تقطيع حبة طماطم لإعداد الطعام يحدث بقصدية، لكن جرحك لأصبعك أثناء التقطيع يمكن اعتباره صدفة، لكنني أتجرأ وأقول: تكون تل بأتربة البئر وجرح أصبعك بالنسبة للطبيعة في شموليتها لا يعد صدفة، هو صدفة بالنسبة لنا لأننا وضعنا أهدافا معينة لنشاط معين نقوم به.
نفي وجود مصادفات في النظام الطبيعي المبني على تسلسل العلل والمعلولات، فما نطلق عليه نعت صدفة يصدر بالضرورة عن علة كافية، وكون العقل البشري لم يحط بالعلل في شموليتها أو لم يعرها اهتمامه لا يعني أن نطلق على الكثير من أفعال وأحداث الطبيعة نعت (الصدفة).
الصدف أغزر وأجود وأكمل من الفعل القصدي
نتأخر عن موعد حددناه مع صديق أو حبيبة أو أن نأتي قبل الموعد المحدد، لكننا دائما سنأتي في الوقت المناسب عندما سنلتقي بصديق الطفولة (مصادفة)، المصادفة دائما تحدث في التوقيت المناسب.
الغاية من كل هذه الحركة في الكون هو بلوغ التعقل المطلق الذي هو انسجام العقول المفردة مع العقل الكلي الذي يحكم الطبيعة” و”إن كل شيء من أجل هدف”
تصير حياة الفرد هي غاية كل الغايات، وليس مجرد وسيلة لتحقيق بضعة أهداف، فالإنسان الزمني (الفرد) لا يملك إلا لحظته، وعلى كل لحظة أن تكون الأجود والأفضل دائما، وهذا لن يتأتى بالبحث في الأفعال القصدية والتطلع إلى غايات بعيدة وأهداف عزيزة، وإنما يكون بتنمية الحياة، كل الحياة، جملة وتفصيلا، والتركيز على تحسينها وتقويتها، بحيث تعم الفضيلة كل مناحيها،
فنحن في تصرفاتنا نفرق بين الشهور والأيام والفصول، ونفرق بين الأماكن، فهناك أيام أفضل من غيرها، وشهور أقدس من شهور أخرى، وهناك أماكن أقل قداسة من أخرى، ومدن لها قدسيتها وأهميتها بالمقارنة مع مدن أخرى على هذه الأرض، فتجد الآباء ينصحون أبناءهم بأن يكون أكثر اتزانا وأدبا داخل أماكن العبادة، وأن يكون أكثر ورعا في مناسبة كذا وبحلول شهر كذا، والنتيجة تكون دائما عكسية، ونساهم في خلق أشخاص مصابين بالفصام والنفاق أكثر من تنشئة أشخاص أكثر اتزانا وخلقا.
الإنسان إن رام الكمال ألا يبحث عن الخيرات خارج ذاته، وإن البحث عن غايات وأهداف للحياة لهو انتقاص من أهمية الحياة ذاتها، وإنه لإعلان عن نقص مزمن يرافق الحياة إلى الأبد.
الحياة الكاملة الممتلئة
وضع غايات للإنسان قصد قيادته هو عزل لهذا الإنسان وعقله عن حركة الوجود العامة، وإن القوة تقتضي ألا يبتعد الإنسان الفرد عن عموم الوجود الكامل، وإن تقبل الحياة في عمومها لهو الطريق الجيد لامتلاك القوة الكاملة وكل الإمكانات المتاحة في هذا الوجود.
الحديث عن أهداف وغايات هو نوع من الهروب من الذات
لن ننعم بالسعادة إلا بتقبلنا للحياة في شموليتها. إن أرسطو يقر بانتمائنا للطبيعة وخضوعنا لقوانينها، لكنه بإيعازه لنا البحث عن “لماذا” في كل عمل نقوم به إنما هو طريقة لعزلنا عن السيرورة الشاملة للحياة، صحيح أن الأشياء دائما تحدث فجأة، لكن الأمر لا يحيل إلى صدف، بل الأمر له علاقة بالطبيعة الزمنية لوجودنا، فوجودنا اللحظي يجعل من إدراكاتنا لحظية، وإننا دائما ندرك قشور الأحداث لا عمقها، ونختبر المعلول لا العلل جميعها، ونلمس النتائج لا إشراطاتها، وعلى هذه الحقيقة انبنت أفكار الظاهراتيين وحققت نجاحاتها مع هوسرل وهيدغر وسارتر.
قبل أن أبحث عن غايات لوجودي علي أن أدرك أن وجودي كحدث فريد هو غاية تحققت، وعمل وقد أنجز، وما علي في البداية إلا أن أبتهج بهذا الوجود وأطلب الكمال فيه، فالهدية التي تمنحها الحياة لنا إن نحن سايرناها في خططها أن نصير شركاء لها في كل شيء، فنكون بحجمها وقوتها، لأن الضعف الذي يلحقنا مصدره من اجتراحنا غايات وأهداف (خاصة) تعزلنا عنها، فنحن جزء من كل، ولسنا ممالك متفردة داخل مملكة بالتعبير السبينوزي.
كتاب الطبيعة والعقل البشري
تصالحك مع كل المصادفات -أو ما نسميها خطأ مصادفات- هو تصالح مع ذاتك ووضع حد لهروبك المزمن منها، فأنت دائما في المكان المناسب ما دمت حاضرا حضورا كاملا، والشخص الذي تصادفه هو دائما خير من ألف شخص آخر، وموقع قدمك هو دائما الأجمل والأنسب لك من كل بقاع الأرض الأخرى، ما دمت لا تستطيع أن تكون في كل تلك البقاع المحلومة داخل حدود لحظتك، ويومك هو أفضل من أي “غد” يعدك بمجد أو بهجة مأمولة، واللحظة هي أفضل من كل وعود المستقبل الغائم المتخفي.
كتاب السعادة الان
المصادفات تخيفنا لأنها تحدث فجأة، هي هناك دائما مختبئة عند المنعطفات، نتحاشاها خوفا من الفناء، فالموت احتمال كل الاحتمالات بتعبير هيدغر، ونتناسى أننا إنما نفر من صدفة لنقع في أخرى، لأن الحدث البسيط المتمثل في رؤيتك لصديق الطفولة كي يتحقق فقد خضع لسلسلة من العلل والمعلولات التي تجعل منه حدثا واقعيا. لتتأكد من الأمر، اطرح السؤال على الصديق بطل المصادفة، لماذا أنت هنا في هذا الوقت بالتحديد؟ حينها ستتأكد من خلال جوابه أن ما نطلق عليه نعت الصدفة ما هو إلا قدر محتوم تكاثفت ظروف عدة لإنجازه، وتشابكت العلل لجعله قدرا مقدورا، وليس حدثا صدفويا معزولا، كان في الإمكان ألا يحدث.
الألفة كأصل للمعرفة، فكما نحب الأصدقاء ونفضلهم على من سواهم، نفضل المعرفة على الجهل، لأن المعرفة أمان لنا من الأعطاب التي توجد عند كل منعطف، والجهل معناه أن نسير في عمى يمكنه أن يقودنا إلى هلاكنا، أما الصدف في عرفنا فيمكنها أن تكون جيدة أو سيئة لنا، وما هتافنا: “الصدفة خير من ألف ميعاد” إلا عزاء لنا ونكاية في كل الصدف الأخرى التي كادت تقصم ظهورنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق