوالنا وشبح الموت والفناء الذي نعيه منذ أن نعي الوجود»... ومن خلال تناوله ودراسته لتلك الأبعاد الثلاثة في أكثر من محطة فلسفية، يتتبع القارئ كيف تطوّر الوعي الإنساني ببطء أو بقفزات عنيفة أحيانا، وكيف ظلّت أسئلته الوجودية الأكثر عمقا مفتوحة على عدد لا نهائي من الإجابات،

منذ الرواقيين الذين رأوا في النظام الكوني «الطبيعي» المعنى والمآل، ونصيحتهم بالعيش في الحاضر دون التأسي على ما مضى أو ما هو آت، ومنهم إلى الخلاص بالروح والجسد لدى المسيحيين وكيف انتصرت المسيحية على الفلسفة وجعلت منها مجرد خادم للإيمان، وكيف صار الإيمان والمحبة في الله هو مناط الخلاص الإنساني ومجابهته للفناء. ومن المسيحية إلى الإنسية الجديدة حين صار الإنسان هو مركز العالم ومناط التحكيم والمنبع والمصب لكل التجربة والحكمة، حين صار العلم والعقل والتجربة والمنطق هم الشاهد والدليل، هنا أصبح الفيلسوف يعتقد أن معرفته وفهمه لذاته وللآخرين يمكنانه من تخطي مخاوفه ببصيرة نافذة وليس بإيمان أعمى

 بعبارة أخرى إذا كانت الأديان تصف نفسها بأنها «عقائد الخلاص» بواسطة الآخر وبعون الله، فإن فيري يستطيع وصف الفلسفات الكبرى بأنها «عقائد الخلاص» بواسطة الذات ومن دون عون الله. إذن مراد الفلسفة في نظره هو أن نخص أنفسنا بقوانا الذاتية وعبر الدروب التي يرسمها العقل ببساطة إذا ما توصلنا لاستخدامه كما يجب بجرأة وحزم، وهذا بالضبط ما حاول قوله مونتاني عندما يؤكد لنا أن «التفلسف هو تعلم الموت»، ملمحا إلى حكمة قدماء الفلاسفة اليونانيين.

 إن كتاب «تعلم الحياة»، هو واحد من صيغ الفيلسوف الإغريقي القديم «سينيك». فهو يضم فكرة التلقين الفلسفي، من حيث أنه ضروري للتخلص من المخاوف الوجودية. لكن هذا يتضمن أيضا فكرة احتواء العالم في شموليته. وهو ما يعني أن احترام الآخر لا يلغي الاختيار الشخصي. بل إن هذا الاختيار شرط أساسي في اعتناق هذه الشمولية. من هنا يجب أن ندرس عند الفلاسفة الكبار هذه النقطة السامية من فكرهم وهي فكرة الخلاص الشخصي. فإن لم تقدنا هذه الفكرة إلى الحكمة فإنها على الأقل ستقربنا منها. لقد كان موضوع الفلسفة اليونانية العامّ هو القول بأنّ الحياة الطيّبة هي التي تقبل الموت، تلك التي انتصرت على الخوف والقادرة على العيش في الحاضر. والحكيم هو الذي لم يعد يخاف من الموت والقادر على التآلف مع الكينونة. وهو الأمر الذي تمت استعادته من قبل سبينوزا ونيتشه، وإلى مثل هذه النتيجة انتهى الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في حواره المنشور بجريدة لومند الفرنسيّة. وهذا الحوار الذي أعقب صدور كتابه الأخير «ثورة الحبّ»:

كان الحبّ موجودا على الدوام بيد أنّ ابتداع زواج الحبّ هو أعظم حادث على المستوى المجتمعي بالنسبة للقرنين الماضيين في أوروبا. ما هو زواج الحبّ؟ هو ذلك الزواج الذي اختاره الأبناء وليس ذاك الذي تفرضه القرية أو الوالدان. هو نتيجة تحرّر الفرد من نفوذ وتسلط القرية والذي كان نتيجة منطقية لأسلوب العمل المأجور. فهذا الابتعاد عن القرية هو الأمر الذي سمح بظهور العلمانية في أوروبّا، إذ هو، أيضا، ابتعاد عن عبء الأديان الاجتماعي. لم تولد العلمانية في فرنسا من تاريخ الأفكار وكان من نتائج الزواج المذكور. إن حبّ الأبناء لم يكن له مثيل في تاريخ الإنسانية كلّه. في القرون الوسطى كان موت طفل أقلّ أهمّية من موت خنزير أو فرس. أذكر جملة كتبها المفكر مونتاني في رسالة إلى أحد أصدقائه: «صديقي العزيز، لقد فقدت ولدين أو ثلاثة وهم في مرحلة الرضاعة». ولكن لم يدفع هذا الحبّ للأقارب أبدا إلى الفردية أو الانكفاء على الذات بل بالعكس كان من نتائجه الانفتاح على المشترك وعلى السياسي. ما يحدث اليوم هو شيء مثير للاهتمام: نحن - حسب فيري - نعيش تصفية لكلّ وجوه المقدّس بالمعنى الاشتقاقي للكلمة. فالمقدّس ليس الديني في مواجهة الدنيوي. إن القيم المقدسة هي التي يمكن أن أضحي من أجلها، تقديم حياتي فداء لها. يوجد في تاريخ أوروبّا ثلاثة ضروب من المقدّس الجماعي: الموت من أجل الله وذاك يعني الحروب الدينية، والموت من أجل الوطن «35 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية»!، وأخيرا من أجل الثورة (خلفت الشيوعية نحو 120 مليون ضحية عبر العالم). أعتقد أنّه قد تمّ تصفية تلك الوجوه الثلاثة تحت تأثير تاريخ الهدم في القرن العشرين، من خلال تاريخ العائلة الحديثة والعمل المأجور. فبانفكاكه عن قريته وضع الفرد مسافة بينه وبين الكاهن حينما يحبّ شخص شخصا ما حقّا، وسواء كان ذلك حبّا عشقيّا أو حبّ أبوة، فإن الإنسان يعيش في هذا الحبّ تجربة تقديس الآخر إذ سيصبح بهذا مقدّسا بالمعنى الذي يمكن فيه أن يقدّم حياته فداء له إن كان مهدّدا. إن الإنسان، هنا، يعيش تجربة متعالية، ولكن لا يشعر بها لا على مستوى الفكر أو الدين، ولا في أي مكان آخر غير داخله هو. وهذا ما تعبّر عنه استعارة القلب في كلّ مكان، وفي كلّ اللّغات والثقافات، حيث أطلق عليه الفيلسوف هوسرل: «التعالي في المحايث»..

إن حياة ناجحة لكائن هالك أفضل من حياة فاشلة لكائن خالد، هذه هي بداية الفلسفة، وذاك تعالٍ علماني بمعنى من المعاني، لا يمكن أن يتحقق في نظر فيري إلا من خلال سفر متأن في تاريخ الفلسفة من الحكمة القديمة إلى التفكيكية المعاصرة مرورا بميلاد المسيحية، النزعة الإنسية وما بعد الحداثة. في خضم هذا التعلم الذي يوفق بحيوية بين الوضوح والعمق، ويجعل القارئ أكثر تعلما وأكثر حرية، تتحقق الفلسفة التي هي بمعنى من المعاني تعلم للحياة أو لنقل فنا للعيش!

*

آلان باديو مستعيداً جبهة الغرام من براثن التنين المعاصر


 أفلاطون الفيلسوف اليوناني العظيم: «أيما بشري لم يتخذ من الحب نقطة انطلاق لمساءلة العالم، لن يكون بمقدوره فهم فحوى الفلسفة».

ولذا شبه آلان باديو (وُلد 1937) الفيلسوف الفرنسي الأهم على قيد الحياة اليوم، وأبعدهم عن الاكتفاء بالتأمل في أقدار البشر، تاركاً الإنسانية فريسة سهلة يفتك بها تنين الرأسمالية العالمية، شبه إعلان الحب للآخر كما اقتراف القصيدة، انتقال بالحدث – بمعناه الفلسفي – إلى كلمات، يمكنها أن تكون خيوطاً مربوطة بالأبدية. الحبيب كما الشاعر، يواجه تحدي سيولة العالم ولُزوجته وهلاميته الذي اكتشف وحده وجوده، بعد صدفة امتزاجه بنسخته الأخرى (المعشوق)، ليشيد معماراً له روح قادرة على الصمود، متماسكة عبر الزمان والمكان والتاريخ. إعلان الحب وكأنه بوح قصيدة تولد للبقاء لا للموت.

 لحظة الإعلان ترتبط دائماً برهاب يشبه رهاب المسرح. إنه مواجهة شديدة الجدية مع العالم، كما لو كنت على وشك إلقاء خطابك الأول وحيداً أعزل خارج سجن ذاتك، وأمام كل الآخرين الذين صمتوا الآن ليصغوا إليك.

«في مديح الحب» استلهاماً من الفيلم السينمائي بالاسم ذاته، الذي كان قد قدمه المخرج الفرنسي الشهير جان - لو غودارد، صديق باديو المقرب.

عند باديو، فإن الحب هو الحالة الوحيدة التي تعيد الفيلسوف من التحليق في أجواء عالمه النظري إلى أرض الواقع،

ويرى أن الحب يمنحنا الفرصة الوحيدة كبشر، لخوض تجربة العيش في فضاء التباين خارج سجن الهوية الذاتية الخانق الموحش؛ لكنه غير مقتنع بفكرة غوته (الشاعر الألماني) عن «الحب الذي يحلق بنا للأعلى»، مجادلاً بأنه ليس ميتافيزيقيا طوباوية بقدر ما هو مشروع وجودي محض، يتطلب جهداً إيجابياً لإعادة تشييد للعالم من نقطة مزاحة عن مركزنا الذاتي النرجسي، الهم المعني أساساً بصراع البقاء. وهو في ذلك يتفق مع جاك لاكان (أستاذ التحليل النفسي الأهم بفرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين) في استحالة بناء جسور تواصل حقيقي بين عالمين مختلفين تماماً من نوعي البشر، عبر العلاقة الجسدية المحضة، وهي استحالة لا يمكن تعويضها إلا بإمكانية الحب، الذي يصبح عندئذ الفضاء الاستثناء؛ حيث يمكن للبشر الفانين أن يشهدوا غموض تجربة خلق العالم من جديد، خارج ذواتهم، وعلى نحو يلغي من أذهانهم شكل العالم الذي عرفوه من قبل. الحياة من غير الحب وفق ذلك حياة لم تعش ولم يتسنَّ اختبارها.

 الزواج عنده انتقال من مستوى الوجود الأدنى وأنانية المتعة الجسدية الذاتية المحضة، إلى مستوى الوجود الأخلاقي الواعي، المرتبط بالتزام تجاه العالم كما اكتشفناه خارج ذواتنا. وهو بذلك المعنى ممر إلى الحب لا نهاية محطة النهاية لرحلته، ويصبح الغرام الجسدي تعبيراً عنه وتجسيداً مادياً له، تماماً كما تتماهى حركات جسد الممثل مع الفكرة التي يقدمها على خشبة المسرح، فلا يعود هناك من فرق حقيقي بينهما.

يرفض باديو ربط البعض فكرة الحب بالحرب. فالحرب تتعلق أساساً بالصراع مع عدو لا يمكن التعايش معه من حيث المبدأ، بينما في الحب إذا كان ثمة من عدو فهو بالتأكيد «الأنا» لا الآخر، والصراعات الدرامية التي يعبر بها المحبون هي بخلاصتها انعكاس للتناقض المستمر بين الهوية الذاتية والاختلاف، وهو تناقض لن ينتهي يوماً ما دمنا بشراً. لكن ككل عملية بناء وتشييد للحقيقة الجديدة، فإن ورشة الحب قد لا تكون واحة سلام دائماً، وقد تتضمن عنفاً وخلافات، وقد تصل إلى حد الفراق. لعله هنا أشبه بالثورات التي تلغي عالماً قديماً وتشيد مكانه حقيقة أخرى مستحدثة. هل يمكن لثورة أن تتحقق بتوزيع الورود؟ لكنها في كل حالٍ تستهدف البناء والتشييد، لا الدمار والخراب.

وحسب ما يراه، فإن فكرة الحب كما تصورها الثقافة الدينية المتصوفة قائمة على الخضوع السلبي والانسحاق أمام الآخر، تصوراً سليماً لشكل العلاقة الندية المتفجرة المتجددة الإيجابية للحب الإنساني، التي حتى لو سلم الحبيب جسده وروحه فيها للآخر، فإنما يفعل ذلك من أجل ذاته، امتزاجاً واختلاطاً واشتباكاً، لا ذوباناً واضمحلالاً. الحب بهذا المعنى ليس بحثاً هادئاً في الممكن، بقدر ما هو نقض فاعل ثوري للمستحيل.

*
Apr 22, 2021
في مدح الحب باديو

1- الحبّ في مواجهة عدمية المجتمع الليبيرالي المعاصر

فالحبّ في مجتمعنا المعاصر حسب ألان باديو يواجه عدوين في الأساس: الأمان الذي تضمنه بوليصة تأمين، ومنطقة الراحة التي تحددها المتع المحدّدة

2- الحبّ في دائرة الاختلاف الفلسفي

شوبنهاور  القدرة على ممارسة الجنس لا تعني أبدا ضرورة ممارسته كما لا تعني القدرة على الإنجاب المساهمة في بقاء النوع. إنّ للإنسان الإرادة، لكي يختار عكس ما تمليه علينا الطبيعة، لكن استسلامنا لما يسمى الحبّ يجعلنا نعاكس نقاء الإرادة، فنقبع في حيوانيّتنا أبدا.

كريكجارد 
 لا يمكنه أن يقف في حدود التجربة الجنسية التافهة والمتكررة القائمة على أنانية اللذة

فالفريق الأول ينطلق من وجهة نظر تشاؤمية تجاه الحياة. أما الفريق الثاني، فينطلق من وجهة نظر دينية تجاه الحياة.

افلاطون حركة تجاه فكرة الجمال[7]. فإنّ جاك لاكان، وهو يعتقد أن الحبّ يتجه بنا نحو فكرة ما، لا يعتبر  هذه الفكرة موضوعية بالضرورة خارجة عن ذواتنا، بل هي الذات نفسها؛ أي إنّ الحبّ توسط إيثيقي يبحث من خلاله الإنسان عن نفسه. فمثلا عندما نمارس الجنس، فنحن لا نبتغي بلوغ لذة مشتركة مع الآخر، بل على العكس من ذلك نكون بصدد صناعة صورة جنسية جديدة عن أنفسنا من خلال العلاقة بالآخر. إنّ الحبّ بهذا المعنى، هو توسطٌ يحرّكنا نحو اكتشاف النرجسية فينا من جهة، وهو ملءٌ للفراغ الذي تتركه العملية الجنسية بين شخصين من جهة ثانية. وبالتالي يمكننا القول، إنّه لا يوجد اتصال جنسي وأن الحبّ هو ما يأتي ليحلّ محلّ اللااتصال

3- الحبّ بين التصوّر والوجود

فسحر الحبّ يتجلّى في لقاء شخصين مختلفين، ليعيشا تجربة الوجود لا من زاوية نظر واحدة

روميو وجولييت في أدب شكسبير. ولكي يتجسّد هذا الأمر واقعا، لابدّ من حضور الصدفة في الحبّ؛ أي ألا يكون الحبّ مرتّب له من قبل. فالصدفة هي من تجعل من اللقاء الأول لقاء مذهلا يخرج بالشخصين من النسق العليّ للعالم ليعيشا الحالة الساحرة؛ أي حالة الحرّية.

الأكثر أهمية في الحبّ، وهو أن نحيا الحبّ بالاستمرارية التي تضمن نشوء الاختلاف وإعادة بنائه في الزمان.

يجب تكريس ثقافة البوح الدائم بالحبّ من قبل الطرفين وإعادة إعلانه باستمرار،

4- الحبّ بين السياسة والفنّ

أ- في طبيعة العلاقة الممكنة بين الحبّ والسياسة


إنّ العدو الأساسي في الحبّ ليس عدوا خارجيا بالمعنى السياسي للعدوّ، بل هو عدو داخلي. إنّها الأنانية، هي عدو الحبّ، وليست غريمه. يمكن أن نقول إنّ عدو حبيبي الأساسي، الذي يجب أن أهزمه، ليس الآخر بل نفسي. إنها نفسي التي تفضل الهوية على الاختلاف،

 إخاء وشيوعية، باعتبارهما مفهومين ساهما في سحق الهوية ودنيوة الحبّ.

فمفهوم الإخاء، وهو من أبرز مفاهيم الثورة الفرنسية - وأكثرها غموضا - وضع أساسا باعتباره بديلا لسياسة الهوية، إذ إنّه بفضل هذا المفهوم تمّ القضاء على الأنماط الاجتماعية والثقافية التي تتسم بالتعالي وتعرقل بناء الحبّ بين شخصين من فئتين اجتماعيتين مختلفتين. أمّا مفهوم الشيوعية، فقد تم من خلاله دنيوة الحبّ؛ أي إنه بفضل الشيوعية أنزل الحبّ من السماء إلى الأرض.

إنّ فضل الشيوعية الأخلاقي يتمثل في دنيوة الحبّ، لكنها من حيث لم تقصد - أو قصدت - خرجت عن مقاصدها وسقطت في فخ الهوية الواحد التي تنفي الاختلاف.

الفن والحب المجنون 

فالمسرح عندما يجسّد قصص الحبّ الرائعة التي تقوم أساسا على الاختلاف، يكون قد لامس المعنى الحقيقي للإنسانية، وذلك بتبيئته لأهمّ قيمتين إنسانيتين حسب باديو، ألا وهما؛ الإخاء والشيوعية، اللتين لا تنتصرا لا لهوية ذاتية على أخرى، ولا لفئة اجتماعية على أخرى، بل تنتصرا فقط للمساواة والحرية. وهنا بالضبط، تكمن القيمة التربوية للمسرح في علاقته بالجمهور.

- النضال الدائم ضد كلّ النزعات السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية، التي تهدف إلى قتل فلسفة الاختلاف.

 التشبع بالنظر الفلسفي القائم على فكرتيْ الشيوعية والإخاء، باعتبارهما قيمتين أساسيتين لمواجهة الرأسمالية.

فهم الإنسان بكيفية وجودية؛ أي اعتباره - أي الإنسان - مشروعا زمنيا يتطلب بناؤه الاستمرارية وعدم الاستسلام للمخاطر.