من المطبعة إلى الإنترنت، استطاعت السلطة عند كل تغيير جذري يفتح الباب أمام حرية التعبير أن تتكيف مع تلك التغييرات لتعيد تنظيم الفضاء العام، وتفرض سيطرتها على رعاياها أو مواطنيها.
كيف أمكن للطاقة المحرِّرة التي منحتها تكنولوجيا متطورة تسمح للناس جميعا بالتواصل دون وساطة،
وكيف أمكن للإنترنت أن يتحول إلى أداة تفتيش ومراقبة فعالة للفضاء العام؟
كيف سعت الدولة دائما إلى التحكّم في وسائل الاتصال والفضاء العام، يرتد بنا الباحث إلى القرن الخامس عشر واختراع المطبعة الذي أتاح دمقرطة إنتاج المصنّفات وترويجها، ثم تحويلها إلى وسيلة احتجاج سياسي، خاصة في نطاق الإصلاح البروتستانتي حيث كانت الكتب والرسائل النقدية تنتقل عبر البلدان الأوروبية بحرية.
وأمام هذه الحركة الواسعة، وحالات الفوضى التي ولّدتها، لجأ ملوك أوروبا إلى الرّدع والمصادرة.
الغاية لديه دائما تبرر كل الوسائل
السّرية والمراقبة والمصادرة والتحكّم في الوسائط التقنية والدعاية المضلّلة شكلت بوليس الفضاء العام منذ القرن الـ16
بعد الثورة الفرنسية، التي شهدت ما بين صيف 1789 وخريف 1791 ما وصفه المؤرخون بـ”جنة الحرية”، عوّض “مبرر وجود الدولة” بـ”سلامة الدولة” ثم بـ”أمن الدولة”، أي ثلاث صيغ مختلفة لفلسفة واحدة.
فالسّرية والمراقبة والمصادرة والتحكّم في الوسائط التقنية والدعاية المضلّلة التي شكلت بوليس الفضاء العام منذ القرن السادس عشر ما انفكت تتجدد تحت تسميات مختلفة ودواع شتّى. ولئن ظهرت بعض التعديلات خلال تلك الحقب، كحرية الصحافة التي تمّ إقرارها عام 1881 في فرنسا، فإن الدولة لا تفتأ أن تقابلها بأحكام تتراوح بين القمع والانضباط، أي أنها تمارس الإرغام والعقاب. قد تظهر بعض الانفراجات هنا أو هناك، ولكن حركة المدّ والجزر لم تتوقف إلى اليوم.
وعود الانفتاح التي بشّر بها بناة الإنترنت، وفي مقدّمتهم أبو السيبرنيطيقا الأميركي نوربرت وينر (1894-1964)، وكانوا يعتقدون أن تقاسم المعلومة سيكون عامل سلام وتقدّم، وأن التعبير الحرّ الذي ستمهّد له هذه الوسيلة اللامركزية سوف يسمح لكل فرد بتحرير طاقته التعبيرية والإبداعية، باءت كلّها بفشل تمثل في نقطتين: الأولى أننا صرنا، بدل التحرر الموعود، نواجه تقلص حرياتنا بشكل مزعج، وفي غياب الحرية، تمّ فرض القوانين الاستثنائية بتعلّة مكافحة الإرهاب وخطب العداء والكراهية والعنصرية، علاوة على أن الإنترنت لم يضع الرأسمالية موضع مساءلة، بينما تراجعت الإيكولوجيا إلى حدودها الدنيا.
النضال المعلوماتي
والحلّ في رأيه لا يكون فقط بكشف دوافع منتجي التكنولوجيا، وفضح سياسة الهيمنة الكونية التي يمارسونها، وتوعية الناس بأن الحواسيب والهواتف الجوالة وسيلة للمراقبة والإثراء الفاحش، ولا بعمليات تخريب لكل ما له صلة بالمعلوماتية كما حدث في فرنسا في مطلع الثمانينات، وإنما الحل في رأيه، إلى جانب تجديد خطاب النقد التكنولوجي، أن نسحب الوصلة الكهربائية عن الآلة، أي أن نكفّ نهائيا عن استعمال الإنترنت.
لكن هذا في حدّ ذاته طوباوية، فلا نعتقد أن ثمة اليوم من يعدل عنه، وقد صار جزءا من حياته، الشخصية والعملية، فلولا الإنترنت ما كانت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتستمر إبّان هذه الأزمة الصحية الكبرى، وغاية ما يمكن أن نطمح إليه هو وضع قوانين تمنع استغلال الإنترنت لغير ما وُجد له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق