علمنة المسيحية عملية معقدة اتخذت وقتا طويلا حتى نضجت، تمثلت فى اعتبار المسيحية هى إرث حضارى مشترك لكل الشعوب الأوروبية وأحد أسس النهضة والتنوير ولكن تم ذلك فى ظل عملية إعادة قراءة تاريخية للمسيحية ودور المسيح ومركزية السلطة الكنسية وتوغل رجال الدين على الحياة الخاصة للمواطنين والعامة للملوك. بعبارة أخرى فإن النهضة الأوروبية فى هذه المرحلة لم تعتمد على استبعاد الدين ولكنها أعادت قراءة تاريخ الدين بشكل علمانى رافضة القراءة اللاهوتية التاريخية شديدة التحيز ومقدمة كبديل عن ذلك قراءة بشرية نقدية حافظت على المسيحية كمصدر للإرث الحضارى المشترك ولكنها رفضت توغل الأخيرة ونزعت منها تدريجيا الحق الحصرى فى احتكار شرعية التطور الإنسانى ممهدة بذلك لسيادة عصر القوانين المدنية حيث انتقلت السلطة تدريجيا من رجال الدين إلى رجال الدولة. جزء من هذا التطور ارتبط أيضا بتعميق مفهوم الأخلاق واعتبار أن الدين هو أحد مصادرها وليس المصدر الوحيد لها، فتم إعادة الاعتبار للعقل والفن والثقافة باعتبارها مصادر أخرى للأخلاق والرقى
والتقدم.
ثورة العلم وهو تطور طبيعى ومنطقى لإعمال العقل والتركيز على استغلال الموارد والذى مكن أوروبا أخيرا من اللحاق بالتطورات الرياضية والفلكية التى سبقتها إليها حضارات عدة فى الشرق. تم التركيز فى هذه الحقبة على العلوم التطبيقية والرياضية من أجل المزيد من التحكم فى الموارد والبيئة المحيطة وهو ما ساهم فى إعادة الاعتبار للعلوم الطبيعة ولعل قوانين نيوتن للجاذبية أحد أهم منتجات هذه الحقبة والتى أعادت تشكيل العديد من الافتراضات العلمية ووضعت أسس النهضة والحداثة الأوروبية فيما بعد. عضدت هذه الثورة العلمية مبادئ النسبية فى التفكير والتى رفضت المسلمات المطلقة بالاعتماد على الفرضيات العلمية التى يمكن اختبارها بشكل علمى (إمبريقى) بحيث لا يتم اعتماد الفروض العلمية إلا بعد إثبات صحتها لتتحول إلى قوانين يمكن البناء عليها، ساهم هذا أيضا فى بدء عصر انحصار الأساطير وسيادة العقل الغربى
أما السمة الأخيرة لهذه المرحلة فقد تمثلت فى إرساء قواعد الديمقراطية نظريا عن طريق كتابات مفكرى العقد الاجتماعى الذين أعادوا تصور صياغة العلاقة بين الحكام والمحكومين فى شكل عقد يدين فيه المحكومين بالولاء للحكام بشرط أن يلتزم هؤلاء الحكام بمبادئ الحرية وحماية حقوق هؤلاء المواطنين. وقد تمثلت كتابات لوك عن الطبيعة الشريرة للدولة وضرورة تهذيبها بعقد يضمن حقوق وحريات المواطنين فى التمهيد لصياغة تعاقدية جديدة مهدت للديمقراطية ورفضت العلاقات الهيراركية التى امتلك فيها النبلاء عبيدهم كحق مطلق وحصرى. هذه العلاقة التعاقدية أيضا ساهمت فى المزيد من التحرير للعقل الأوروبى ودفعته نحو البحث عن مصلحته بعيدا عن سطوة رجال الدين وهو ما ساهم فى عقود لاحقة لإقرار قواعد الديمقراطية الليبرالية كضمانة لحياد أجهزة الدولة تجاه مواطنيها (العلمانية) وليس العكس كما تتصور بعض الكتابات العلمانية العربية باعتبار أن العلمانية ضمان للديمقراطية، فالواقع الأوروبى أكد أن العكس تماما هو الصحيح، فدون ضمان الحريات والتعددية وحقوق الأقليات كما الأغلبية فلا معنى أصلا للعلمانية وهو ما سيتضح بشكل أكثر جلاء فى عهد الثورتين الصناعية والسياسية فى منتصف القرن الثامن عشر.
أحمد عبد ربه
تطور العقل الأوروبى الحديث بكتابات بيكون وديكارت ومونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم من الشيوخ، وسوف نتناول جانبًا من مواقفهم من قضية تواصل الشباب مع الشياب وكيفية إعداد النشء للنهضة والتنوير فى مقالات تالية.
فها هو فرنسيس بيكون يصرح فى مقال له بعنوان «عن الشباب والشيخوخة « (بأن الشباب أقدر على الابتكار والتطبيق منه للتخطيط والنصح والاعتدال فى الحكم والاتيان بالعظات، وذلك نظرًا لقلة خبرة الشبان ودرايتهم، وهم كذلك أنسب للعمل والإنتاج منهم إلى المشورة، ومن ثم يجب الدفع بهم صوب التحديث والتجديد أكثر من الزج بهم فى ميدان التحقيق وتأمل الموروث لتحليله والوقوف على أسراره والكشف عن ملابساته ومقاصده، وذلك نظرًا لروح الشبيبه الثورية الناقدة المتمردة دومًا على المألوف، فالشباب بطبيعتهم أقرب إلى الحركة والنزوع منهم إلى التأمل والاناة فى النقد والتعقل فى إصدار القرارات، غير عابئين بتخير الوسائل، وإدراك المألات، فهمهم الأكبر ينصب على تحقيق الغايات معولين فى ذلك على رءوس أقلام حصلوها من أبواب
المعرفة والعلم.
أما الشياب فإنهم يعترضون أكثر مما يقررون، ويتشاورون أطول من غيرهم خوفًا من المغامرة والمقامرة والمخاطرة، كما أنك تلمح فى حديثهم بكاءً على الماضى والندم على ما فات، الأمر الذى يعكس تقاعسهم عن المضى فى الطرق المجهولة، لذا تجدهم يقنعون بالمتوسط من النجاح
ويختتم فرنسيس بيكون حديثه (بأن الخير فى الجمع بين الشياب والشباب فى شتى الميادين، فنواقض كل من هذين الفريقين تكمله وتعالجه طبائع الفريق الآخر، ثورة عاقلة، طموح بلا اندفاع، إبداع وليس شطط ومجون، تجديد دون تبديد، سعى للتغيير، وأناة وتريث فى الفحص والتبرير، ووعى بالمآلات، وجدولة للغايات) وليت شبابنا ينصت ويتعلم.
وحين نرفع شعار «العلمانية هى الحل» فلا بد من أن ندفع ثمن هذا الشعار كما دفعه الغرب منذ قرون جهداً ودماء، فالعلمانية لا تقدم على طبق من ذهب أو تهبط هبة من السماء، وأعتقد أننا ندفع الثمن حالياً فإما أن نشترى المستقبل أو نقع غرقى ديون الماضى إلى أبد الآبدين.
****************************
التراكم الموءود
لم يكن لمفكرى العصور الوسطى فى أوروبا أن يتصوروا حجم التقدم الهائل الذى ستحققه الحضارة الأوروبية فى القرون الأربعة التالية، وأن يتخيلوا ثمار التقدم العلمى والتكنولوجى الرهيب الذى سيصل إليه الغرب فى وقتنا الحالى. كلا ولم يكن حتى بمقدور مفكرى عصر النهضة
لو امتد بهم العيش حتى عصرنا الحاضر لأصابهم مس من الجنون أو الضحك على حالهم البائسة فى الماضى
ما هى الأسباب الجوهرية التى أدت بأوروبا إلى الانتقال من عصر مظلم طويل إلى عصر الحداثة الذى لم يعد فيه لأية قوة سلطة على العقل إلا العقل ذاته؟.
مسألة القطع مع تراث الماضى والتخلص من ربقته الأسطورية فى العالم الشرقى. فما سبب ذلك؟. لقد كان الغرب فى العصر الوسيط أسيرا لفكر دينى ظلامى ولم يكن لمفكريه الجرأة للبوح بنظرياتهم وأفكارهم المخالفة للفكر السائد وقد تعرض الكثير منهم للموت حرقا بسبب آرائهم المغايرة لمعتقدات الكنيسة.
بل إن الفيلسوف الفرنسى ديكارت والفيلسوف الهولندى إسبينوزا قد اضطرا إلى الهروب من بلديهما واللجوء إلى بلد آخر خوفا على حياتهما من مطاردة السلطة الدينية لهما
القرن الثانى عشر عاش الفيلسوف العربى ابن رشد وهو أشهر الفلاسفة المسلمين وأعظم شراح فلسفة أرسطو ودعا فى فلسفته إلى استخدام العقل فى فهم النصوص الدينية وتأويلها لأن استخدام العقل من واجبات الشرع، كما سعى سعيا دؤوبا للبرهان على أن الفلسفة والدين متوافقان. وقد تميزت فلسفة ابن رشد بالعقلانية وبضرورة اعتماد العقل فى تسيير أمور الجماعة ولم يكن يعتمد رأيا لا تؤيده قوة الحجة والبرهان. غير أن معظم أعمال ابن رشد تعرضت للحرق نتيجة الاضطهاد الشديد الذى لاقاه ولم يتبق منها إلا جزء يسير تمكن بعض تلاميذه من تهريبه إلى أوروبا.
إذا كانت السلطة الدينية قد هيمنت على العقل فى العالمين: الغربى من خلال تعاليم الكنيسة، والشرقى من خلال تعاليم الفقهاء تحت سلطان الغزالى وابن تيمية، فلماذا قيض للرشدية أن تحدث قطيعة فكرية فى الغرب ولم يقيض لها ذلك فى الشرق؟.
قد يرى البعض أن السبب الجوهرى يكمن فى العلاقة الوطيدة بين المجتمع الأوروبى والحضارة اليونانية التى نشأت فيه. لأن الحضارة اليونانية هى الحضارة التى عقدت السيادة للعقل وحررته من الفكر الأسطورى فصار العقل الأوروبى بسبب ذلك قادرا أكثر من غيره على الخلاص من الفكر القروسطى. ورغم وجاهة هذا الرأى إلا أنه من العسير التسليم به على إطلاقه لأن الفلسفة الإسلامية اعتمدت اعتمادا يكاد يكون كليا على الفلسفة اليونانية التى ترجمت إلى العربية على يد المترجمين السريان. ومعنى ذلك أن بذور العقلانية اليونانية وثمارها كانت مكونا أساسيا فى الفلسفة الإسلامية ومع ذلك لم تنجح تلك الفلسفة فى تهيئة المناخ الفكرى لحدوث قطيعة معرفية مع الماضى. بل فى كل عصر تنشأ فيه محاولات فكرية واعدة بتحرير العقل من أصفاد الفكر المتخلف نجد قوى الظلام قد تربصت بها وانقضت عليها من أجل تصفيتها. ولنا فى طه حسين وعلى عبد الرازق ونجيب محفوظ أمثلة على ذلك. وكلما ولد تيار عقلانى تنويرى أسرعت بوأده للحيلولة دون حدوث أى تراكم معرفى يهدد بقاءها.
++++++++++++++++++++++
لماذا نجح الأنوار وفشل التنوير؟
يوسف مكي
تطرح المقاربة بحدة، بين عصر الأنوار الأوروبي، وعصر التنوير العربي. وهي للأسف مقاربة ليست في مصلحتنا. ولكنها تبقى مقاربة مهمة إذا ما عقد العرب العزم على الخروج من نفق الأزمة الذي استمروا قابعين فيه سنين طويلة. وقد كانت هذه المقاربة، ولا تزال، موضع اهتمامنا في أحاديث عدة، تناولنا فيها أسباب فشل المشروع النهضوي العربي،
أول ما ينبغي ملاحظته في هذا السياق، هو أن الثورة الصناعية كانت في مواجهة مع نظام إقطاعي، أكدت كل المؤشرات عدم قدرته على التنافس، لا في الفكر، ولا في السياسة، ولا في القوة الاقتصادية مع القوى الصاعدة الجديدة، التي مثلت طليعة الثورة الصناعية.
فمن حيث الفكر، جاءت الثورة الصناعية، حاملة لمبادئ عصر الأنوار التي مثلتها أفكار روسو، ومونتيسكيو، ولوك، وهوبز، وأدب هوجو، وفولتير، وغيرهم، من المفكرين والأدباء العظام الذين كانوا رواد المرحلة الرومانسية، التي مهدت الطريق للثورات الاجتماعية في القارة الأوروبية.
ومن حيث السياسة، اضطلع المفكرون الذين أشرنا إليهم، كل في مجال تخصصه، بصياغة برنامج المستقبل، ورسم بوصلة الطريق، لما بعد سقوط الأنظمة البطركية. فكتب روسو عن العقد الاجتماعي، الذي رسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وباتت بموجب هذا العقد، مهمة الحاكم السهر على تنفيذ مطالب شعبه. وحدد لوك، صيغة العلاقة بين البناءين الفوقي، والتحتي، من خلال مؤسسات تنفيذية وتشريعية ودستورية. وتناول مونتيسكيو موضوع القانون، وأهمية أن تكون دولة المستقبل، دولة العدل والقانون.
وهنا تجدر الملاحظة، أن مشروع الأنوار لم يكن يجري في فراغ، بل وجد فرصته التاريخية، من خلال التطورات التي حدثت في مجال التصنيع، وأيضاً من خلال الثورتين، الفرنسية والانجليزية، حين اضطلعتا بوضع أفكار عصر الأنوار في أوروبا، قيد التنفيذ.
ولم تكن صدفة، أن تنطلق الثورتان، الفرنسية والانجليزية، في زمن متقارب. ففي انجلترا كانت البداية. وكان القطن هو نقطة التحول في التاريخ الإنساني من العمل الحرفي، إلى عصر الآلة. وكانت التداعيات تفرض نفسها، وتحقق انتقال الإنسان، وقدرته على تطويع الطبيعة، من حال إلى حال. فصناعة النسيج تستدعي توافر المتطلبات اللوجستية، للتصدير. وتفتقت عبقرية الإنسان الانجليزي، عن ابتكار القطارات، لتسهم في حل معضلة نقل المنتجات القطنية، وتصديرها للخارج. وكان هذا التطور يعكس ذاته في تحولات اجتماعية ضخمة، بعضها مرئي، والآخر كامن.
وضمن ما كان مرئياً، هو النزوح الضخم من الأرياف، إلى البلدات الصناعية، للعمل في المصانع. وضمنه أيضاً، التضخم الهائل في رؤوس الأموال، وخلق طبقة فتية، ونهمة، مستعدة ليس لإغراق الأسواق المحلية بمنتوجاتها فقط، بل وللتسابق على الأسواق العالمية، وإن لم يتحقق ذلك بالسلم، فليكن بالهيمنة، والقسر، والاستعمار. وكانت طبيعة الأشياء تقتضي التوسع الصناعي في مختلف المجالات، فالنسيج قاد إلى صناعة السكك الحديدية، والسكك قادت إلى تطوير آليات استخراج الفحم الحجري، كما قادت إلى تطوير السفن، وتحويلها من سفن شراعية، إلى حال يجعلها أكثر قدرة على قطع المسافات بسرعة، وكميات مضاعفة. وهكذا.
ولم تكن فرنسا بعيدة عما يجري قريباً منها. وكان دورها الأيديولوجي مكملاً لما اضطلعت به الصناعة الانجليزية. وحين هبت الثورة الفرنسية، عام 1789م، وصدر دستورها فيما بعد، اتضحت معالم الطريق لشعوب أوروبا، وانتقل التأثير سريعاً كالهشيم، إلى أمريكا الشمالية. وحين صدر الدستور الأمريكي، جاءت مواده متأثرة بشكل كبير، بمبادئ الثورة الفرنسية. وقد بلغت أصداء هذه الثورة ومبادئها زوايا الكرة الأرضية، ومن ضمنها الوطن العربي، حيث حملت مبادئ عصر التنوير وميض مبادئها.
وفي الوطن العربي، وقفت معظم الأحداث لتلجم مرحلة التنوير العربي. فهذه المرحلة لم تكن نتاج تطور تاريخي في البلدان التي انطلقت منها، بل كانت كما أشرنا، نقلاً لمبادئ وأفكار عصر الأنوار الأوروبي. وقد تأثر معظم قادة مشروع النهضة العربي، بأفكار الثورة الفرنسية، ولاحقاً بالأفكار اليسارية، لكن النقل جاء في صيغة نسخ خال من الإبداع، والتوطين، ولم يتمكن قادة عصر النهضة، أن يجدوا ضمن القوى الاجتماعية الكبرى، حاملاً لمشروعهم، بخلاف ما حدث في فرنسا، وانجلترا، ولاحقاً بقية الدول الأوروبية، حين بات أرباب الصناعة، والطبقة المتوسطة، هم حملة مشاعل مشروع الأنوار، ووضع برامجه قيد التنفيذ.
وبخلاف المواجهة الأوروبية، بين الإقطاع المتداعي، والقوى الفتية الصاعدة، كان على مشروع النهضة العربي أن يتنافس مع الاستعمار الأوروبي، في قمة جبروته، وفتوته. وفي الوقت نفسه، فإن حمل قادة المشروع النهضوي للأفكار الليبرالية، ولقيم الحرية والعدالة، وللأفكار التي عبر عنها عصر الأنوار الأوروبي، قد جعلهم، بغياب التوطين لتلك الأفكار، تابعين للغرب. وحين جرى تقسيم الوطن العربي وفقاً لاتفاقية سايكس- بيكو، وأفصح البريطانيون عن وعد بلفور، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، أودي بالمشروع النهضوي، بعد أن وجه له الغرب طعنة مباشرة في الصميم، مكنت الإسلام السياسي من أن يستغل ما جرى، فتوضع أصابع الاتهام، بحق زعماء النهضة، وليصل الاتهام، في صورة كاريكاتيرية، إلى مبادئ التنوير ذاتها.
بمعنى آخر، فشل مشروع التنوير العربي، لأسباب عدة، أهمها أنه لم يجر توطينه، ولم يكن هناك حامل اجتماعي قادر على وضعه قيد التنفيذ، وقد تكالبت كل الظروف ضد توفير فرصة لتحقيق عناصره، بما في ذلك الغزو الخارجي، والبروز القوي للإسلام السياسي، في نهاية العشرينات، من القرن الماضي.
السؤال المحير
د. عصام عبدالفتاح ٢٥/ ٩/ ٢٠١٩
الهاجس الكبير الذى يطارد مفكرى عصر النهضة العربية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين تقريبا يدور حول قضية جوهرية كانت سببا أساسيا فى أن يطلق عليهم «مفكرو عصر النهضة» وهى «كيف يمكن صناعة عصر جديد على غرار عصر النهضة الأوروبى؟» وهو العصر السابق على عصر النهضة العربية بقرون أربعة، وهذا الهاجس الحضارى إذا صحّت تسميته كذلك، فهو فى الواقع وليد صدمة اللقاء بالغرب، منذ بداية بعثة رفاعة الطهطاوى إلى فرنسا عام ١٨٢٦ وما أعقبها من صدمة شديدة حلت بالمبعوثين من جراء لقائهم بالغرب وذهولهم من تقدمه العلمى والفكرى، وقد انعكس ذلك بوضوح على رفاعة الطهطاوى نفسه لدرجة أنه حذر أعضاء البعثة من الاقتراب من الفلسفة بدعوى أنها «تحتوى على حشوات ضلالية تذهب بالإيمان» تأثرا بمسلك ابن تيمية فى عصره، حينما هاجم بضراوة الفلسفة ورموزها من كبار الفلاسفة. ومعنى ذلك أن مفهوم «عصر النهضة العربى» هو مفهوم تمت استعارته بالإحالة إلى عصر النهضة الأوروبى دون استيفاء الشروط التاريخية والمعرفية للانخراط فى النهضة الحقيقية وإنتاج ثمارها المرجوة.
والسؤال هنا: ما الشروط المعرفية والتاريخية التى استطاع الأوروبيون استيفاءها حتى يتمكنوا بعد ذلك من الدخول فى عصر النهضة؟
للإجابة على هذا السؤال ينبغى علينا أن نعود إلى تلك اللحظة التاريخية الحاسمة التى مرت بها أوروبا فى نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر والتى يؤرخ بها لحدوث أول قطيعة معرفية فى الفكر الأوروبى الحديث عرفت باسم «الثورة الكوبرنيقية» حيث لقن كوبرنيقوس الإنسان الأوروبى أول درس فى الفكر النسبى، وكان من قبل يعيش فى أوهام الفكر المطلق. فى هذه اللحظة اكتشف الإنسان الأوروبى أن لا كوكبه ولا هو فى ذاته يشكلان أى مركز يذكر فى الكون، ولئن كان فى هذا الاكتشاف ضربًا من الإذلال الشديد له، فسرعان ما تلقف هذه النسبية ليحولها إلى أداة معرفية يصعد بها بسرعة البرق إلى قمة شاهقة من قمم الحضارة. لم يعرف العالم العربى مثيلا لهذه الثورة الكوبرنيقية على الإطلاق ولم يمر بعد بتلك القطيعة المعرفية التى حدثت فى العقل الأوروبى كضربة السيف الفاصلة بين عصرين تفصلهما هوة واسعة. ومعنى ذلك أن عصر النهضة العربى لم تشغله قط أى قطيعة مع عصر الانحطاط والتخلف، وإنما شغلته هموم أخرى تتصل بعقدته مع الغرب وهى عقدة لا علاقة لها بالإشكالية الأساسية أى إشكالية الفكر النسبى مع الفكر المطلق، ولا بالقطيعة المعرفية مع الماضى.
فلا عجب- مثلا- أن نجد بين المفكرين النهضويين وجوها سلفية تدافع فى حمية شديدة عن القيم الموروثة من الماضى البعيد وتناضل من أجل إحيائها لمواجهة الغرب الذى أثار إعجابها وسبب لها تباعا عقدة العجز والتخلف. ولئن كان من بين زعماء النهضة من قاد تيارًا حداثيًا مهمومًا بتشريح مظاهر التخلف فى المجتمع وبنقد قيمه الماضية من أجل إحداث تغيير فى ذهنيته وفى واقعه فقد كانت جل دوافعه فى الواقع تدور حول مسألة محورية تؤرقه وهى استعادة الشرق لنديته أمام الغرب. المقارنة بين النهضتين الأوروبية والعربية من الزاوية التشريحية تكشف بجلاء عن اختلاف جوهرى عميق بين الاثنتين. فالنهضة الأوروبية ما كان لها أن تتحقق لو لم تتحرر من أسر التفكير فى الدنيا بحقائق مطلقة إلى التفكير فيها بحقائق نسبية، وهذا هو ما يطلق عليه المنهج العلمانى أما النهضة العربية، فهى لم تسمَّ كذلك إلا من قبيل الاستعارة والتشبيه بالإحالة الظاهرية إلى النهضة الأوروبية دون أن يتوافر لديها الشرط الجوهرى لحدوث أى ثورة معرفية جديرة باسم «النهضة».
ولا عجب إن كنا لا نزال نسمع حتى يومنا هذا على ألسنة الكثيرين ذات السؤال الذى يسوط العقول على اختلاف أجيالها وأعمارها: «إذا كان العالم العربى يعج بثروات وموارد طبيعية هائلة يؤكدها علم الجغرافيا الطبيعية والبشرية وبعقول بشرية نابغة فى تخصصاتها المتنوعة، فما هى الأسباب التى شلت قدرته على الإبداع وتغيير الواقع المأزوم إلى واقع أفضل».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق