السبت، 27 مارس 2021

الصادق النيهوم (1937- 1994)

Nov 10, 2019

كان ً متمردا على الفكر ً الأصولي؟ أكان ً أصوليا في أعماقه كما يتهمه البعض؟
هل التبســـــت علاقته مع الســـــلطة في بلاده مع فهمه للمادة التي كان ّ يدرسها
لطلابه "علم الأديان"؟


الجهل مثل المعرفة كلاهما قابل للزيادة بلا حدود" كان هذا ميزان النيهوم،
وقد صدق الصادق في توصيفه لتلك القيمة المسماة بالجهل. فازدياد المعرفة
ليس ً خبرا ً جديدا. لكن تراكم الجهل جرس إنذار كبير كان يقرع عند الانتهاء
من كل سطر كتبه النيهوم، سواء في أبحاثه أو أعماله الأدبية والموسوعية

المفكر روائيا  

التونسي
محمود المسعدي، والمغربيان محمد عزيز
لحبابـــي، عبداللـــه العـــروي، والمصريين
عباس محمـــود العقاد، ورفعت الســـعيد،
والســـوري مطاع صفدي، والعراقي عزيز
الســـيد جاســـم، والأردنـــي غالب هلســـا،
والليبـــي الصادق النيهـــوم، الذي نحاول
في هـــذا المقـــال الوقـــوف علـــى رواياته
الثـــلاث
من هنـــا إلـــى مكـــة، القرودوالحيوانات
من مكة إلى هنا
صـــراع محتدم مع فقيـــه القرية،
القابـــض علـــى ســـلطة الديـــن، بدلالتها
الكهنوتية القمعية، وذلك لأنه، أي مسعود
الطبال، يصطاد السلاحف، التي يعتبرها
الفقيـــه، ممثل القوى الرجعيـــة المتخلفة،
مباركة ّ ويحرم اصطيادها، ومن يفعل ذلك
فإنه يتحدى الله والأرواح، متغافلا عمدا
قول الله
ُأحل لكم صيد البحر وطعامه،
وعندمـــا يغـــرق الصبي الـــذي يعمل مع
مســـعود، يفســـر الفقيـــه الحادثـــة بأنها
رســـالة من الله، في حين أن مســـعودا لا
يبتغي اصطياد الســـلاحف فقط، بل يريد
زيادة عدد مـــا يصطاد لأن ثمة إقبالا على
تناولها في مطاعـــم الإيطاليين، من خلال
تزويد قاربـــه المهترئ بمحـــرك )موتور(،
ينوي شـــراءه من أحد الإيطاليين، ليتمكن
من التوغـــل إلى عمق البحـــر ومصارعة
جنونـــه. وهكـــذا ينمو التمـــرد في داخله
وهو يجابه خرافـــات الفقيه، التي تعرقل
مسعاه لتحســـين معاشـــه، ُ وتربك نومه،
بـــل تتراءى له أحيانا كشـــبح. والأســـوأ
من ذلك أن الفقيه يسيطر على عقل زوجة
مســـعود، ويملأ رأســـها بخرافاته، وهي
المرأة الســـاذجة التي لا يتجـــاوز حلمها
أداء فريضة الحج

إن صراع مســـعود الطبال مع الفقيه،
الذي يعـــده عبدا مارقا لأنـــه تمرد عليه،
يشير إلى موقف الصادق النيهوم المناوئ
لهيمنـــة الســـلطة الدينيـــة البطرياركية
المتجـــذرة فـــي الواقـــع، ومعاداتهـــا لأي
تحديـــث أو تغيير من شـــأنه أن يضعف
نفوذها، وما محاولة مســـعود الحصول
علـــى
موتـــورلقاربه، رغم فشـــلها، إلا
مســـعى تحديثي/خلاصي يقـــوض هذه
الســـلطة. كما يفضـــح النيهوم، من خلال
اشـــتباك اللـــون مـــع الديـــن، العنصرية
ويدينها، ويجعل من الزنجي محنكا يتخذ
من زنوجته أيقونة للوجود؛ وجوده هو،
ومعنى الوجود ذاته بالمعنى الفلسفي


القرود: الصراع من أجل الهيمنة

تقوم رواية القرود) (1975على سرد
يرمز إلى التنافس بين البشـــر، على نحو
عـــام، وربما إلى الصـــراع الدولي وكذلك
المحلي، على الســـلطة والســـلاح والقوة
والثروة والإناث، حيث يســـتمر الصراع
بـــين الذكـــور الأقوياء في قطيـــع القرود،
وتكـــون الغلبة لمن يملـــك القوة العضلية
والمهارة القتالية اليدوية إلى أن يكتشف
أحدهم، عن طريق الصدفة، صناعة سلاح
عجيب يقلب ميزان القوى، وهو عبارة عن
عصا في رأسها عقرب سامة مثبتة بخيط،
عندئذ تميل الكفة في الصراع بين زعماء
القرود على القيـــادة والإناث لصالح من
يمتلك هذا الســـلاح الفتـــاك المخيف! لكن

هؤلاء الزعمـــاء يتعلمون بدورهم صناعة
هذا السلاح، ومن ثم يمتلكون قوة ضافية
في مواجهة خصومهم، ويحصل نوع من
تـــوازن القوى الرادع بين الذكور الأقوياء
فـــي مجتمع القرود إلـــى أن يحدث ما لم
يكن في الحسبان حيث يتعلم كل من ّ هب
ّ ودب مـــن القـــرود صناعة هذا الســـلاح،
فتصبح جميـــع القرود مســـلحة، ويفقد
الذكور الأقوياء والزعماء، عندئذ، مصدر
قوتهـــم وهيبتهم، فيـــدب الاضطراب في
مجتمع القردة، وتتلاشى السلطة وتسود
الفوضى

ومـــن الواضح أن الصـــادق النيهوم
يحذو في هذه الروايـــة، وروايته الثالثة
الحيوانـــات، حـــذو العديد مـــن ّ الكتاب
العـــرب والأجانـــب، قديمـــا وحديثا، في
توظيـــف عالم الحيوان رمزيـــا، مثل ابن
المقفـــع في كتابه الشـــهير
كليلة ودمنةوابن طفيل في حي بن يقظان، وإيسوب
في حكاياته الخرافية التي يدور معظمها
حول الحيوانات، وحديثا جورج أورويل
في روايته
مزرعة الحيوانات.الحيوانات: رؤية نقدية للإقصاءشـــيد الصـــادق النيهـــوم العوالـــم
الحكائية لروايتـــه
الحيوانات)(19

*

مفهوما المقدس والتنوير في فكر الصادق النيهوم
مـــن يريد فهم فكر الصـــادق النيهوم،
الكاتب الليبي الموســـوعي وشـــخصيته،
عليـــه قبـــل أن يقـــرأ كتبـــه أو مقالاتـــه
المنشـــورة في جريـــدة الحقيقـــة الليبية
ومجلة الناقد وغيرهمـــا أن يحلل واقعة
مهمة َّ مـــر ْت بحيـــاة النيهوم وســـاهمت
فـــي خلق نظرته ّ العقلانية الســـاخرة في
بعض الأحيان للمقدس وشبه المقدس في
حيـــاة الناس في كتاباته المختلفة.

كتابه الإســـلام في الآسر) 1991افتحوا
نوافذكم على العالم، وواجهوا أنفســـكم،
ودعوا الأشـــياء تنال قيمتهـــا الحقيقية
دون إقحـــام لعوامل الغضـــب أو الرضا(
وناقـــش الخطاب الدينـــي، ودور الجامع
وتفكيـــك نظـــام العـــدل الاجتماعـــي في
الإســـلام، وضـــرورة توظيف ما يســـميه
النيهوم بـ)حزب الجامع( لإنقاذ الإســـلام
مـــن عبوديـــة التاريخ، ليواجـــه الإقطاع
والأصولية، وذكر فيه أيضا أن
المجتمع
الجاهل لا يملك أفكارا معروضة للنقاش،
لأن كل فكرة في حوزته مقدســـة أو شـــبه
مقدسة أو ربع مقدسة


وكانت الردود كثيرة على هذا الكتاب
المثيـــر للجدل مـــن قبل كتاب إســـلاميين
كثيريـــن اعتبـــروا أن الكاتـــب لا يطبـــق
الشـــريعة الإســـلامية، ولم يدرس فقهها،
لذلـــك فـــلا يمكـــن الركـــون إلـــى أحكامه
وتحليلاته للإسلام
دعوات النيهوم
إلى حرية العقـــل وتغليبه على ما تعوده
الإنسان العربي من عادات وتقاليد جاءت
كصرخـــات ّ مدوية في الأوســـاط الثقافية
العربيـــة في التســـعينات. التوافقية بين
فكـــرة التنوير ونبذ التابـــوات المجتمعية
جـــاءت أيضا فـــي ثيمة روايـــة الصادق
النيهـــوم المهمة
من مكة إلـــى هنا1970
حكى فيهـــا عن المقـــدس وشـــبه المقدس
فـــي حيـــاة مســـعود الطبـــال الزنجـــي،
الـــذي يقرر مغـــادرة مدينتـــه بنغازي لأن
المســـتعمرين الإيطاليـــين يفرضون على
ما يصطاده من أســـماك ضريبة مرتفعة.
فيحـــل فـــي مدينة ليبيـــة بعيدة اســـمها
سوســـةوفيها ُّ تخف قبضـــة المحتلين،
ويتعامـــل مســـعود الزنجي مـــع إيطالية
مقيمـــة ولديهـــا مطعـــم، تفضـــل طهـــي
ســـلاحف البحـــر لزبائنهـــا. وكان هـــذا
النوع من الكائنات البحرية شـــبه مقدس
لدى الليبيين، فخرق مســـعود هذا العرف
وبدأ بصيد وتزويد المطعم بهذا النوع من
السلاحف. استثارت أفعاله فقيه الجامع،
فأخـــذ يثيـــر أهـــل المدينة على مســـعود
لخرقه المقدس، ويحكي السارد عن ماضي
الفقيـــه، فذكر أنه باع أرضـــه للإيطاليين
لكـــي يذهب إلى مكة. وهـــي دلالة على أن
الفقيه الذي يتشدق بالدفاع عن المقدس قد
فعل الأســـوأ، ولكن مسعود لا يتوقف عن
صيده للســـلاحف، وبيعها للمرأة، ويقرر
صيد ذكر الســـلاحف، وهـــو أكثر تحريما
عنـــد الليبيين، مما دفع الفقيه لحث رجال
المدينـــة على ضربه، وبالرغم من أن زوجة
مسعود تشمئز من صيد السلاحف، وترى
أن زوجها يقتـــرف محرما، إلا أنها تدافع
عـــن زوجها بالـــكلام مع مـــن يضربه من
خلال ثقب مفتاح باب السكن

نجد الإشكالية كذلك في كتبه الفكرية،
ومحاولته الربط بين مفهومين متناقضين
مفهوم المقدس والتنويري، فالمقدس يرى
أن الإنســـان عاجـــز عـــن إيجـــاد الحلول
لمشكلاته المجتمعية والاقتصادية

++++++++++++
كاتب الناس
بدأ الصادق النيهوم ) 1937ـ
(1994رحلته في الكتابة ككاتب
تنويري وجد نفسه في مجتمع
شبه أمي خارج من أتون الحروب
والأمراض والمجاعات

الناس تقرأ للنيهوم لأنها تجد
أنفسها داخل نصوصه. تشعر بأنها
هي من كتبت المقالة وليس الصادق.
تشعر بأن النيهوم قال ما أرادت أن
تقوله لكن يعوزها الأسلوب واللغة
والمنبر الصحافي والشجاعة.
لقد بذل النيهوم ً جهدا ً كبيرا في
صياغة مقالاته لتوافق مساحة كبيرة
من أمزجة المتلقين الذين خبرهم وعاش
بينهم وتشربهم عن كثب. كان يكتب
المقالة الواحدة عشرات المرات حتى
يرضى عنها ً قليلا وهو بالطبع كأي
مبدع كبير لا يمنح نصه الرضا الكلي
ً أبدا، لأن نصوصه متولدة ومتفجرة
وكلما قرأ النص ً مجددا تفتحت أمامه
مسارب جديدة يمكن التعاطي معها
ً إبداعيا، وكتابة المقالة عشرات ّ المرات
من كاتب مبدع بحجم النيهوم ليس
لديه مشكلات في النشر ومشهور
ومقروء ً جدا سأعتبرها ً احتراما للنفس
ً وتقديسا للكلمة ولفن الكتابة ً وتمجيدا
للقارئ المتلهف لعناق هذه الكلمات


*

من يخبر النيهوم أنهم عادوا وسرقوا الجامع

كان ساحرا في تمييزه ما بين الجامع
والمسجد، وأن مكان العبادة يختلف عن
مجمع الآراء ومدارسها، وقبة ديمقراطية
ذلك الزمان التي مثلها الجامع. وقد ّ صدق
الناس كلام النيهوم بالفعل، فذهب كثير
منهم ممن لم يكونوا يرتادون المساجد
ليخرجوا في مظاهرات من الجوامع،
حتى أن بعضا منهم لم يكونوا من
المسلمين أساسا، لكنهم اختاروا المكان
الوحيد الذي كانت تسمح سلطات
الاستبداد للناس بالتجمع فيه، لبرمجتهم
والسيطرة عليهم. لم تشغل بال النيهوم
مسألة مكان الصلاة، أي البقعة التي
يتمظهر فيها ذلك الارتباط بالغيب. كان

يقول في المسجد أو خارجه، يستطيع
المسلم أن يؤدي فريضة الصلاة. فالإسلام
يعتبر الكرة الأرضية بأسرها مسجدا
مفتوحا للخلوة مع الله. لكن ثمة فرائض
أخرى لا يستطيع المسلم أن يؤديها إلا في
مؤتمر إداري خاص، له سلطة أعلى من
سلطة الدولة، ومسؤول إداريا عن صياغة
القوانين. فالجامع ليس هو المسجد.
وليس مدرسة لتلقين علوم الدين، بل
جهاز إداري مسؤول عن تسيير الإدارة
جماعيا
.
حتى تلك اللحظة كان من سرق
الجامع، هم رجال الدين والمتواطئون
معهم من رجال السلطة. لكن النيهوم لم
يدر أن آخرين غيرهم سينهجون النهج
ذاته، حين تتاح لهم الفرصة، لينقضوا
على الجامع بدورهم. ومنه سيعيدون
مشروع برمجة الناس وغسل أدمغتهم

رأى النيهوم أن يوم الجمعة كان
المؤتمر الشعبي العريق في تاريخنا. وهو
لا يجانب الحقيقة في ذلك، حين كان يوم
الجمعة جزءا من ثقافة عامة محفوفا
بمفاهيم أخرى كالمروءة والجرأة على
قول الحق والتكافل الاجتماعي، لكن هذا
كله لم يعد موجودا اليوم، فالمسلم يذهب

إلى ذلك المؤتمر يوم الجمعةأعزل من
كل تلك العناصر التي كانت تقويه وهو
ذاهب إليه في الماضي. لن يجرأ على رفع
صوته مقاطعا الخطيب بأنه يقول كلاما
فارغا، فهناك من ينتظره قرب المنبر أو
على الباب. وإن لم يفعل رجال الأمن هذا،
فسيتبرع مصلون كثر يجلسون بجانب
المسلم ذاته، ليسلموه بأنفسهم إلى سلطة
أخرى موازية لسلطة المنبر
بعد النيهوم كان الدور الإداري
للجامع قد تحول وتحول. حتى أصبح
إكسسوارا مرافقا لبقية أشكال الهيمنة.
ولم يعد المؤتمر الشعبي سوى مصيدة
لآخرين يلتقطون من خلال شبكها طرائد
سيرسلونها إلى الجنة بطريقتهم هم.
اعتقد النيهوم أن الجامع هو المرادف
الموضوعي العربي لتمثيلات الحرية في
الغرب. وهكذا بقي أصوليا رغم معارضته
للأصولية. كتب يقول إن
الإسلام هو
الموقف الوحيد للإنسان الذي يستطيع
أن يرى منه حقيقة اتجاهه منذ أول
لحظة، إن القرآن ليبدو ّ حقا نورا أضاء
العقل الإنساني فجأة، وتركه يرى ما لم
يكن بوسعه أن يراه، وإن نقلة الحضارة
القادمة سوف تتم في المكان الذي تقع
فيه اليقظة على أوسع نطاق ممكن.
وليس ثمة مانع واحد من أن تقع اليقظة
 
في أرضنا؛ لكنه أيضا ليس ثمة ضمان
واحد على أنها ستقع فيها دون جهد من
جانبنا.
حسنا. لا مانع من أن يكون الجامع
منطلقا للحرية، لكنها تبقى رهينة عوامل
عديدة أولها الوعي الجماعي. فمن ينظر
إلى الجامع كما نظر إليه النيهوم؟ ومن
يستطيع أن يجرده من قداسته وينزل
الخطيب عن المنبر حين يزل لسانه بما لا
يرضي الضمير ولا الشعب؟ لا أحد

غير أن صدمة ما طرحه النيهوم لا
تزال تتفاعل. فكثير من المثقفين اللادينيين
أنفسهم ينطوون على قناعات تقديسية
تمنعهم من التفاعل مع الجامع ويوم
الجمعة بحرية وانطلاق. بل يبقى داخلهم
يعتمل فيه ٌ وعي متطرف، ذكوري وتقليدي
ومحافظ، رافض للحداثة من جذورها.
مع أنه يعتمرها كقبعة أو يرتديها كثياب
ّ صممت في مراكز حضارية بعيدة.
مغامرة النيهوم في أعماله العديدة
الفكرية أو الروائية منها، مغامرة بدأت
معه، لكنه افتتحها وحسب، ولم يسدل
عليها ستارا من الأجوبة. كان بارعا في
طرح الأسئلة. ولم يجهد للعثور على
يقينيات نهائية. غير أن تراث النيهوم
تراث جدير بالتفكيك ليس كلما مرت
ذكرى رحيله، بل في كل حين. فعلامات
استفهامه مازالت تتفجر أمام أعيننا كل
لحظة. فالرمز الذي اشتغل عليه النيهوم،
يتحول اليوم إلى سلعة متاحة للجميع
للتنقيب والحفر، ونطاق حرية الوصول
إلى المعرفة والتعبير عنها آخذ في
الاتساع بشكل كوني يتيح للمليارات من
البشر تقديم تفسيراتهم له
 

*

الفيلسوف الذي ذهب وترك الأسئلة عارية

 تخصصه النادر في مقارنة الأديان، كان
الفيلسوف الذي ظهر في شمال أفريقيا
في النصف الأول من القرن الماضي، ليملأ
الدنيا ضجيجا بأفكار لم تكن جديدة في
حداثتها، كما لم تكن قديمة في معيشها
النظري والإنساني.
فهذا ِّ المفكر التنويري، بامتياز العقل
والفكر، لم يكن استشراقيا في فكره، ولا
شرقيا في معتقده الديني، ولا غربيا
أيضا في سلوكه الحياتي.
كان منتميا للأرض وللإنسان،
هنا وهناك، ِ ومسلما ِعلمانيايؤمن
بأن الحياة بمعناها الوجودي هي في
اعتناقها للدين. ولقد كانت ثمرة بحثه
الطويل في مقارنة الأديان هي تحرير
الإسلاممن سلطة الإسلاميين الذين
جعلوه ممكنا لهم في الدنيا والآخرة،
وعسيرا وصعبا على أمة الإسلام التي
فقدت مبدأ الشورى في تاريخ الخلافة،
وخسرت الديمقراطية في تاريخ
السياسة

 
ظهور مفهومالنقد الديني التفكيكينتاج العقل
الإسلامي في أصوله المعرفية قبل حقبة
الخلافة والفتنة، تلك الحقبة التي قادت
الإسلام إلى الاختلاف في شكل العقيدة،
كما قادت الإسلام إلى الفرقة، في صميم
هذه العقيدة.
ولعله كان المفكر العربي الأبرز الذي
أثار قضية
الجامعوسأل المسلمين: من
سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟
وهو سؤال ُحر كان ُيم ِكن لأي مسلم
أن يسأله يوم الجمعة في الجامع، لكن
الديمقراطيةالتي فتحت مدرستها
السياسية َّ المزورة في البرلمان، صادرت
الشورى
التي كانت مدرسة المسلمين
السياسية في الجامع.

إن ِسجالات الصادق النيهوم الفكرية
وردود أفعالها المتباينة في المنابر
العربية خلال العقدين الماضيين، جعلت
منه
الكاتبالأكثر أهمية في نقدهالثقافة الإسلامية.
بوفاته انتهت مجلة
الناقد..
وبوفاته لم تنته معارك
الناقدالكبير
الذي طرح سؤال الناس لأكثر من نصف
قرن حول البحث عن مكان ومكانة ِ المسلم
في الإسلام.
وإذا كانت الآراء قد اختلفت حول
فكره التنويري، فإنه استطاع أن يثق
بتلك المعارف التاريخية الغابرة ويعمل
على تفكيك رموزها التي جعلت منه ِّ مفكرا
مختلفا، وعن جدارة، في زمن
الفتوحات
السياسية
التي صادرت حق الشورىفي الجامع، من أجل ديمقراطيةالبرلمان.. وهي المعضلة السياسية التي
قادت إلى الاختلاف عبر التاريخ، وكانت
سببا رئيسا في ظهور ثقافة الأصولية
الدينية ونشوب ُّ التطرف الإسلامي في
المجتمعات الإسلامية.
ولقد رحل الصادق النيهوم عن دنيانا
مبكرا قبل أن يصل إلى خاتمة مقاله
البحثي في نقد
الفكر الدينيوالمساهمة
في تحرير الإسلام من الأسر، ولقد كان
لغيابه قبل الفجر تحديدا، علامة فارقة
في مشوار حياته وفكره، ومحض سؤال
َّ يتكرر في الوجود عن موضوع لم يكتمل،
ولن يكتمل من الأساس


*

"الإسلام في الأسر" بين علي حرب والصادق النيهوم

وقد أثار في هذا الكتاب كثيرا من الإشكاليات وقدم قراءة جديدة للإسلام، كان قد تناولها كذلك علي شريعتي وعلي الوردي؛ الأول في كتاب "دين ضد الدين"، والثاني في كتاب "وعاظ السلاطين"، إذًا ما يقدمه النيهوم وما يفكر فيه هو الدين كنصوص مؤسسة، والدين كواقع معاش، وعلاقة ذلك بالواقع السياسي والفكري والاجتماعي، وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حالة الحطام المفتوح، مع وجود رسالة إسلامية عالمية الخطاب تقدم نفسها على أنها خلاص الإنسانية برمتها.

"قواعد الإسلام ليست خمسا"،
"الصلاة المسروقة"، "يا خراف الوطن العربي اتحدوا"، وفهمه لوظيفة المسجد في الإسلام وفريضة الجمعة
 إسلام ماهوي قبلي فطري تمت السيطرة عليه وأدلجته لصالح إكليروس ديني وطبقة سياسية مهيمنة اتفقتا على سجن الإسلام لاعتبارات مصلحية تتصل باستراتيجة السيطرة والإخضاع.

قد تناول هذا الكتاب علي حرب في كتابه نقد النص كما تناول جملة من المفكرين الكبار موافقا معجبا بهم حينا وناقدا لهم في أحايين كثيرة فقد تناول حسن حنفي، محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، ومحمد عمارة، ونصر حامد أبو زيد، مما يعطي لهذا الكتاب قيمة كبيرة ككل كتب علي حرب الذي يصطنع منهجا تفكيكيا في القراءة  ينتهي إلى نتائج خطيرة تصطدم القارئ الذي اعتاد على القراءة التبجيلية للكتابات الإسلامية أو القراءات المؤدلجة بحسب تعبيره. 

فالإسلام الذي سجن في طقوسه وفي جامعه، ويلاحظ القارئ أن الكاتب يعدل عن كلمة "مسجد" إلى كلمة "جامع" لما في الكلمة من مضامين الجماعة، فالإسلام دين للخلاص الجمعي وليس الفردي، غاب الجامع  بقيمه التي هي مناط الاجتماع، ولعل أهمها الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. 

ففريضة الجمعة مثلا حملها أكثر مما تطيق وأراد أن يجعلها منبرا سياسيا ومنبرا شوريا يريد أن يلغي بها المؤسسات السياسية كالبرلمان مثلا، وهي نكتة على حد توصيف علي حرب،

فالمسجد في الصميم منبر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي الدعوة الصريحة والمستميتة إلى قيم الإسلام من حرية وعدالة ومساواة ومدى تمثلها في واقع الناس، فالإسلام للناس وليس للفرد وحده  وهذا ما نراه غائبا عن منابر مساجدنا حتى غدا بصدق مثلما وصف النيهوم مجرد دور لعبادة روتينية يغلب عليها الطابع البلاغي والاستعراضي للفصاحة والملل من قبل رواده، ولو كانوا في أبهى حلة وهم يرتادون الجامع يوم الجمعة تلبية لندائها.

أما الديمقراطية حسب النيهوم فهي بضاعة غربية لا علاقة لها بواقعنا، فالديمقراطية الغربية جاءت من الرأسمال والعمال والصناعة وهذا ما يفتقده المسلمون،  فالديمقراطية الإسلامية التي يدعو إليها النيهوم حسب علي حرب تحققت في عهد النبي وخليفتيه: "لنا ديمقراطيتنا الخاصة التي طبقها المسلمون الأوائل، وفي هذا ما فيه من التزييف أو التلفيق فضلا عن الجهل بحقيقة الديمقراطية".

هذا لعمري وهم كبير، فكيف يتحرر المرء من العقائد ومتى كان ذلك؟ إن الحرية في البحث وفي الفكر وفي الحياة التي يدعو إليها حرب هي أمر ضروري، ولكنها في الإسلام مشروطة بالقراءة المقاصدية التي تخضع الوجود الإنساني لمفهوم الاستخلاف لا مفهوم الناسوت المتأله كما يعتقد علي حرب.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق