ظل الإسلاميون منذ عصر النهضة يبشرون بتقديم بدائل تعيد المجد للأمة ككل، أو لكل قطر على حدة، باستعادة النموذج الرباني وتطبيق الشريعة. لكن هذا النزوع لإحياء الماضي وتضخيم بدائله وقدرته على حل كل الأزمات سرعان ما يتقلص ليصبح على يد الحركات والأحزاب التي قاربت الحكم بشكل من الأشكال، مجرد ثيمة واحدة، وهي الوصول إلى السلطة.
أين تذهب الترسانة الفقهية والضمانات الأخلاقية التي يرفعها الإسلاميون، والتي مكنتهم من أن يكونوا في الواجهة، سياسيا وأمنيا واجتماعيا، منذ 1928 تاريخ تشكيل جماعة الإخوان، إلى حد اللحظة، حيث نجحت حركة النهضة الإسلامية في أن تتبوّأ السلطة في تونس؟
ورطة التجديد
لا يغامر الإسلاميون بالانزلاق إلى لعبة التجديد، ولكنهم يصدرون “فتاوى” لإسكات الخصوم، وإظهار أنهم يتبنون المواثيق والقيم الكونية في مسعى لاسترضاء الغرب والحصول على اعتراف بكونهم ليسوا مختلفين مع النسق العالمي لـ”القيم الوضعية” التي ظلوا لعقود ينقدونها في الكتب المرجعية لسيد ومحمد قطب وأبوالأعلى المودودي.
ورطة الإسلام السياسي الذي يبحث عن اجتهاد على “المقاس” لإظهار أنه متمسك بالدين من ناحية حرصه على استقطاب المريدين أو إغواء الناخبين خاصة في ما بعد ثورات 2011 وفورة نجاحات الفروع الإخوانية عبر صناديق الاقتراع قبل أن تتراجع لاعتبارات مختلفة.
كما يسعى الإسلام السياسي، المسكون بالبحث عن المشروعية، من جهة ثانية لإظهار نفسه على أنه إسلام ديمقراطي خفيف لاسترضاء الغرب الذي بيده السماح للإسلاميين بالحكم أم لا، مثلما يجري في تونس، حيث بات الغرب ينظر بعين الرضا إلى حركة النهضة التي قصقصت أجنحة الديني في هويتها وتطلق التصريحات المختلفة الداعمة لخيارات قيمية مشروطة قبل أي قبول.
والورطة الحقيقية أن الإسلاميين حين يصطدمون بـ”إكراهات الواقع” يصبح همهم الأول هو البحث عن مصالحة هذا الواقع والاندماج فيه على مستوى الخطاب والسلوك، وهو وجه آخر من وجوه التقية التي تنظر إلى هدف واحد، هو هدف القبض على السلطة.
في العقود الماضية يظهر الإسلاميون حماسا كبيرا لتطبيق الشريعة كونها تحمل كل الحلول، لكن حين ينزلون إلى أرض الواقع ويبحثون عن تنزيل أحكامها لا يجدون منها سوى الجانب العقابي، أي قص يد السارق وجلد الزاني، أو تنفيذ مهمة الحسبة بما تعنيه من إذلال الناس والتعدي على حرياتهم الشخصية، لتبدو الشريعة في عرف الإسلام السياسي كأنما جاءت فقط للانتقام والتشفي وليست مشروعا للعدل والإنصاف.
وتستوي في هذا الحركاتُ الإسلامية المغالية في التنفيذ الحرفي للنص مثل القاعدة وداعش والسلفية وحزب التحرير أو الحركات البراغماتية المناورة مثل الإخوان المسلمين. ورأينا كيف تشابهت مراحل الحكم الإسلامي المتشدد (بأنواعه) في أفغانستان (مع القاعدة وطالبان)، وفي الفلبين (جماعة مورو ثم أبوسياف)، وداعش في العراق سوريا، وأيضا والأهم تجربة الإخوان في السودان.
وهرب إخوان السودان بالأسلمة والشريعة إلى الحكم العسكري، أسلمة في الشعار لكن على الأرض باتت تلك الأسلمة عاجزة عن التفاعل مع واقعها لأن الشريعة لم تكن سوى مجرد شعارات متوارثة، فيما هي في واقع الأمر قراءة تاريخية للنص القرآني والنبوي، وتم تأويلهما في عصور سابقة، وتريد الحركات الإسلامية ترجمة تلك القراءة التأويلية على واقع جديد مناقض بشكل جذري.
والصورة الصارخة لتجربة الشريعة كقراءة تاريخية مسقطة هو التجاء إخوان السودان إلى الانقلاب العسكري والمضي في سجن وإعدام خصومهم الفكريين وعلى رأسهم محمود محمد طه الذي أعدم في يناير 1985 لأنه يطرح أسئلة تجديد من داخل الفضاء الإسلامي، وبات إسلاميو اليوم من الفضاء الإخواني يطرحونها بأكثر إلحاحا بسبب “إكراهات الواقع”.
ومع ثورات “الربيع العربي” بادرت فروع من الإخوان المسلمين إلى التخلي عن هويتها الأصولية التي تعتقد أن النصوص التي بنيت عليها الشريعة في أغلبها قطعية الدلالة ويجب تنفيذها، وهربت إلى المقاصدية التي تسمح لهم بإدارة الظهر إلى الشريعة التي لا تفضي سوى إلى تنفيذ عقوبات باتت لا تجد من يدافع عنها حتى داخل التنظيمات الإسلامية لتعارضها مع الواقع والقيم الكونية.
الدولة والغنيمة
تحاصر الإسلاميين معضلة كبيرة أخرى، وهي التعاطي مع الدولة بمفهومها العصري، وقد ناضلوا طويلا لكسرها وإعادة بناء الخلافة مكانها. ورغم الاعتراف الاضطراري بالدولة والعمل ضمن آلياتها وقوانينها، فإن أحزاب الإسلاميين لا تزال ممزقة بين الحلم بإقامة أمة/ خلافة وما تحمله هذه الثنائية من محاميل فكرية وعقائدية وشعورية وبين دولة عصرية لا يشعرون بالانتماء إليها فما بالنا بالحماس لها.
ولحل هذه العقدة وجد الإسلاميون (والأمر ينطبق أيضا على الحركات الأخرى العابرة لمفهوم الدول مثل اليسارية والقومية) أن الطريق الأسلم هو التعاطي مع الدولة كأمر واقع والسعي لاختراقها والسيطرة عليها، أي تحويلها إلى غنيمة، وهو ما بات يعرف اصطلاحا بالأخونة.
لقد حطمت الدولة الوطنية (القطْرية) أحلام الإسلاميين، وبات حلمهم الوحيد إحكام القبضة على السلطة فيها بأي صيغة وسواء من بوابة الانقلاب العسكري أو من بوابة ديمقراطية شكلانية يتسللون من خلالها إلى مختلف المؤسسات واستيعابها والسيطرة عليها لإظهار أنهم الأجدر بهذه الدولة كحق تاريخي، وبانتظار لحظة مستقبلية يتم فيها إلحاق هذه الدولة بالخلافة.
سيحتاج الإسلاميون إلى وقت كبير كي يختبروا قدرتهم على التخلص من الرؤية الاستعلائية التي تأسست بسبب فكرة “الحاكمية” لأبي الأعلى المودودي وسيد قطب، والتي تسعى لتطبيق “المنهج الرباني” على المجتمعات الكافرة.