
وفي كتابه "لاهوت الاستبداد" يستعرض مبروك في بداية كتابه الصراع الدائم في الحضارة العربية بين “العقل” و “النقل” في إطار المدارس الفكرية، أو الكلامية العربية بداية من المعتزلة والأشاعرة، تلك الثنائية التي انتجت ثنائيات متعددة في إطار هذا الصراع والتي يتمثل بعضها في ثنائية الإنسان كفاعل ومسئول عن أفعاله والإنسان كمفعول به، أو بين الإنسان الحر المسئول عن حريته واختياره، وبين الإنسان المجبر الخانع المستكين، وتلك الثنائيات لا تبتعد كثيرا عن علاقة الإنسان بالحاكم فالخليفة أو الامام أو الملك، أيا كان المسمى في الفريق الأول "النقل"، هو ظل الله في الأرض لا يجب الخروج عليه فهو ممثل السلطة الدينية والزمنية في نفس الوقت، أما الفريق الثاني فالإمام لديه بشر يصيب ويخطئ ويحاسب إن أخطأ، وان كان ظالما يجب الخروج عليه، تلك الجدلية التي تجسدت في صراعات كثيرة في الحضارة العربية، ويلخصها على مبروك في مفتتح كتابه.
ويؤكد مبروك ارتباط “اللاهوت” “بالناسوت”، حيث أنه عند دعاة النقل أنفسهم “الأشاعرة” فإنه لا قول في “الغائب” إلا قياسا على ” الشاهد” وبالتالي فان الاختلاف في صفة الله وفعله لا يمكن أن يكون ناشئا عن معاينتهم لله، بل انه ناشئ عن التباين بينهم حول الإنسان والعالم المتعين؛ فيقول على مبروك: “رغم ان اللاهوت يقصد وبالأساس إلى بناء تصور لله يحوز فيه كل صفات الإطلاق والتعالي والجلال، فإنه – ولكونه يبقى في العمق خطابا بشريا حول الله – يظل مسكونا بكل ضروب التحيزات والتحديدات التي ينطوي عليها عالم البشر.
وهكذا فان القول في الله يستحيل الى مرآة كاشفة عن طبائع البشر بأكثر من كونها كاشفة عن طبيعة الله. ومن هنا ان القول في صفات الله وافعاله قد تحول – بين متكلمي الاسلام – الى ساحة صراع تعكس – وراء لغة التسامي والعلو – التنازع على صفة الإنسان وفعله، والى حد ما يمكن قوله من أن اللاهوت هو – في الحقيقة – قول في الناسوت".
ينتقل على مبروك إلى الثقافة ودورها في تكريس الاستبداد والعنف بسبب هيمنة الخطاب الأشعري على الفضاء الثقافي العربي فيقول “وإن تكون الثقافة في حقل ما يؤسس للاستبداد والعنف، فإن ذلك يعني أن كافة المنضوين تحت مظلتها الواسعة – وعلى تباين انتمائهم الأيديولوجي- سوف يكونون حاملين لجرثومة الاستبداد والعنف، حتى ولو كانت في حال الخمول وعدم الفاعلية عند البعض من هؤلاء، وبحسب ذلك، فإنه ليس ثمة فارق بين الدولة والقائمين عليها وبين خصومها أدعياء الإسلام السياسي وغيرهم، وفقط فإن الفارق بينهم حسب على مبروك يتمثل في نوع البيارق التي يمارسون تحتها الفرقاء عنفهم واستبدادهم".
فإذا ظلت الدولة العربية موصومة بالتسلطية، بكل ما يصاحبها من القمع والعنف، على تنوع الأيديولوجيات الحداثية (ليبرالية، قومية، علمانية، يسارية.. الخ) التي تبرقعت بها، فإن الأمر لم يختلف حين أصبحت أيديولوجيا الإسلام السياسي هي البرقع الذي التف على رأس الدولة في مصر في أعقاب ثورتها.
عجز الأيديولوجيات الحديثة المتبدلة على السطح في الواقع العربي عن إخراجه من أزمة جموده وتقليديته، إنما يرتبط بخضوعها لهيمنة نظام الثقافة الذي ينتجها كنماذج لابد من فرضها من الأعلى على نحو اكراهي، وليس كمجرد تجارب مشروطة بسياقات تاريخية ومعرفية لا فعالية لها خارجها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق