Apr 16, 2018
يرد بعض المثقفين بسرعة عند سؤالهم عن سبب عدم تواصلهم مع الآخرين باستخدام وسائل
التواصل الاجتماعي بأنهم مترفعون عن الخوض في هذه الأشياء التي يعاملونها وكأنها لعبة من ألعاب المراهقين. استأنسوا إلى الأدوات القديمة وأغفلوا أن العالم تغير وصار قياس نبض الناس
وتقلبات مزاجهم شيئا مباشرا وبسيطا.
غيّر البعض جلده. تحولوا من ليبراليين أو اشتراكيين أو قوميين، إلى مؤمنين بمشاريع الإسلام السياسي، وأخذوا يفسرون ما يحدث بوصفه "صحوة". حملوا المباخر خلف الشيخ والسيد وتحدثوا عن عصر جديد. ثم تخبطوا وصمتوا وهم يرون الصراع مع الأنظمة يتحول إلى صراعات طائفية، وأن مشاريع "الصحوة" الموعودة انقلبت إلى ميليشيات تقتل وتصادر ما تم بناؤه على
مدى عقود وتعبر الحدود لتنسف الأوطان.
ثمة حاجة كبيرة إلى المثقف «الجديد» المستنير. هو مثقف يصنع أدواته ويطورها بنفسه في محاولة تفسير نكبات المنطقة، ويجهد في استخدامها لبناء ثقافة وفكر جديدين. استعارة أدوات الآخرين صنعت غربة المثقف عن الناس، وما قادت إلا إلى ابتعاد المثقف «القديم» عن الواقع
وابتعاد الناس عنه. أتى «السذج» وحلوا محله.
ثمة حاجة جامحة إلى من يصنع الوعي الذي يمكن أن يعيد بناء ما خرب، والمضي نحو زمن المستقبل. هذه هي مواصفات المثقف «الجديد». ينبغي للمثقف أن يتذكر أن المواجهة لن تكون سهلة. فتفكيك المنطقة وإيصالها إلى الحال المزري الذي نعيشه استلزم عقوداً، ونجح في اختراق كل البنى الاجتماعية والسياسية. معركة المثقف طويلة وقد تمتد إلى عشرات السنين وتحتاج إلى تراكم فكري وثقافي ومنابر متعددة لانتاج معرفة متجددة ووعي جديد. لم يقل أحد إن معركة الوعي سهلة. مجلة «الجديد» منبر مقترح للأفكار التي يمكن أن تسهم في صناعة هذا الوعي وصياغة أسسه. هي ساحة يجتمع فيها الأصدقاء لعلهم ينجحون في تقديم شيء مختلف. يحدوهم الأمل
بالمستقبل. مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. مستقبل المنطقة.
نحن لا نقرأ روايات وقصصا فقط. ثمة مكتبات كاملة عن التاريخ والفن والعلوم والطبيعة والصحة. هذه كلها تدخل في اطار الثقافة العامة واغلب ما تقدمه هذه الكتب غير مطروح بما يكفي من الدقة او الوعي في الصحافة اليومية وفي المقالات العابرة.
الإنترنت الذي أصبح من أغزر منابع العلوم والمعرفة، وأهم روافد الحياة الثقافية، وبات يشكّل أساساً متيناً للتوجّهات المستقبلية في مجتمع المعلومات والاتصالات.
*
الثقافة في الفكر العربي
تشـكل الثقافـة ركنـا ّ أساسـيا ّ مـن أركان الحضـارة الإنسـانية، فهـي مجموعـة مـن العقائـد
ّ والقيـم، والقواعـد والأفـكار، والعـادات والتقاليد، والأخـاق والأذواق.. واللغـة التي يقبلها
ُ أفــراد ٍ مجتمــع ً مــا، والتــي تأخــذ فتــرة ّ مــن الزمــن حتــى يمكنهــا أن تتحــول إلــى معــارف
ّ جاهـزة، إنمـا تتراكـم بالثقافـة التـي تقطـع بدورهـا مراحـل طويلـة مـن التراكـم والنضـج
ُ الكافـي، الـذي يخـو ل لهـا أن تنتقـل مـن جيـل إلـى جيـل.
ّ وقـد جـاء مفهـوم الثقافـة فـي اللغـة العربية بمعنـى البحث والتنقيـب حول معانـي الحق
ّ والخيـر والعـدل، وكل ُ القيـم التـي تصلـح الوجـود الإنسـاني،
أما بالنسـبة لمفهـوم الثقافـة فـي الفكـر العربـي ً ، فهـو يعيـش حالـة مـن الفـراغ بعـد أن
ّ أد ت علمنـة المفهـوم، بنقـل المضمـون والمحتـوى الغربـي ّ وفصلـه عـن الأصـل العربـي،
ّ إلــى تفريــغ الثقافــة العربيـة مــن القيــم والعــادات والمفاهيــم المرتبطــة بالديــن، وفـك
ُ الارتبــاط بينهــا، ففــي الاســتخدام الحديــث صــار الإنســان ُ الم ّ ثقــف هــو الشــخص الــذي
يمتلـك المعـارف الحديثـة، ويطالـع أدب وفكـر الآخـر، ولا يبـدع فكـره بالضـرورة مـن أصـل
تربيتـه وعقيدتـه
ّ أد ت علمنـة المفهـوم، بنقـل المضمـون والمحتـوى الغربـي ّ وفصلـه عـن الأصـل العربـي،
ّ إلــى تفريــغ الثقافــة العربيـة مــن القيــم والعــادات والمفاهيــم المرتبطــة بالديــن، وفـك
ُ الارتبــاط بينهــا، ففــي الاســتخدام الحديــث صــار الإنســان ُ الم ّ ثقــف هــو الشــخص الــذي
يمتلـك المعـارف الحديثـة، ويطالـع أدب وفكـر الآخـر، ولا يبـدع فكـره بالضـرورة مـن أصـل
تربيتـه وعقيدتـه
وأصبـح وضـع المثقـف كرمـز ّ للتنويـر والحداثة، حسـب المفهوم الغربي فـي مواجهة عالم
ُ المسـلمين والفقيـه فـي الديـن، ففـي حيـن ينظـر للأخيـر بأنـه يرتبـط بالماضـي والتـراث،
ُينظـر للمثقف بأنـه هـو الـذي ينظـر للمسـتقبل، ويتابـع متغيـرات الواقـع، ويحمـل رسـالة
ّ النهضــة، وبذلــك تــم توظيــف المفهــوم كأداة لتكريــس الفكــر العلمانــي بمفاهيــم تبــدو
ّ إيجابيـة، ونعـت الفكـر الدينـي بالعكـس، وهـذا مـا نـراه واضحـا فـي الاسـتخدام الشـائع
ّ لكلمـة الثقافـة فـي المجـال الفكـري فـي بادنـا العربيـة، ذلـك مـا يتوافـق مـع نظـرة علـم
ّ الاجتمـاع وعلـم الإنسـان الاجتماعـي إلـى الديـن باعتبـاره صناعـة إنسـانية، وليـس وحيـا
ُمنـز ًلا ّ ، وبذلـك مـع التطـور الإنسـاني والتنويـر سـيتم تجـاوز الديـن والتقليـد السـائد فـي
مجتمعاتنـا.
ُ المسـلمين والفقيـه فـي الديـن، ففـي حيـن ينظـر للأخيـر بأنـه يرتبـط بالماضـي والتـراث،
ُينظـر للمثقف بأنـه هـو الـذي ينظـر للمسـتقبل، ويتابـع متغيـرات الواقـع، ويحمـل رسـالة
ّ النهضــة، وبذلــك تــم توظيــف المفهــوم كأداة لتكريــس الفكــر العلمانــي بمفاهيــم تبــدو
ّ إيجابيـة، ونعـت الفكـر الدينـي بالعكـس، وهـذا مـا نـراه واضحـا فـي الاسـتخدام الشـائع
ّ لكلمـة الثقافـة فـي المجـال الفكـري فـي بادنـا العربيـة، ذلـك مـا يتوافـق مـع نظـرة علـم
ّ الاجتمـاع وعلـم الإنسـان الاجتماعـي إلـى الديـن باعتبـاره صناعـة إنسـانية، وليـس وحيـا
ُمنـز ًلا ّ ، وبذلـك مـع التطـور الإنسـاني والتنويـر سـيتم تجـاوز الديـن والتقليـد السـائد فـي
مجتمعاتنـا.
ُ وعليـه يجـب علـى المثقـف العربـي ّ أن يؤسـس ثقافتـه علـى الـذات والقيـم الإيجابيـة، وأن
ٍ يكـون صاحـب هـدف ٍ واع، ورؤيـة نابعـة مـن مفاهيم وخلفيـة تاريخية، بناؤه ثقافة إسـامية
ُ وفكـر معتـدل، وأن يخـرج مـن صـورة المثقـف الـواردة مـن الفكـر الخارجـي، ويبتعـد عـن
ّ مضمـون الثقافـة الغربية التـي لا تصلـح لمجتمعاتنـا العربية بـكل َ مـا حملتـه؛ لأن من
ً يحمــل قيمــا وأفــكاراً لا تنتمــي لجــذور ثقافتــه الحقيقيــة، فهــذه ليســت بثقافــة، وإنمــا
ٍ استنسـاخ وتمـاه مـع قيـم الآخـر لا أكثـر
ٍ يكـون صاحـب هـدف ٍ واع، ورؤيـة نابعـة مـن مفاهيم وخلفيـة تاريخية، بناؤه ثقافة إسـامية
ُ وفكـر معتـدل، وأن يخـرج مـن صـورة المثقـف الـواردة مـن الفكـر الخارجـي، ويبتعـد عـن
ّ مضمـون الثقافـة الغربية التـي لا تصلـح لمجتمعاتنـا العربية بـكل َ مـا حملتـه؛ لأن من
ً يحمــل قيمــا وأفــكاراً لا تنتمــي لجــذور ثقافتــه الحقيقيــة، فهــذه ليســت بثقافــة، وإنمــا
ٍ استنسـاخ وتمـاه مـع قيـم الآخـر لا أكثـر
الفجوة بين المثقف والمجتمع
إشكالية تبسيط الثقافة حتى تصل إلى الناس وإلى المجتمع، وهنا يبرز دور المثقف في أن يقرب
مفهوم الثقافة لأفراد المجتمع.
لماذا دائماً ليس هناك إقبال من الناس على المواضيع الفكرية الجادة والعميقة التي تُطرح، في حين نجد المواضيع البسيطة عليها إقبال كبير؟ ويقودني هذا السؤال إلى سؤال كاشف: هل هناك فجوة بين المثقف والمجتمع؟
نعم هناك فجوة، وهذه الفجوة جزء من أسبابها المثقف نفسه، لأنه لا يستطيع أن يصل بإنتاجه الفكري إلى مجتمعه، فعلى سبيل المثال كتاب قصة الفلسفة لـ«ويل ديورانت» الذي يحكي تاريخ الفلسفة، غالباً لا يقرأه إلا المتخصصون والنخب، في حين رواية «عالم صوفي» لجوستاين غاردنر التي تقدم الفلسفة في صورة رواية مشوقة تُرجمت لأكثر من خمسين لغة، وكل فئات المجتمع المهتمة بالقراءة قد قرؤوها، لندرك أننا نحتاج إلى أن نقدم الثقافة في إطار أكثر جذباً للإنسان العادي، لنرتقي بعقله ونزيد مستوى الوعي لديه من خلال عمل المثقف.
الإشكالية الحقيقية تكمن في المثقف غير القادر على فهم لغة مجتمعه، لذلك نجد هناك غربة كبيرة بين المثقف والمجتمع يمكن التخلص منها إذا استخدمنا لغة قادرة على توصيل أفكارنا للمجتمع، لذلك لابد أن نبحث وراء ثوب جديد نضع فيه الفكر والثقافة، حتى نؤثر في المجتمع.
في «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» هذا العام، لاحظت أن الروايات وكتب التنمية الذاتية، هي أكثر الكتب مبيعاً في المعرض لأن لغتها هي لغة الناس، في حين نجد كتب بعض المفكرين الكبار لا يباع منها إلا نسخ محدودة، لأن الكثير من هذه الإنتاجات الفكرية تقدم بلغة صعبة ومتعالية أحياناً، تجعل الناس تبتعد عن الثقافة العميقة والقراءة في القضايا الفكرية الكبري، بالتأكيد لابد أن نستثني من ذلك الكتب ذات الطابع الأكاديمي والموضوعات التي تهم النخب الثقافية، ولكن الهم الأكبر هو الإنسان العادي الذي نحتاج أن نصل إليه، ونرفع من وعيه، لذلك جزء مهم من عمل المثقف أن يحبب الناس بالثقافة والقراءة والبحث عن المعرفة.
كما أن دور المثقف الحقيقي أن يغير توجهات الناس، وأن يرفع من وعي المجتمع من خلال الجذب في أسلوب طرحه لأفكاره، وأن يقترب من مجتمعه وحتى يكون فاعلاً ويغير وينجز، وهذا لا يعني تسطيح المثقف لفكره، فقط نحتاج أن يوضع هذا الفكر داخل إطار يستطيع كل أفراد المجتمع استيعابه ويرتقي بهم ويرفع الوعي لديهم. فإذا لم يستطع المثقف ذلك فما هي الفائدة من وجوده، فهو تماماً مثل الطبيب الذي لا يعالج.
هل عمل المثقف أن ينجز الكتب لنضعها على الرفوف، وكتابة مقالات لا يقرأها أحد، وطرح مواضيع لا تهم الناس، فيتحول إلى شاهد لا أثر له على المجتمع، ويصبح المجتمع يتندر حين لا يفهم ما يقال (كلام مثقفين لا نعرف فيه) ليس هناك أصدق من تلك الجملة تعبيراً عن الفجوة التي بين المثقف والمجتمع.
بتشكيل خلية عمل تقوم بتقديم أفكار عملية حول كيفية تقديم ثقافة جاذبة وملامسة لحياة الناس بلغة يفهمونها وتتناسب مع واقعهم وتطلعاتهم، ونقدم من خلال ذلك خطة عمل لكي يكون أمامنا ثقافة جديدة تجذب عدداً كبيراً من الشرائح، التي كانت لا تقترب من قراءة الكتب وحضور المحاضرات والندوات الثقافية الحقيقية، وهذه المبادرة أضعها بين أيديكم وأدعو الجميع للمشاركة.. معاً نرتقي بوعي مجتمعاتنا لكي نكون صناع معرفة لا مستهلكين فقط للمعرفة.
*
الثقافة والمثقف والتباس المفهوم
كلمة الثقافة كلمة تعتبر دلالتها الحديثة مغايرة في لغتنا العربية لدلالتها القديمة المعجمية، فأصلها في المعاجم هو كلمة ثقف وهو بمعني الفطنة والذكاء وثقف الشيء أي عرفه وأتقنه لكن تظل الدلالة اللغوية قاصرة عن التعرف على المفهوم الجامع لكلمة الثقافة، رغم أننا حين نستخدم كلمة الثقافة في حياتنا اليومية فنحن نركن إلى المدلول اللغوي في لغتنا العربية لكلمة الثقافة هي معرفة الشيء، فحين نطلق كلمة إنسان مثقف يتداعى في الذهن صور القارئ الذي يمتلك جزءاً من المعارف والفكر، وإن حاولنا أن نجد استخداماً لكلمة الثقافة في تاريخنا العربي لن نجد إلا فيما ندر، لكن في العصر الحديث بدأنا نستخدم كلمة الثقافة بصورة مكثفة.
*
المثقف الخائن
Mar 26, 2021
May 26, 2021
إنهم سحرة فرعون الذين لا يقلّون عنه إجراماً، سواء أكانوا يتلفعون بعباءة الدين أم الحداثة أم النخبة. ولأننا في زمن ابتذال المصطلحات والمفاهيم، كـ"العالم" و"المفكر" و"الفقيه" و"الفيلسوف" و"الإعلامي" و"السياسي".. إلخ، فإن مفهوم "المثقف" اليوم لا يقل ابتذالاً في أذهان العامة. بالنسبة لكثيرين، كل حامل شهادة جامعية "مثقف"، وكل كاتب مقالة "مثقف"، بل إن مهرّجي وسائل التواصل الاجتماعي يتم التعاطي معهم على أنهم "مثقفون". من ثمَّ، فإن التحذير من تلك النوعيات بينهم التي تُسَخِّرُ هذه الصفة أو هذا اللقب للاسترزاق على حساب شعوبهم وضد مصالحها، بالتملّق للحاكم والنظام، يغدو من مهمات المثقف الحقيقي، أو من يصفه الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، "المثقف الملتزم"، والذي ينشد الحرية بوصفها قيمة عليا، وهو مستعد لدفع ثمن ذلك، من باب مسؤوليته مثقفا أصيلا.
إذا كان الخوف من القمع سبب التزام الناس الصمت طلباً للسلامة، فإن تزييف الحقائق ومحاولة تشويه وعيِ العوام هما الخيانة بحد ذاتها
دافع هذه السطور مقالة قرأتها لشخص يحمل أعلى الشهادات الأكاديمية، ويعمل في جامعات ومراكز دراسات عربية، وينشر مقالات أسبوعية. هو من الطراز الذي تقرّع مقالاته، في العادة، الدوغمائيين والإيديولوجيين. وإذا جلست إليه، أو قرأت له، فإنه حريص على أن يعطيك انطباعاً باختزانه الحداثة والليبرالية والرصانة العلمية. ولكن ما أن وقعت كارثة إنسانية في بلاده، أُزهقت بسببها أرواح أبرياء، وجذرها الأساس الفساد والمحسوبية، لا القضاء والقدر، حتى نشر مقالةً تطفح بالنفاق والتزلّف للزعيم الذي يُخْذُلُهُ من حوله، في حين أنه هو منزّه عن الخطأ وعن الظلم والفساد! للأسف، ليس هذا الشخص حالة معزولة، بل هو جزء من ظاهرة واسعة، ممن يملكون مستوى من التردّي الأخلاقي لا يُضاهى، وقدرةً وضيعةً على التواطؤ ضد الذات، بحيث يبرئون ساحة المجرم الأكبر من جريمته، ويلصقونها بمن حوله من صغار أعوانه الذين اختارهم بنفسه بناء على معايير شرّيرة فاسدة. ولا يتوقف تزلّف "المثقف الخائن" عند تنزيه الطاغية، بل إنه قد يتطرّف، إلى حد تحميل الضحية نفسها مسؤولية الإهمال وصنع مآسيها!
"المثقف الخائن" لا يقل سوءاً وشرّاً عن الطاغية وأجهزته الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، بل قد يكون أكثر خطراً
تجد نوعية بين أدعياء الثقافة وخونتها، ممن يزعمون إيمانهم المطلق بحرية الرأي والتعبير والحريات الشخصية في العقائد والأخلاق والاختيارات، وهم لا يتردّدون في نقد الدين أو منظومات القِيَمِ، بل وحتى التجاوز مع الله جلَّ جلاله ذاته، ورسوله الكريم، في الخطاب. ولكن، عندما يأتي الأمر إلى انتقاد صاحب هيلمان السلطة والسلطان والمسّ بمقامه، تراهم ينتفضون "غيرة" على أخلاق مُضَيَّعَةٍ، وتُنكر للجميل، وتصبح حرية التعبير والرأي قلة أدبٍ وتجاوز حيث يحظر ذلك! وقد تنبه المفكر السوري/ العربي، وأحد رواد التحذير من خطر الاستبداد على نهوض الأمم، عبد الرحمن الكواكبي، إلى خطر هؤلاء قبل أكثر من مائة وعشرين عاماً، وضمن ذلك في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". من يصفهم "المُتَمَجِّدينَ"، أي طالبي القرب من المُسْتَبِدِّ، لا يعدون أن يكونوا "سماسرة" يتخذهم المستبد "لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال. والحقيقة أن كل هذه الدواعي، فخيمة العنوان في الأسماع والأذهان، ما هي إلا تخيل وإيهام يَقْصِدُ بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها". ويخلص الكواكبي إلى أن المُتَمَجِّدينَ "أعداء للعدل أنصارا للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة (عندهم)، وهذا ما يقصده المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكّن بواسطتهم من أن يغرّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها". ويؤكد الكواكبي، محقاً، قاعدة مفادها بأن "الاستبداد أصل لكل فساد".
إذا كان الخوف من القمع سبب التزام الناس الصمت طلباً للسلامة، فإن تزييف الحقائق ومحاولة تشويه وعيِ العوام هما الخيانة بحد ذاتها، ذلك أن مدى تخريبهما يشمل أجيالاً قادمة. من ثمَّ، لم يكن عبثاً تحذير المفكر الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، من اقتراب المثقف من السلطة، ذلك أن منظومة القيم معرّضة للانهيار حينها. هذا ما نراه اليوم في كثيرين من ادعياء الثقافة، وأصحابها حقاً، ولكن من الخائنين لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق