الجمعة، 29 مايو 2020

فيلم "High rise".. كيف تمسخنا الرأسمالية؟

البناية عملاقة، تضم 40 طابقا، متدرّجة في مستوى قاطنيها، من ذوي الطبقة المتوسطة في الأدوار الأولى، مرورا بأدوار منفصلة لصالة الرياضة والاسكواش والمتجر، وصولا إلى أثرياء الطبقة المخملية في الأدوار الأخيرة، وفي الطابق 40 الذي يبدو قطعة من الريف الإنجليزي يسكن المعماري "أنتوني رويال" مؤسس البناية التي تُجسّد الرأسمالية مع الهندسة المعمارية ما بعد الحداثية، باعتداد قاتم لم يتأثر بأطروحات فلاسفة النقد الاجتماعي تيودور أدورنو، وفالتر بنيامين، وهربرت ماركوزه، في نقدهم للهندسة المعمارية الحديثة ومعاداتها للإنسانية، وعدم مناسبتها للسكن البشري، ومن بعدهم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي ركّز على جانب السياسات الحيوية لهذه الأنماط المعمارية الشمولية في كتابه "المراقبة والمعاقبة".

 إظهار طابع الاعتداد والاكتفاء الذاتي للبناية، التي تُلبّي جميع نزوات سكانها مهما كلّفت، فلا تجعلهم بحاجة إلى مغادرتها، مشكّلة نتوءا طوباويا منقطعا عن الحياة خارجها ومستعليا عليها.

تدريجيا، ومع تراكم تفاصيل الطبقية والاستباحة في حقّ مَن هم أدنى اجتماعيا، والاكتظاظ السكاني، والمجتمع الاستهلاكي المتشبٍع بوسائل الإعلام، تبدو تصميمات البناية وبيئتها غير مناسبة لسُكنى البشر. ذلك أن التفاعلات المتأصّلة داخل الاقتصاد الرأسمالي تُنتج أضرارا جسيمة حيث تُولّد درجات من عدم المساواة مدمّرة للتماسك الاجتماعي، وتُدمّر الحرف التقليدية [لا يوجد عمّال صيانة أو خدمات فعّالين في البناية ككل]، وتُسمّم البيئة، وتترك الناس في حالة من الدفاع عن النفس، وتُسبّب حالة من القلق الدائم والإحساس بالخطر لدى الأفراد والمجموعات(2).

حين يلتقي لانج بالمعماري رويال أول مرة، يُطلعه رويال على التصميم الهندسي لمشروعه العملاق الطّموح، يُعلّق لانج على خطوطه المتداخلة في جمال فوضوي: "يبدو كرسم مشوّه من اللا وعي يُشخِّص نوبة نفسية"، ليُبدي رويال إعجابه بالتوصيف ويؤكد: "المشروع يحتاج إلى الكثير كي يكتمل". ولأن الرأسمالية نظام متناقض في العمق، عُرضة للاضطرابات والأزمات، التي تصل أحيانا إلى درجة من الحِدّة تجعل النظام ككل يبدو وكأنه في حالة من الضعف وعُرضة للتحدي، وأن الاختبارات تُشكّل خطرا عليه وإن كانت عابرة، فإن الرأسمالية كعادتها تُجيد التغذّي على أزماتها، حتى وإن كانت نابعة من داخلها.

لم يكن الأمر إلا أن تكرّر انقطاع الكهرباء عن أول 14 طابقا عدة ساعات، حتى بدأ المبني الطوباوي رحلةَ تحوّله إلى جحيم شاهق من العنف والعربدة. في البدء تذمّر سكّان الطوابق المتضرّرة، وأجاب مندوب البناية عن شكواهم من انقطاع الماء والكهرباء مراوغا بأنّ تحميلهم الزائد هو سبب انقطاع الكهرباء. مع مرور الأيام، تتفاقم الأمور، ويبدو وكأن مجتمع البناية الاستهلاكي حين لم يجد ما يستهلكه بدأ يستهلك نفسه بنفسه. وكأننا في معالجة مرئية عصرية لجحيم دانتي، تنتقل بنا الكاميرا كثيرا طوال الفيلم، عبر الممرات الصاخبة، والشقق المفتوحة للاحتفال، والسلالم المزدحمة بالنفايات، حتى أنابيب تصريف القمامة وأنابيب التهوية تأخذ فيها جولة.

هل يسكت السادة في الأعالي؟ وكيف يُطيقون والبناية تحتاج إلى يد مسيطرة تضبط هذه الفوضى؟ صاحب البناية يعوّل على حرية قاطني البناية، لا ينوي أن يتدخّل بين الناس، وينتظر أن يجد حلا لمشكلة الكهرباء. يقرّرون أن يردّوا بحفلة تُري ساكني الأدوار السفلية أنهم أفضل منهم؛ فـ"التنافس الصحيح هو أساس ازدهار الاقتصاد الحديث؛ ولكنك محقّ لا بدّ أن ننتصر". وتبدأ سلسلة جديدة من الانتهاكات.

لتنتقل عدوى الفوضى إلى كل شبر في المكان، مَن بالأسفل يصعدون للأدوار العليا، وأصحاب الأدوار العليا يعيثون في الأدوار السفلى. حالة انحدار بربرية سلِسة منغمسة في نظام البناية وبيئتها، ومدفوعة بها؛ السّخط والعنف حاضران -دون بيانات مضادة أو مشاعر ثورية- كردّ فعل بشري طبيعي على الرأسمالية. ليست رأسمالية سكّان الأدوار العليا، وإنما الرأسمالية الكامنة في نظام البناية وبيئتها، للدرجة التي دفعت سيمونز -مساعد رويال- إلى مواجهته بأن ولاءه الحقيقي ليس لذاته ولا لرويال، وإنما "للبناية".

نصل إلى نهاية المعترك، وقد مات أغلب سكّان البناية، وتولّت مجموعة من النساء العمل على تهيئتها من جديد. "لقد انتصرت الرأسمالية، ولكن غنائمها لم تصل إلى الجميع"، كما تقول نورينا هيرتس في "السيطرة الصامتة

كان دافع لانج الرئيسي لسُكنى البناية هو الاستثمار في المستقبل، أن يختار شيئا ليترك عليه بَصمته. في البداية يبدو هذا مغريا وساحرا، حيث الكحول متاح، والتجارب الواعدة المثيرة حاضرة، ثم وببطء تنحرف الأمور إلى مسار خاطئ، حيث تنغمس الشخصيات من حوله في شهواتها خلف أقنعة تُجرّدها من قيمها المتحضّرة.

الجائحة Vs البناية

البناية لن تنهار، يمكنك اختبارها بالأزمات بعض الوقت، وسيصبّ الأمر في النهاية في صالح البناية. وكذلك الرأسمالية لن تموت، يمكننا اختبارها عبر الأزمات التي قد تكون الرأسمالية نفسها سببا فيها، وفي النهاية يصبّ الأمر في صالحها.
جائحة كورونا الراهنة تُمثّل اختبارا فريدا وفائقا للرأسمالية، وقد رأينا بعض نتائجه التي تكاد تتطابق مع مشاهد داخل المتجر في الفيلم. الناس باختلاف طبقاتهم وهم يتسابقون ويتخطّفون البضائع والمستلزمات، ويتصارعون عليها، وبصحبتهم مَن يصوّر ويوثّق الصراعات والجري واللهاث. رأينا مشاهد ولقطات متطابقة جرت في فروع متجر "وولمارت" بأميركا على إثر إعلان حجم خطر فيروس كورونا (كوفيد-19). على مستوى الدول، تكرّرت أمور شبيهة، وعلى النسق نفسه، دول رأسمالية تُصادر شحنات طبية متجهة إلى دول مجاورة، ودول تُقرصن وتُزايد للحصول على منتجات طبية مخصّصة بالفعل لغيرها. هذه أمور أخبرنا الفيلم عنها قبل وقوعها.
منظومة الشركات الحرّة ضرورية ولكنها ليست كافية. هناك منظومة اقتصادية وحيدة في العالم: الرأسمالية. الفرق يكمن فيما إذا كان رأس المال في أيدي الدولة، أم في أيد خارجة عن سيطرة الدولة.
 أينما وُجِدَت رأسمالية الدولة، لن تكون هناك حرية سياسية". المشهد الذي يُبشّر بأن الشركات ستصبح الوريث المستقبلي للدولة وسُلطاتها، باعتبارها الابن السِّفاح، في نبوءة متحقّقة، حتى من قبل أن تفرضها تاتشر في بداية الثمانينيات تحت شعار "لا بديل"، وصولا إلى حاضرنا الذي وصفته نورينا هيرتس في كتابها "السيطرة الصامتة" بقولها: "إنه عالم يركع فيه ممثلونا المنتخبون أمام رجال المال والأعمال، ولا يتورعون عن الرقص لهم". لذا، لم يكن مستغرَبا استغلال الشركات لظروف أزمة جائحة كورونا للضغط على الحكومات باتجاه عمليات إنقاذ حكومية غير مسبوقة تتضمّن قروضا وضمانات قروض وإعفاءات ضريبية، أو للسعي وراء مشاريع وعقود حكومية إضافية مربحة أكثر، وكان طبيعيا أن تسارع أغلب الحكومات إلى الاستجابة لهذه الضغوط والمطالبات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق