الخميس، 3 أكتوبر 2019

أزمة المفاهيم والمصطلحات

"التكفير" و"الحاكميّة" و"القتال" و"الجهاد" و"الولاء والبراء" و"السنّة" و"الشيعة"، مصطلحات ومفاهيم تكاد أن تفرض سيطرتها ومركزيّتها في التفكير الديني المعاصر

 قرأها بعضنا، وسمعها البعض الآخر، إما في البحوث والكتب المطبوعة، أوفي الصحف، أوفي الفضائيات، أوفي أشرطة الكاسيت، أو في الإنترنت

إن المفاهيم والمصطلحات التي تنشأ في بيئة ما وتفرض نفسها على المجتمع، تجبر العقل على أن يعتمدها كمفاتيح معرفيّة للفهم أولاً، ولإيصال الأفكار أوتصديرها والدعوة إليها ثانياً، وذلك لما تمتلكه هذه المصطلحات والمفاهيم من إثارة وجذب قويّين لدى المتلقين في اللحظة الراهنة.

 ما تلغيه أو تهمّشه هذه المفاهيم من مفاهيم أخرى، وعلى سبيل المثال، فإن مفاهيم شرعية أخرى ك "التيسير" و"التسامح" و"التعايش" و"الرحمة" و"العلم" و"المعرفة" ونحوها، جميع هذه المفاهيم تصبح هامشية وغير شعبيّة مقارنة بالمفاهيم السابقة، وهنا يكمن انحراف كبير في مسيرة الخطاب الديني في المجتمعات المسلمة، إنه يعني باختصار انتصار مفاهيم متشددة ومأزومة على أخرى ميسّرة ومتسامحة، وهو ما يدلّ على خلل كبير في ترتيب الأولويات في الخطابات الدينية المعاصرة.

إن المفاهيم تلعب دوراً رئيساً في فهمنا للعالم والأحداث والأفكار من حولنا، ودوراً آخر لا يقل أهمية في التأثير على انتقائنا لخياراتنا وقناعاتنا وعقائدنا،
بتعبير آخر فهي أشبه ما تكون بالنظارة ذات اللون الواحد، إن كانت حمراء جعلتنا نرى كل المشاهد من حولنا باللون الأحمر، وإن كانت سوداء صبغت الكون بالسواد، وإن كانت بيضاء عمّ البياض وانتشر!
 وهي أشبه ما تكون بجهاز الراديو الذي يرسل ولا يستقبل، تحدثنا، تقنعنا، تحثنا على الفعل، ولكنها أبداً لا تستمع لنا، أبداً لا تستجيب لمخاوفنا أو تحفظاتنا،

بناء على هذه التشبيهات فإن السؤال هو: هل نختار نظّارتنا التي نلبسها أو الراديو الذي نستمع إليه؟ أو بتعبير أصرح هل نختار المفاهيم والمصطلحات التي نفكّر ونعبّر من خلالها؟ إن الجواب هو: نعم ولا في الوقت ذاته، فهي في وقتٍ ما كانت خياراً ولكنها تحوّلت مع الوقت وتفاعل عناصر متعددة بعضها سياسي وبعضها ثقافي وبعضها ديني وبعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي، تحولت بسببٍ من هذا كلّه من كونها خياراً إلى كونها ضرورةً تفرض نفسها لا خياراً ضمن خيارات متعددة، أو هي كما قال بعض العلماء عن العشق -مع الفارق طبعاً- "بدايته اختيار ونهايته اضطرار".

للمفاهيم والمصطلحات دورة حياة معيّنة، بغض النظر هل تطول هذه المدّة أم تقصر، بمعنى أن لها بداية تصل بعدها للذروة ثم تتوارى أو تموت فاسحةً المجال لمجموعة أخرى من المفاهيم والمصطلحات لتحلّ مكانها، فعلى سبيل المثال كانت مفاهيم مثل الرأسمالية والاشتراكية بكل المفاهيم المتفرعة عنها تحكم رؤية العالم لنفسه في حقبة غير بعيدة مضت، واليوم خرجت مفاهيم أصولية في الشرق والغرب، استطاعت أن تفرض هيمنتها ونفوذها على التفكير والتفاعل البشري على كل مستوياته الدنيا والعليا، مفاهيم مثل التي قدّمنا بها في ناصية المقال لدى العالم الإسلامي، أما الغرب فتتحكم فيه مفاهيم مثل "الحريّة" و"الديموقراطية" و"نهاية التاريخ" و"هرمجدون" ونحوها، مع كل ما يتمّ فرضه على هذه المفاهيم من ابتسارٍ وسياقاتٍ وتوظيفاتٍ، إلا أنها رغم ذلك كلّه تبقى علامات فارقة تتحكم في التفكير والجدال وتقدّم نفسها كأدوات خطيرة لإدارة الخلافات والصراعات والحروب

هل التوتّر الذي تعيشه البشريّة، والاحتقانات الاجتماعية والسياسية، والعودة إلى الأصولية الدينية، هل هذه جميعاً كانت الحاضنة الحقيقية لهيمنة وتسيّد مثل هذه المفاهيم؟ أم أن هذه المفاهيم هي التي أدت إلى التوتر والاحتقان والأصولية؟

 إدخال أو فرض مفاهيم جديدة، مهمةٌ ليست سهلة بحال، لكنها ليست مستحيلة في الوقت ذاته، فخلق مفاهيم جديدة أكثر عقلانية وأكثر انحيازاً للتسامح أمرٌ وإن لم تكن ثمرته دانية وقطافه ميسور، إلا أن العمل على خلقه والسعي له سيشوّش -بالتأكيد- على تسيّد المفاهيم المتشددة على المشهد المعاصر، والتشويش بحدّ ذاته مكسب، ثم تعقبه مراحل أخرى لترسيخ المفاهيم الجديدة.

حين تكون المفاهيم والمصطلحات متعلّقةً بالدّين فإن مهمة خلق المفاهيم الدينية الجديدة يفترض أن تقوم بها أصالةً المؤسسات الدينية الرسميّة، بشتى تصنيفاتها، سواء تلك المختصة بالفتوى أم بالوعظ والاتصال الجماهيري أم بالتعليم، غير أنّ هذه المؤسسات جرى العمل في أكثر البلدان العربية على تهميشها واستتباعها للسياسي بشكل أفقدها المصداقية، وأجبر الجماهير الدينية على البحث عن مرجعيّات دينية أخرى تمتلك مصداقية لديها، فكان اللجوء لبعض رموز الإسلام السياسي ورموز السلفية الجهادية وجماعات العنف الديني.

كما لا يمكن أن نلغي دور المؤسسات الأخرى في خلق المفاهيم الجديدة، أو على الأقل خلق البيئة التي تسمح للمفاهيم والمصطلحات الجديدة بالنموّ واكتساب القوّة، ومن هذه المؤسسات، المؤسسات السياسية بتنوعاتها، ومؤسسات التعليم العام والخاص والعالي، ومؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات الخيرية، ونحو ذلك، كما أن بناء تنمية حقيقية تلامس حاجات الفرد الأساسية وتوفّرها له ستكون داعماً فاعلاً ومهماً في هذا الاتجاه.

إن ما شهدته العقود القليلة الماضية كانت انحداراً مأساوياً في المفاهيم، من الخلافة والتحزّب وإلغاء الآخر لدى الإخوان المسلمين، إلى الحاكمية والجاهلية لدى سيّد قطب والمدارس المتفرعة عن فكره، إلى الجهاد والقتال لدى جماعات العنف الديني في مصر، إلى التكفير والقتل الجماعي والدمويّة لدى جماعات القاعدة في عددٍ من البلدان العربية وفي العالم، وكل ما نأمله أن تتمّ السيطرة على هذا الانحدار وأن يكون هناك عملٌ حقيقيٌ عبر مشاريع وخطط وبرامج تسعى لإيقاف هذا الانحدار وإلغاء هذه المركزية للمفاهيم المتشددة مع السعي في ذات الوقت إلى نشر مفاهيم أكثر تسامحاً وأكثر فائدة ونفعاً للمجتمعات العربية والإسلا

++++++++
إجماع العلماء على أن الكفر يكون بمجرد القول أو الفعل.

+++++++++++++

أزمة المفاهيم الإسلاميَّة في الخطاب والتشريع


علم المصطلحات في الثقافة الإسلامية -باعتباره اللغة الفنية الخاصة لأي علم من العلوم- هو ما يُحاول الكاتب هاني نسيره تتبُّعه عبر مراحله التاريخية، وإثبات فشل مُحاولات حَسْم الجَدل من خلال الفِرَق والمذاهب والجماعات الإسلامية التي سَعَت من أجل تأسيس مصطلحها الخاص.. مُنهيًا مُقارباته بتحديد مفهوم الشريعة وبيان اختلافه عن العقيدة وفقًا لسلسة تقصٍّ تاريخية عبر مقاله "مشاكل تأسيس المفاهيم في الخطاب الإسلامي: قراءة تاريخية وتحليلية (مفهوم الشريعة نموذجًا)".

 مزالق الجدل الكلامي والغيبي -أو الفلسفي والقدري- إلى القرن الثاني الهجري؛ إذ لم يكن قبلها قد انتظمت قواعد عصر التدوين بعد، وإذ تأسَّست العلوم الإسلامية (الشرعية) وبدأ تدوين تفسير القرآن الكريم، ظهر أول تفسير مطبوع لسليمان الثوري، ثم تلتها تدوينات لتفاسير أخرى بالموازاة مع ذلك، وبدأ أيضًا تدوين الحديث النبوي، وأوكل تدوين الحديث كمهمة من مهام الدولة في عصر عُمر بن عبدالعزيز، ومن هُنا ظهرتْ عُلوم الحديث والفقه وأصوله وعلم الكلام.

القرن الثالث الهجري ظهر ما يُسمَّى بـ"الاجتهاد الإسلامي"، فضلاً عن ولادة المذاهب "الكلامية والفقية والصوفيّة"

وظيفة التأويل التي "لا تقوم إلا بتجاوز اللغة ومدلولاتها الاشتقاقية إلى رحاب الاصطلاحات التضمينية"، ومنشأ الجدل بين "النص والتأويل"، أو بين "الثابت والمتحوّل"،

+++++++++++++++++++++++


الفلسفة وصناعة المفاهيم

بين أزمة المعنى والانشغال بإنتاجه وتوليده

«صناعة مفاهيم»، أراه كافيا بحد ذاته للدلالة على أزمة الوعي وانحلال المعنى في زمن ما بعد الحداثة. إذ لم تعد الفلسفة مع دولوز «بحثا عن الحقيقة» ولا إبداعا لرؤى حول العالم، إنما إبداع مفاهيم. لكن لماذا نجعل من هذا التحديد الدولوزي لفعل التفلسف، علامة على إشكالية أزمة الفكر وضياع المعنى؟! أليس ثمة مفارقة بين زعمنا هذا وماهية الاشتغال المفاهيمي؟ أليس إبداع مفاهيم هو بالضبط إبداع معاني؟ فكيف إذن نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيم دالة على أزمة المعنى؟!

نقد الاستعمال الدلالي الشائع. وقد أثمر هذا الاشتغال السيمانطيقي في تاريخ الفلسفة إرثا ضخما في المفاهيم الفلسفية، حتى أن الفلاسفة أصبحوا يتمايزون ليس فقط بأفكار ورؤى، بل أيضا بنوع الدلالات التي يعطونها للمفاهيم التي يتوسلونها للتفكير. وأكثر من ذلك لقد كان البعض منهم يحرص على إفراغ المفهوم من مدلوله، ليُبَطِّنهُ معنى يشذ به على نحو مخالف تماما، ليس للاستعمال الشائع فحسب، بل حتى للسائد في الحقل الفلسفي ذاته: فمفهوم الحدس مثلا عند كانط مغاير لمدلوله المألوف في الاستعمال الفلسفي، فهو ليس معرفة مباشرة بلا وساطة استدلالية، بل معرفة حسية! كما أن أسماء الفلاسفة تقترن في الغالب بالمفاهيم التي صنعوها، فكانط يقترن اسمه بمفهوم النقد، وبرجسون بـ«الديمومة»، وهيدغر بـ«الكينونة» و«الدازاين»، وهيغل بـ«المطلق» ولايبنز بـ«الموناد»، وهوسرل بـ«القصدية».. لذا حق لدولوز أن يقارن عمل الفيلسوف بعمل الروائي، فكما أن الإبداع السردي يقترن بإبداع الشخصيات، فإن عمل الفيلسوف يقترن بإبداع مفاهيم. ولَمَّاحَة جدا تلك الرؤية الدولوزية إلى مركزية المفاهيم في الفلسفة، فليست محورية المفاهيم في المتن الفلسفي بمقام محورية الشخوص في المتن الروائي فقط، بل إن التفكير الفلسفي إذا ما استحضر الشخصيات سرعان ما تستحيل عنده إلى مفاهيم. ألسنا نتكلم في فلسفة نيتشه عن ديونوسيوس لا كاسم أسطوري بل كدال مفهومي ؟!

الحد الماهوي عند سقراط كأساس منهجي للعمل المفاهيمي قديما، فقد كانت السقراطية - وكذا التقليد الأفلاطوني الذي ساد بعدها - يعتقد بإمكان تثبيت الدلالة، وصوغ المفهوم صياغة سيمانطيقية ماهوية. وهذا ما يظهر في ترتيب أفلاطون لمراتب طلب الحد بالانتقال من الأفراد، إلى الأجناس، ثم الأنواع، فالماهيات. وهو الناظم المنهجي الذي سيؤثر في تأسيس المنطق الصوري عند تلميذه أرسطو، بما هو منطق كليات يرفع الحد بالماهية إلى درجة التعريف الحقيقي، ناظرا إلى ما عداه بوصفه مفتقرا إلى القدرة على إنتاج الحد.

صحيح أن المنطق رغم وضعه للحد، بما هو تركيب من جنس وفصل، في أعلى مقام، واحتقاره لأنماط التعاريف الأخرى كالتعريف باللفظ والتمثيل والمخالفة.. بدعوى أنها لا تخلص إلى ماهية المفهوم، ورغم أن المناطقة قالوا بنُدْرة الحدود الماهوية، بل اعترفوا بعُسر إنتاجها،

 فإن الشاهد عندنا هنا هو أن الوعي الفلسفي في القديم كان يعتقد بإمكانية تحصيل الحقيقة الدلالية؛ بينما الاشتغال المفاهيمي عند دولوز نابع من منطلق فكري مغاير، وهو نسبية الدلالة وعدم وجود حقيقة مرجعية يمكن الاستناد عليها.

كيف نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيمية علامة ودليلا على أزمة المعنى؟!

«تُصحّف الفلسفة» وتخرجها من غرفها المغلقة في الجامعات وتنزلها لجمعات الحدائق العامة والفصول الدراسية المدرسية، وجعلها مادة ممتعة لقارئ يتناول قهوته في مقهى.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق