1
فاروق عند النهاية
حكمت مصر 150 عامًا كانت فيهم، خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر، المَلَكية الأغنى والأشهر في كل المنطقة من الخليج إلى شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي. لكن في 23 يوليو 1952
قول منسوب إلى فاروق أن في المستقبل القريب لن يبقى في العالم إلا ملوك الكوتشينة الأربعة وملك بريطانيا. والدلالة أنه اعتقد بزوال ملكه وحكم عائلته قبل أي انقلاب عليه أو تحرك جدي ضده.
فاروق رأى قبل أن يرى غيره أن ملكه ذاهب. ولعله اقتنع أن ذلك هو الاتجاه الطبيعي لتطور حركة المجتمع في مصر. الرجل رأى الضعف الشديد الذي حل بكل مؤسسات الحكم في مصر في نهايات الأربعينات وبدايات الخمسينات، بما في ذلك أهم الأحزاب التي طالما مثلت الطبقات الأوسع في المجتمع.
وبالفعل فإن فاروق مات في سن الخامسة والأربعين بلا جاه ولا عز، بعد وجبة عشاء في مطعم في روما. وبالرغم من أن ابنه - أحمد فؤاد الثاني - هو رسميًا آخر ملوك مصر، إلا أن فاروق واقعيًا كان الملك الأخير، كان من انتهت على يديه دولة أسرة محمد علي - تلك الدولة التي صاغت في بداياتها، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شكل العالم العربي الجديد، كما سنرى في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.
2
احتمالية إمبراطورية
محمد علي أسس أول دولة حديثة في المنطقة من الخليج الى شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي
الحداثة جيش صناعة زراعة تعليم خارج الازهر
لكن تلك الدولة لم تكن لا مصرية ولا عثمانية وبالطبع لم تكن عربية.
رأى في مصر - في لحظة دخول نابليون وحكم الفرنسيين للبلد - عدم قدرة العثمانيين على مواجهة الغرب. لذلك، ورغم أن الباشا أخذ بعضا من التراث العثماني
دولته كانت في أساسها مشروع عائلي بُنىَ على طموح شخصي
المهم للمنطقة أن انهيار احتمالية إمبراطورية لأسرة محمد علي أنهى معه فكرة وجود دولة قوية تفرض سيادتها على كل شرق البحر الأبيض المتوسط. وحيث إن ذلك حدث في مرحلة ضعف عثماني شديد، فإن المنطقة كلها - وما بعدها في آسيا وإفريقيا - بدأت تكون مفتوحة أمام مطامع أوروبية
إسماعيل الرائع والكارثي (3)
بداية العصر الليبرالي لمصر - ومصر وقتها (عن حق) مركز الشرق، وعليه ما كان في مصر في ذلك الزمان من ليبرالية وصلت إشعاعاتها إلى الجزيرة العربية شرقًا وإلى مراكش والرباط غربًا.
الليبرالية هنا تتعدى فكرة التنوع الثقافي. إسماعيل نقل رؤية أسرة محمد علي من فكرة تثبيت السيطرة على مصر وجعلها مملكة عائلية ومن فكرة الدولة المحاربة لتوسيع ممتلكاتها في الشرق، إلى فكرة الدولة الناعمة برفاهية الثراء والسلام والتقدم - وبالطبع الثقافة التي تستحق تلك الكلمة، بما في ذلك الاهتمام الشديد بالجمال بكل معانيه. تلك كانت الليبرالية التي خرجت من تطويرات عصر إسماعيل.
خطأ، لأن إسماعيل لم يتصور أن مصر ستكون جزء من اوروبا بمعنى انتماء ثقافي. إسماعيل أراد مصر في شكلها، في تحضرها، في رقي أساليب الحياة فيها، وفي صورتها الجمالية، لا تختلف عن مدن مثل باريس وڤيينا وبروكسل وروما. بهذا المعنى أراد إسماعيل مصر قطعة من أوروبا. والذي حدث أنه، طيلة أكثر من نصف قرن بعد انتهاء عهد إسماعيل، كانت الأجزاء الأهم والأوضح من القاهرة والإسكندرية بالفعل كذلك.
الثمن كان باهظًا. إسماعيل أفلس مصر.
- تدخلت بريطانيا لدى البلاط العثماني واستصدرت فرمانًا بعزله وتولية ابنه توفيق خديوي جديد لمصر.
ثمن مشروعه كان بداية تدخل غربي - بريطاني في الأساس - في مصر، تطور بسرعة بعد ذلك إلى احتلال كامل. و كان وقوع مصر تحت السيطرة الغربية المباشرة بداية هيمنة اوروبية كاملة على كل المشرق.
إسماعيل في وجداننا الحاكم الرائع و الكارثي في آن واحد.
لحظة القمة (٤)
مصر وقتها أغنى دولة في الشرق من شبه الجزيرة العربية الى شواطئ المحيط الأطلسي مرورًا بأغلب إفريقيا. والغنى هنا مطلق كما هو نسبي،
روعة العشرينات والثلاثينات للملكية المصرية، ذلك أن المجتمع المصري وقتها كان قد استوعب موجات من الهجرات من كل الشرق، ومن عدد من دول أوروبا المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كما من اليهود ومن عدد من دول أوروبا الشرقية، جعلت منه في تلك الفترة من أكثر المجتمعات في العالم تعددية من ناحية الثقافات الموجودة على أرضه.
الليبرالية المصرية المتفتحة وقتها. التعبير كان من خلال دستور مصري في 1923، كان الأول في كل المنطقة الذي يستحق عن حق كلمة دستور.
لحظة القمة تلك كانت قصيرة، ذلك أن الأربعينات وبدايات الخمسينات من القرن العشرين
صعود القومية العربية في الاربعينيات (5)
نضج فكرة القومية العربية كان في الشام. ولم يكن ذلك غريبًا، لأن بزوغ القومية العربية في شكلها الحديث كان أيضًا في الشام، في نهايات القرن التاسع عشر.
الهوية الدينية (إسلامية أو مسيحية بتنوعات المذاهب و الطوائف) تراجعت الى حدٍ واضح أمام فكرة الانتماء إلى ثقافة عربية بدت وقتها في مرحلة نمو وتطور قائم على مزج ما يؤخذ من الغرب مع ما يُعاد اكتشافه من التراث.
العروبة - فكرة قومية قديمة
نجاحات الدولة المدنية، خاصة في مصر في العشرينات و الثلاثينات (موضوع المقال السابق في هذه السلسلة) و التنوع والثراء الاجتماعي الذي نتج عن هذه النجاحات أعطى الأفكار التي ظهرت في الشام في بدايات القرن قوة دفع، لأن الكثير من المثقفين المصريين رأوا في فكرة القومية العربية التي أتتهم من الشام تعبيرًا عن صداقات وصلات قرب (وأحيانًا قربى) ولاشك تعبيرًا عن اتصال ثقافي متين وعريق.
يارات الاسلام السياسي بأنواعها رأت في القومية العربية خطرًا. من ناحية، فكرة هوية مدنية بعيدة (عن قصد) عن الدين و مُحاوِلة تحجيم دور الدين في العمل العام، وخاصة السياسي
جزء من نجاح تيارات الاسلام السياسي في مصر في الثلاثينات والاربعينات قام على رفض التغريب والنقل من أوروبا من منطلق ديني
الأربعينات شهدت إعادة تشكيل المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في ١٩٤٥. الحرب غيّرت من توزيع الثروة في أغلب دول المنطقة كما بين دول المنطقة. داخل الدول، افتقرت الطبقات الوسطى نتيجة نقص في الوظائف وكساد أعقبه ضوائق مالية ثم تضخم. التغير ما بين الدول جاء نتيجة دخول البترول كالطاقة الأهم في العالم، وعليه بدا ميزان الثراء في المنطقة يميل ببطئ ولكن بحسم ناحية الدول المصدرة للبترول التي كانت وقتها ناشئة في الجزيرة العربية.
جمال عبدالناصر بداية المشروع (6)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق