Jul 1, 2019
إن الواقع المعاصر والحياة المدنية الحديثة التي فرضت أنماطا مختلفة من السلوك الأخلاقي تظهر فيها تجليات عديدة لرؤى أخلاقية
العصر الحديث بما وفر للإنسان من وسائل الراحة والرفاء إلا انه في نفس الوقت ضيّع عليه الكثير من الأنماط السلوكية الصحيحة والتي تستند إلى وعي الإنسان وإدراكه العقلي بما هو صالح في حياته العملية. ومن هنا تظهر الحاجة ماسةً إلى ضرورة الحفر المعرفي العميق في مفاهيم الأخلاق ودراستها ضمن معطيات الواقع المعاش ومحاولة تقديم الأسس الخلقية والأطر السلوكية التي يمكن أن تساهم في إنقاذ الإنسان من مستنقع اللاأخلاق.
ماهية الخير والشر والأخلاق المطلقة والأخلاق النسبية
أولاً: البعد النظري في الأخلاق
من هنا ننطلق لتحليل مفهوم الخير باعتباره القيمة الأخلاقية التي تمحورت حولها جميع الدراسات في مجال الأخلاق منذ نشوء هذا النوع من البحث، فكما إن الحق هو موضوع علم المنطق وعلم القانون، وان الجمال هو موضوع علم الجمال، فإن الخير هو موضوع علم الأخلاق. ورغم أن هذا التصنيف تصنيف تقليدي ويضرب بجذوره إلى أفلاطون الذي اعتبر هذه القيم الثلاثة هي المثل العليا المطلقة التي تستند إليها جميع المثل الأخرى، ولكن بعيداً عن الجانب المثالي نجد أن مفهوم الخير بالخصوص وما يقابله أي مفهوم الشر هما القطبان اللذان يتجاذبان طرفي السلوك الإنساني في الحياة الأخلاقية ولهذا فإن ((الأخلاق ليس لها من وظيفة سوى فهم معنى الخير))(1).
أفلاطون يرى بأن هدف الأخلاق النظرية هو أن تحدد الخير الأسمى أو الخير المطلق الذي هو احد المثل المفارقة في العالم العلوي، وهذا الخير الأسمى عنده هو مزيج من الحكمة والتأمل النظري من جهة، ومن اللذة من جهة أخرى، طبعاً ليست اللذة الزائفة إنما اللذة الصحيحة الحقيقية(2). إلا أن أرسطو اعتبر أن الخير هو حياة التأمل وقد ماثل في كتابه (الأخلاق النيقوماخية) بين الخير الأسمى والسعادة إذ أنها غاية الخير، وهي لا تتحقق إلا باكتساب الفضيلة التي هي الشجاعة والعفة بوجه خاص إضافة إلى الفضائل العقلية. لكننا نجد عند سقراط الذي سبق أفلاطون وأرسطو مفهوماً أكثر واقعية عن الخير فهو يرى بأن ((الخير هو ما يتفق الناس على اعتباره خيراً جميلاً وهو ما يكون في الواقع كذلك دائماً مثل العفة والعدالة))(3). حتى أن هذا الفهم سيجد له صدى في المذاهب الأخلاقية الحديثة فمثلاً يرى (شليك) في كتابه (مشكلات الأخلاق) أن الخير محكوم برأي المجتمع لأنه هو الذي ينشأ الأوامر الخلقية وبالتالي فهو الذي يحدد مفهوم الخير وما يقابله من مفهوم الشر(4).
يرى دوركايم بأن الإلزام الخلقي مثلاً ليس إلزاما خلقياً ذاتياً إنما هو إلزام اجتماعي، فالقتل أيام السلم أمر غير مشروع ويعاقب عليه، أما القتل في الحرب أمر مشروع، وبالتالي فإن هذا التحديد اجتماعي وليس أخلاقياً(5).
فهل إن للخير قيمة مطلقة؟ أم انه يخضع لعملية التواضع الذي يتأثر ببعدي الزمان المكان؟ وبالتالي فإن البحث سوف يدور حول موضوع الخير المطلق والخير النسبي، وفي ذلك نجد ضمن تاريخ التفكير الفلسفي والأخلاقي صراعاً عميقاً تمثل في أوج تجلياته في الصراع القائم بين المعتزلة والأشاعرة في الإسلام حول مفهومي الحسن والقبح الذاتيين أو الشرعيين، فقد رأى المعتزلة أن الحسن الذي يمثل الخير احد وجوهه، والقبح الذي يمثل الشر احد وجوهه أيضا.. هما ذاتيان أي أننا لا يمكن أن نفصل الخير عن الحسن بمعنى انه لا يمكن أن نتصور الخير إلا وربطناه مع الحسن ربطاً ضرورياً لا ينفصل، أي أن هناك علاقة ذاتية مابين الخير والحسن. وبالمقابل فإن هناك أيضا علاقة ذاتية بين الشر والقبح. وبالتالي فإن هذا المفهوم يؤدي إلى أن إدراك الحسن والقبح والخير والشر هو وظيفة عقلية محضة! لا تتدخل فيها قوى أخرى لأن هذا ما تقتضيه طبيعة الأشياء. غير أن الأشاعرة رأوا خلافاً لذلك أن الحسن والقبح لا يمتلكان الأهلية الذاتية إنما هما من المفاهيم التي يضيفها المشرع على الأشياء، فلولا حكم الشرع الإسلامي مثلاً على الزنا بأنه محرم لما عرفنا عقلياً أن هذا الفعل ينطوي على القبيح، وبالتالي فإن الأشياء إنما تكتسب صفة الحسن أو القبح بفعل المشرع ولا يمكن أن تكون واجدة لهذه الصفة بذاتها، وهذا ما ينطبق تماماً على مفهومي الخير والشر. إذاً من هنا يرتد مفهوم الخير عند المعتزلة إلى الخير المطلق بينما يرتد عند الأشاعرة إلى الخير النسبي.
أما في العصر الحديث فنجد أن الارتداد نـحو النسبية أصبح أمراً ملموساً جداً لاسيما من خلال الاعتماد على مكتسبات العلم الحديث والمنهج العلمي الذي أصبح أكثر بعداً عن المفاهيم المطلقة، ولكن النسبية هنا ليست نسبية أشعرية فهي ليست على شاكلتها ولا تمت إليها بصلة، إذ أن النسبية الأشعرية تنتهي إلى مفاهيم ميتافيزيقية ماورائية غرضها إثبات السيطرة الإلهية الكاملة على الكون والحياة بشتى إبعادها. بينما النسبية الحديثة في الأخلاق فهي نسبية اجتماعية لصيقة بالواقع الذي يعيشه الإنسان. وهذا ما تمثل في محاولة أميل دوركايم التي أرجعت الأخلاق إلى العادات الاجتماعية على اعتبار أن الأحكام الأخلاقية هي أحكام تركيبية، أي لا تستبطن العقاب أو الثواب وليست أحكاما تأليفية أولية خارجة عن نطاق التركيب الاجتماعي(6)،
وبالتالي فإن الحكم الأخلاقي لا يحمل في طياته أي قيمة ذاتية إنما يستمد بعده القيمي من خلال إضفاء المجتمع هذا البعد عليه، أي القيمة الأخلاقية ترتد في نهاية المطاف إلى قيمة اجتماعية. ولم يقتصر هذا النمط من التفكير على المدارس الاجتماعية وعلم العادات الاجتماعية فحسب بل إننا نجد بعض المدارس الفلسفية قد أدخلت مبدأ النسبية بقوة في الأخلاق، ومن هذه المدارس الوجودية الملحدة ـ كما يرى الدكتور عادل العوا ـ التي ساهمت هي مع ما سماه بـ (أخلاق الوضع الراهن) في إحداث أزمة في الأخلاق النظرية حيث يقول: ((ويتميز مذهبان بإيضاح سبب الأزمة الراهنة في الأخلاق النظرية وفي رسم اتجاهها: الوجودية الملحدة، وأخلاق الوضع الراهن، اللذان يمثلان شكلين من أشكال النسبية الأخلاقية التي تحدث اليوم تأثيراً كبيراً))(7). ولكن أخلاق الوضع الراهن التي تتميز بالابتعاد عن أي مرجعية أخلاقية غير ما يفرضه الواقع المعاش من تداعيات بغض النظر عن تحديد الأسس المرجعية، هذه الأخلاق لم تكن إلا انعكاساً أو إفرازا طبيعياً للمنتج الفكري والفلسفي الذي اتجه نـحو النسبية بكل ثقله كردّة فعل ضد تزمّت الأخلاق المطلقة من دون أية ضوابط تلفت الأذهان إلى أن النسبية لا تعني الانفلات وعدم وجود أية مرجعية أخلاقية لاسيما في القضايا التي تخص واقع الإنسان، لأن حياة الإنسان الحالية في مستوياتها الأخلاقية والفكرية هي امتداد لموروثه الحضاري الذي يجب أن يهذب بما يتوافق مع حاجات العصر لا أن يقطع من دابره لأن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الضياع.
إن موضوع نسبية الأخلاق ومطلقيتها يتصل اتصالاً مباشراً ببحث الأخلاق النظرية، ورغم أهميته إلا انه لم يحسم بشكل تام، وهذه القضية في الواقع مشكلة عميقة واجهت الأخلاق النظرية إلا أنها ليست المشكلة الوحيدة في ذلك بل إن الأخلاق النظرية واجهت مشكلة أخرى هي إن اكبر فلاسفتها قد وقعوا في تجريدات وخيالات غير قادرة على أن تؤسس لوعي أخلاقي متميز في الحياة الاجتماعية، فرغم التنظير الفلسفي لأخلاق الواجب والإرادة الحرة عند (كانت) مثلاً إلا انه بقي تنظيراً فقط ولم يكن قادراً على تجاوز النطاق النظري إلى واقع عملي وهو ما دعا الدكتور محمد الجبر إلى القول بان عيب الأخلاق عند (كانت) هو هذا التجريد الفارغ(8). ويمكن أن نعتبر هذا التحديد صحيحاً إلى حد بعيد وذلك لأن الأخلاق بشكلها التجريدي سوف تخرج عن مغزاها لأنها ستتحول إلى تنظير محض لا قيمة واقعية له ذلك لأن الأخلاق أساسا ذات غرض عملي معياري وليست عملية التنظير فيها إلا تحديداً للأسس الصحيحة التي يجب أن تستند إليها لكي لا تتخبط عملياً.
ونفس الأمر نجده عند (هيغل) فهو بحق حلل المفاهيم الأخلاقية تحليلاً عميقاً ورائعاً وأعطاها أبعادها المتميزة فلسفيةً كانت أم أخلاقية أم اجتماعية كتحليله للملكية والعقد ومفاهيم الخير والشر والإرادة الحرة(9).. ولكننا في كثير من الأحيان نصطدم بتجريدات أو أفكار مؤسسة على رؤى فلسفية عقلية محضة.
وهكذا نجد أن التجريد وبعد التنظير عن الواقع العملي هو احد المشاكل المهمة التي تواجه الأخلاق النظرية. ومن الجدير بالذكر هنا أن نبين وجهة نظر (ليفي بريل) في إنكاره للأخلاق النظرية حيث انه من أنصار النزعة الاجتماعية في الأخلاق ويرى أن الأخلاق النظرية عديمة النفع، ولهذا فهو ينكرها ويستند في إنكارها إلى ثلاثة أسباب هي:
1. إن الأخلاق النظرية تنطوي على تناقض ناشئ من أنها خليط من أحكام تقريرية لأنها نظرية، وأحكام تقويمية لأنها معيارية.
2. إن الأخلاق النظرية عديمة الفائدة إذ أن فلاسفة الأخلاق ينتهون جميعاً في مرحلة التطبيق إلى اتجاه واحد.
3. إن الأخلاق النظرية تستند إلى مسلمات غير مقبولة مثل أن الطبيعة الإنسانية واحدة في كل زمان ومكان(10).
ولكننا نرى في وجهة نظر بريل كثيراً من الإجحاف لأن الأسباب التي أوردها ليست مبرراً كافياً للتخلي عن البحث النظري الأخلاقي، هذا مع التسليم بصحتها وإلا فإنها تنطوي على خلل واضح إذ أن فرض التناقض بين الأخلاق النظرية وكونها معيارية ليس حقيقياً إذ ما المانع أن يجتمع التنظير مع المعيار بل إن المعيار يستند إلى التنظير أساساً. كذلك فإن انتهاء الحياة العملية إلى إزالة الفارق بين آراء فلاسفة الأخلاق لا يعني أن الأخلاق النظرية عديمة الفائدة على أننا نـحتفظ على قضية زوال الفارق بين الآراء الأخلاقية على مستوى العمل فإن الذي يؤمن بأخلاق الواجب كما في مذهب (كانت) لا يمكن أن يتطابق عمله مع من يؤمن بأخلاق المنفعة في مذهب (بنتام). أما أن الأخلاق النظرية تستند إلى مسلمات غير مقبولة فهذا تعميم غير مبرر ذلك أن كثيراً من فلاسفة الأخلاق لهم رؤاهم التي تبتعد عن هذا النمط من التفكير، وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعد محاولة بريل في إنكاره للأخلاق النظرية محاولة موفقة لأنها في الواقع اشتملت على كثير من الخلط، إنما نقيمها على أساس أنها جاءت في سياق بحوث علم الاجتماع التي نـحت منـحى إنكار الأخلاق النظرية بشكل عام.
ثانياً :البعد العملي في الأخلاق
الأخلاق النظرية تنتهي بشكل وآخر إلى الأخلاق العملية، مما يعني أن الجانب العملي من الأخلاق يحظى بالأهمية الكبرى في الدراسات الأخلاقية لأن الأخلاق أساساً صنفت كعلم معياري هدفه تقديم ما ينبغي وما لا ينبغي في الحياة العملية وتطبيقه على سلوكيات الإنسان. من هنا وجدنا أن كثيراً من فلاسفة الأخلاق لم يجعلوا المعرفة بأسس المفاهيم الأخلاقية شرطاً ضرورياً للقيام بالسلوك الأخلاقي لأن الفرد في كثير من حالاته يقوم بفعل الخير من دون أن يعرف بالضبط ماهية هذا الفعل من الوجهة النظرية وما يدخل فيه من تعدد وجهات النظر حول الأسس العقلية التي يستند إليها، فقد جاء في محاورة (مينون) التي جرت بين سقراط ومينون الذي سميت المحاورة باسمه بعد نقاش طويل ((أنه في إمكان الإنسان أن يكون خيّراً من غير أن يكون على معرفة بماهية الخير))(11).ورغم أن سقراط وكذلك أفلاطون يؤكدان على أهمية أن العمل الفضيل لابد أن يكون مسبوقاَ بمعرفة ماهية الفضيلة لأن ما لا يُبنى على أساس عقلي لا يكتب له الدوام، رغم ذلك.. إلا أننا نجد أن كلاً من أفلاطون وسقراط مضطر للاعتراف بالأفعال الخيرة التي تصدر من الناس البسطاء والعاديين الذين لم يعرفوا حتى شيئاً قليلاً عن ماهية الفعل الخير م! ما يعرفه فلاسفة الأخلاق بل إننا نجد العكس في بعض الأحيان.. إذ أن كثيرا ً من الناس يعرف الفضيلة وماهية الخير إلا انه يفعل الشر وهذا ما جعل أرسطو يقول بخطأ سقراط وأفلاطون حينما اعتبرا الفضيلة والأخلاق الخيرة هي مجرد علم أو هي معرفة عقلية ذهنية يمكن للإنسان أن يتدارك كل ما يتعلق بها من خلال تفكيره العقلي ((وقد اخطأ سقراط وأفلاطون حين حسبا أن الفضيلة علم، ومن المشاهد أن في وسع الإنسان أن يعلم الخير ويفعل الشر فيكون شريراَ طالحاً بإرادته أي مسؤولاً شريراً))(12).
فإننا نعتبر ما قامت به المدرسة الاجتماعية الفرنسية من إعادة ما هو أخلاقي إلى ما هو اجتماعي ينتهي إلى أن تكون الأخلاق تجلياً من تجليات الحياة الاجتماعية فحسب، ومنتزعة منها فتفقد بذلك أصالتها ويفقد الفكر الأخلاقي كل منجزاته خلال تاريخه الطويل مما يعني بطريقة ما عودة إلى الوضع البدائي للإنسان الذي لم يكن يتمتع بفهم راقٍ لقضايا الأخلاق حيث كانت جل إعماله وأفعاله الأخلاقية مستندة إلى ما تفرضه عليه الحياة وقسوتها من انعكاسات وردات فعل، وأخلاقه هي هذا الانعكاس فحسب.. وهنا يضمحل الفارق بين الإنسان المعاصر والإنسان البدائي من الناحية الأخلاقية لأن كليها اتبع نمطاً أخلاقياً معيناً لا يستند إلى أسس ومبادئ فكرية إنما هو إملاءات للواقع المعاش وهو ما تخوف منه الدكتور عادل العوا ـ كما مرّ ـ حينما اعتبر أن الأزمة الأخلاقية في العصر الحالي هي (أخلاق الوضع الراهن) أي المعطى الاجتماعي والحياتي من دون أن يكون لإرادة الإنسان دور في الارتقاء بهذا الوضع إلى مستوى أعلى من الناحية الأخلاقية وان كان في أعلى المستويات من ناحية تقنية وعلمية.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن تتعالى الحياة الأخلاقية أو الفكر الأخلاقي على الزمان والمكان بشكل مطلق كما يفهم من نظرات (كانت) الأخلاقية(13). وذلك لأن هذا التعالي سوف يبتعد بالفكر الأخلاقي كثيراً عن ملامسة المشاكل الواقعية التي تط رأ على حياة الإنسان مع تغير الزمان والمكان إذ إننا ذهبنا إلى أن الأخلاق ليست مطلقة بل هي نسبية ولكن منضبطة تستند إلى أسس و مبادئ عقلية ومعنى أن تكون نسبية أي أنها ليست متعالية على الزمان والمكان إنما هي تتفاعل تفاعلاً ايجابياً مع الظروف والواقع الإنساني، وتستفيد من العناصر المتحركة فيه من اجل تكييف الحياة الأخلاقية ضمن سياق معين. وبذلك فإننا نرفض مبدأ التعالي لأنه ببساطة يرتفع بالأخلاق التي يجب أن تكون حياتية واقعية إلى مستوى الأوهام والأحلام الدافئة لتأسيس حياة ليس فيها سوى الأخلاق المثالية المتعالية.. بل إننا نرى أن هذا النمط من التفكير قد أسهم سلبياً في بروز ردة فعل قوية ضد الأخلاق النظرية ووصفها بالمثالية والتعالي وأدى في نفس الوقت إلى ظهور فلسفات ارتدت بالأخلاق إلى أدنى مستوياتها وتجاوزت كل التراث الأخلاقي الذي جاء نتيجة التطور الكبير الذي شهده الإنسان في تاريخه الطويل.
من هنا فإن تمييز (كانت) بين العقل العملي الصحيح الذي يستند إلى معطيات التجربة، والعقل العملي المحض الذي لا يستند إلى التجربة إنما يقدم الإطار الأخلاقي بصورة قبلية سابقة على التجربة حيث رأى أن الثاني يمثل أخلاق الواجب وهو الوجدان الأخلاقي الصحيح(14). إن هذا التمييز هو ذو مردود سلبي على واقع التفكير الأخلاقي لأنه يبتعد بالأخلاق عن مدلولاتها الواقعية ويعتبرها مجرد نظر قبلي متعالٍ على التطور الخلقي للإنسان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى له مردود سلبي على السلوك الأخلاقي أيضا لأن الإنسان سيجد ـ عملياً ـ فاصلاً كبيراً بين هذه الرؤية وما يمكن أن يؤديه من سلوك عملي وبالتالي فإنه سوف يشعر بالتحلل من أي إلزام أخلاقي من هذا النوع مما يعني تأسيسا للقطيعة بين الإنسان الأخلاق.
وفي الإطار العملي أيضا نجد أن مذهب المنفعة الذي أسسه (جيرمي بنتام)، وتابعه (جون ستيوارت مل)، وانتهى إلى فلسفة براغماتية عملية على يد (وليم جيمس) و(جون ديوي)... قد انطلق من واقع الحياة العملية ليؤسس المفاهيم الأخلاقية تأسيسا قائما على مفهوم المنفعة ويستند إلى مبدأ حساب اللذات وصياغة المبدأ الأخلاقي على وفقها. إذ اعتبر بنتام أن هدف الإنسان الأخلاقي يكمن في الحصول على السعادة، والسعادة هي الخير، والخير إنما هو اللذة التي تصاحب العمل الأخلاقي(16). ولكي نصل إلى المبدأ الأخلاقي الذي يوصل إلى السعادة فإننا ينبغي أن نـحسب اللذات حساباً رياضياً يستند إلى المستوى الكمي الذي تحتويه أية منفعة، وبالتالي فإننا نستنتج الأخلاق على أساس المنفعة المؤدية إلى السعادة، إلا أن هذا الحساب للذات لم يرقَ تماماً لسلف (بنتام) وهو (مل) لأنه رأى أن الحساب الكمي ينطوي على نقص وخلل ولهذا فانه سعى إلى أن يدخل الحساب الكيفي أو النوعي للذات فهو يقول ((إن اللذات كيفية خاصة وقيمة باطنية لا تقارن بغيرها وان السعادة التي تنشأ عنها اكبر وأتم من السعادة الناشئة عن اللذات الشهوانية الوضعية))(17). ما يهمنا هنا أننا نجد في محاولة النفعيين رغم أنهم أرادوا أن يقيموا أساسا دقيقاً للأخلاق يقوم على عمليات حسابية.. إلا أنها في الواقع ترتد إلى نفعية مادية خالصة تعجز عن تفسير الفعل الأخلاقي المعنوي في كثير من الحالات، فمثلاً إذا استطاع (بنتام) أن يحسب مستوى اللذة في تذوق التفاحة وما ينتج عن ذلك من سلوك أخلاقي من خلال ما اقترحه من إقامة علم نبات أخلاقي تقاس بواسطته اللذات اللا متجانسة بالمال... فكيف يستطيع أن يحسب مستوى اللذة في فعل الخير ذي المنـحى المعنوي أو تقديم المساعدة للآخرين أو تجنب الكذب.. وهكذا من الأفعال الأخلاقية التي لا يمكن أن تخضع للمقاييس الكمية وحتى (مل) فإنه وان دعا إلى الحساب الكيفي كان يعلم بأن هذا الحساب لا يمكن أن يكون واقعياً، مما يعني أن الحساب سيتجه إلى عد كمي مادي نفعي يتحدد وفقاً اً لرغبات الفرد ذاته وهو ما تبنته المدرسة البراغماتية النفعية سواء في الفلسفة أو في الأخلاق. وبالتالي فإننا اتجهنا نـحو مستوى أخلاقي يماثل أخلاق الوضع الراهن. يبقى آن نشير إلى أن السلوك الأخلاقي قد اعتبر في التصور الصوفي لاسيما عند (سورين كيركيجارد) و(كارل ياسبرز) مرحلة مقدمة من اجل الوصول إلى المرحلة الأعلى والأسمى وهي المرحلة الدينية(18). ومعنى ذلك أن الأخلاق سوف تصبح تعبيراً وسيلياً من اجل الوصول إلى المرحلة الدينية وبذلك فإن الحياة الخلقية سوف تنتهي إلى حياة دينية، بل إن الحياة ا لدينية سوف تنفي الحياة الخلقية لأنها تعتبر في مرحلة أدنى لا بد من تجاوزها. وطبعاً فإن هذا الفهم لا يستند إلى كثير من التمحيص، إذ إننا نعتقد بأن الأخلاق هي غاية الحياة الإنسانية ولهذا فهي واقعية أصيلة لا تستحيل إلى غيرها، بل الدين بحد ذاته هو تأسيس أخلاقي قيمي ولهذا فلا معنى لأن يكون الدين عاملاً لنفي الأخلاق في مرحلة معينة من حياة الإنسان.
إذاً فالأخلاق العملية تمثل البعد الواقعي والإنساني لسلوك الفرد وهي مع ذلك تتصل بالأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، فالأخلاق تتأسس على قاعدة الفهم النظري المتميز لمعطيات الواقع وتستند إلى مرجعياتها في التقييم والانتقاء والحذف، وبهذا فإن الأخلاق العملية سوف تأخذ موقعها الصحيح وسوف تكون دعامة المجتمع من اجل التقدم والرقي.
ثالثاً : الاختيار الأخلاقي
يندرج الاختيار الأخلاقي ضمن وعي الإنسان لحاجاته الأخلاقية التي يحاول من خلالها أن يسمو بنفسه ويتجاوز كل المعوقات التي تحول دون ارتقائه وتطوره. وتبرز أهمية أن يختار الإنسان المبادئ والأسس الأخلاقية من خلال الاعتراف بمسؤولية الإنسان وكونه كائناَ عاقلاً حراً يجب أن يضطلع في حياته اليومية العملية بمسؤوليات ومهام تناسب ما يتمتع به من قدرات وإمكانات، مما يعني أن الاختيار الأخلاقي بالنسبة للإنسان سيكون ضرورة حياتية لا يمكن التنصل منها وهو في مجتمع يوصف أفراده بأنهم كائنات أخلاقية (الكائن البشري). والاختيار الأخلاقي يعني أن يكون الإنسان سيد نفسه في أن يختار المبنى الأخلاقي الذي يناسبه لكي يؤهله للانخراط في المجتمع والناس من حوله.
والاختيار الأخلاقي في الحقيقة يعبر عن الفعل الإرادي للإنسان، أي أن الإنسان حينما يقرر مصيره الأخلاقي فإنه بذلك يمارس حريته وارداته في هذا التقرير وبالتالي فإنه سوف يكون مسؤولاً عن اختياره. والاختيار أيضا يعبر عن شخصية الكائن العاقل بغض النظر عما إذا كان هذا الاختيار صائباً أو خاطئاً إذ أننا مادمنا قد أكدنا بأن الإنسان في هذا الاختيار سوف يتحمل ما يجره من مسؤولية أو تبعات معينة فإننا بذلك قد امسكنا بخيط ضمان على سلوكيات الإنسان الأخلاقية إلى حد ما، بخلاف ما لو كانت هذه السلوكيات تتسم بعدم المسؤولية أو عدم وعي ما يترتب عليها إذ عند ذلك يصبح الأمر أكثر تعقيداً... على أن الاختيار الأخلاقي يتلازم مع الالتزام الأخلاقي، أي أن افتراض كون الإنسان عاقلاً وانه اختار مبدأً سلوكياً معيناً فعليه أن يحترم اختياره من خلال الالتزام عملياً بهذا المبدأ. وتنطلق هذه المسألة من مسألة أساسية هي الصدق مع الذات و احترام المثل والمبادئ الأخلاقية التي يختارها الإنسان لنفسه وبالتالي فإنه سوف يتفق مع ذاته وسوف تكون شخصيته متوازنة ومنضبطة.
إن ضمانة الاختيار الأخلاقي الحقيقية هي ما يعرف في علم الأخلاق بالضمير أو الشعور الأخلاقي، مما يعني أن الضمير سوف يكون وازعاً داخلياً نفسياً للإنسان يدفعه نـحو احترام اختياراته الأخلاقية وإلزام نفسه بها تمشياً مع الشعور بالمسؤولية والالتزام، يقول الدكتور محمد الجبر بهذا الصدد ((في الحقيقة إن الضمير هنا يبرز من الناحية النفسية أمام الشخصية كصوت داخلي بصورة عميقة للأخلاقية الخاصة والسيادة في الاختيار الأخلاقي واسترشاداً به يحاكم الإنسان أفعاله باسمه الخاص لا باسم غيره))(19). وبناءً على ذلك فإن الشعور الأخلاقي أو الضمير يأخذ على عاتقه مهمة تناغم وانسجام الإنسان مع اختياراته الأخلاقية ليعود سيداً لنفسه و قادراً على توجيهها الوجهة التي يريدها ممارساً بذلك عمق إرادته ككائن أخلاقي يفعل ما يريده ويختاره طوعاً.
إن التصور العميق لإرادة الإنسان وحريته في ممارسة الفعل الأخلاقي أدى بفيلسوف أخلاق (الواجب) ايمانوئيل كانت إلى أن لا يعتبر أخلاق الواجب الصارمة وما تنطوي عليه من إلزام مطلق غير مشروط أمراً خارجاً عن نطاق حرية الإنسان بل انها في رأيه إعمال لحرية الإنسان لأنه سوف يقوم بهذا الفعل بمحض إرادته لأنه اختاره بنفسه وصمم على أن يؤديه ويلتزم به وبما يترتب عليه من مسؤوليات وتبعات ((إن الإلزام ينطوي على المسؤولية الأخلاقية ومعنى هذا أن الأفعال التي تصدر عنا إعمالاً للواجب متوقفة علينا (أي على اختيارنا الأخلاقي) ومعنى هذا بالتالي أننا من حيث كوننا كائنات أخلاقية أحرارٌ ويترتب على ذلك أن الحرية وثيقة الصلة بالأخلاق))(20).
وبناء على ذلك فإن الإلزام الخلقي الذي يفرضه الاختيار الأخلاقي يدخل في صميم ممارسة الإنسان لحريته من حيث كونه عاقلاً مسؤولاً وهذا يعني أن الاختيار الأخلاقي ينطوي على الحرية بمفهومها الأخلاقي من جهة، ومن جهة أخرى على الإلزام بوصفه الداعم لحرية الإنسان وتوازن شخصيته ويقف الضمير وراء هاتين الجهتين كضمانة داخلية تقي من الانـحراف.
أن الخيارات في هذا المجال معدومة ويبقى الاختيار الأخلاقي مبحثاً يدور في أفق الأخلاق النظرية انطلاقاً من أن الإنسان إنما هو ابن بيئته الأخلاقية وهو ليس له إلا اختيار أخلاقي واحد هو الخيار الذي تربى ونشأ عليه ضمن إطاره الاجتماعي، وبالتالي فسوف ينتهي أي اثر لحريته وإرادته في ممارسة الاختيار. إن التأمل العميق يبين أن الأخلاق البيئية بما تمثل من موروث أخلاقي مقدس تفرض سيطرتها على الإنسان وحريته في الاختيار وتحدد سقف اختياراته إلى ابعد الحدود، بمعنى انه سوف يكون شاء أم أبى وريثاً لأخلاقيات البيئة الاجتماعية والأسرية التي نشأ فيها لاسيما في الفترةالأولى لنضوجه. ولكن كل هذا لا يعني أن يكون الإنسان أسيراً لجبرية لا فكاك منها لأن ذلك ليس دقيقاً على أية حال.. لكننا يمكن أن نقول بأن الإنسان حتى مع كونه يسير ضمن السياق الأخلاقي الذي فرضه المجتمع إلا انه في ذلك يمارس حريته واختياره الأخلاقي لأن تمشي الإنسان مع السائد من النمط الأخلاقي لا يعني بالضرورة عدم قدرته على تغييره بقدر ما يعني انه اقتنع إلى حد ما بهذا الإطار الأخلاقي فأخذه على انه يمثل اختياره ويمثل تقريره لمصيره الأخلاقي.. صحيح انه يعترف بأن هذا الإطار هو الإطار الذي فرضه المجتمع أو انه الخيار الوحيد الذي وفره له.. لكنه في نفس الوقت يعتقد بأن هذا هو خياره الذي اقتنع به بتأثير الجو الاجتماعي ولا يعني ذلك سلباً للحرية لأن التأثير لا يعني القسر بل القدرة على النفاذ إلى الذات وليس هناك اعتقاد في الواقع إلا إذا كان من ورائه تأثير معين يتبع ميول الإنسان وطريقة نظرته للحياة.
وفي نهاية المطاف نؤكد أن قضية الاختيار الأخلاقي هي قضية وعي بصورة أساسية، فعلى أساس وعي الإنسان يمكن تحديد قدراته الأخلاقية ومدى سلامة اختياراته في مجالات الأخلاق. فعندما يجد الإنسان نفسه في الحياة الاجتماعية فإنه سوف يجد أنماطا مختلفة من السلوك الاخلاقي وهو بوعيه وقدرته على الاختيار المناسب سيحدد لنفسه النمط الصحيح الذي يضعه ضمن منظومة أخلاقية معينة تسمو بها ذاته وترتقي بها نفسه وبالتالي وضع القدم في طريق النمو والتطور والرقي الاخلاقي الذي سيكون مقدمة لرقي حضاري ومدني واجتماعي وسياسي واقتصادي...لأن الأخلاق هي الأساس القيمي لحضارات الشعوب.
الهوامش
1. مراد وهبة، مستقبل الأخلاق، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1994، ص 115.
2. عادل العوا، الفلسفة الأخلاقية، منشورات جامعة دمشق، 1999، ص 148.
3. م. ن، ص 132.
4. مستقبل الأخلاق، م، س، ص 199.
5. م. ن، ص 71.
6. م. ن.
7. الفلسفة الأخلاقية، م. س، ص 271.
8. محمد الجبر، الموجز في مفهومي الأخلاق والدولة عند هيغل، دار المعرفة، دمشق، 1994، ص38.
9. م. ن، ص35-64.
10. مستقبل الأخلاق، م. س،ص 72 - 74.
11. م. ن، ص 9.
12. عادل العوا، الأخلاق والحضارة، منشورات جامعة دمشق، 1999، ص 134.
13. ايمانؤيل كانت، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، 1979، ص 25.
14. الأخلاق والحضارة، م. س، ص 139. 15، محمد الجبر، البنى الأساسية في علم الأخلاق، دار المعرفة، دمشق، 1994، ص 45.
16. الأخلاق والحضارة، م. س، ص 143.
17. نقلاً عن المصدر السابق، ص 144.
18. مستقبل الأخلاق، م. س، ص 91.
19. البنى الأساسية في علم الأخلاق، م، س، ص 57.
20. أسس ميتافيزيقا الأخلاق، م. س، ص 24.
*
نظرية المعرفة بين العقل المطلق ونقد العقل الخالص / قاسم خضير عباس
يندفعون لانتقاد فكرة (العقل المطلق) لتخليص الفكر والمعرفة من بعض الأوهام، التي وصفها (بيكون) بأوهام العقل في كتابه (الأورجانون الجديد)، الذي ظهر عام 1620م باللاتينية بإسم (العلامات الصادقة لتأويل الطبيعة).
بلحاظ أن الفيلسوف (كانت) قد وضع كتاباً عام 1794م أسماه (الدين في حدود العقل وحده)، أوضح فيه أهمية الدين باعتباره يقوم على (التصورات الأخلاقية المثالية البعيدة عن التزمّت)،
*
*
الطالب : لماذا ندرس الأخلاق و نحن نعرف أن الصدق هو الصدق و الكذب هو الكذب و العدل هو العدل ؟
الأستاذ : ألا ترى نمط العيش تغير ، ووسائل الإتصال تغيرت وكل شيء في الحياة تغير فكذلك الأخلاق و الطباع تتغير لا محالة .
الطالب : أفهم من قولك أن الأخلاق متغيرة و نسبية ، و ليست مطلقة وثابتة !
الأستاذ : ولكن الموضوع يحتاج إلى الكثير من البحث و الدراسة .
أ/ـ تحليل الوضعية : تدل الوضعية التي بين الطالب و أستاذه حول مشكلة الأخلاق ، وكان رأي الطالب أنها ثابتة و مطلقة ، وكان رأي الأستاذ أنها متغيرة ونسبية ، إذن من أجل إبراز الرأي من هذه الوضعية يجب طرح الأسئلة التالية :
ـ ما مفهوم الأخلاق ؟
ـ ما طبيعة الأخلاق يا ترى متغيرة أم نسبية ؟
ـ ما هو مصدر الأخلاق ؟
1/ـ مفهوم القيمة :
لغة : القيمة ، قيمة الشيء أي قدره وثمنه .
إصطلاحا : هي الصفة التي تجعل من الشيء مرغوبا فيه .
2/ـ مفهوم الأخلاق :
لغة : هو السجية و المروءة و العادة والدين .
/ـ أسس الأخلاق المطلقة :
أ/ـ النظرية الدينية
{إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } فلا توجد قيم دينية لا تعبر عن قيم أخلاقية
ب/ـ المعتزلة : ترى المعتزلة و هي فرقة كلامية إسلامية أسسها : "واصل ابن عطاء" أن الخير و الشر ذاتيان في الأفعال و الإنسان يدركها بعقله ، أما الشرع فهو مخير ومؤيد لحكم الفعل و مثبت لها ، فكل ما يأمر به العقل فهو خير ، وكل ما ينهى عنه فهو شر ، و العقل كاشف لما هو في طبيعة الأفعال بما هو حسن و قبيح و الشرع يأتي بعد ذلك مقررا و مؤيدا لما يصل إليه العقل من أحكام ، والدليل الذي صاغه أصحاب الإعتزال أن الناس قبل وجود الأديان كانوا يتحاكمون إلى العقل و يهزم الفريق خصمه بما يدل عليه العقل و كذلك لو لم يكن في الإفعال حسن أو قبيح لعجزت الرسل عن الدعوة لأنهم يطالبون الناس إلى النظم للأشياء في عقولهم و النصوص القرآنية شاهدة على ذلك ، بما أن المعتزلة يذهبون لأكثر من ذلك حيث يقررون أن الإنسان مسؤول عن أفعاله حتى ولم تبلغه دعوة الرسل ، و إنما يكون تكليه عن طريق العقل الذي يهديه إلى مكارم الأخلاق .
النقد :
العقل ليس ملكة مطلقة فقد يصيب و يخطئ و هو قاصر وعاجز عن إدراك بعض الأمور ، كما أن أصحاب هذه النظرية استبعدوا دور الطبيعة البشرية و المجتمع في تأسيس القيمة الخلقية و قللوا من شأن الشرع .
ج/ـ الأشاعرة (أسست للأخلاق النسبية ):
ترى فرقة الأشاعرة و هي فرقة كلامية أسسها : "أبو الحسن الأشعري" أن الفعل الحسن هو أمر الله به أثنى على فاعله ، و القبيح ما نهى عنه و ذم فاعله ، والشرع لا يمدح و لا يذم الأشياء لما فيها من حسن وقبح ذاتيين بل الحسن و القبيح تابعين لأمر الشرع و نهيه ، فلو أمر بالكذب لأصبح حسنا و خيرا ولو نهى عن الصدق لأصبح قبيحا و شرا غير أن عدالة الله عز وجل لم يأمر إلا بالحسن و لم ينهى إلا عن القبيح لأن الخير و الشر لو كانا ذاتيين لكانا مطلقين في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك فالفعل قد يكون حسنا في مواضع و قبيحا في مواضع أخرى ، فكل ما يأمر به الله فهو خير و كل ما ينهى عنه فهو شر يقول :"أبو حسن الأشعري" (إن الخير و الشر بقضاء الله و قدرته).
النقد :
هذه النظرية أهملت دورالعقل و الطبيعة البشرية و المجتمع مع أن الواقع يؤكد على أن الاطر ساهمت في ذلك .
د/ـ النظرية العقلية : يرى بعض الفلاسفة العقليون أن العقل مصدر القيم الخلقية ومن بينهم :"سقراط" الذي كان يقول : (الفضيلة علم و الرذيلة جهل ) أي أن مصدر الفضيلة و الخير الأسمى هو العقل ، كما نجد الفيلسوف الألماني : "إيمانويل كانط" الذي يرى أن الطبيعة البشرية هي مصدر الخطيئة و الشرور ، لهذا هاجم "كانط" الأخلاق القائمة على المنفعة و اللذة وردها إلى العقل أو الضمير الأخلاقي على مبدأ الواجب الذي يعد حسبه أمرا إلزاميا صادرا من العقل الفصلي (الضمير الأخلاقي) فهو يقوم على الإرادة الخيّرة ، فالأولى أن نقوم بالأشياء لذاتها وما يمليه الواجب اتجاهها و لا ينظر إليها (كغاية) كوسيلة لتحقيق غاية لأننا إذا استعملنا الأخلاق كوسيلة فلا نسلم من إقحامها في باب الغرائز و المنافع ، لهذا يرى كانط وضع مجموعة القواعد لضبط الواجب الأخلاقي و هي كما يلي :
أ/ـ قاعدة التقييم : يقول "كانط" :(افعل على نحو ما يصبح فيه مبدأ عملك قانونا عاما)
ب/ـ قاعدة الغائية: يقول"كانط"( اعمل على نحو ما تعتبر فيه الإنسانية ماثلة في نفسه و في الآخرين غاية لا وسيلة ).
ج/ـ قاعدة الحرية أو الإستقلال الذاتي : يقول "كانط"L اعمل على نحو ما تعتبر فيه عملك العقلي مشرعا و إرادتك الخيّرة منفذا بين أناس عقلاء و أحرار ).
ومن هنا كانت الأخلاق الكانطية أخلاقا سامية ، غاية في الصورية و التجريد و معبرة عن إرادة الإنسان الحرة ، و المتجهة نحو الخير في ذاته بعيدا عن كل السلطة إلا سلطة الضمير الأخلاقي .
النقد: أهمل صاحب هذه النظرية الواقع بحيث أنه فصل بين النية و نتائج الفعل ولهذا وصفت أخلاقه بالصورية و البعيدة كل البعد عن الواقع كما أن النية الطيبة ليست معيار الخيرية ، فكم من الناس نيتهم طيبة لكنهم يسيئون التصرف فالعبرة بالخواتيم .
أساس الأخلاق النسبية : نظرية اللذة : يؤكد أصحاب هذه النظرية أن السعادة هي الغاية التي ينشدها الإنسان و لا تحصل هذه السعادة و لا تتحقق إلا بتحصيل اللذات و الخلو من الألم من هنا كانت اللذة هي الخير و الفضيلة و الألم هو الشر و الرذيلة لذلك فعلى الإنسان أن يطلب أكبر قدر من اللذة و أن يسعى و يجتهد في الوصول إليها و من أشهر رواد هذا المذهب الأخلاقي : "أبيقور"و "أرستيب" يقول: "أبيقور" (إن السعادة أو اللذة هي غاية الإنسان و لا خير في الحياة إلا اللذة و لا شر إلا الألم و ليست الغاية الأخلاقية إلا العمل لتحصيل السعادة وليس للفضيلة قيمة ذاتية إنما قيمتها في اللذة التي تصحبها).
كما يؤكد : "أبيقور" على أن اللذة العقلية و الروحية أهم من اللذة البدنية و أن خير لذة تطلق هي لذة طمأنينة العقل و راحة النفس و الابتعاد عن ما يسبب القلق و الألم .
النقد : لكن مبدأ اللذة أناني و شخصي لأنه يؤدي إلى اختلاف الناس في تحكيمه ، فليس كل لذة خير و ليس كل ألم هو شر كما أن ربط الأخلاق باللذة هو انتقاص من قيمتها و سموها و قدسيتها .
2/ـ نظرية المنفعة : وقد أسس هذا المبدأ الأخلاقي الفيلسوف الإنجليزي : "جيريمي بنتام" و جوهره :أن العقل الخلقي معياره تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر قدر ممكن من الناس ، أي تحقيق المصلحة الجماعية ، فالخير حسب : "بنتام" إن كان نافعا لنا فبضّرورة نافع لغيرنا و العكس صحيح و ذلك أن المنافع إذا اتحدت شروطها كانت واحدة بالنسبة للجميع .
النقد : لكن هل يمكن أن تتوافق المنافع لدى أفراد المجتمع بطريقة عفوية مع أن الواقع يثبت تضارب المنافع و تصادمها مع الأفراد ، فما هو منفعة لي قد يكون مضرة لغيري .
3/ـ النظرية الوجودية : نجد من الاتجاهات الحديثة التي تؤسس لنسبية الأخلاق الفلسفة الوجودية :"سارتر" الذي يرى أن الحرية هي الأساس الوحيد للقيم و لا يوجد شيء ثابت يبرر قبولي لذلك السلوك أو ذاك ، فكل إنسان بنفسه لنفسه ما يشاء من القيم الأخلاقية فيقول : "سارتر" ( أنا وحدي الذي أقرر الخير و أصنع الشر ) .
النقد : لكن قيام الأخلاق على أساس الحرية فيه الكثير من الخطر لأن الحرية في ذاتها مفهوم غامض من حيث التطبيق كما أن الإنسان قد يخطىء في كثيرمن إختياراته .
4/ـ نظرية المجتمع : يؤكد أصحاب النظرية الإجتماعية وعلى رأسهم : "اميل دوركايم" أن الإنسان حيوان اجتماعي و أكثر قابلية للاجتماع ، من هنا كان المجتمع صاحب الدور الأساسي و المصدر الجوهري في تكوين حياة الأفراد الذهنية والنفسية ، والجمالية و الأخلاقية والدينية وبناء على هذا كانت القيم الأخلاقية وقائع اجتماعية مصدرها المجتمع لهذا يؤكد الاجتماعيون أن الأخلاق تبدأ من حيث التعلق بالجماعة و يأتي اكتسابها عن طريق التربية و التنشئة الاجتماعية التي تمنحه المبادئ و المشاعر الأخلاقية التي يتمسك بها و يعتمد عليها في سلوكه لهذا تؤسس النظرية الاجتماعية لنسبية الأخلاق وذلك تبعا لتغير المجتمعات و كذلك انطلاقا من قول :"دور كايم" (لكل مجتمع أخلاقه)ويقول أيضا : (حيث يتكلم الضمير فينا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا )
النقد: غير أن كل ما يأمر به المجتمع ليس دائما خيرا و أن ما ينهى عنه ليس دائما شرا .
*/ـ الخاتمة : (الاستنتاج)(الأخلاق بين الثوابت و المتغيرات) :نستنتج من كل ما سبق أن الأخلاق ثابتة و مطلقة في مبادئها و أهدافها ، ولكنها متغيرة و نسبية و متطورة من حيث تطبيقاتها ،بمعنى أن الوسائل التي نسعى بها لتحقيق هذه المبادئ المطلقة قد تتغير بتغير الظروف و الأحوال.
*
الثابت والمتحول في فضاء القيم
تمثل القيم مجموعة المعتقدات والقناعات التي تحكم العلاقة ما بين الإنسان وكل ما يحيط به من موجودات في الكون، تتحول تلك القناعات إلى سلوكيات فاعلة هدفها تحقيق الخير والسعادة للإنسان وما يحيط به. تنمو القيم في وجدان الإنسان مع الزمن وتتراكم وتظل حية فيه لا
تخرج من ضميره الإنساني.
سلم القيم يتغير تماماً كما هي الحال مع القيم لأنها تتحرك مع الزمن وفق معايير خاصة تواكب حركة التطور في حياتنا، فالحرية الفردية هي في رأس سلم القيم في السويد في حين هي بالدرجة الثانية أو الثالثة وربما أكثر عند العرب. والتضامن العائلي هو رأس هرم أولوياتنا بينما نجده في الغرب متأخراً في ترتيب سلم أولياتهم.
ولو رجعنا للتاريخ البعيد أو القريب لوقعنا على عشرات الأمثلة التي تثبت أن المتحول في فضاء القيم أكثر بكثير من الثابت.
فالعبودية لم تكن عيباً في التاريخ القديم وحتى فترة قريبة كانت الولايات المتحدة الأميركية تعتمدها كنظام عام حتى القرن التاسع عشر. كما أن العبودية كانت جزءاً لا يتجرأ من منظومة القيم التي حكمت العالم القديم، وما زالت موجودة بأشكال مختلفة إلى يومنا هذا، ولو نظرنا إلى حضارة اليونان القديمة التي أعطت العالم الفلسفة وروح الديمقراطية، نجد أنها كانت تمجد العبودية عبر فلاسفتها ومفكريها.
كانت الفكرة السائدة عندهم تقول إن العبودية طبيعة، فأفلاطون الذي يعتبر أشهر فلاسفة القيم عبر التاريخ مجد العبودية وكان عالمه الفاضل في جمهوريته يحتوي على العبيد ومات وهو يملك خمسة عبيد.أما أرسطو فقد اعتبر أن السيد هو بالضرورة أفضل من العبد، وفضيلة العبد الوحيدة هي طاعة سيده.
وبين أثينا وأميركا، وما قبلهما وبينهما من حضارات فرعونية ومسيحية وإسلامية وآسيوية وغيرها، سلسلة من الثقافات التي اعتمدت العبودية ووضعتها أحياناً في أولويات سلم القيم. ظل الوضع البشري على هذا النحو إلى أن أطلق الرئيس الأميركي إبراهام لنكلن إعلان تحرير العبيد عام 1863 ليفتح عصراً جديداً من معاداة العبودية. وصارت الحرية وتحرير العبيد القيمة الأولى والفضيلة الكبرى في الغرب وصولاً إلى معظم الشرق. وأصبحنا أمام مشهد جديد، فما كان قيمة عليا وفضيلة(العبودية) صار رذيلة مطلقة.
وكذا الحال مع عمل المرأة، فلو نظرنا إلى أوروبا ما قبل الثورة الصناعية عام 1776، لوجدنا أن القيمة الأهم في التعاطي مع المرأة هي كونها أماً ومربية. أما بعد الثورة الصناعية، صار عمل المرأة خارج المنزل هو القيمة الأهم وهو معيار لقيمة المرأة ذاتها.
وحتى لا نذهب بعيداً فلننظر إلى بلدنا الإمارات كيف كان تعاطي سلم القيم مع المرأة منذ نصف قرن، وكيف أصبح ميزان القيم اليوم، وقد اقتحمت المرأة الإماراتية سوق العمل، من التدريس وصولاً إلى قيادة الطائرات الحربية. والحرية قيمة ثابتة ولكن مفهومها متحول، ففي زمن العبودية كانت حرية الحر قيمة، وطاعة العبد هي فضيلته وقيمته.
أهمية التفكير في تحولات القيم هي في كونها منهجاً إذا اعتمدناه سنصل إلى نتيجة حتمية وهي ضرورة أن نتمهل في إطلاق الأحكام القيمية المطلقة، ونتفهم المختلف أو المخالف. فرُبما قيمة اعتبرناها اليوم رأس سلم أخلاقنا أدركنا بعد زمن تراجعها للخلف في سلم القيم.
ويقع الكثير في حالة التباس بين مصادر القيم، فالقيم تتعدد مصادرها فمنها الديني والمجتمعي والعقلي وكثيراً ما يحدث خلط بين القيم الدينية والقيم المجتمعية والقيم العقلية ويلجأ الكثير من المنغلقين إلى إلباس القيم المجتمعية لباسَ الدين الذي يجد إذعاناً وتقبلاً في نفس الإنسان العادي لما للدين من قداسة وتسليم. وهنا تكمن الخطورة والأزمة التي تعانيها الدول الإسلامية. فأزمتنا أن بعضنا ألبس قيمنا المجتمعية ثوب الدين فأساء إلى الإسلام وإلى قيمه.
إن حالة الالتباس ما بين القيم من المنظور الفردي والقيم من المنظور العام تخلق صراعاً داخل الإنسان بين ماهو فردي وبين ما هو إنساني.النجاح هو قيمة عظيمة يسعى إليها الإنسان وهي قيمة ثابتة لكن تظل آلياتها عرضة للتحولات والصراعات الذاتية التي يعيشها الإنسان، فقد يتعارض النجاح الفردي مع بعض القيم الإنسانية الثابتة، وقد يصل إلى تعارضه مع حق الآخر في الحياة، وهنا يوضع الفرد أمام خيار صعب، لكن لندرك أن الإنسانية دائماً هي خيارنا الأصوب.
القيم مهما تحولت وجرى عليها حكم الأيام، لا يمكن أن تنقص فضيلتها أو تتراجع مكانتها. وبعض القيم يبقى على الدوام في رأس سلم القيم الإنسانية، لأي مجتمع ينشد التقدم، وعلى رأسها القيم التي تعتبر فضائل فردية كالصدق والأمانة، أو فضائل اجتماعية كاحترام الآخر واحترام النظام العام.
إن هذه القيم تعتبر حجر الأساس في بناء المجتمعات، فالمجتمع الذي يغيب فيه الصدق أو تغادره الأمانة يغرق في الفساد والإفساد. أما احترام الآخر والانتظام، فهي القيمة والفضيلة التي لا يمكن من دونها لأي مجتمع أن يستمر أو يتقدم، وغياب هذا النوع من القيم يحول المجتمع إلى غابة يفترس فيها القوي الضعيف.
ولكي نحافظ على القيم من تحولاتها السلبية التي قد تؤدي إلى اختلال سلم القيم المرتبط بثقافتنا الخاصة لابد من تكاتف أربعة محاور مهمة هي مؤسسات المجتمع المدني والدولة ومؤسسة التعليم والأسرة لتكتمل منظومة الحفاظ على القيم من التغير العشوائي والسلبي، لكن هذا لا يعني أن نتجمد عند موقف معين بل لابد أن يكون لنا مراجعاتنا المنهجية لسلم القيم وألا نترك التحولات تسير في شكل عشوائي قد يؤدي إلى انهياره، خاصة بعد التفتت أو التشدد الذي طال الكثير من القيم المجتمعية في المنطقة العربية خلال الخمسين سنة الأخيرة. والذي لازم ظهور أصحاب الفكر المتشدد والذين عبثوا بسلم القيم لمجتمعاتنا العربية واستغلوا خضوع الجميع لسلطة الدين وتغييب سلطة العقل، لذلك لابد من رقابة هذه التغييرات والتحولات واخضاعها للدراسات المنهجية الدورية من خلال مقترح أقدمه للمجتمع المدني وللدولة بإنشاء (مؤشر التحولات القيمية) يحتوي في عضويته أفراداً من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية ذات الصلة والمؤسسات التعليمية بكل مراحلها، ووضع خطة استراتيجية للمؤشر تعتمد على تصور سلم القيم داخل مجتمع الإمارات وتحديد آليات لدراسة التحولات التي تحدث في هذه القيم والعوامل المؤثرة فيها وقياس معدلات الانحراف ليكون لدينا الرصيد العلمي والمعرفي الذي يجعلنا نحافظ على سُلم القيم ثابتاً، وأن يكون التحول المطلوب من خلال الرؤى التي تتغير عبر تغير معطيات الفترات الزمنية بناء على وعي وخطط منهجية تأخذ التحول إلى حيث تعظيم مردود تلك القيم على تحقيق الخير والسعادة للإنسان على أرض الإمارات.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي
*
حول نقد الفلسفة الأخلاقيّة لدى الفلاسفة المؤمنين
مجلة المشرق بيروت
فالرجوع إلى القرآن و/أو السُنّة، ممّا قد يعتبره "الفيلسوف" المؤمن منطلقًا لا يرقى إليه الشكّ ولا يتطلّب تبريرًا لا يقنع إلّا من يشاركونه المعتقدات الدينيّة نفسها. وبالتالي يكون هذا الرجوع نقصًا كبيرًا، من الناحية الفلسفيّة المحضة.
القدّيس توما الأكويني تحدّى المنطق جاعلًا مخالفته أمرًا في أساس فلسفته (تغليب الوجود الواقعيّ على الجوهر العقليّ)، كما فعل سورين كيركيغارد. وكلاهما يصحّ انتقاده، من منطلق الفلسفة التقليديّة، بمثل ما انتقدت به فلسفةَ الأخلاق الإسلاميّة.
فالأكويني، تبع أرسطو في كثير من منطلقاته، غلّب الإيمان على العقل، بعكس ما فعل الفيلسوف الأرسططاليّ المسلم ابن رشد الذي غلّب العقل على الإيمان. وبالرغم من أنّ الأكويني ماشى أرسطو في كثير من المنطلقات، ومنها اعتبار الطبيعة خيّرة في جوهرها، إلّا أنّ إيمانه بالنصوص الإنجيليّة دفعه إلى مخالفة أرسطو حول الطبيعة الإنسانيّة التي وجدها أرسطو خيّرة. فالأكويني يعتبر أنّ الإنسان ورث عن أبيه آدم ميله إلى ارتكاب المعاصي، ما يبقيه محتاجًا إلى أن يمنّ اللّه عليه بتنقيته من الميل إلى الخطيئة حتّى يكتسب بعدًا إلهيًّا يرفعه أخلاقيًّا. أمّا الغزالي الذي سبق الأكويني في استلهام أرسطو بما يزيد عن قرن من الزمن، معتبرًا مثله أنّ الفضيلة طبيعة أو ميل تُكرّسهما الممارسة، فعاد وانفصل عن أرسطو كما عن جميع الفلاسفة فانحاز كليًّا إلى المعتقد الدينيّ، إذ وضع المرجعيّة الأخلاقيّة في الشريعة. وقد تطرّف الغزالي أكثر من الأكويني في جعل المكانة الأولى في الأخلاق للعقيدة الدينيّة، فأناط الأخلاق عامّةً بالمعتقد الدينيّ قائلًا إنّ الحسن هو في درجة أدنى ما يوافق غرض صاحبه لكنّه في معناه الأكمل هو ما حسّنه الشرع، والقبيح هو ما قبّحه الشرع ونهى عنه.[5]
ويبدو أنّ كلًّا من الغزالي وكيركيغارد كانا منسجمَين مع نفسيهما أكثر ممّن حاولوا المواءمة بين العقل والإيمان كما فعل القدّيس الأكويني وكما حاول بول ريكور أن يفعل. ووحده باسكال، المؤمن الذي لم يقحم الإيمان في جدليّته إلّا كمُفترَض قد يصحّ أو لا يصحّ، بقي بمنأى عن هذا النوع من النقد. فالغزالي أعلن الخروج على الفلسفة وبالتالي لم تعد تصحّ محاسبته فلسفيًّا، وكيركيغارد اتّخذ المنحى الوجوديّ المغاير لتاريخ الفلسفة في ذلك الزمن، منطلقًا من فكرة أنّ الوجود، بما فيه الإيمان، هو فوق المنطق وفوق الانسجام العقلانيّ في تمحيص الأمور، فلم يعد يصحّ انتقاده على الجمع في فلسفته بين الإيمان وبين الجدليّات العقلانيّة التي توصل إلى أنّ الإيمان هو بطبيعته خارج متناول هذه الجدليّات.
للتطوّر الديالِكتيكيّ للوعي (وهيغل أوجد منطقًا مخالفًا للمنطق الأريسططاليّ يزاوج بين الكون وما يناقضه وصولًا إلى الكينونيّة الدائمة الحركة)، عندما يعتبرون أنّ الفضائل هي وسيلة للسعادة والحريّة، لكنّهم، في الوقت نفسه، يقولون إنّ ممارسة الفضائل تحرّر الإرادة من البعد الشخصيّ فتوصلها إلى العبوديّة للإرادة الإلهيّة. فهم في وصفهم هذا يتبنّون قفزًا فوق المنطق يطابق ما نجده عند الوجوديّين عامّةً وكيركيغارد خاصّةً. وهم يشبهون الأخير أكثر عندما يرون أنّ السلوك الأخلاقيّ وسيلة إلى الانعتاق من القيود، حتّى من قيود الشعائر الدينيّة ومن قيود الفضائل الأخلاقيّة، للوصول إلى أحوال ومقامات لا يمكن إنسانًا عاديًّا أن يُعبّر عنها فلسفيًّا ولا حتّى أن يتصوّرها.
*
لماذا تتغير أخلاقنا؟
بدأت كل أسرة تتحسر على مستقبل أولادها وما أصابهم من انفلات أخلاقى، روى أحد الأصدقاء الحاضرين أنه حزين أن يرى ابنه الشاب يضيع منه، لقد كان يتمنى أن يرى فيه ملامح التربية التى تربى عليها هو أيام كان يفتخر بتربية أبيه له، والابن ينحنى ويقبل يد الأب، ولا يجلس إلا إذا طلب منه أبوه الجلوس، ولا يحشر نفسه فى الكلام مع الكبار إلا إذا أخذ أبوه رأيه، ولا يمكن أن يرتفع صوته على صوت الأب عندما يتحدث.
يعنى أنا والأم بعد أصدقاء السوء.. العيال النهاردة «فجرت»، والبنت زى الولد قلة أدب وصوت عالى، هنقول السبب التفكك فى البيت، ولا الحياة العصرية التى نعيشها، وشايفين الولد جالس ورجل على رجل فى «وش» أبوه.
الأسوأ لما بتبقى بنت وصوتها عالى على أمها وأبوها وكأنها هى اللى بتصرف عليهم، العيال خلاص لا دين ولا أخلاق.. مجتمع منحل، وبعيد عن البيت تأخذ منهم الأدب والأسلوب الناعم.. مفيش تربية ولا سلوك.. البيت مهما عمل، المجتمع والحياة العصرية لها تأثيرها على الأولاد سواء كانوا صبيان أو بنات.
- السؤال الآن: كيف نعيد للبيت المصرى احترامه؟ مؤكد أن الظروف الاجتماعية التى نعيشها الآن لا توفر الوقت الكافى للأم لرعاية أولادها ومباشرة عملها الذى هو مصدر إضافى لدخل البيت بجانب دخل رب البيت، ومع ذلك البداية تبدأ من الطفل، حسب توجيهه وتعليمه، فلو عرف قيمة المصروف الذى يأخذه ونربط الحوافز بالعمل الجيد، أى لا نشترى شيئا له إلا إذا أتمم دروسه، أو أدى فروض الصلاة، الطفل مثل العجينة يسهل تشكيله بشرط توفير المناخ البيئى له، وعلى سبيل المثال إبعاده عن الخلافات بين الأم والأب، تعويد الطفل على الاعتماد على النفس منذ الصغر كترتيب سريره وتنظيف غرفته، هذه الأمور تعلمه كيف يتحمل المسؤولية، تنمية ذكائه بالقراءة والألعاب التى تدخل فيها الأشكال الهندسية، الحد من مشاهدة التليفزيون، التدقيق فى اختيار من هم فى سنه، الوقوف يوميا على تحركاته وعلاقاته فى المدرسة.
*
محاورات كتاب «الجمهورية»، طارحًا سؤالًا وجوديًّا كبيرًا: «هل الأخلاقُ مرهونةٌ بالخوف من العقاب؟ أم هى نزعةٌ ذاتيةٌ فى الإنسان؟»
الحقُّ أن عدم ارتكاب الخطايا خوفًا من رأى الناس فينا، لا يعنى أننا فضلاء. فالأخلاق يجبُ أن ترتكز على الذات، وليس على وجود السلطة الخارجية، سواء كانت سلطة المجتمع أو القانون أو السماء. فحين تتجنب ظلمَ الناس خوفًا من القانون، أو خوفًا من النار أو طمعًا فى الجنة، فذاك لا يعنى أنك عادل. تكون عادلًا ذا خلق حقًّا، إذا نبع العدلُ من داخلك دون طمع فى ثواب أو خوف من عقاب. الأخلاقُ تتأسس على «ضمير الإنسان»، ومراقبته لنفسه، دون عصا أو جزرة.
*
د. نصار عبدالله.. والنسبية الأخلاقية الوفد
هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين؛ نمط تقليدى تتوقف مهاراته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش والحرص على أن يكون النقل أمينًا، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون الرأى والاجتهاد فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءاته لإبداء الرأى أو للتدليل على صواب الاجتهاد العقلى الشخصى، وبالطبع فإن النمط الثانى هو الأقرب إلى النمط الفلسفى الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش. ولا شك أن د. نصار عبدالله من هؤلاء الذين ينتمون إلى النمط الثانى؛ فهو صاحب موقف فلسفى ونقدى واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا حول أو فى قضايا معاصرة بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل الفلاسفة السابقين أو المعاصرين غربيين كانوا أو عربًا! يقول نصار عبدالله فى مقدمة كتابه «مدخل إلى النسبية الأخلاقية»: إن الابداع الفلسفى غاب عند الكثيرين من المشتغلين بالفلسفة عندما غابت لدى كل منهم القدرة على أن يلقى بنفسه مباشرة فى خضم المشكلة المطروحة ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا الفيلسوف أو ذاك من أعلام الفلسفة الشوامخ». ومن ثم فما عابه على الآخرين تجنبه هو! فالناظر إلى إنتاجه الفلسفى يجد أنه يغلب عليه الإبداع وهذا ما يفسر قلته، وما أكثر من يكتبون وما أقل المبدعين!
فحينما تناول فى كتاباته الفلسفية موضوع النسبية الأخلاقية لم يشغله كثيرًا ما قاله السابقون فى ذات الموضوع كما لم ينشغل ببيان أصل النسبية الخلقية وتاريخ تطورها منذ بروتاجوراس وفلاسفة الحركة السوفسطائية فى اليونان قديمًا حتى فلاسفة الوضعية والبراجماتية حديثًا.
لقد ترك كل ذلك واتجه مباشرة إلى تحديد موضوعه ومنهجه الخاص للبحث فيه؛ أما الموضوع فيبدأ بتحديد طبيعة الفعل الخلقى بوضع الخطوط الفاصلة بين ماهو واقع فى مجال الحكم الأخلاقى وماهو واقع خارجه، أما المنهج فهو أقرب ما يكون إلى المنهج التجريبى الذى اتبعه التجريبيون من أمثال هيوم وبنتام وجون ستيوارت مل، لكنه اتبع فى تطبيقه رؤية تحليلية خاصة، حيث اعتمد على «تأمل طائفة من أحكامنا الخلقية فى مناسبات شتى». ومن خلال هذا التأمل حاول «التماس ما هو مشترك بين تلك الأفعال التى درجنا أن نحكم عليها بأنها أخلاقية، وما هو مشترك بين تلك الأفعال التى تعودنا أن ننظر إليها باعتبارها واقعة خارج المجال الخلقى ولا تقبل الوصف بأنها أخلاقية ولا بأنها لا أخلاقية».
ولما طبق بالفعل هذا المنهج انتهى إلى نتيجة أولية مفادها أن «الفعل الخلقى هو فعل نتمنى أن يلتزم به كل إنسان طواعية واختيارًا فى مواقف نعلم أنه لا يوجد فيها ضمان للفعل إلا الطواعية والاختيار» وأن الأخلاق ليست فى نهاية المطاف إلا مؤسسة اجتماعية تتشكل شأنها فى ذلك شأن سائر المؤسسات الاجتماعية الأخرى طبقا لاحتياجات المجتمع الذى تنشأ فيه والذى ينتظمها جميعًا».
ومن هنا كشف عن وظيفة القيم الأخلاقية باعتبارها عاملًا من عوامل تأمين الوجود الاجتماعى للبشر إذ من شأنها تأمين حياة الفرد وتلبية مطالبه المادية والمعنوية وهى تسهم فى تأمين المجتمع وحفظه. إن مفكرنا- وهو يقر هنا نوعًا ما من النسبية الخلقية الاجتماعية- يرى ضرورة لوجود المعايير المطلقة؛ إذ لولا وجود هذه المعايير المطلقة لما كنا «نشعر فى أعمق أعماقنا بأن هناك أهدافًا أخلاقية نهائية تتجه إليها سائر المجتمعات»، وهو يدعم هذه الضرورة.
بالكثير من البراهين والنتائج البحثية. وقد خلص إلى بلورة وجهة نظره قائلًا: «إن التباين الأخلاقى بين المجتمعات المختلفة إنما هو تباين ظاهرى فى جانب كبير منه وأن ما يبدو عليه مجتمعان من الاختلاف فى تقييم نفس الفعل أو نفس الموقف إنما يرجع فى حالات كثيرة إلى أننا لسنا إزاء نفس الفعل أو نفس الموقف تمامًا، وحتى حينما نكون إزاء نفس الموقف، فإن اختلاف التقييمات الأخلاقية بين مجتمع وآخر لا بمعنى تناقض مجموعة القيم التى يؤمن بها هذا المجتمع مع مجموعة القيم الأخلاقية التى يؤمن بها ذاك، ولكنه قد يعنى أحيانًا تباين الأولويات التى يمنحها هذا المجتمع أو ذاك لهذه القيمة أو تلك بين درجات السلم الأخلاقى». إن كل المجتمعات البشرية تؤمن وتضع حق الحياة على رأس قائمة القيم الأخلاقية ثم تأتى بعد ذلك بحق الحرية وعنهما تتفرع وتأتى سائر القيم الأخلاقية الأخرى مما يؤكد الطبيعة البشرية الواحدة فى كل زمان ومكان. إن رؤية نصار عبدالله فى فلسفته الأخلاقية تمزج ببراعة بين النسبية والإطلاق؛ فمع إقراره أن الأفراد والمجتمعات لديهم مبادئ وعادات خلقية مختلفة تبعًا لاختلاف البيئات والعصور، فإن هذه الاختلافات لا تنفى ولا تتعارض مع إيمان الإنسان بما هو إنسان بقيم أخلاقية ثابتة تمثل الهدف الأسمى للحياة الإنسانية فى كل زمان ومكان.
*
فكرة الدين عند كانط
احمد زكرد الحوار المتمدن
"كانط" تكريس كل جهوده نحو تثبت تلك القيمة الأخلاقية الكبرى المنبثقة من الأديان، مع إعمال العقل من أجل
ترسيخها كواقع. وبعد أن عبر "كانط" أشواط كثيرة وأخذ مواقف جبارة في دعواه لانفصال الدين عن الأخلاق
وضح "كانط" العلاقة بين الدين والعقل في فلسفة الأنوار، حينما جعل الدين تابع للأخلاق. ولكن فقد ظلت الصلة بين الدين والأخلاق تتخذ طابعا إشكاليا، إذ يبدو الدين في منظور الإنسان الحديث مجالا للقهر وتحميل الطبيعة البشرية ما لا تطيق. وهذا ما مهد لدعوة فصل الدين عن الأخلاق. من أجل الصيرورة النقدية التي قام بها "كانط"، وبعد هذا الفصل أسس الأخلاق على العقل، فلم تعد الإنسانية قطيع تقوم على رعاية الكنيسة، بل جعل الإنسانية هي المشرع الأخلاقي، وجعل الدين قائم على المشروعية الأخلاقية؛ أي قائم على أساس أخلاقي . وبحكم أن "كانط" قد تلقى تربية دينية بروتستانتية، جعلته يمجد الواجب لأنه كان الفكرة المحورية في ديانة البروتستانتية، فقد تميزت حياة "كانط" بالتقيد الصارم بالواجب. فتتلخص نظرية الأخلاقية الكانطية بأنها دعوى إلى تأدية للواجب كغاية في ذاته؛ أي لا شيء سوى كونه واجبا.
لكن هل يجوز أن يضحي الإنسان بكل شيء من أجل الواجب؟ فكانط يبرر ذلك بالسعادة، ويقصد تلك التي تتحقق في الحياة الثانية. وهكذا يجد "كانط" طريقا آخر؛ من الواجب إلى الله أي من الأخلاق إلى الدين ، ففي مستهل كتابه (الدين في حدود مجرد العقل) يقول: «الأخلاق نظرا إلى أنها مبنية على مفهوم الإنسان ككائن حر يخضع، بما هو كذلك وبواسطة عقله لقوانين لا مشروطة، لا تحتاج إلى فكرة كائن آخر متعال على الإنسان، لكي يعرف واجباته، وتحتاج إلى وازع مغاير للقانون ذاته، كي ينفذه» ؛ ومعنى هذا أن الأخلاق ليست في حاجة إلى الدين من أجل قيامها بل لابد من اعتبارها مكتفية بذاتها بمقتضى طبيعة العقل العملي نفسه. فكانط يرفض تأسيس الأخلاق على الدين، في حين يذهب إلى الإقرار بالعكس من ذلك، وهو تأسيسه للدين على الأخلاق . لأن أي أخلاق انبنت على أوامر شرطية ولو أنها أوامر إلهية، فهي أخلاق ناقصة، هذا ما أدى بكانط لتأسيس الدين على الأخلاق.
ففكرة الدين عند "كانط" تبدأ بالمسلمات العقل العملي التي هي (الله، الحرية، وخلود النفس) وبالتالي فإن الأخلاق الكانطية تنبني على حقائق معينة لا يمكن البرهنة عنها ميتافيزيقا، وبفضل هذه المسلمات فالعقل الأخلاقي يقود إلى الدين «أي الاعتراف بجميع الواجبات كأوامر إلهية» .
لا تعنى إنكار وجود الله وإحلال بديل كالإنسانية محله وإعلان الأخلاق دينا، إلا أن "كانط" نفسه لا يمارس الطقوس الدينية ولا الصلوات. بل إنه اعتبر الدين الصحيح هو الحياة الأخلاقية التي تبلغ دورتها في تأدية الواجب والتضحية بكل شيء في سبيله لأنه واجب ، وهذا من أجل بلوغ السعادة الأبدية.
ففكرة الدين عند "كانط" لم تكن مقتصرة على دين معين، بل إنه ينادي إلى دين كوني أو بالأحرى إلى الدين الطبيعي، فإذا كان الدين في العصور الوسطى يعنى بالبرهنة الفلسفية على وجود الله، فمع "كانط" افترض وجود الله ضرورة للحياة الأخلاقية والعملية. فسوف يقدم "كانط" الإجابة في فلسفة الأنوار، حيث جعل الدين تابعا للأخلاق بمعنى أن الأخلاق هي التي تؤدي إلى الدين كما سلف الذكر. فكانط في كتابه (الدين في حدود مجرد العقل)، يعتبر دين الحق هو الدين الخالي من الصلاة لأنه يعتبر أن الصلاة هي نفاق، لأن الإنسان يتمثل الله كموضوع حسي، في الوقت الذي هو مبدأ عقلي
فالدين عند "كانط" ليس عقيدة نظرية، بل هو فعل خلقي باطني أو عبادة روحية خالصة، فيضع الإيمان الأخلاقي في منزلة أرفع من العقائد والطقوس الشكلية أو العبادات الخارجية، فيقول في هذا الصدد «إن كل ما قد يتوهم الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يكسب رضاء الله –فيما عدا اتخاذ مسلك أخلاقي طيب في حياته- إنما هو محض هذاء ديني أو مجرد عبادة زائفة لله»
وإذا كانت الصلاة خارجة عن التدين –حسب كانط- فإن الطقوس كلها أيضا تفقد معناها، وحتى الزهد ذاته عبادة يعتبرها "كانط" جنونا وهذيان. فالطقوس إذن ليست إلا تعبيرا عن أوهام ذاتية، لأن الإنسان يجد لذة في تقدير الآخرين له والثناء عليه. في حين أن الدين الاخلاقي ليس بالضرورة ان يكون دين طقوس و شعائر وعبادات، بل الدين الحقيقي هو ذلك الدين القادر على تدعيم ذاته على مجموعة من الأسس والقواعد العقلية، وهذا يعني عند "كانط" أن الإيمان العقلي لا يقوم على الشعائر والطقوس وإنما يقوم على الأخلاق،
الإيمان الديني هو الإيمان الشامل القائم على العقل، وهو الوحيد الذي يؤدي إلى النعيم الأبدي؛ (السعادة الخالدة). وقد نادى "كانط" بين التوفيق بين جميع العقائد في دين واحد وهو دين أخلاقي. ويقول في حمايته للدين الأخلاقي أنه لا يحتاج إلى رقابة، لأنه يصدر عن حرية الفكر، على عكس الدين اللاهوتي الذي يحتاج إلى رقابة رجال اللاهوت.
ذا كان "كانط" في سبيل تأسيسه للأخلاق التي تنبني على العقل وتربط بين الدين العقلي والدين التاريخي، فإنه قام بتحديد مفهوم اللاهوت باعتبار أن الدين هو المحرك الأساسي لتأسيس الأخلاق ولذلك نجده قد ميز بين اللاهوت العقلي واللاهوت التاريخي حيث أن معرفة الموجود الأول في اللاهوت العقلي مؤسس على العقل، بينما معرفة الموجود الأول في اللاهوت التاريخي إنما تقوم على الوحي الخارجي.
الدين الأخلاقي هو دين نقي، دين داخلي، يخلو من كل الطقوس والشعائر والاحتفالات، ولا يقوم على العبادات ولا المعجزات لكنه يقوم على استعداد العقل، ليحقق الإنسان كل واجباته الإنسانية بوصفها أوامر إلهية،
دين الحق يدعم ذاته على أسس عقلية ، ويدفع الإرادة نحو العمل على تحمل المسؤوليات الإنسانية نحو لآخر من البشر باعتبار هذا الواجب هو أمر إلهي. وتعتبر هي قوام الدين حيث يقول "كانط" قوام كل دين الحق يدعم ذاته على أسس عقلية، ويدفع الإرادة نحو العمل على تحمل المسؤوليات الإنسانية نحو لآخر من البشر باعتبار هذا الواجب هو أمر إلهي، ويعتبر هي قوام الدين حيث يقول "كانط": « قوام كل دين اعتبار الله في كل واجباتنا المشترع الواجب احترامه» .
إذن فكانط ينتقد العبادة المشروطة، فنحن لا نعبد الله بالكلمات والاحتفالات ولكن عبادته يجب أن تكون بالأفعال أي بممارسة فعل الخير ولا يمكن اعتباره خدمة خاصة لله، بل هو دين إنساني بين الإنسان والإنسان فهو قانون ملزم لكل الإنسانية، ومشرع من الإرادة الإلهية المنقوشة في قلوب الأفراد، وبالتالي فإن الأخلاق الكانطية هي وليدة الضمير الإنساني العام أو العقل البشري قاطبة في كل زمان ومكان ؛ ومنه يمكن اعتبار "كانط" قام بنقد للاهوت التاريخي بغية الوصول إلى اللاهوت الأخلاقي، وذلك لما خلفه اللاهوت التاريخي من حروب دموية، لأن الاختلاف بين الديانات يولد الصراع؛ فكما يقول "كانط": « الحروب التي هزت العالم وأدمت جراحه لم يكن لديها شيء إلا صراع العقائد الدينية» . فمن أجل الابتعاد عن الصراع بين هذه الأديان، ينحو "كانط" بالنقد الممارسة العملية للدين، فإن الدين الصحيح عند "كانط" هو دين العقل وهو لا يحتوي إلا على قوانين ومبادئ عملية نثق بها، ويوحي لنا بها العقل وحده.
منه فإن "كانط" قد أسس لدين واحد، وهو دين العقل واعتبر كل الأديان الأخرى فقط هي مجرد عقائد التي يشملها الدين العقلي وهذا من أجل التوفيق بين جميع هذه العقائد –حسب قول كانط- في دين واحد، فالعقائد تختلف فيما بينها في اللاهوت والعبادات والشعائر والطقوس، أما الدين فواحد وهو الدين الخلقي
فكانط يقول أنه «ليس هناك سوى دين حقيقي واحد ولكن من الممكن أن تكون هناك أشكال متعددة من العقائد الدينية» . وطبقا لهذا يتضح لنا أن اليهودية والمسيحية والإسلام ليست ديانات، بل هي تعبير عن أنواع مختلفة من العقائد، حيث أنه لا يمكن أن يكون إلا دين واحد موجود لجميع البشرية في كل زمان ومكان ومعاصر للجنس البشري، ويجب على الإنسان الابتعاد عن العصبية والذاتية.
كما يقول "كانط" «الوهم والتعصب الديني هو الموت الأخلاقي للعقل وبدون العقل لا يكون هناك دين ممكن» ؛ فالمتعصب يرى أن الحقيقة المطلقة هي في معتقده، أي تكون مبنية على فكرة (الدوجماطيقا)، ومن خلال هذه الرؤية الذاتية المتعصبة لا يكون أمام المتعصب سوى الإرهاب والحرب من أجل الطمس والسيطرة على الآخر المخالف له. وبالإضافة إلى التعصب فحتى بنية تلك العقائد من الداخل هي التي تدفع البشر نحو الحرب باعتبار أن هذه العقائد تنبني مبدأ الدوجما، وفي ظل هذا الإيمان الدوجماطيقي المتعصب، يستحيل إحلال السلام إلا بالرجوع إلى العقل كمبدأ للدين الكوني. ومعنى هذا أن في وجود الدين الأخلاقي يكون السلام وفي غيابه يمتنع السلام، وبالتالي فتحقيق السلام في تلازم ضروري مع تحقيق الواجب الأخلاقي، والانصياع إلى القانون الأخلاقي الذي يكمن في ذواتنا، وهو الذي يشرع القانون داخلنا. وهذه القوانين يجب التعامل معها واعتبارها أوامر للموجود الأسمى من خلال العقل العملي، وهكذا نرى "كانط" قد أقام الدين كله على أساس الواجب والأمر المطلق، وعلى مفهوم الإرادة الإلهية وفقا للقانون الأخلاقي الذي يسمح بالتفكير في دين واحد، وهو الدين الأخلاقي، وهو في علاقة قوية مع العقل فهو أيضا مؤسس على الوحي الداخلي، وحي من الله إلى الإنسان؛ فيقول "كانط" في هذا الصدد: «بل إن ما علينا من واجب هنا (أي توحيد الجنس البشري) هو واجب من الجنس البشري تجاه ذاته. لأن أعضاء الجنس البشري كموجودات عاقلة هي بالعقل متجهة لهدف اجتماعي عام، هو التقدم والترقي إلى الخير الأقصى الأخلاقي كخير اجتماعي، والخير الأقصى الأخلاقي كخير اجتماعي لا يمكن تحقيقه بمجرد بذل جهود المفرد نحو كماله الأخلاقي الخاص»
وبالتالي فمصير الجنس البشري يتوقف على تحقيق كماله الأخلاقي الأسمى. فتلك هي الغاية العامة للجنس البشري وفي تحقيقها يتحقق السلام بالضرورة فيقول "كانط" إذا كان الله قد أعطى كل فرد جزءا من السعادة فليس بعطاء الإرادة الإلهية فقط نكون سعداء، بل يجب أن نجعل أنفسنا مستحقين للسعادة. فهذه الأخلاق الحقة، والكمال الأخلاقي الحق أو الأسمى أن نعمل من أجل السلام لنكون مستحقين السلام، إذن فيمكن القول أن الأخلاق هي مبدأ للسعادة لأنها تحمل في ذاتها الأمل لكن في الوقت نفسه علينا أن ندرك أن سعادة البشر هي في أيدي البشر. ولا يمكن أن يبلغ هذه السعادة إلا إذا جمع بين الجسد والروح، فالجسد بمتطلباته الغذائية والروح بمتطلباتها النفسية. ليس في استطاعة المرء أن يعيش دون أن يكون لديه شيء ليعبده. أي دون أن يؤمن بأية عقيدة من العقائد أو دين بعينه. والإنسان السعيد الفاضل في نظر "كانط" هو ذلك الشخص الذي يستطيع أن يحقق في نفسه التوافق التدريجي اللازم بين العالم الحسي وقوانين العالم العقلي، أو بين النظام الطبيعي والنظام الأخلاقي
*
استقلالية المعرفة الأخلاقية عن اللاهوت
عادل ضاهر في كتابه "نقد الفلسفة الغربية: الأخلاق والعقل"
لبحث عن مصدر سلطوي إنساني نهائي للمعرفة الأخلاقية مصيره الفشل
المعرفة الأخلاقية، على العموم، لا تحتاج إلى معرفة لاهوتية، وإن الملحد أو الوثني، بإمكانه أنْ يحصل على معرفة أخلاقية، ولو محدودة
من هم خارج الإيمان المسيحي ولم يصلهم القانون الإلهي بعد، قد يتصرفون مع ذلك بفطرتهم،
المعرفة الأخلاقية فطرية، ولا تحتاج إلى الوحي. والقول باستقلالية المعرفة الأخلاقية عن المعرفة اللاهوتية - الوحي - هو من السمات البارزة للفكر الكاثوليكي بعامة. وينقل ضاهر عن القديس توما الإكويني، الذي يَعدُّه المفكر الأكثر أهمية وأثراً في الفكر الكاثوليكي اللاحق، قوله: إن المبادئ الأساسية للأخلاق هي مبادئ واضحة بذاتها، وإنها ترتبط بالعقل العملي (العقل الأخلاقي) مثلما ترتبط المبادئ الأولى للبرهان بالعقل التأمُّلي، وهذا يعني أن القديس توما الإكويني يرى أن المعرفة الأخلاقية مستقلة عن المعرفة اللاهوتية
فالإرادة الإلهية، وفق أولئك المفكرين، هي المعيار المطلق والنهائي للأخلاق، بمعنى أنه لا شيء خارج ما يأمرنا به الله وما ينهى عنه يمكنه أن يكون أساساً لاشتقاق الواجبات الأخلاقية.
مثل هذا الموقف يتَّفق، بدرجة أو بأخرى، مع مواقف في التراث الإسلامي؛ مثل موقف أبي حامد الغزالي (1058-1111م) الذي نظَّر لهذا الموقف، وهو، في حقيقة الأمر، لُبُّ السجال الكلامي بين الأشعرية والمعتزلة.
موقف هؤلاء المفكرين الدينيين في الغرب لا يعني بالطبع أن الأخلاق مستحيلة من دون الدين، أو، على وجه التحديد، من دون دين سماوي كالإسلام أو المسيحية؛ فأسبقية الدين - الدين السماوي - على الأخلاق ليست أسبقية تاريخية، بناءً على هذا الموقف، بل مجرد أسبقية إبستمولوجية، إذ قبل ظهور الديانات السماوية، في اعتقاد دعاة هذا الموقف، كان للناس أنساق أخلاقية تؤدي دوراً مهماً في حياتهم، ولكن هذه الأنساق كانت تستمد مشروعيتها من التقاليد والأعراف الاجتماعية.
«المعرفة الخُلُقية هي في أساس المعرفة الدينية، وأن أي محاولة لاشتقاق السابقة من الأخيرة تصبح ضرباً من المستحيل»، ليقرر ضاهر، تاليًا، على إثر تفكيكه لعلاقة الأخلاق بالدين والسلطة الدينية، أن «المعرفة الخُلُقية، لا تستوجب المعرفة الدينية».
هذا الموقف الذي يعرضه ضاهر، يقترب منه، بدرجة أو بأخرى، المفكر الإيراني، عبد الكريم سروش، وفق ما ينقل عنه فرهنك رجائي في كتابه "الإسلاموية والحداثة"؛ حيث يرى سروش أن المبادئ الأخلاقية «تحظى بأولوية عقلية على الدين والتديُّن والتقوى؛ وذلك لأننا نبني نظامنا القيمي قبل أنْ نخوض معترك الحياة الدينية أو أي نشاط آخر...، ونحن ليس من حقنا، مثلما ليس من واجبنا، أن نعبد إلهاً مجرداً من الأخلاق».
يفصِّل عبد الكريم سروش - الذي يعد واحداً ممن يتبنون فكرة استقلال الأخلاق عن الدين - رؤيته، ويشرحها في هذا الإطار بقوله: إن «القيم والفضائل والرذائل مستقلة بذاتها عن التعاليم الدينية، أي أنَّ الأديان لا تُعلِّم الناس الحسن والقبح، بل وظيفتها الكشف عن أن هذه الأمور الحسنة محبوبة لله تعالى، وتلك الأمور مبغوضة لله تعالى، وهذا ما اكتشفه الأنبياء». ويعلِّق الباحث السوري ياسين الحاج صالح على قول سروش بتأكيده أن «كلام سروش غير مقنع، لكنْ يمكن تصريفه على وجه أنَّ الله ضمانة لمكارم الأخلاق».
وفي كتابه "الفاكهة المحرمة: أخلاقيات الإنسانية" يرى بول كيرتز أن الأنظمة اللاهوتية للأخلاق غير قادرة على التأقلم بدقة مع الصراعات في العالم الحديث، فهي بالأساس قد ولدت ونتجت في فترة طفولة الجنس البشري، وهي بالتالي غير متطورة وذات خصوصية واضحة، ولا تنطبق الحقائق القديمة تماماً على الوقائع الجديدة في العالم الذي صار عرضة للتغيير السريع في التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع والثقافة والسياسة.
قصارى القول، إن استقلالية المعرفة الأخلاقية لا تعني العداء مع الأخلاقية الدينية، أو القول بانعدام أهميتها وفوائدها، بل المقصود تجاوز الخصوصية وصولاً إلى معايير عمومية ومتسقة وغير متناقضة مع التطور الإنساني. وغرض تثبيت هذه الاستقلالية هو الحيلولة دون تحوّل الأخلاقيات الدينية إلى إكراهات لا تعبأ بحاجات الإنسان المتطورة وحريته وإرادته المستقلة وقدرته على الاختيار والتحكم بمصيره وحياته.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق