ظاهرة ارتفاع الدين الأمريكي مقلقة لجميع اقتصادات العالم، ورغم وعود دونالد ترمب الرئيس الأمريكي بإلغاء ديون البلاد في غضون ثمانية أعوام، إلا أن ذلك يبدو مستحيلا في ظل الارتفاع الكبير الذي شهد الدين الأمريكي الآن وبعد جائحة كورونا ذلك إن إجراءات الإنقاذ الاقتصادي التي أقرها الكونجرس لمواجهة الزيادة القياسية في معدلات البطالة تتطلب مبدئيا إضافة نحو 1.8 تريليون دولار إلى العجز الفيدرالي، كما أن إغلاق الأعمال سيقلل الإيرادات الضريبية، وهذا جعل الحكومة الأمريكية تعلن عزمها اقتراض ثلاثة تريليونات دولار، ما يقفز بإجمالي الديون الأمريكية إلى أكثر من 27 تريليون دولار، وهذا الرقم ضخم بكل ما تعنيه كلمة ضخم من معان، لكن ما التأثيرات الحقيقية لهذا الرقم؟ ومن له أن يكون قلقا منه على وجه الحقيقة؟
الاقتصاد الأمريكي ليس كغيره، فالناتج الوطني الإجمالي يبلغ أكثر من 20 تريليون دولار، كما أن الاقتصاد الأمريكي اقتصاد حر، وليس اقتصادا مركزيا، أو موجها، بمعنى أن العلاقات الاقتصادية والتشابكات الاقتصادية داخل الاقتصاد لا تجعل قطاعا بمفرده قادر على زعزعة الاستقرار الاقتصادي، ولقد أثبتت الأزمة العالمية عام 2008 قدرة هذه العلاقات وقطاعات الاقتصاد الأمريكي على تحقيق التوازن، فما شهده القطاع المصرفي والائتماني من صعوبات استطاعت الحكومة الفيدرالية أن تنقذه وتقوم بشراء الديون السيئة كافة، ثم لم تلبث أن تحولت هذه الديون السيئة إلى استثمارات جيدة مع عودة الاستقرار للاقتصاد، ولهذا فإن دين القطاع الحكومي ليس بالضرورة أن يؤثر في متانة القطاعات الاقتصادية الأخرى، خاصة أن الحكومة الفيدرالية قادرة على سداد هذه الديون في حينها، من خلال طباعة الدولار، ولهذا فإن ما يقلق بشأن ارتفاع الدين الأمريكي هو مصروفات خدمة الدين، وهي الفوائد المترتبة عليه، فكلما ارتفع حجم الدين ارتفع مصروف الفوائد، حيث تبلغ الآن ما يصل إلى 8 في المائة من الميزانية الأمريكية، فكلما ارتفعت قيمة هذه الفوائد وحصتها من الميزانية الحكومية كانت الحكومة في حاجة إلى فرض ضرائب أكثر، وهذه الضرائب تأكل الدخول الشخصية للمواطنين الأمريكيين، ولهذا فإن أعباء الدين العام تزيد الضغوط على الشعب الأمريكي، إلا إذا استطاعت الحكومة الأمريكية أن تدعم الاقتصاد وتقلص معدلات البطالة، وتحسن البنية الأساسية، لهذا فإن الحكومة الأمريكية في حاجة الآن إلى الإنفاق على هذه الأصول الاقتصادية لتحسين فرص النمو الاقتصادي في المستقبل، ما يساعد على نمو الناتج المحلي وزيادة دخول الأفراد، لكن هذا يتطلب زيادة المصروفات بما يزيد حجم العجز الذي لا يمكن سداده إلا من خلال الاقتراض، وهذا يزيد مرة أخرى أعباء خدمة الدين، ولا يمكن للحكومة الأمريكية كسر هذه الحلقة إلا من خلال أمرين معا، الأول خفض إنفاق الحكومة الفيدرالية بصورة جوهرية، والثاني يعتمد على زيادة إيراداتها من الاستثمارات الحكومية والضرائب.
في هذا الشأن تتبعت "الاقتصادية" آراء عدد من المحللين العالميين الذين يرون أن الاقتصاد الأمريكي يستفيد من زيادة المصروفات على حساب زيادة العجز لأنه يدفع النمو الاقتصادي والاستقرار، طالما أن هذه النفقات تذهب لزيادة قدرة الاقتصاد على التوظيف فقوة العمل الجديدة، تحسن الدخل الضريبي في نهاية المسار، لكن زيادة الدين في المدى الطويل سيجعل مزيدا من الدخل الحكومي يذهب إلى خدمة فوائد الدين، فسيذهب إنتاج القوى الجديدة الداخلة للعمل إلى خدمة الدين بدلا من تحسين ظروف المعيشة، أو الاستثمار في المجالات الحيوية، مثل التعليم والبحث العلمي، وإذا صاحب ذلك ارتفاع معدلات الفائدة لإقناع مزيد من الدائنين فسيزداد الوضع سوءا ويؤدي هذا إلى بطء النمو الاقتصادي، وتزداد الضغوط على الحكومة التي قد تضطر إلى أن تقلص من دورها في السياسة العالمية، وقدرتها على تمويل قواعدها العسكري ووجودها العسكري في مختلف أنحاء العالم وهذا هو "فخ الديون"، فحتى مع قدرة الحكومة الأمريكي على تحمل تبعات الدين من خلال طبع مزيد من الأموال، فإن الآثار ستكون واضحة بشأن عدم قدرة الحكومة الفيدرالية على ممارسة دورها القيادي المعتاد، وقد يكون الاقتصاد الأمريكي المحلي في حال أحسن من حكومته، التي ستضطر عاجلا أم آجلا إلى القيام بتخفيضات جوهرية في مصروفاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق