Sep 14, 2019 Jan 5, 2022
May 31, 2023
من دين الآخرة إلى دين الدنيا والتبرع بالاعضاء
هل يمكن معرفة مراد الله؟ ****
مقال من الحرة وهذا من الشرق الاوسط
إنكاراً لاهتمام الإسلام بالحياة الدنيا، مع كثرة التعاليم الدينية التي تؤكد الموازنة بين الدنيا والآخرة، وبين المادي والروحي في حياة البشر.
العقلائية معياراً لاختبار سلامة الخطاب الديني، بكل ما فيه من أحكام فقهية أو تفسير للنص أو توجيه عام.
الفارق بين ما نسميه «الدين» أي ما أراده الله لعباده، وما نسميه «المعرفة الدينية»، أي فهم الناس لمراد الخالق. إن حديثنا يتناول فهم الناس وليس مراد الخالق سبحانه
ودلالة اللفظ وحدودها وقيودها، موضوع لبحث عميق ومطول، يشكل الجزء الأكبر من جدالات أصول الفقه، وهي أكثرها تعقيداً.
إطار النقاش إذن هو اجتهاد البشر ومحاولاتهم لفهم الأمر الإلهي، وليس مراد الخالق ذاته.
هل جاء أمر الله لإصلاح الدنيا أم الآخرة؟ فمن يرى أن غرض الدين هو إصلاح الدنيا، يعتبر النجاح الأخروي بديهياً لمن أحسن العمل في دنياه، حتى لو لم يكن الفوز الأخروي غرضه الوحيد أو الرئيسي.
وبعكس هؤلاء، فإن الذين اعتبروا غاية الدين هي الفوز الأخروي، قرروا أيضاً أن الدنيا ممر مؤقت. فنسبتها إلى الآخرة نسبة الوسيلة إلى الغاية، أو نسبة الظل إلى الأصل. وحسب تعبير الإمام الغزالي (ت - 1111م) فإن «أكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها، ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يبعثوا إلا لذلك».
الفرضية المسبقة لهذه المقالة هي الموقف الأول، أي القول إن غاية الشريعة صلاح الدنيا، وإن النجاح الأخروي تابع لها، وهو - كما يتضح - نقيض رأي الغزالي رضوان الله عليه.
أمثلة توضح انعكاس كل من الرأيين. لكني أكتفي هنا بالإشارة إلى تأثير كل منهما على منهج البحث والنظر. وأمامي مثال الجدل حول التبرع بالأعضاء وزرعها. وهو نقاش مضى عليه عقدان وما زال قائماً. فقد لاحظت أن الداعين لتجويزه، استخدموا أدلة عقلائية بسيطة، هي مصالح دنيوية، كالقول إن العضو الذي تهديه في حياتك أو بعد مماتك، سيمنح حياة جديدة لمريض مهدد بالموت، وأن الإنسان يملك جسده، فله حق التبرع ببعضه.
أما الفريق الثاني فقد بنى موقفه الرافض أو المتردد، على أحاديث نبوية، «يدل مضمونها» على حرمة التبرع بالأعضاء (لأن المتبرع لا يملك جسده)، أو حرمة مقدماتها (مثل التقطيع الذي يعتبرونه مصداقاً للمثلة المحرمة).
بعبارة أخرى، فإن الفقهاء لا يجادلون أدلة الفريق الأول، بل يعرضون أدلة تنتمي إلى عالم مفهومي وقيمي مختلف (غير دنيوي). وبالمثل، فإن الفريق الأول لا يرتاح لأدلة الفقهاء، رغم أنها مدعومة بروايات منسوبة للنبي (صلى الله عليه وسلم). هذا يكشف عن الفجوة الفاصلة بين الخطاب الديني التقليدي وحاجات زمنه. ولنا عودة إلى الموضوع في مقال مقبل بعون الله.
في القيمة الدنيوية لأحكام الدين
الفيلسوف والفقيه الأندلسي أبي الوليد بن رشد (1126 - 1198م) مع أنه يستحق التمجيد من دون أدنى شك. غرضي محدود في بيان سبق ابن رشد إلى مسائل في فلسفة الدين، ما زالت محل نقاش حتى اليوم.
كتب ابن رشد ما يزيد على 100 كتاب في مختلف العلوم، من الفقه إلى الفلسفة والفيزياء والمنطق والفلك
أحكام الشريعة قائمة كلها على أساس منطقي عقلاني. إذ يستحيل أن يحصر الخالق التكليف في العقلاء، ثم يأمرهم بما لا يقبله العقل.
الغرض الأول للدين هو تعبيد الناس لرب العالمين، عسى أن يحظوا بالنجاة في الآخرة. أما الدنيا فهي مجرد طريق يعبرها الإنسان إلى دار القرار، لا نربح شيئاً إذا كسبناها ولا نخسر شيئاً إذا فقدناها.
خلافاً لهذا، رأى ابن رشد أن صلاح الدنيا غرض جوهري من أغراض الدين. وأن إفساد الإنسان لدنياه قد يذهب بآخرته. بناءً عليه؛ فإن صلاح الأحكام والأعمال الدينية بشكل عام، يجب أن يظهر أثره في الدنيا، وليس في الآخرة، مثل القول: افعل هذا وستعرف فائدة الاستجابة بعدما تموت. لقد نزل الدين رحمة للعالمين، في الدنيا أولاً. وأن إثبات فائدته لا يتحقق إلا برؤية أثره الدنيوي.
كي لا يكون النص ضداً للعقل
ا الحاجة إلى الفصل بين الأفكار والأشخاص، وتوليف منظومة فكرية وقانونية وأخلاقية تعتمد على استدلال معياري، وليس على النسبة إلى أشخاص بعينهم.
ما دفعنا لإثارة المسألة هو أن الاستدلال بآراء علماء الدين المتقدمين والمتأخرين، تحوّل إلى تمهيد ضمني لمنع مجادلة آرائهم أو نقد منهجهم في الاستدلال
فقد تحدث أحد الخطباء في السعودية عن عمل النساء واعتبره نوعاً من السقوط. وزارة الشؤون الإسلامية تبرأت من الخطيب وخطبته. لكن عشرات الناس نصبوا أنفسهم مدافعين عنه وعمَّا قال، لأنهم رأوا فيه دفاعاً عن سنة جارية، يسندها إجماع العلماء في العصور الماضية.
والحق أن الجدل حول عمل النساء لا موضوع له أصلاً. لأن العمل ذاته من الفضائل التي حثَّ عليها الشارع المقدس
من الظن إلى اليقين... ثلاثة مستويات للمعرفة
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
«الثورة الصناعية الرابعة»
من المفهوم أن إنشاء المباني المدرسية، كان على الدوام ضرورياً لقيام عملية تعليمية منتظمة وموحدة. لكن هذا المفهوم يرجع إلى عصر سابق، يوم كان العالم جزراً متباعدة جداً. أما عالم اليوم فهو أقرب إلى قرية متواصلة. من ناحية أخرى، فإن حضور المعلم مع الطلبة في غرفة واحدة ضروري، يوم كان توصيل المادة والفكرة رهن بالنقل المباشر من شخص إلى شخص، وكانت متابعة المعلم للطلبة تقتضي التأكد من مذاكرتهم، وأدائهم للامتحان، ورؤية أوراقهم، وتصحيحها. وكان انضباط الطالب والتزامه يتجلى في سجل الحضور والغياب.
لكن العالم اليوم لم يعد كعالم الأمس. إن العملية التعليمية آخذة في التحول بشكل جوهري، فلم يعد دور المعلم كما كان في الماضي، ولا الكتاب المدرسي، ولا الأدوات المساعدة، ولا فكرة الانضباط. ومن هنا فإننا بحاجة إلى مناقشة موضوع جديد، دعني أسميه «التعليم الموازي للثورة الصناعية الرابعة» أي التعليم المتوائم مع احتياجات مستقبل العالم.
المدرسة هي أي مكان يجتمع فيه الطلاب، ربما في شارع ندرس فيه التخطيط العمراني، أو مسجد ندرس فيه الثقافة الإسلامية، أو متحف للتاريخ، أو جبل ندرس فيه طبقات الأرض أو مصنع أو معسكر أو مستشفى... إلخ.
لو كان للعلم قيمة حقاً...
كتب مثل «الإسلام يتحدى» لوحيد الدين خان، و«العلم يدعو للإيمان» لكريس موريسون، و«مع الله في السماء» لأحمد زكي، و«الطب محراب الإيمان» لخالص جلبي، والعشرات من أمثالها، خلال عقد السبعينات من القرن العشرين. وكان جميعها يحاول إثبات أن الإسلام يحترم العلم ويقر بدوره في الحياة.
دين العامة ودين النخبة
عامة الناس يتقبلون التمييز بين الدين والمعرفة الدينية، أي بين الوحي الذي وعد الله بحفظه، وبين التفاسير والاجتهادات التي أنتجها البشر، في سياق دراستهم للوحي واستنباط مغازيه.
أي دين نعني، هل هو الدين الذي نزل من السماء، أم الدين الذي فهمه الناس ومارسوه؟
في خطأ التمييز بين الإسلام والمسلمين
وفي مرة اخري ارجاء يكفي ان يقول لا اله الا الله
رفاعة الطهطاوي (1801-1873) قولاً فحواه أنَّه زار أوروبا فرأى إسلاماً بلا مسلمين، وعاد إلى الشرق فرأى مسلمين بلا إسلام. ومراده أنَّ حياة الغربيين سمتها النظافة والنظام والمساواة وسيادة القانون وحرية الفكر. وهي تطبيقات لقيم إسلامية، أو – على الأقل – حري بها أن تكون موضع احترام وتطبيق عند المسلمين. وقد وجد العكس من كل ذلك في بلاد المسلمين، فحكم بأنَّ حياتهم بعيدة عن معايير الدين وأغراضه. وزبدة ما قال، أنَّ الإسلام كامل وفيه كل خير، لكن المسلمين بعيدون عن الأخذ بهذا الخير أو الالتزام بمقتضياته.
معنى أن يكون التعليم العام واسعَ الأفق
«الثورة الصناعية الرابعة». مع هذه الثورة سنرى عالماً جديداً واقتصاداً غير ما عهدناه. وأذكر هنا بما شهد العالم من تحول في الثقافة والاقتصاد بعد الثورة الأولى، يوم صنع المحرك البخاري في أواخر القرن الثامن عشر، وما حصل عقب الثورة الصناعية الثانية، التي تنسب إلى ظهور الكهرباء ومكائن الاحتراق الداخلي، والثورة الثالثة التي ترتبط بظهور الكومبيوتر والإنترنت والأدوات الرقمية عموماً. نحن الآن نفهم التحولات الهائلة في حياة البشرية التي أثمرت عنها هذه الثورات، ونعلم أنَّ الثورة القادمة ستحمل تحولات أعمق وأوسع، ليس فقط في الاقتصاد، بل في الأخلاق والثقافة أيضاً.
إنَّ السمة الأبرز في التحولات الجارية اليوم، هي اتساع الأفق. التكامل الفائق بين الآلات في أحجامها الصغيرة، مع أنظمة الذكاء الصناعي والاتصالات عالية السرعة، أدَّى فعلياً إلى توسيع المساحات التي يراها الإنسان ويستوعبها، على نحو غير مسبوق. الواقع أنَّ انتشار الإنترنت خلال العقدين الماضيين، قد مهَّد هذا الطريق، فبات كل إنسان قادراً على رؤية أجزاء من العالم، لم يتخيل وجودها سابقاً.
لكن ما نعرفه حتى الآن هو نموذج مصغر، عما سيعرفه العالم في السنوات المقبلة. مع توفر أنظمة الاتصال الفوري بكلف منخفضة، فإنَّ كافة شرائح المجتمع ستكون متصلة بالعالم الافتراضي، ولن تعود مصادر المعلومات قصراً على المثقفين أو المهندسين أو من يتقن اللغات الأجنبية.
كل شخص على هذا الكوكب، سيكون قادراً على التفاعل المباشر مع أسواق ومجتمعات، ومصادر عيش ووسائل عمل وترفيه ومصادر معلومات، لم يتواصل معها سابقاً بسبب حواجز اللغة أو المال أو القيود السياسية. هذه كلها ستزول تدريجياً. إنَّ كثافة المعلومات وسرعة الاتصال، سوف تجعلان المراقبة والحجب المادي مكلفة وغير فعالة، أما حاجز اللغة فهو زائل بالتأكيد مع تطور برامج الترجمة الفورية الذكية.
إنَّ غالبية الناس يهتمون بالتعليم، لأنَّه الطريق الوحيد تقريباً لضمان حياة مستقرة لأبنائهم. التقديرات المتوفرة فعلاً تشير إلى أنَّ الثورة الصناعية الرابعة ستلغي 700 نوع من الوظائف، أو تحولها إلى الآلات. هذا يعني أنَّ على الآباء أن يفكروا في وظائف لأبنائهم، من نوع مختلف عما اعتادوا عليه.
في ظني أنَّ الموضوع الذي ينبغي أن يشغل القائمين على التعليم هو «سعة الأفق»، أي السمة الرئيسية للثورة الصناعية الرابعة. سعة الأفق تعني مثلاً الاستعداد التام للتكيف، مع اقتصاد جديد وأشخاص جدد وثقافات مختلفة، وأنماط عيش غير مألوفة. ومنها أيضاً إعداد الشباب كي «يخلقوا» مصادر عيشهم، ولا ينتظروا وظيفة في دائرة حكومية أو شركة. هذا يعني أن يركز التعليم على تعزيز كفاءات التفكير والإبداع عند كافة الشباب، كي لا تكون الوظيفة بالمعنى التقليدي غاية ما يطمحون إليه.
تطور التقنية سيلغي مئات الوظائف التي نعرفها. لكنه سيأتي أيضاً بفرص جديدة كثيرة جداً. المهم في كل الأحوال هو تجهيز أبنائنا بوسائل احتواء التحدي، ومن أهمها التفكير العلمي، حيوية الذهن، الإبداع، الاعتماد المطلق على الذات والرغبة في التعلم.
إنَّ الخطوة الأولى في تطوير التعليم، هو تحريكه بهذا الاتجاه، أي مساعدة الشبان كي يكونوا مستقلين، راغبين في التعلم، ومستعدين للمغامرة.
أن تنتمي إلى قوم بعينهم
الشعور القومي طبيعي، أم هو نتاج للتربية العائلية والاجتماعية؟
الشعور الطبيعي يعني أن الإنسان لا يتدخل في إنشائه أو تحديد مستواه، بل يجد نفسه جزءاً منه، لا يمكنه الانفكاك. بينما ينسبه الرأي الثاني إلى تأثير البيئة المحيطة، تماماً مثل اللغة والمعارف والثقافة، بحيث لو أن طفلاً تربى في بلد مختلف أو بين قوم مختلفين، فسوف يشعر بالانتماء إلى هؤلاء وليس إلى قوم أبويه.
عصر الحداثة، وباتت قيمة الفرد ومكانته رهناً بإنجازاته، وبهذا لم يعد مستغرباً أن ينتخب الأميركيون باراك أوباما رئيساً لبلدهم، مع أنه ابن لأب فقير مهاجر. إن نسب الفرد وانتماءه العائلي والعرقي لم يعد محدداً لقيمته، كما في الماضي.
العرب أو المسلمين خيرة الله أو الأمة الناجية، وبعضها ترهيبي مثل القول بأن الخارج منها متسافل/مرتد... إلخ، كما تأتي أحياناً في صيغة مقارنة مع «الآخرين» الأكثر التزاماً بقناعات قومهم مع أنهم أدنى منا!
الرسالة الضمنية لهذا التوجيه هي إلغاء فردانية الفرد وإبقاؤه ذائباً في جماعته، أي منعه من الاستقلال أو التمرد على القوالب المسبقة الصنع، ومنعه من التواصل مع المختلفين الذين قد يعززون جانب التمرد في نفسه.
دعوة لمراجعة مفهوم الأمة ـ القومية ـ الوطنية
بريطانيا للتحول إلى دولة متعددة الثقافات، تعترف لكل سكانها بهوياتهم الخاصة، وبما يشعرون حقاً أنهم ينتمون إليه.
قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي مؤشر واضح على صعود التيار الذي يبالغ في الاعتزاز بالذات، «وهو ميل ينصرف بالضرورة إلى انكماش على الذات».
استفتاء 2016. لكن ينبغي القول، بصورة عامة، إنَّ المجتمع البريطاني يشهد بالفعل صراعاً بين من يدعي أنَّ الأنجلوسكسونية هي الهوية الوحيدة المعبرة عن بريطانيا، وبين طرف آخر يرى أنَّ بريطانيا نموذج للعالم الجديد الذي تلتقي فيه الثقافات والحضارات، ويتعارف فيه البشر ويتشاركون حياتهم، مثل نهر كبير تصبًّ فيه عشرات الروافد الآتية من مختلف الجهات.
رؤية تجمع بين مبادئ الوطنية - القومية ومبادئ الليبرالية، وهو يدعو لما يسمى «الوطنية المدنية» أو «الوطنية الليبرالية».
القومية هي قبول التمايز بين الأمم، فالمنتمون إلى أي أمة يقررون لأنفسهم حقوقاً لا يتمتع بها أبناء الأمم الأخرى، بينما تنطلق الليبرالية من فرضية أنَّ جميع الحقوق توافقات بين البشر، وليس فيها ما هو امتياز مرتبط بالولادة أو العرق. إنَّ الجمع بين المفهومين يتطلب قراءة ناقدة لكل منهما وتنازلات متبادلة.
*
المسألة القومية واستقلال الفرد
نظامين اجتماعيين: نظام يقدس استقلال الفرد، ويتجسد الآن في التيار العام لليبرالية، في مقابل نظام يقدس الجماعة ولا ينظر للفرد إلا من زاوية انتمائه إليها
مقولة أرسطو الشهيرة «الإنسان حيوان اجتماعي»، أو «حيوان سياسي»
اللغة والقابلية للكلام، هي صلة الوصل بين الفرد وعالمه، فبقدر استعمالها ينشط عقله وتزداد قدرته على فهم العالم. ولو اعتزل العالم وعاش في صحراء، أو نشأ بين حيوانات الغابة، فقد ينمو متوحشاً أو شبيهاً بالمتوحشين، ولن يكتشف الطريق إلى الكمال الإنساني.
الفرد لا يقرر هويته ولا مكانه الاجتماعي، بل «يجد نفسه فيه».
عليه أداء الواجبات التي يقررها النظام الاجتماعي، كي يمسي مستحقاً للهوية والمكانة والحماية، التي يمنحها المجتمع لأعضائه.
الإيثار أسمى الفضائل، وإن أصدق معانيه يتجسد في قيام الفرد بأمر الجماعة، حتى لو لم يحصل على شيء في المقابل.
أما في العصور الحديثة فقد تراجعت هذه الرؤية. وبرزت بدلاً عنها الرؤية الليبرالية، لا سيما في نسختها الفردانية، التي تركز على استقلال الفرد، وكونه حراً في اختيار حياته والإطار الاجتماعي - الثقافي أو العقيدي - الذي يود أن يحمل هويته. العلاقة التي تقوم بين الفرد والجماعة هنا اختيارية إلى حد كبير. يمكن للفرد أن يستمر فيها أو يتخلى عنها إن شاء. كما أنَّها علاقة تفاعلية، حيث يتأثر الفرد بالنظام الاجتماعي، ويؤثر فيه، كما يسهم في تطوير الهوية الجمعية أو حتى إعادة صياغتها.
مكانة الفرد هي الفارق الرئيسي بين الرؤيتين. في الرؤية القديمة الفرد مجرد تابع للجماعة، يحمل هويتها ويتبنى مواقفها، كي يحصل على الحقوق التي تقررها الجماعة لأعضائها. أما في الرؤية الحديثة فإنَّ الفرد هو محور الجماعة، وهو عضو فيها باختياره، لكنه يملك الحق في التخلي عنها أو تعديل شروط علاقته معها والهويات الأخرى التي يريد أن يحملها في مجاورة الهوية الرئيسية.
وأظننا جميعاً نلاحظ أن النسخة الآيديولوجية للقومية والأممية، تهتم بالتضحية الفردية من أجل الجماعة، وتصنفها بين أرفع القيم، لكنها نادراً ما تتحدث عن حقوق الأفراد على النظام وما يتصل بهذا من أمور.
*
هل تختار مدرسة أجنبية؟
أصحاب الخيار الأول (الإنجليزية فقط) يرون أن التعليم باللغة الإنجليزية سيضمن لأبنائهم وظائف ممتازة. وبعضهم سيقول أيضاً إنَّ الإنجليزية هي لغة العلم الحديث. وآخرون سيقولون إنَّها لغة التواصل مع العالم. فمن أراد العلم أو أراد التواصل مع العالم، فلا بدَّ أن يتقن الإنجليزية.
أما أصحاب الخيار الثاني (المختلط) فهم في الغالب من المحافظين، الذين يخشون انقطاع أبنائهم عن التراث الإسلامي ومصادره الثقافية. لكنَّهم في الوقت نفسه يعتقدون أن الإنجليزية ضرورية لضمان الارتقاء الوظيفي أو النجاح في الحقل العلمي
قسمين، الأول يدرس مادة علمية في الطب أو الهندسة أو الفيزياء باللغة الإنجليزية فقط، والثاني يدرس المادة نفسها باللغة العربية فقط. فأي القسمين سيكون أفضل استيعاباً للمادة العلمية؟
أعلم أيضاً أنَّ الجواب حاضر لديك. وهو أنَّ القسم الثاني، أي الدارسين بالعربية هم الأكثر استيعاباً.
وهناك مشكلة أخرى، دعنا نفترض أنَّ الطلبة درسوا الهندسة باللغة العربية، وأتقنوها كل الإتقان. لكنَّهم بعد ذلك انضموا لشركة أجنبية. فكيف سيتفاهمون مع المهندسين والموظفين الأجانب، كيف سيفهمون مصطلحاتهم وأساليبهم؟
هذه إذن مشكلة تتعلق بالوظيفة، وليس بالتعليم نفسه. لأنَّه يمكن للطالب أن يتعلمَ الإنجليزية لغةً ثانية، هذا لا يتطلب أن يدرس بها.
ما طبيعة سوق العمل الذي نريد إعداد الشباب له؟ بل كيف نجعل التعليم صانعاً لسوق العمل، بدل أن يكون منفعلاً به؟ ومنها أيضاً؛ هل نريد توطين العلم وإنتاجه وتشبيكه في نسيجنا الثقافي؟ ومنها؛ هل نريد استخدام التعليم في توحيد الثقافة الوطنية والهوية الوطنية التي تنبثق منها؟ مناقشة هذه الأسئلة ستساعدنا في تحديد الخيار الأنسب للبلد ولمستقبلها كله. ولو بدأنا بها فلعل النقاش يأخذنا لمسار آخر.
*
تجربة تستحق التكرار
الصين تعرفت على أبحاث الذكاء الصناعي بعد إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي لعام 1980. ومع ذلك فهي اليوم توشك أن تنتزع ريادة هذا الحقل من الولايات المتحدة.
*Mar 17, 2021
ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني؟
عدم مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل. وخلاصة هذا الحديث، أنَّ الآلاف من طلبة الثانويات والجامعات الذين ينهون دراساتهم كل عام، لا يحصلون على وظائف بصفة مباشرة؛ للقيام بالمهن والأعمال المطلوبة.
ولولا أنَّ المدارس توفر قوة عمل مناسبة (وهذه بدورها توفر المداخيل للحكومات) لما أنفقت الدول الأموال على بناء المدارس، وتوظيف المعلمين وتوفير التعليم المجاني. لولا حاجة سوق العمل إلى قوة عمل مدربة، لبقي التعليم – كما كان في القرون الغابرة – امتيازاً لشريحة صغيرة من الناس فحسب.
سبع دول صناعية على الأقل (بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وكوريا الجنوبية) تتحدَّث عن «قلق» بين كبار المسؤولين والمخططين، من عجز النظام التعليمي عن الاستجابة للتحولات السريعة التي تشهدها أسواق العالم. وأذكر على سبيل المثال أن مسؤولاً رفيعاً في بريطانيا استشهد بتقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2015) يكشف عن تفوق طلبة سنغافورة وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية في الرياضيات على نظرائهم الأوروبيين كافة. وقال المسؤول (ولعله وزير الدولة المكلف الجامعات)، إنَّ هذا لا يمثل خطراً فورياً، لكنَّه يشير إلى المخاطر المحتملة في العشرين عاماً المقبلة، حين يتحول قطار الاختراع والإبداع إلى البلدان الأكثر تقدماً في الرياضيات والعلوم والحوسبة.
معظم الآباء يريدون إعداد أبنائهم كي يحصلوا على وظائف ذات أجور مجزية، بحسب المعطيات والمعايير التي يرونها أمامهم اليوم. وهم ينظرون للمسألة من زاوية شخصية، فحواها أنَّ ضمان المستقبل يكمن في وظيفة مريحة بأجر جيد (أي أنَّ هناك شخصاً آخر سيتحمل مسؤولية توفير الراتب لأبنائهم).
، أن نعدَّ أبناءنا كي يكونوا صناعاً ومبدعين ورجالَ أعمال يقررون اتجاه السوق وحاجاتها. في الخيار الأول السوق القائم هو الذي يحدد اتجاهات التعليم. في الخيار الآخر نظام التعليم هو الذي يحدد اتجاهات السوق وحاجاته بعد عشر سنين أو عشرين سنة.
أظنُّ أنَّ ما ينبغي أن نسعى إليه على المستوى الوطني قد بات واضحاً الآن. المهم أن نختار ونقرر بأنفسنا لأنفسنا، بدل أن ننساقَ في خيارات يقررها آخرون.
*
Apr 21, 2021
ى كتاب جون ستيورات ميل «حول الحرية»
الحرية تتعارض مع مفهوم المسؤولية المشتركة؛ حيث كل شخص مسؤول عن المجتمع، ويتحمل جزءاً من عبء الحياة المشتركة. إذا بات الناس أحراراً، فإنَّ كثيراً منهم لن يلتزموا بالقانون، ولن يحترموا الأعراف، وستصبح الحياة عسيرة على أولئك الذين يودون الالتزام بما ورثوه، من قيم وعادات وطرق معيشة.
هذه الاعتراضات، فقد ترى أنَّها ذاتها التي يكررها معارضو الحرية، في المجتمع العربي في هذا الزمان. تذكر أنَّ الكتاب الذي نتحدث عنه طبع في 1859. أي قبل 162 سنة بالتمام والكمال.
القضايا المرتبطة بالحرية وتطبيقاتها، لا تزال مورد جدل بين الفلاسفة والأكاديميين في العالم الغربي، وبين السياسيين وأهل الثقافة والناشطين في المجال الديني، فضلاً عن عامة الناس في المجتمعات الشرقية.
فنقاشات العرب في مسألة الحرية ما زالت عند مستوياتها الابتدائية، من قبيل؛ هل الحرية ضرورة للحياة الإنسانية أم لا؟ وهل هي حق أصلي أم هي هبة المجتمع للفرد؟ وهل يجوز للدولة تقييدها مطلقاً أم لا؟ وهل تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؟... إلخ.
إنَّ هذا المستوى الابتدائي من النقاش، قد انتهى منه العالم الغربي قبل قرن أو يزيد. لكنه في مجتمعاتنا ما زال على هذا الحال. وكلما طرحت المسألة نهض أحدهم قائلاً؛ الحرية تؤدي إلى خراب الدين وخراب الدولة، فسكت الجميع خائفاً من الرد.
يقوله جون ستيوارت ميل عن مكانة الحرية، بالقياس إلى بقية القيم: «لو اجتمع البشر كلهم على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان من حقهم أن يسكتوه. وبالقدر نفسه فإنه ليس لهذا الفرد أن يسكت الناس، حتى لو امتلك القوة والسلطة أو اعتقد أن ما يراه هو الحق الكامل».
ما الذي يحمل الفيلسوف على منح الحرية في التعبير هذا المقام الرفيع؟
دعنا نستمع إليه مرة ثانية، حين يقول: «إذا أسكتنا صوتاً، فربما نكون قد حجبنا الحقيقة. لعلَّ الرأي الذي نراه خاطئاً، يحمل في طياته بذور فكرة صائبة أو حقيقة خفيت علينا... انفراد شخص برأي لا يجعله خطأ، واتفاق الناس على رأي لا يجعله صحيحاً... إنَّ الرأي المتفق عليه مثل الرأي الفردي، لا يصحُّ ولا يقبل عند العقلاء، إلا إذا خضع للتجربة والتمحيص».
*
يحبون الحرية ويخشونها
الناس كافة يحبون الحرية ويكرهون القيود. بعضهم يود أنْ يحصلَ عليها وحده دون بقية الناس. قد تسمي هذا أنانية أو ما شئت من الأسماء. واقع الأمر أنَّ هناك من يؤمن ببعض الرؤى المتقدمة، لكنَّه أيضاً يشعر بالقلق من أن يتبناها عامة الناس. أو لعله يقوم بأفعال مغايرة للسائد، لكنَّه لا يرغب في أن يفعلها غيره.
حملات متواصلة على برنامج الابتعاث الجامعي في أوائل العقد الماضي، بدعوى أنَّ المبتعثين صغار في السن، ويخشى عليهم الانجراف وراء الشهوات، إذا تخلصوا من رقابة الأبوين. ومرَّت سنوات قليلة فإذا بنا نسمع أن أبناء السيدة الجليلة يدرسون في الولايات المتحدة... كيف يا دكتورة؟... تساءل الناس، فكان الجواب أنَّ أبناء الدكتورة محصنون، بخلاف عامة الناس.
وأذكر في سنوات الشباب، من كان يحذّرنا من اقتناء أو قراءة كتب معينة، فلمَّا وجدناها في مكتبته الخاصة، برر اقتناءها بأنَّه يعرف ما ينفع وما يضر.
– أنَّ الذين يعارضون تمتع الناس بحرياتهم، لا يرونها سيئة تماماً، بل يخشون من تمرد الناس على النظام الاجتماعي، إن لم يكونوا مؤهلين للتعامل مع ظرف الحرية.
يبدو لي أنَّ الفلسفة المعاصرة تميل عموماً، إلى تقديمها على قيمة العدالة. وكانت هذه تعد القيمة العليا عند قدامى الفلاسفة. ذلك أنَّ غالبية الفلاسفة المعاصرين يرون الحرية شرطاً قطعياً لتنجيز مفهوم العدالة، أي أنَّ العدالة تحتاج إليها، بينما لا تحتاج الحرية إلى أي قيمة أخرى، كي يتنجز مفهومها.
المكان الرفيع الذي احتلته الحرية في سلم القيم الناظمة لحياة البشرية، هو الذي جعلها محل جدل منذ أن تبلورت الفلسفة وبرزت كحقل علمي مستقل، حتى يومنا الحاضر. وقد أشرت في مقال سابق إلى ما ذكره المفكر البريطاني أيزايا برلين من أنَّ تاريخ الأفكار، سجَّل ما يزيد عن 200 مفهوم - تعريف للحرية، الأمر الذي يكشف عن سعة النقاشات المتعلقة بها والدائرة حولها.
الحرية هي المسألة الأولى في العلاقة بين الدولة والمجتمع، والحرية هي الشرط الأهم لتقدم الأفكار وتبلور الإبداع، وهي ضرورة لا يمكن استبدالها للنهوض الاقتصادي، ولا سيما الذي يعتمد على تسخير النتاج الذهني والتقنية المتقدمة.
العلاقات الوثيقة لم تحظَ باهتمام في العصور القديمة. ولم تقدر حق قدرها، إلا بعد انفجار التمرد على الكنيسة الكاثوليكية في أوساط المثقفين وأهل العلم، في عصر النهضة الأوروبية. وقد عبَّر عن هذا التحول الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي كتب قائلاً؛ ما لم يترك الفرد كي يعيش بالطريقة التي تحقق ذاته، فلن يكون هناك تقدم حضاري. لن تظهر الحقيقة إلى النور ما لم يكن ثمة سوق حر لتبادل الأفكار. ولن تكون هناك مساحة للإبداع العفوي، للأصالة والعبقرية، لن يكون هناك مكان للطاقة الذهنية، أو الشجاعة الأخلاقية، وأخيراً فإنَّ المجتمع سيغرق في مستنقع التفكير الساكن البطيء.
الحرية بوصفها مشكلة
منتصف القرن العشرين، اشتبك النقاش في الحرية، مع نقاش موازٍ في المساواة والعدالة. وبرزت نظريات تدعو لتكليف المجتمع والدولة، مسؤولية تحويل الحرية من تطلع مثالي إلى واقع يومي. ومن هذه الزاوية، باتت الحرية جزءاً من مفهوم العدالة الاجتماعية. بل إنَّ تنسيج الحرية في المنظور الفلسفي للعدالة الاجتماعية، كان الرد الرئيس للنهج الليبرالي على نظيره الماركسي، الذي أنكر إمكانية الحرية، قبل تحقيق مستوى معيشي معقول.
شعار «الحرية أغلى من رغيف العيش» الذي كان يطرح لتبرير حروب التحرر الوطني في بعض الأحيان، وصراعات التحرر الاجتماعي، أحياناً أخرى. مع أنَّه في حقيقة الأمر، لم يتحول إلى معيار قطعي. فقد بقيت الحرية متأخرة عن رغيف العيش، من حيث القيمة المطلقة.
تجربة التمدن الغربي برهنت بما يقطع الشك على أنَّ الإنسان الحر أقدر على تدبير لقمة العيش لنفسه ولغيره، بخلاف الإنسان المقيد (مادياً أو ذهنياً أو روحياً) الذي لا يستطيع مغادرة مكانه، ولا التفكير في بدائل عن الوضع الذي هو فيه.
منذ زمن سحيق ساد منظور يرى أنَّ التقدم، أي حل مشكلات الإنسان ومشكلات العالم، يكمن في الاستثمار الأكفأ لموارد الطبيعة. أرى اليوم منظوراً مختلفاً يتبلور بالتدريج، فحواه أنَّ تلك الحلول موجودة في ذهن الإنسان، وأنَّ ما يحتاجه الإنسان هو «التحرر» من قيود الأفهام المسبقة، التي تعيق رؤية تلك الحلول. هذا يعادل تحول التركيز من العتاد (الهاردوير) كمحور للعمل إلى الطريقة (السوفتوير) وهو تحول سيعرفه أكثر الناس.
Apr 21, 2021
الإثم الأصلي
المجتمعات الشرقية تميل في مجملها للرؤية القائلة بأنَّ الناس لو تركوا وشأنهم، فالمرجح أن ينزلقوا إلى النزاع، حتى يقتل بعضهم بعضاً. كما أشرت في السياق إلى رأي أفلاطون، الذي قال إنَّ خوف الناس من العقاب هو الذي يدفعهم لاحترام القانون، وليس اقتناعهم به أو إيمانهم بضرورته للحياة السليمة، وأنَّ هذا المبدأ يتخذ عادة كمبرر للسلطة الخشنة.
القديس أغسطين (354 - 430م) في كتابه «مدينة الله»، الذي يعد أول تصوير متكامل للنظرية السياسية الكاثوليكية. وفقاً لرؤية أغسطين، فإن الإنسان مذنب بطبعه، ومحكوم بالإثم الأصلي (original sin)، الذي أنزل أبانا آدم إلى الأرض. ولذا فلا بدَّ للمجتمع الإنساني، من سلطة قادرة على منع الآثمين من الاستغراق في خطاياهم. كما تبنَّى موقف أرسطو، القائل بأنَّ نظام الكون يقتضي وجود شريحة من الناس وظيفتها الحكم، وشرائح أخرى وظيفتها الطاعة. تقاسم الأدوار هذا ضروري لإقامة العدل من جهة، وهو علاج للإثم الأصلي من جهة أخرى. كما رأى أنَّ السلطة الجبرية ضرورية، وأنَّ العدل غير قابل للتحقق إلا في دولة دينية، تقيمها الكنيسة أو تخضع لتوجيه الكنيسة.
القائلين بفساد الفطرة البشرية وميل الإنسان الطبيعي للشر، يشتركون في موقف آخر هو إيمانهم بعدم التكافؤ بين البشر، وبالتالي فإنَّهم لا يرون المساواة ضرورة للعدالة، بل ولا يعتقدون بضرورتها. وفقاً للعلامة الحسن بن مطهر الحلي (1250 - 1325م)، فإنَّ «الغالب على أكثر الناس القوة الشهوية والغضبية والوهمية، بحيث يستبيح كثير من الجهال لذلك، اختلال نظام النوع الإنساني». ورأي الحلي هذا، مطابق لرأي غالبية معاصريه من الفقهاء ومن جاء بعدهم.
ومال غالبية القدامى (ومن تبعهم من المعاصرين) إلى أنَّ التفاوت يبدأ في لحظة الولادة. وحسب رأي أرسطو، فإنَّه «من أجل انتظام الحياة، قضت الطبيعة للكائن الموصوف بالعقل والتبصر أن يأمر بوصفه سيداً. كما قضت للكائن القوي البدن أن ينفذ الأوامر بوصفه عبداً. وبهذا تمتزج منفعة السيد ومنفعة العبد». ويؤكد في السياق نفسه، أن الله - في لحظة الولادة - «يصب من الذهب في نفس فريق، ومن الفضة في نفس فريق آخر، ويصبُّ النحاس في نفس هؤلاء الذين يجب أن يكونوا صناعاً وزراعاً».
وبمثل ما اختلف الناس في المكانة والمؤهلات والقيمة في لحظة الولادة، فسيبقون على هذا النحو طوال حياتهم، حيث قرر أفلاطون، أستاذ أرسطو، بأنَّ العدالة لا ترتبط بالمساواة. تكون الدولة عادلة في رأيه إذا رضي كل صاحب حرفة بما أهلته له طبيعته، إذا رضي الصانع والفلاح مثلاً بوضعه، ولم يحاول ممارسة عمل غير ما هو مؤهل له طبيعياً. بعبارة أخرى، فإنَّ العدالة تكمن في المحافظة على الفوارق بين الناس وليس في إلغائها، كما يميل إنسان العصر الحديث.
فيه مقال لسه قريب اسمه الحرك الاجتماعي
الارتياب في الفطرة البشرية، متصل بموقع العدالة في ثقافتنا العامة. وأظنُّ أنَّ هذا قد اتضح الآن، على الأقل فيما يخص أبرز أركان العدالة وتجلياتها، أي مبدأ المساواة بين الناس.
Jun 23, 2021*
العدالة الاجتماعية: رؤية جون رولز
الموضوع الأكثر إثارة للجدل السياسي على امتداد العالم. ربما لا يذكر كثير من الناس هذا العنوان؛ لكنَّهم يتحدَّثون عن التفصيلات التي تندرج تحته. خذ مثلاً مسألة السكن: هل هي مسؤولية الدولة أم مسؤولية الأفراد؟ خذ أيضاً كفاءة الخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية والمواصلات وتوليد الوظائف.
إعلان الحكومة التزامها تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين؛ من بينها الخدمات العامة كافة المذكورة أعلاه، من دون تمييز بين سكان المدن والقرى، أو بين من يدفعون الضرائب ومن لا يدفعون.
هذا النموذج انعكاس قوي جداً في المجتمعات الأوروبية، حيث تحول المنظور الاشتراكي إلى ملهم للطبقات الفقيرة. ومنذ ذلك الحين، اتسع النقاش حول «واجب» الدولة في تأمين حد أدنى من ضرورات المعيشة لمواطنيها، وأنَّ وفاءها بهذا الواجب معيار لشرعيتها السياسية؛ أي حقها في الأمر والنهي والتصرف في الشأن العام.
فلاسفة أنكروا أن تكون «العدالة الاجتماعية» موضوعاً حقيقياً أو شيئاً يستحق النقاش. أبرز هؤلاء على الأرجح هو الاقتصادي والفيلسوف النمساوي فريدريك فون هايك، الذي رأى أنَّ العدالة وصف للفرد وليس للفعل، خصوصاً الأفعال التي يشارك في إنشائها مئات الأشخاص (كما هي الحال في الخطط الحكومية). لكن الاتجاه العام في الفلسفة السياسية الحديثة، يدور حول النظرية التي طورها الفيلسوف الأميركي جون رولز، والتي يطلق عليها اختصاراً اسم «العدالة بوصفها إنصافاً».
وفقاً لرؤية رولز؛ فإنَّ «العدالة الاجتماعية» تسمح بتوزيع للمنافع ذي طبقات متعددة. فهناك منافع اجتماعية يجب أن توزع بالتساوي؛ منها الحقوق الأساسية للإنسان، كحرية التعبير والاعتقاد والتقاضي والعمل والانتقال وتكوين العائلة، وكذلك الحقوق المرتبطة بالمواطنة، لا سيما حق الوصول إلى الوظائف العامة، والاستفادة المتساوية من الأموال العامة، والتساوي أمام القانون.
وثمة منافع ينبغي توزيعها تبعاً لحاجة المتلقين؛ منها الدعم المباشر لمحدودي الدخل، وتوفير السكن والرعاية الصحية لمن تقصر مداخيلهم عنها. والغرض من هذا هو ضمان حد أدنى من لوازم العيش الكريم للمواطنين كافة، بمعنى أنَّ الأكثر حاجة قد يتلقى منافع أكثر من غيره.
ثمة منافع يمكن توزيعها بشكل متفاوت، شرط أن تُتاحَ لكل المواطنين فرصٌ متساويةٌ للحصول على نصيب أكبر منها. مثل مكافأة ذوي الإنجازات والمبتكرين، والموظفين الذين يقدمون خدمات نادرة... إلخ. يمكن تبرير هذا التمايز اعتماداً على مبدأ الاستحقاق والجدارة. كما يمكن تبريره بأن منح الأشخاص المنتجين حوافز مادية، سوف يعزز قيمة الإبداع والعمل الجاد، ويشجع على توسيع إنتاج السلع والخدمات التي تحتاجها السوق؛ الأمر الذي ينعكس إيجابياً على معيشة أعضاء المجتمع كافة.
زبدة القول إنَّ النظام الاجتماعي العادل، يتَّسم - وفقاً لهذه النظرية - بثلاث خصائص
الأولى: يجب أن يحصلَ الأفراد كافة على منظومة شاملة من الحريات الأساسية والمدنية المتساوية.
الثانية: الوظائف العامة التي يتمتع شاغلوها بمزايا أكبر (الوظائف الأعلى أجراً، على سبيل المثال) يجب أن تكونَ متاحة لجميع الأفراد على أرضية مبدأ تكافؤ الفرص.
الثالثة: يُسمح بعدم المساواة في الدخل والثروة؛ إذا كان سيفيد أفراد المجتمع الأقل حظاً. ومن ذلك أيضاً الحوافز التي تزيد الإنتاجية الإجمالية للمجتمع، وبالتالي تسمح بتوجيه مزيد من الموارد المادية إلى الطبقات الأقل دخلاً.
*
Jul 7, 2021
عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي
عالِم الاجتماع الأميركي مانويل كاستلز إلى تحليله البارع لمفهوم «الشبكة»، ودورها المحوري في تشكيل عالم اليوم.
فكرة «الشبكة» من كتابات كارل ماركس. فهي تمثل عنصراً محورياً في تحليل ماركس لنشوء الرأسمالية، لا سيما في شرحه لدور التواصل الفعال بين قوى الإنتاج، في تكوين فائض القيمة، ومن ثم إعادة تكوين رأس المال، وهي المعادلة التي اعتبرها مفتاحاً لفهم الاقتصاد الرأسمالي.
العلاقة بين اتساع الاعتماد على سلاسل البيانات المشفرة (البلوكشين)، وبين الضمور المتوقع لدور الدولة كضامن للملكية الخاصة. «البلوكشين» يلغي الحاجة إلى «كاتب العدل/ الشهر العقاري» وسجلاته، فهل سيؤثر هذا على مفهوم الدولة وأدوارها؟
*
Nov 17, 2021
تفارق الأفهام بين المجتمع والدولة
أشعر بأن غالبية الدول العربية؛ سيما التي تعيش ظروفاً متأزمة، في حاجة لمراجعة الأرضية التي تقوم عليها شرعية الحكم. مفهوم الشرعية السياسية ينطوي في جواب السؤال التالي: ما المبرر الذي يعطي شخصاً ما أو هيئةً ما الحق في الأمر والنهي والتصرف في أموال الناس وأنفسهم؟
مراجعة وتجديد مصادر الشرعية، في ظرف الاسترخاء السياسي على وجه الخصوص.
الجمهور والنخبة السياسية.
تحاول النخب السياسية العربية تبرير سلطانها بالرجوع إلى القانون. فهي تقول إنها تحكم في إطار قانون معلن، وإن أوامرها ونواهيها صادرة وفق هذا القانون. أما الجمهور؛ فما زال يعدّ صاحب السلطة مسؤولاً - بصفة شخصية - عن الوفاء بما قطعته الحكومة من وعود، وما توقعه الجمهور من تحسن لأوضاع المعيشة والأمن... إلخ.
جان جاك روسو، الفيلسوف الفرنسي، هو الذي وضع مفهوم الشرعية
التفاهم الضمني بين الجمهور والنخبة. أوضح روسو مفهوم الشرعية في مقولته الشهيرة: «الأقوى ليس قوياً تماماً، حتى يقتنع الناس بأن ولايته عليهم حق له، وأن طاعتهم أمره واجب عليهم». «الشرعية السياسية» من أبرز مباحث علم السياسة المعاصر. ويبدأ بحثها عادة بشروحات ماكس فيبر، مؤسس علم الاجتماع الحديث، الذي عالج المفهوم كما هو في الواقع، وبغض النظر عن تفضيلاته الخاصة.
فيبر عن نموذجين للشرعية السياسية: تقليدي وعقلاني. أما التقليدي؛ فيدور غالباً حول شخص الزعيم، الذي يراه الجمهور صاحب حق في السلطان، بغض النظر عن ممارسته السياسية الفعلية. مع مرور الوقت وبروز أجيال جديدة، يبدأ الناس التفكير في «إنجازات» الزعيم، بوصفها عاملاً شريكاً في استمرار شرعيته.
لكن «الإنجاز» مفهوم قصير الأمد؛ بسبب المسافة الواسعة بين توقعات الناس وقدرة الدولة على تحقيق تلك التوقعات. يخضع عمل الدولة لـ«قانون الندرة»، الذي هو في الوقت ذاته السر وراء صعوبة إرضاء الجمهور («رضا الناس غاية لا تدرك»؛ كما نقل عن لقمان الحكيم).
لكن «الإنجاز» مفهوم قصير الأمد؛ بسبب المسافة الواسعة بين توقعات الناس وقدرة الدولة على تحقيق تلك التوقعات. يخضع عمل الدولة لـ«قانون الندرة»، الذي هو في الوقت ذاته السر وراء صعوبة إرضاء الجمهور («رضا الناس غاية لا تدرك»؛ كما نقل عن لقمان الحكيم).
طالب الناس بأكثر مما تستطيع الحكومة إنجازه، فتضطر الحكومة لتذكيرهم بالقانون، وهو الإطار الحديث - العقلاني للشرعية السياسية. أي إنها تتحول من التأكيد على الإنجاز مصدراً لشرعية سلطانها، إلى التأكيد على القانون إطاراً ناظماً لهذه الشرعية ومبرراً لاستمرارها.
اعتقادي أن تركيز الجمهور على الأشخاص مرهق لهم وللدولة معاً، فضلاً عن أنه غير عقلاني وغير مفيد. إن الصورة المثلى للإدارة العامة تتجلَّى في الفهم المشترك بين الجمهور والنخبة لقدرات كل طرف وحدوده، والإطار الناظم للعلاقة بين الطرفين، كي لا تتحول إدارة البلد إلى نوع من التجاذب وترامي المسؤولية، بدل التعاون على حمل الأعباء المشتركة. هذا يعني بالتحديد تحويل مفهوم القانون والشرعية المستندة إليه، إلى جزء نشط في الثقافة العامة، والتأكيد على خضوع الجميع؛ حكاماً ومحكومين، لمقولاته، سيما في البلدان التي تعيش ظروف أزمة.
*Dec 1, 2021
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
لولا تقبلُ العقلاء الاختلافَ في الرأي والاجتهاد، لانجبر الناس في طريق واحدة، ومات العلم. الخلاف والاختلاف هما الماء الذي تحيا به شجرةُ العلم.
اعتقاد كثيرٍ من عامة الناس، بأنَّ ما يسمعونه من الخطيب أو الفقيه، وما يقرأونه في كتب الفقه، هو نفس ما قاله النبي أو صحابتُه الذين سمعوا منه. وإذا كان ثمة اختلافٌ، فهو قصر على الشرح والتوضيح، ولا يخالف الأصل في كثير ولا قليل. وهذا غير صحيح طبعاً.
ما يقوله الخطيب أو الفقيه هو اجتهاده الخاص، أو اجتهاد من يرجع إليه. بديهيٌ أنَّه ليس كل حافظ للقرآن والحديث، قادراً على الاستدلال واستخراج الحكم الشرعي. ولو كان الاستدلال بهذا اليسر لما احتجنا إلى متخصصين في علوم الشريعة، ولاكتفينا بكتب النصوص المعتمدة التي تتوفّر لكل من يطلبها، مع شروحها وتفاسيرها.
نعلم أنَّ الاستدلال عمليةٌ مغايرة لقراءة النص وشروحه. الفرق هنا يماثل الفرقَ بين عالم الميكانيكا، وبين شخص قرأ دليل الاستعمال أو ربما أخذ دورة في صيانة المحركات. فالأول محيطٌ بالقواعد العلمية التي تحكم عمل المحرك والتقنيات المستخدمة فيه، وبالتالي فهو مؤهل لتعديل المحرك إن اقتضى الأمر. أما الثاني فحدُّه الأقصى هو تنظيف المحرك أو ربما إصلاح بعض أعطاله، بمعنى المحافظة عليه كما هو.
لماذا لا يتَّكل طلبة العلم الشرعي على اجتهادات من سبقوهم، بدلاً من أن يعيدوا النظر فيها ويطرحوا آراء جديدة، غير التي اعتاد عليها الناس؟
الجواب بسيط: تخيَّل لو بقيَ الناس على الرأي القديم القائل بحرمة التصوير، أو حرمة المطبعة أو السفر إلى البلاد الأجنبية أو تعلم الجغرافيا والفلسفة واللغات الأجنبية، وحرمة التعامل مع البنوك... إلخ... كيف سيكون حال الناس وحال دينهم؟
لولا الاجتهاداتُ الجديدة، لكان الناس في حرج شديد، بل ربما تخلوا عن دينهم من أجل ضرورات الحياة. هذه أمثلة بسيطة تظهر أنَّ الاجتهاد، أي نقدَ الآراء السائدة والبحث عن بدائل، هو الطريق الوحيدة لتمكين الناس من الجمع بين متطلبات دينهم وضرورات دنياهم.
ضرورة المراجعة المستمرة للخطاب الشرعي، من أجل تكييفه مع ضرورات الحياة الجديدة؛ كي لا يقعَ الناسُ في الحرج. هذه الضرورة هي التي تملي علينا قبول الاختلاف والمخالفة، حتى لو تعلقت بما نعتقد أنَّه من الأساسيات والثوابت.
*
Dec 29, 2021
مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية
يظنُّ بأنَّ أحكامَ الشرع ثابتة، لا تختلف بين زمن وآخر. وأنَّ ما يقوله فقهاءُ اليوم هو عينُ ما جرى على لسان الرسول والصحابة. أمَّا عموم المسلمين فيعرفون أنَّ الأحكامَ الشرعية والقوانين والقيم والأعراف والتقاليد والآراء، تتغيّر بمرور الزمن واختلاف الظروف المعيشية وحاجات الناس.
تجاذبٌ بين طرفين: طرف يدعو لقبول المعنى المتولد من ظاهر النص المقدس، سيَّما النصّ الصريح المحدد، وطرف يدعو لتجاوز الظاهر والعبور من اللفظ إلى الرسالة المخزونة فيه.
غالبية المهتمين بعلوم الشريعة (بل وحتى عامة الناس) مقتنعون بالرأي الثاني، أي عبور اللفظ إلى ما وراءه. لكنَّهم عند التطبيق وفي الاستشهاد والمحاججة، يذهبون إلى الرأي الأول. فتراهم يبحثون عن نصّ صريح، آية قرآنية أو حديث نبوي، يقول على وجه الدقَّة ما يريدون الاحتجاج له أو الاستشهاد عليه.
معضلة، أبرز ما يترتب عليها هو إبقاءُ البحث في النصّ المقدس سطحياً، ومحصوراً في المجال اللغوي ضمن المنهج القديم.
اللغة منتجٌ بشري، يتأثَّر – مثل سائر منتجات البشر – بالظرف الموضوعي لصانعه ومستعمله، أي ما سمَّاه الفلاسفة التأويليون «الأفق التاريخي» للمتلقي.
*
المعرفة الدينية صورة عن زمن الناس
«علمُ الدين» أكبرَ حجماً من النَّص الدِّيني. لأنَّ الشرحَ والتفسير أوسع دائماً من النَّص المراد شرحه وتفسيره.
في كل العلوم والفنون.
كتاب جون رولز «نظرية في العدالة» الذي ضمَّ نظريته المشهورة في بضع صفحات، لكن مبرراتها وأدلتها جاوزت الخمسمائة صفحة. أمَّا ما كتبه باحثون آخرون حولها أو تحت تأثيرها، فقد تجاوز 100 كتاب، فضلاً على مئات المقالات.
ليس غريباً أن تجدَ 300 تفسير للقرآن في أكثر من ألف مجلد. أمَّا كتب الفقه فعدّدها بالآلاف. وقد اطلعت على تطبيق إلكتروني، جمع ما يزيد على ألف مجلد لفقهاء من مذهب واحد، فكيف بكتب الفقه كلها.
يوماً ما، في القرن السادس الميلادي، كان علمُ الدين محصوراً في الكتاب والسنة، أي ما يعادل خمسة مجلدات (بمعايير اليوم). أما الآن، فالمنشور في هذا الحقل يجاوز آلاف المجلدات.
غالب النقاشات في الحقل الديني، يتناول آياتِ الأحكام وأحاديث الأحكام، أي الآيات والروايات التي تدلُّ مباشرة على حكم شرعي. والمشهور أنَّ الآيات المقصودة تبلغ 500 آية، أي نحو 8 بالمائة من مجموع آيات القرآن. أما أحاديث الأحكام فقد نقل أبو يعلى الفراء عن الإمام أحمد أنها 1200، أي نحو 15 في المائة من مجموع ما يصنف ضمن الأحاديث الصحيحة.
معنى هذا الكلام أنَّ تسعة أعشار ما يقال أو يكتب في أمور الدين ينتمي إلى دائرة «علم» الدين وليس إلى الدين نفسه. إنَّها بعبارة أدق حواشٍ وشروحات وتفسيرات واجتهادات حول النص الديني، وهي جهد بشري يتأثر بالمستوى العلمي لكاتبه أو قائله، وظرفه الزماني والمكاني، وبمقدار ما يتوفر له من مراجع، فضلاً عن همومه وانشغالاته الذهنية. إنَّها علمُ البشر، وليست علمَ الله ولا هي عين الدين.
التوسع المستمر في علم الدين، فمرجعه هو التحول المستمر في مجتمع الإنسان، في ثقافته واقتصاده ومنظوماته القيمية وسلوكياته. كل تحول يطرح أسئلة جديدة، تستدعي اجتهاداً جديداً، فتضاف شروحات وتفسيرات ونقاشات جديدة... وهكذا. ولعلَّ ما كُتب ونُشر في حقل العلوم الدينية، خلال الخمسين عاماً الأخيرة، يعادل جميع ما كتب منذ القرن السادس الميلادي حتى بداية القرن العشرين.
العجيب في الأمر أنَّ بعض العامة يظنُّ أنَّ كتاب التفسير وكتاب الفقه وكتاب الحديث وكتاب العقيدة، مقدسات، ويغضب إذا انتقدها الناقدون أو خطَّأوها. أمَّا العلماء أنفسهم، لا سيما المتبحرين منهم، فيرون النقد حياةً للعلم وسبباً في ازدهاره. وكم من النظريات المهمة في الحقل الديني أغفلت وكادت تموت، لولا أقلام الناقدين التي كشفت عن تميزها ودقة مقولاتها.
إنَّ تقديس العلماء وكتبهم يوشك أن يجمِّد العلمَ الديني، بل ربما يُميته، بينما النقد يجدّد حياتَه ويكشف عن زوايا فيه لم يطرقها السابقون. وعلى كل حال، فإنَّ علمَ اليوم مثل علم الأمس، ليس ديناً ولا هو امتداد للدين، بل هو انعكاس لتجربة البشر الدينية، وهي مجرد تعبير عن حياتهم وعصرهم، لا أكثر ولا أقل.
إنَّ تقديس العلماء وكتبهم يوشك أن يجمِّد العلمَ الديني، بل ربما يُميته، بينما النقد يجدّد حياتَه ويكشف عن زوايا فيه لم يطرقها السابقون. وعلى كل حال، فإنَّ علمَ اليوم مثل علم الأمس، ليس ديناً ولا هو امتداد للدين، بل هو انعكاس لتجربة البشر الدينية، وهي مجرد تعبير عن حياتهم وعصرهم، لا أكثر ولا أقل.
كثرة المتحدثين وسيولة الأفكار
سيولة الأفكار، فتعني كثرتَها وتنوعَ مجالاتها، وكثرة «المتحدثين في العلن». وأريد استعمال هذا التعبير بدلاً عن تعبير «المتحدثين في الشأن العام» كما هو متعارف؛ لأنّي أرى للحديث في العلن ميزات تشابه الحديث في الشأن العام، لكنَّه أوسع منه وأعمق تأثيراً. الحديث في العلن يعني خروج الفرد من حالة التلقي والانفعال، إلى حالة الإلقاء والفعل أو التفاعل. وهذا يعادل ما نسميه تبلور «الفردانية»، أي شعور الفرد بكينونته المستقلة، وكونه صاحب إرادة مستقلة عن إرادة الجماعة التي ينتمي إليها أو يعيش في وسطها. الحديث في العلن قد يشمل أشياء قليلة القيمة أو حتى تافهة، لكنه مع ذلك يعبّر عن نزوع استقلالي.
تكاثُر المتحدثين في العلن يؤدي إلى ظهور الأفكار المخالفة للسائد، في كل مجال، من السائد الديني إلى السياسي إلى الأدبي والفني والمهني والتجاري... الخ. وهذا يستثير رد فعل الطبقات المحافظة والمستفيدة من الأعراف الموروثة، فتشتبك مع المتحدثين الجدد، فينقسم المجتمع بين هذا القطب وذاك، ويزداد تبعاً لذلك عدد المتحدثين على الطرفين وعدد الأفكار المطروحة، كما أنَّ الجدل فيها يزيدها عمقاً ومتانة، حيث إنَّ التراكم الكمي يولد تراكماً كيفياً، كما يقال.
لكن سيولة الأفكار، وظروف التحول ذاتها، تسبّب فوضى عارمة في المفاهيم، أي اختلاف الصور الذهنية للشيء الواحد بين شخص وآخر. أظنُّ أنَّ كثيراً من الناس قد لاحظ النقاشات التي تشابه ما يسمونه حوار الطرشان، حين يتجادل أشخاص كثيرون حول مفهوم معيّن، ثم يتبيَّن لاحقاً أنَّ هذا المفهوم مجرد اسم، أما صورته الذهنية ومضمونه فمتعدد بعدد الذي يتجادلون حوله.
لست متشائماً من سيولة الأفكار ولا فوضى المفاهيم، فهي ظرف انتقالي يصعب تفاديه. وأظنُّه سيوصلنا إلى نمط حياة ليبرالي وعقلاني. لكنَّني أردت لفتَ نظر القراء الأعزاء للتدقيق في المفاهيم والمسميات التي يسمعونها أو يقرأونها، للتحقق من مطابقتها لتصورهم الذهني عن ذات المفهوم أو المسمى. لقد لاحظت هذا بشكل واسع حين كتبت حول العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، وعن المسافة بين المصلحة الشخصية والعامة، لاحظت أنَّ الناس يتحدَّثون عن العدالة وهم يبررون التمييز بين الناس، أو ينكرون الحرية بدعوى صون المصلحة العامة... وهكذا.
*
النقد الأخلاقي للتراث
ستينات القرن العشرين، أيامَ ما كان يعرف بالمد الشيوعي. لكنِّي لم أعاصره كي أحكمَ عن خبرة،
هو الفتوحات الإسلامية. فالمتفق عليه أنَّ غزو البلاد الأجنبية ليس أمراً طيباً. ولو دعا أحدٌ اليوم إلى غزو أي دولة، صغيرة أو كبيرة، لنشر دعوة الإسلام، لقابله غالب المسلمين بالإنكار والاستهجان.
لأنَّ نشر الدين بالقوة لم يعد «فعلاً حسناً» في منظومات القيم السائدة اليوم. ولأنَّ غالب سكان العالم متفقون على احترام القانون الدولي وسيادة الدول، أياً كان دينها. واحترام السيادة يقتضي عدم غزوِها أو إلزامها بعقيدة لا ترضاها.
وخلال الثلاثين عاماً الماضية، جرَّب بعض المسلمين استعمال القوة والقهر في فرض عقيدتهم. لكنا نعلم أنَّ عدد الذين التحقوا بهذه المشاريع، لم يتجاوز بضع مئات، وأنَّ كثيراً ممن ساندهم أول الأمر، ما لبث أن تراجعَ وأنكر حين انكشف ما تحمله هذه المشروعات من كوارث.
وخلال الثلاثين عاماً الماضية، جرَّب بعض المسلمين استعمال القوة والقهر في فرض عقيدتهم. لكنا نعلم أنَّ عدد الذين التحقوا بهذه المشاريع، لم يتجاوز بضع مئات، وأنَّ كثيراً ممن ساندهم أول الأمر، ما لبث أن تراجعَ وأنكر حين انكشف ما تحمله هذه المشروعات من كوارث.
الفعل ذاتَه قد يكون حسناً في زمنٍ وقبيحاً في زمنٍ آخر. مرجع التحسين والتقبيح ليس كتب التراث. الأخلاق اعتبارات عرفية، وعرف العقلاء يتطوّر ويتغيّر بتأثير عوامل عديدة. بعبارة أخرى، فإنَّ الغزو لأغراض جيوبوليتيكية، أو لنشر الدين أو تعزيز الاقتصاد، كان «فعلاً حسناً» عند عقلاء الأزمنة القديمة. لكن دول العالم قرَّرت تقبيح هذا الفعل في منتصف القرن السابع عشر، حين اتفقت دول أوروبا على معاهدة وستفاليا سنة 1648، واعتبرت الحدود القائمة لكل منها، نهائية، وأنَّ التجاوز عليها عدوانٌ يستحق الإدانة.
لاستحداث بدائل للحرب، حتى وصلنا إلى وقت بات فيه الغزو وتجاوز الحدود «فعلاً قبيحاً» عند الجميع.
نقد أي قول أو فعل في الماضي، انطلاقاً من دوافع أخلاقية بحتة، يجب أن يراعي أيضاً موقعه الزمني، لا أن يطلقه إطلاق المسلّمات العابرة للزمان والمكان. فلو استنكر أحدُنا الحروب القديمة، انطلاقاً من أخلاقيات اليوم، فلن يكون منصفاً. ولو دعانا للحرب مستدلاً بسيرة الأسلاف، فلن يكون مصيباً؛ لأنَّ قيمة الأفعال لها إطار زمني وليست مطلقة.
ما نستنكره اليوم ربما كان حسناً في وقته، أي قبل ألف عام أو أكثر، وما نقبله اليوم، ربما كان مستنكراً وقبيحاً في ذلك الزمان، فلا ينبغي لومُ الناس أو اعتبارهم خاطئين، لمجرد الاختلاف في تقييم قول أو فعل.
*
وهل يختلف حسن العدل وقبح الظلم بين الحاضر والماضي؟
فالعدل النظري المجرد لا خلاف فيه؛ بل في تطبيقه على حدث بعينه. دعنا نأخذ مثالاً بالعبودية التي تداولها أسلافنا كفعل عادي لا كظلمٍ قبيح، مع أنَّها تعد الآن من أقبح التصرفات. فلو سألتَ شخصاً، من أي دين أو بلد، عن رأيه في استعباد الناس، فهل سيجيبك بأنَّه فعل حسن وعادل، وأنَّه يتقبل أن يكون عبداً لشخص آخر، وأن تكون زوجته أَمَة لذلك الشخص؟ اعلمْ أنَّ أحداً لن يرضى بهذا.
تجارة الرقيق واقتناءهم كانت متاحة ومباحة في الماضي، في بلاد المسلمين وغيرها. وكانت قوافل السبايا جزءاً ثابتاً في غنائم الحروب. ويندر أن تجدَ بين السلف رجلاً ذا مال، وليس عنده رقيق وإماء، بمن فيهم الخلفاء والأئمة والعلماء، فضلاً عن سائر الناس. ولذا حوت أغلب كتب الفقه القديمة باباً خاصاً بأحكام الرقيق، أحكام بيعهم وشرائهم واقتنائهم، والأحكام الخاصة بهم التي تختلف عن الأحكام الخاصة بالأحرار، نظير حجاب الإناث وزواجهن، ونظير دية القتيل وإرث الميت... إلخ.
نتهمهم بالجهل أو بضعف المشاعر الإنسانية؟ وإذا قررنا أن فعلهم خاطئ وذميم، فهل سنقبل اجتهاداتهم ومروياتهم، أي مساهمتهم في التراث وعلوم الشريعة التي نعتمدها حتى اليوم؟
التشريعات الخاصة بالعبودية صيغت على نحو يقلصها حتى ينهيها. ويقال هذا عادة في سياق التبرير لفعل الأسلاف. لكن الذي حدث في الواقع هو أنَّ الرقَّ في بلاد المسلمين تلاشى نتيجة لتطور مفاهيم حقوق الإنسان؛ لا سيما عقيب الحرب العالمية الأولى. وأذكر «اتفاقية تحريم الرق» التي تبنتها «عصبة الأمم» سنة 1926. ومن ثمارها أنَّك لا ترى رجلاً -أو امرأة- يباع في السوق، كما كان الحال قبل ذلك التاريخ.
لم تعد العبودية إذن فعلاً عادلاً أو مقبولاً عند الناس والقانون. وتبعاً لهذا، لو صرَّح فقيه أو زعيم سياسي بأنه يريد إحياءها؛ لأنَّ الشرع (كان) يقبلها في الماضي، لهاج المسلمون وماجوا منكرين، ولأفتى فقهاء آخرون ضد هذه الدعوة التي -فوق قبحها- مسيئة للمسلمين ودينهم.
الرق كان منذ البدء فعلاً قبيحاً؛ بل هو ناقض لحرية الاختيار الضرورية لتوحيد الخالق سبحانه. لكن هذا القول بذاته -أي اعتبارنا أنَّ الرق قبيح- هو فكرة جديدة، تبناها البشر بعدما تطورت معارفهم وشعورهم بذاتهم الفردية. وهذا كله ثمرة لهيمنة العلم على مجالات الحياة.
قد تأثرنا بهذا الاتجاه بعد اندماجنا في اقتصاد العالم وثقافته. ولو كنا منعزلين مثل كوريا الشمالية، فلربما تقبلنا ممارسات شبيهة بالرق. اندماجنا في اقتصاد العالم لا يغير معيشتنا فقط؛ بل أيضاً يطور فهمنا لذاتنا وتكويننا الثقافي وهويتنا الفردية. هذا التطوير ينعكس على شكل إعادة تقييم للأفعال والأشياء، وإعادة صياغة لمنظومات القيم والمعايير التي نستعملها في التعامل مع الأفكار والعناصر المادية، في محيطنا الطبيعي والاجتماعي.
Feb 9, 2022
May 31, 2023
فرضية كونِ الدين ضرورةً للنهضة، فرضية لا يدعمها دليل، وفرضية أنَّ الدين الصحيح هو دين الأقدمين، لا يدعمها دليل، كما أنَّ إنكارَ دور الإنسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها، هو الآخر بلا دليل. النهضة – في هذا الزمن بالذات – مستحيلة، ما لم يسترجع الفرد مكانتَه ككائن حر عاقل وأخلاقي. لا يمكن للدين أن ينهضَ على أكتاف المنفعلين السلبيين، بل على يد صناع الحياة المتفاعلين مع تجارب البشرية في الغرب والشرق، في الماضي والحاضر، من دون انبهار أو استسلام، ومن دون ارتياب أو ترفع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق