Jun 7, 2021
أستاذاً سابقاً لدراسات الشرق الأوسط في قسم الدراسات الحربية في كلية لندن الملكية
المؤسسة العسكرية المصرية كرأس حربة لرأسمالية الدولة
العقارات
استثمر السيسي موارد حكومية ضخمة في إنشاء العقارات لتوليد الإيرادات ودفع النمو الاقتصادي وجذب المستثمرين من القطاع الخاص. يشمل هذا الجهد بناء ثلاث مدن "ذكية،" وتدلّ التسمية على أنها تستخدم التكنولوجيا الرقمية لتحسين كفاءة الطاقة. تستهدف هذه المدن العملاء من الطبقة المتوسطة العليا بمساكن فاخرة على شاطئ البحر، تقليدًا لنموذج دبي. وتستهدف مشاريع حضرية أخرى أسر الطبقة المتوسطة الأقل ثراءً، ويستهدف غيرها العمّال في المناطق الصناعية الجديدة. إن التكلفة الدقيقة لهذه المخططات الحضرية ليست واضحة، لكنها تأتي ضمن مروحة ضخمة من المشاريع القومية التي تلقت 4 تريليونات جنيه مصري (أكثر من 200 مليار دولار) من التمويل الحكومي خلال الفترة من 2014 إلى 2019. هذا وقد استحوذت المرحلة الأولى من بناء العاصمة الإدارية الجديدة على ما يقرب من 10 في المئة من إجمالي الإنفاق (300 مليار جنيه مصري، أو 19.05 مليار دولار) بحلول كانون الثاني/يناير 2020، ومن المتوقع أن تبلغ الكلفة خلال خمس سنوات 58 مليار دولار بحلول العام 2022.
إن الحجم الهائل للمشاريع القومية في عهد السيسي يميزه عن غيره، كما هو الحال بالنسبة إلى محاولة توجيه سوق العقار من كونها مضاربة متاحة للجميع إلى مقامرة استثمارية كبيرة تكون فيها الدولة المساهم الرئيس. يبدو أن الطلب على الشقق في المدن الساحلية الجديدة مرتفع، لكن من غير الواضح ما إذا كانت الدولة ستعوض التكاليف بالفعل نظرًا إلى انكماش الطبقة الوسطى وقلة المستثمرين الأجانب. يقلّل الرئيس علنًا من شأن دراسات الجدوى الاقتصادية، ويحتاج إلى شراء ولاء مؤسسات الدولة التي تشكل الائتلاف الحاكم الذي يرأسه. لذلك تمضي المؤسسة العسكرية قدمًا في مشاريع مثل العاصمة الإدارية الجديدة، على الرغم من أنها لا تعرف كيف ستوفر المياه لـ 7 ملايين نسمة يفترض أن تستضيفهم العاصمة.
البنية التحتية
تهدف رأس الحربة الاقتصادية العسكرية أيضًا إلى إنشاء مناطق ومجمّعات رئيسة للصناعة والنقل والخدمات، تتركز في منطقة قناة السويس بمحاذاة ساحل البحر الأحمر. تعتبر القوات المسلحة قناة السويس وشبه جزيرة سيناء في غاية الأهمية للدفاع الوطني، وتعاملهما كمحميّتها الاقتصادية الحصرية. ولذلك، فإن نصف المبلغ الذي أنفقته الحكومة على التنمية في سيناء بحلول نيسان/أبريل 2020 والبالغ 600 مليار جنيه مصري (ما يقرب من 40 مليار دولار)، أدارته الهيئات العسكرية، بما في ذلك جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع لوزارة الدفاع.
إن الاستثمار في البنية التحتية الأساسية في هذه المنطقة أمرٌ منطقي من الناحية الاقتصادية، إذ يشير إلى العزم على جذب الاستثمارات، لكن الوزراء وكبار الموظفين المدنيين يلعبون دورًا ثانويًا فحسب. فوزارة الدفاع والهيئات الأخرى تخضع اسميًا لسيطرة الحكومة ولكنها في الواقع تعمل بشكل أوثق مع المؤسسة العسكرية والرئيس. لكان من الأفضل البدء بمخططات تجريبية لاختبار شهية المستثمرين والسماح بالتكيف وتقييم الآثار البيئية، قبل توسيعها لتصبح مشاريع عملاقة. إن تقديم المحاور التنموية الجديدة كوسيلة لمعالجة البطالة في المناطق الفقيرة، كما يزعم السيسي، يتجاهل أيضًا أنها لا يمكن أن تنجح سوى إذا جذبت العمالة الماهرة من تلك المناطق، ما يفاقم إفقارها.
يؤكد حجم المشاريع العقارية والبنية التحتية على أهمية سيطرة وزارة الدفاع على استخدام جميع أراضي الدولة، والتي يُقدر أنها تشمل من 90 إلى 95 في المئة من إجمالي مساحة مصر. يعد هذا من بين أكبر العوائق أمام نشاط القطاع الخاص، لكن السلطات المصرية تقاوم الإصلاح. كما منح السيسي وزارة الدفاع حق الانتفاع الاقتصادي الكامل على واحد وعشرين طريقًا سريعًا بين المدن وشريطًا بعرض 4 كيلومترات بجانبها، ما يمكّنها من جباية رسوم المرور، وتشغيل أو منح الامتيازات التجارية (بما في ذلك الخدمات على جانب الطريق والإعلان)، ووضع ومراقبة شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية (بما في ذلك كابل الألياف البصرية). تقع المخالفات أو الحوادث أو النزاعات التجارية التي تحدث على هذه الطرق أو تتعلق بها تحت اختصاص المحاكم العسكرية، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع المناطق والمنشآت العسكرية.
الصناعات الاستخراجية
يسلط تكثيف النشاط الريعي الضوء على كيفية تفوّق أجهزة الدولة بميزة الانتفاع من الموارد الطبيعية على القطاع الخاص. أجرى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مشاريع الصوب الزراعية وتربية الأسماك في مناطق مكتظة بالسكان منذ العام 2014، باستخدام المجندين العسكريين كعمالة في ما يُفترض أنه اقتصاد السوق الحر. تتمتع المؤسسة العسكرية أيضًا بالاستفادة غير المقيدة من المياه التي يتم رفعها من الأحواض الجوفية أو المنقولة عبر القنوات من بحيرة ناصر أو نهر النيل، بغض النظر عن الجدوى الاقتصادية أو الآثار البيئية. ويُمكّن ذلك الأعمال التجارية الزراعية التي أنشأها المستثمرون الخليجيون، حرفيًا، من تصديرالمياه. كما تستهلك مزارع الأسماك التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية كميات كبيرة من المياه العذبة.
إخضاع القطاع الخاص
لقد أعادت إدارة السيسي اصطفاف علاقاتها مع القطاع الخاص. إن الدولة هي المستثمر الوحيد في البنية التحتية العامة ومصدر حصة كبيرة من إجمالي أعمال القطاع الخاص، وخاصة بالنسبة إلى الشركات الكبيرة والمتوسطة. أدى الارتفاع الضخم في الإنفاق العام على الإسكان العام والبنية التحتية منذ أواخر العام 2013 إلى تضخيم مركزية الروابط السياسية والمحسوبية في تأمين العقود العامة، ما مكن الهيئات العسكرية من توسيع هوامش ربحها أكثر من المعتاد.
إن غموض الإطار القانوني والتنظيمي الذي يحكم الاستثمار في المشاريع المُنشأة بالاشتراك مع الهيئات العسكرية أو في المناطق الاستراتيجية التي تسيطر عليها وزارة الدفاع يثني الشركات المحلية من الاستثمار فيها. إن إعفاء المؤسسة العسكرية من اختصاص المحاكم المدنية يعني أن النزاعات التجارية التي تكون المؤسسة العسكرية طرفًا فيها لا تذهب إلى التحكيم. كما أن ضعف إنفاذ العقود والمخاوف بشأن المزايا الضريبية للقوات المسلحة تثني الشركات الأجنبية عن الاستثمار في مصر أيضًا.
من الناحية النظرية، من شأن استثمار الدولة أن يسمح لرأس المال الاستثماري بفتح قطاعات اقتصادية جديدة وتطويرها، لكن السيسي وبّخ أيضًا شركات القطاع الخاص لفشلها في الاستثمار في سيناء، متجاهلًا العقبات أمام الاستثمار، وغياب التشاور مع تلك الشركات، وغياب دراسات الجدوى. فبدلًا من فتح المجالات الاستثمارية الجديدة، توسعت الشركات العسكرية بقوة في قطاعات السلع القابلة للتداول، ما ألحق خسائر فادحة بالمنتجين من القطاع الخاص ونقل حصتها في السوق إلى الشركات العسكرية. برّرت المؤسسة العسكرية قراراتها الاستثمارية بأنها تكسر الاحتكارات (غير الموجودة في الواقع) وتؤمن استقرار العرض والأسعار، لكن العامل الأكثر وضوحًا هو أنها تسعى لضمان تسويق إنتاجها هي.
تسعى إدارة السيسي وراء استثمارات القطاع الخاص، ولكن بحسب شروطها هي فقط. فهذه الإدارة ترى أن توليد الدخل وتوفير السلع بأسعار معقولة لفئات مجتمعية مختارة هو ذات أهمية سياسية كبرى، وتوظِّف سيطرة الدولة على الأراضي والتجارة الخارجية والموارد الطبيعية لتحقيق أقصى قدر من هذه الغايات. على سبيل المثال، في العام 2019، وضع السيسي الأراضي المحيطة بالوجهة السياحية الرئيسة في الغردقة وسبع وأربعين جزيرة في البحر الأحمر تحت سيطرة وزارة الدفاع. عمد وزير السياحة في وقت لاحق إلى تبرير ذلك، متهمًا الشركات السياحية الخاصة بـأنها "لا تضع جنيهًا في دعم السياحة."
تجميل رأسمالية الدولة
تحمِّل إدارة السيسي مستثمري القطاع الخاص جزءًا من عبء تركيزها على الأنشطة التي تقودها الدولة ذات الكثافة الرأسمالية. فقد خفضت الحكومة بشكل كبير الإنفاق على دعم الطاقة والغذاء وأجور القطاع العام، وخفضت نسبة القروض المتعثرة. كما وافق مجلس النواب على بيع الشركات المملوكة للدولة التي تتعرض إلى خسائر تزيد على نصف رأس مالها. لم تكن هذه الإجراءات كافية لتوليد رأس المال بالحجم الذي يسعى إليه الرئيس، ما أجبر الحكومة على الاقتراض ورفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 90.3في المئة بحلول حزيران/يونيو 2019 والدين الخارجي إلى 112.7 مليار دولار بحلول كانون الأول/ديسمبر.
سعى السيسي إلى جذب رؤوس أموال القطاع الخاص إلى المشاريع التي تقودها الدولة. وقد تفاخر رئيس الوزراء في العام 2015 بأن العاصمة الإدارية الجديدة لن تكلف الدولة المصرية "مليمًا واحدًا،" حيث سيتم تمويلها من خلال التمويل التجاري بالشراكة مع شركات خاصة ومستثمرين أجانب.
ثم أدت المخاوف بشأن جدوى المشروع إلى انسحاب شركات إماراتية كبرى، وتعليق قرض صيني بقيمة 3 مليارات دولار، وفشل المحادثات بشأن استثمار صيني بقيمة 20 مليار دولار. وبحلول أيار/مايو 2019، لم تزد نسبة الاستثمارات الآتية من الخارج عن 20 في المئة. فاضطرت المؤسسة العسكرية والرئاسة إلى إقناع وحتى إكراه بعض المستثمرين العقاريين الأكثر شهرة في البلاد من القطاع الخاص على الاستملاك في العاصمة الجديدة.
برز صندوق مصر السيادي (ثراء) كأداة مفضَّلَة للرئيس لجلب استثمار القطاع الخاص إلى الكيانات والمشاريع العامة، مع إعطاء الدولة اليد العليا. تأسس الصندوق في العام 2018 ومن المفترض أن يكون مسرّعًا لوضع أصول حكومية مختارة تحت سيطرة القطاع الخاص جزئيًا، ولكن فيرأي أحد محللي السوق، فإن هذا يجعله "شركة قابضة سيادية،" وليس صندوق ثروة سياديًا.
مرة أخرى تقود المؤسسة العسكرية هذا النهج. كشفت شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية عن عزمها نقل ملكية أصول بقيمة 50 مليار جنيه إلى صندوق ثراء، ما يضمن للهيئات العسكرية المعنية الحصول على أرباح مستقبلية من العقارات. وفي شباط/فبراير 2020، وافق صندوق ثراء أيضًا على إدراج عشر شركات تابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في محفظة أصول للترويج والاستثمار، مع استبعاد الشركات غير الكفؤة للغاية التابعة لوزارة الإنتاج الحربي، ما يشير إلى ظهور الصندوق كأداة لجذب الاستثمار الخاص بطرق تحافظ على سيطرة الدولة على الأصول وتُبقي غموض مواردها المالية الحقيقية.
لعبة أكواب متحركة مألوفة
لا تساهم أدوات الاستثمار مثل صندوق ثراء كثيراً في إحداث نقلات نوعية في التصنيع أو التكامل التكنولوجي أو ترقية الخدمات وزيادة صادرات السلع. بدلاً من ذلك، فإن نموذج السيسي لرأسمالية الدولة هو نوعٌ من لعبة الأكواب المتحركة: فهي تنقل رأس المال من القطاع الخاص إلى الدولة، ومن كلا القطاعين إلى مؤسسات ينشئُها أو يفضلها هو، وعلى الأخص صندوق تحيا مصر وصندوق ثراء والمؤسسة العسكرية. يوفر هذا النهج كفاءة أعلى، لكن إدارة السيسي تظل غير قادرة على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر سوى بمعدَّل يصفه البنك الدولي بأنه "بطيء." وحتى هذا الاستثمار المحدود موجه بشكل أساسي إلى قطاع الطاقة، ما يترك القطاعات الإنتاجية الأخرى في مصر تعاني، بل انخفض هو أيضًا بشكل حاد منذ العام 2017.
هناك إمكانية أن تتحرك مصر تدريجيًا وبشكل متقطع، وحتى عن غير قصد، نحو وضع يصبح فيه الحفاظ على اقتصاد تسيطر عليه الدولة أمرًا غير قابل للصمود. لكن في الوقت الحالي، لا شيء يفعله السيسي يغيّر واقع ما وصفه تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي في العام 2019 بشأن مصر بأنه "مشاكل مزمنة من ضعف الحوكمة والبحث عن الريع ومخاطر الفساد والحضور المكثف للدولة في الاقتصاد." فمن دون حدوث تغيير جوهري في هيكلية المداخل والفرص الاقتصادية، سيظل السيسي وكل من يخلفه في الرئاسة بشكل دائم عرضة للبحث التنافسي عن الريع بين أجهزة الدولة التي تعتمد سلطته عليها.
******* 2
القوات المسلحة في السُلطة والاقتصاد
سيصعب على القوات المسلحة في السلطة والاقتصاد تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المعقدة والشاقة اللازمة لتحفيز النمو.
يثير التوسع الأخير في الاقتصاد العسكري في مصر سؤالين مهمين عن الاقتصاد السياسي: لماذا تسيطر بعض القوات المسلحة على الأمور وتحكم البلدان بشكل مباشر، ولماذا ينخرط البعض منها في التجارة؟ أطاح ضباط عسكريون في مصر (2013) والجزائر (2019) والسودان (2019) بالنخب المدنية للتحوط من الحركات الديمقراطية التي هددت بتقليص نفوذ المؤسسة العسكرية. ثم وسعت هذه الأنظمة العسكرية الجديدة مصالحها التجارية لتهميش المقربين من المدنيين الذين أطاحوا بهم. ولكن سيصعب على هذه الأنظمة العسكرية التي تركز على التموّل خلال تدخلها في الاقتصاد تنفيذ الإصلاحات اللازمة لتحفيز النمو.
في السلطة
مقارنة بالديكتاتوريات العسكرية، يمكن للحكام المدنيين توسيع الكعكة الاقتصادية من خلال التعاون مع الاقتصاد المدني أكثر مما تستطيع الديكتاتوريات العسكرية القيام به، فعلى سبيل المثال، تستخدم النخب المدنية العصا والجزرة، بينما تستخدم القوات المسلحة العصا فقط. وهذا يفسر لماذا في الكثير من البلدان، كما في تركيا في الماضي، قد تحكم القوات المسلحة، لكنها نادرًا ما تدير الأمور. تستخدم الحكومة المدنية المثلى، الخاضعة إلى قيود الانقلاب، واحدة من استراتيجيتين: الحفاظ على مؤسسة عسكرية ضعيفة؛ أو، عندما تكون هناك حاجة إلى مؤسسة عسكرية كبيرة (بسبب التهديدات الخارجية أو لقمع السكان)، تعاملها جيدًا بحيث لا تتمرد.
يمكن لهذه النظرية أن تفسر سبب بقاء النخب المدنية غالبًا من دون انقلابات. ففي الجزائر ومصر والأردن والسودان وسورية، تمكنت النخب المدنية من توفير تمويل سخي لمؤسسة عسكرية كبيرة نسبيًا باستخدام الريع الخارجي. في المقابل، في المغرب وتونس في عهد بن علي، ظلت المؤسسة العسكرية صغيرة نسبيًا.
سمحت الطفرة النفطية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين للأنظمة المدعومة من المؤسسة العسكرية بتمويل قوات أمنية كبيرة بصورة سخية بما فيه الكفاية للحماية من حدوث تمرد. وبعد انهيار عائدات النفط في العام 2014 (أو في وقت مبكر من العام 2011 في السودان) ترددت النخب المدنية بشكل متوقع في خفض التمويل المباشر للمؤسسة العسكرية. وعندما لم تتمكن النخب من المحافظة على التمويل المباشر، تحركت باتجاه السماح للقوات المسلحة بتمويل ذاتها مباشرة من الأسواق.
أثّر انخفاض أسعار النفط علىالجزائر في العام 2015. وتقلصت عائدات النفط بمقدار النصف بين 2007 و2017. وقد اختارت البلاد تمويل عجز مالي كبير من الاحتياطيات المتراكمة، لكن هذا لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة. في العام 2017، احتلت القوات المسلحة الجزائرية المرتبة الثانية من حيث الحجم في أفريقيا بعد القوات المسلحة المصرية. ارتفع إنفاقها العسكري بسرعة، من 8 إلى أكثر من 15 في المئة من إجمالي الإنفاق الحكومي بين عامي 2008 و2017. ونظرًا إلى أن النفقات الحكومية الإجمالية ارتفعت أيضًا، من 35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2006 إلى ما يقرب 42 في المئة في العام 20151، تجاوزت نفقات الدفاع 10 مليارات في العام 2015، وهو ضِعف المستوى المُسجّل في العام 2008.
********* 3
الضعف المزمن لأداء الاقتصاد العسكري المصري
السيسي تشبث المؤسسة العسكرية بالسيطرة على الاقتصاد لأغراض سياسية، لكن بعد عقود من التدخل العسكري في الاقتصاد، يتواصل الانحدار في مصر وفق جميع المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسة، مقارنة بمجموعة نظرائها. نتيجة لهذا التدخل العسكري في الاقتصاد، تقوم مصر بتخصيص مخطئ للاستثمارات العامة في مشاريع البنية التحتية الكبيرة والقطاعات غير المنتجة وصناعة الدفاع غير الكفؤة، ما أدى إلى تكبّد تكلفة باهظة على حساب رفاهية المصريين العاديين.
أصبح دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري أكبر وأكثر غموضًا، مع آثار سلبية على ما يبدو، ولاسيما عندما نضع في الاعتبار الوضع المتدهور لمصر في الاقتصاد العالمي من خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم. ومع النمو السريع للسكان الذين يزيد الآن عددهم عن 100 مليون نسمة غالبيتهم من الشباب، فإن العواقب السياسية لمثل هذا التدهور قد تكون خطيرة. إن عدم توافر الوظائف، مقرونًا برغبة المؤسسة العسكرية في السيطرة على الفضاء السياسي والاقتصادي، هو وصفة للارتطام بطريق سياسي مسدود، أو لما هو أسوأ من ذلك: اندلاع تمرد.
أكثر مظاهر ضعف الأداء الاقتصادي جلاءً هو الافتتان بمشاريع البنية التحتية الضخمة. يصف يزيد صايغ في "أولياء الجمهورية" كيفية انبهار المؤسسة العسكرية بإبراز نفوذها وقدرتها، ورغبتها بإرضاء جمهور سياسي صغير، وتنمية الشعور بالاستحقاق. كما يوضح تقريره الشامل تفاصيل كيفية وأسباب تدخل قادة المؤسسة العسكرية المصرية تدريجيًا في الاقتصاد الرسمي. ويقدّم صايغ، بعد أن يسقط أخيرًا الأرقام المضخمة وغير الدقيقة في كثير من الأحيان لسيطرة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد، صورة واضحة عمّا تسيطر عليه المؤسسة العسكرية وتملكه وتديره.
بينما تحتاج مصر بالتأكيد إلى تحديث بنيتها التحتية العامة المتداعية، تبدو سياساتها الاقتصادية بشكل متزايد وكأنها مشاريع للتفاخر، وغاية في حد ذاتها لا كوسيلة للتنمية الاقتصادية أو الاجتماعية. صحيح أن المؤسسة العسكرية تستثمر في الطرق والجسور الرائعة، ومشاريع البناء التي تلبي احتياجات مجموعة صغيرة من المصريين الأثرياء لكنها تترك العديد من أفقر شرائح المجتمع من دون مرافق وخدمات أساسية. وقد قلبت احتجاجات الربيع العربي مصر رأسًا على عقب، جزئيًا، بسبب الاستقطاب الشديد للثروة بين من يملكون ومن لا يملكون.
بينما يقيس الاقتصاديون نمو الناتج المحلي الإجمالي المصري بنحو 5 في المئة سنويًا، فإن الواقع هو أن معدل وصول فوائد النمو في مصر إلى أفقر شريحة من المجتمع يكاد لا يُذكر بل قد يكون سلبيًأ، وذلك لأن نمو الناتج المحلي الإجمالي يهتم بالصادرات والاستثمارات وليس معدلات التوظيف أو توزيع الثروة أو الرفاه العام للأفراد. وافتتان المؤسسة العسكرية ببيئة البناء يضاعف هذا الأمر، حيث إنه لا يركز على الإنتاجية أو التوظيف أو الربح.
إن الإعجاب بمخرجات الإنجازات العسكرية، من دون وضع وجود أو عدم وجود التأثيرات الاجتماعية الاقتصادية في الاعتبار، هو نقطة عمياء للمؤسسة العسكرية، كما يتضح من بناء العاصمة الإدارية الجديدة. توصف العاصمة الجديدة بأنها مدينة ذكية ذات ابتكارات تكنولوجية حديثة، لكن من غير المرجح أن تخلص البلاد من الفساد المستشري أو أن تؤدي إلى تحديث القطاع العام المتضخم. بناؤها على الأرجح كان يهدف إلى تحصين الرئيس ضد الاحتجاجات المحتملة.
التركيز على القطاعات غير المنتجة
نتج ضعف الأداء الاجتماعي والاقتصادي في مصر أيضًا عن تركيز المؤسسة العسكرية على الاستثمار في القطاعات غير المنتجة. قد يكون استثمار المؤسسة العسكرية في الإسكان العام إيجابيًا، حيث يوجد نقص هائل في الإسكان العام بأسعار معقولة في مصر. لكن، بخلاف الإسكان الميسور، فإن الكثير من استثمارات المؤسسة العسكرية تفشل في إفادة الجماهير أو المواطن المصري العادي، فيما المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية تزداد سوءًا أو تتعرض إلى الركود.
يشير البنك الدولي إلى أن انخفاض دخل الفرد منذ العام 2016 وتزايد الفقر والتضخم والسكان، لن يؤدي إلا إلى تفاقم التحديات الاجتماعية والاقتصادية في مصر. علاوة على ذلك، فإن الدين العام في مصر آخذ في الارتفاع، وكما أظهرت الجولات الأخيرة لشروط إعادة جدولة الديون لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإن الشعب غالبًا ما يدفع الثمن من خلال زيادة أسعار السلع والخدمات الأساسية والسياسات الضريبية التنازلية. بعبارة أخرى، يسدد المواطنون العاديون الديون المتراكمة، ما يفاقم تراجع مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
هناك مجال آخر للاستثمار المحتمل، ولكن المتعرّض إلى الإهمال المتواصل، وهو نظام السكك الحديدية. تستحضر السكك الحديدية رمزية سياسية أقل وتستخدمها القطاعات الفقيرة في المجتمع المصري، لذا فهي لا تحتل مكانة بارزة في التخطيط الاقتصادي. بدلًا من ذلك، ينصب تركيز المؤسسة العسكرية على مشاريع السكك الحديدية الأحادية القضبان الأكثر وهجًا والأكثر تكلفة والتي قد تلبي احتياجات الفقراء أو لا تمتد إلى المجتمعات المهملة في جنوب مصر
الاستثمار في صناعة دفاعية غير كفؤة هو المصدر الأخير لضعف الأداء الاجتماعي والاقتصادي لمصر.
يمكن تحسين رفاهية المصريين العاديين من خلال تحسين الخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم، وليس في إغراق المزيد من الموارد العامة في صناعة دفاعية غير كفؤة.
باعتبارها الدولة العربية الأكثر اكتظاظًا بالسكان، فإن نجاح مصر أو فشلها في التنمية الاقتصادية له آثار إقليمية، إن لم تكن عالمية. وفي حين أن مصر ربما كانت نموذجًا يحتذى به للدول النامية في العقود السابقة
دعمت دول الخليج العربي مصر في السنوات الماضية بمليارات الدولارات في شكل قروض ومنح، إلا أن الانخفاض الحاد في أسعار النفط يعني أن تلك الدول ستكون أقل استعدادًا وقدرة على دعم الحكومة المصرية. علاوة على ذلك، من المرجح أن تنخفض حوالات العاملين إلى مصر مع انخفاض أسعار النفط وتراجع التوقعات الاقتصادية الإقليمية. وربما تفضل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عدم مواجهة التحدي المتمثل في مئات الآلاف من المصريين الذين لديهم حافز أقل للعودة إلى ديارهم بسبب تدهور الاقتصاد المصري.
من غير المرجح أن تنجح المؤسسة العسكرية كمنقذ اقتصادي لمصر. فالمؤسسة العسكرية تواجه توقعات كبيرة تتعلق بالاحتياجات المتزايدة للشعب، لكنها لا تتمتع بالرشاقة والإبداع والقدرة على القيام بذلك. لقد كشفت جائحة كورونا أيضًا عن الحاجة إلى ثقة الجمهور والقيادة والاستثمار في الرعاية الاجتماعية والرفاهية، إلا أن إدارة السيسي أصرّت على الحفاظ على وتيرة بناء مشاريع التفاخر مثل العاصمة الإدارية الجديدة. سيكون فشل مصر هائلًا لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأكملها ويستحق الاهتمام السياسي، لكن استعداد المجتمع الدولي لقبول السيسي كقوة استقرار وتجاهل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية — وربما السياسية — التي تلوح في الأفق والتي تواجه مصر هي حقيقة قائمة لكن قصيرة النظر .
بسمة المومني أستاذة علوم سياسية في جامعة واترلو الكندية.
*** 4
الاقتصاد المصري: في براثن الدولة العميقة
يُعد الإنجاز الناجح لبرنامج صندوق النقد الدولي في مصر للعام 2016 سطحيًا، إذ يخفي ضعف النمو الاقتصادي مقارنة بأقرانه في الأسواق الناشئة، فضلًا عن اقتصاد يثقله قطاع العام تقوده المؤسسة العسكرية.
في منتصف العام 2019، تلقت مصر آخر قسط بقيمة ملياري دولار من القرض البالغ 12 مليار دولار الذي قدمه صندوق النقد الدولي في العام 2016، معلنًا مُستكملةً بذلك البرنامج المتفق عليه بنجاح. لكن المراجعة النهائية التي أجراها صندوق النقد الدولي لإصلاحات مصر التي شكّلت الأساس للموافقة على الصرف النهائي لم تكن مقنعة تمامًا. فالاقتصاد المصري يعتمد بشكل كبير على القطاع العام الذي تقوده المؤسسة العسكرية، الذي أثبت عدم قدرته على تحقيق النمو طويل الأجل والذي يعتبر ضروريًا لانتشال ملايين المصريين من براثن الفقر.
ولكن وللإنصاف، نفذت مصر إصلاحات عدة لطالما صعب على الحكومات المصرية السابقة إنجازها، من بينها تحرير سعر الصرف (وإن لفترة محدّدة وحسب)، وخفض الدعم على الوقود والغذاء، وتنفيذ تدابير تقشّفية معيّنة، ورفع أسعار الفائدة لتعويض الأثر التضخمي لتخفيض قيمة العملة. كما كانت هناك بداية مشجعة لإصلاح بيئة الأعمال من خلال تحديث بعض القوانين والقواعد التنظيمية، إلا أن هذا التقدم المحدود الذي حققته مصر في هذه الفترة لا يفسّر أسباب تراجع الاقتصاد المصري الكبير عن نظرائه في الدول الناشئة.
تقدم اقتصادي سطحي وغير مستدام
عملت اتفاقية صندوق النقد الدولي أيضًا على تنشيط حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي نفذت مشاريع بنية تحتية كبرى وتوجهت إلى مجتمع الاستثمار الدولي بثقة مستجدة. كان اكتشاف حقل غاز عملاق داخل حدود مصر الدولية في البحر الأبيض المتوسط في بداية البرنامج الممول من الصندوق بمثابة دفعة جيدة إلى الأمام. كذلك، كان رد الفعل الرسمي من دول الخليج الصديقة ومن أوروبا إيجابيًا للغاية وجلب المزيد من الأموال. والأهم من ذلك أن مستثمري الأسواق الناشئة، الغارقين في بحر من أسعار الفائدة المنخفضة أو السلبية، توافدوا على سندات الخزانة المصرية التي اقترنت بأسعار فوائد تفوق العشرة في المئة يصحبها الحد الأدنى من مخاطر سعر الصرف، وعلى عروض سندات الدين بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز) التي أصدرتها مصر بمعدلات متوسطة نسبيًا. ولهذا، أصبحت البلاد خلال هذه الفترة إحدى أكثر الوجهات المقصودة لتدفقات رأس المال قصيرة الأجل في الأسواق الدولية.
ساعدت عودة الاستقرار في مصر بعد اضطرابات الربيع العربي المقلقة وما تلاها من أحداث، في إنعاش القطاع السياحية إلى حدٍ ما وكذلك في تحفيز نشاط القطاع الخاص المرتبط بمشاريع البنية التحتية الحكومية. كذلك، تعافى النمو الاقتصادي إلى معدّلٍ يزيد عن 5 في المئة وتحسنت آفاق العمالة. وحين شارف البرنامج على نهايته، كان العجز المالي قد تقلّص، وانخفض التضخم بشكل كبير عن المعدّل الذي بلغه بعد تخفيض قيمة العملة.
من منظور صندوق النقد الدولي والأسواق المالية الدولية، كان برنامج مصر ناجحًا بشكل معقول لأنه ساعد في تخفيض حدّة الاختلالات والتشوهات على صعيد الاقتصاد الكلي وفي استقرار الأوضاع المالية. مع ذلك، فشل البرنامج في تحقيق الهدف الأساسي والأهم الذي أكّد عليه كل من مصر وصندوق النقد الدولي منذ البداية، وهو وقف اعتماد الاقتصاد المصري على القطاع العام، بل تحويله إلى اقتصاد تحركه قوى السوق ويقوده القطاع الخاص.
في السياق المصري، تطلب هذا الهدف أساسًا تقليصًا تدريجيًا للدور المباشر للمؤسسة العسكرية المستحكمة في قطاعات مهمة من الاقتصاد. بينما يمكن للمرء أن يتفهم إحجام صندوق النقد الدولي عن الضغط على مصر للقيام بمثل هذا التحوّل (الذي من المفترض أن يكون من مهام البنك الدولي)، تجاهلت حكومة السيسي القضية برمتها وشرعت في توسيع نطاق دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد بشكل واضح وصريح.
القطاع العام الذي تقوده المؤسسة العسكرية لا يزال مهيمنًا
الانقلاب العسكري في العام 1952 أحدث انقطاعًا مع قرن من النمو الرأسمالي في مصر وشرع في استراتيجية تنمية بقيادة الدولة تستند إلى موقف معادٍ للاستعمار خارجيًا وبرامج إصلاح شعبوية داخليًا. هذا التوجه الأخير يعني في الأساس تأميم الصناعة، وإعادة توزيع الأراضي على نطاق واسع، وفرض ضرائب تصاعدية للغاية على الدخل والثروة.
لا شكّ أن دولًا نامية أخرى شهدت في السنوات الأولى بعد نيلها الاستقلال نقل السلطة السياسية إلى المؤسسة العسكرية، مثل الصين وكوريا الجنوبية وتركيا وإندونيسيا والعديد من دول أمريكا اللاتينية. ومع ذلك، أعادت معظم البلدان مع مرور الوقت ترسيخ مبدأ السيطرة المدنية، وغالبًا مل اقترن ذلك بضمانات دستورية، وتوفير أطر قانونية ومؤسساتية قوية تضمن تأسيس نظام اقتصادي أكثر ليبرالية وانفتاحًا. لكن مصر لم تشهد مثل هذا التحول خلال العقود السبعة الماضية تقريبًا.
فبالنسبة إلى مصر، وبالإضافة إلى سيطرة المؤسسة العسكرية المباشرة، ظلّت قطاعات مهمة من الاقتصاد تحت التأثير غير المباشر للمؤسسة الأمنية من خلال شبكة واسعة من كبار الضباط المتقاعدين الذين يشغلون مناصب إدارية عليا أو يعملون كأعضاء في مجالس إدارة شركات في جميع فروع المؤسسات العامة المترامية الأطراف وكذلك في أجزاء من القطاع الخاص. كذلك، يتولّى رئاسة غالبية السلطات المحلية في الأقاليم وجميع الهيئات العامة تقريبًا (في النقل البحري والطيران والسكك الحديدية وقناة السويس) جنرالات سابقون أو أمثالهم من الضباط المتقاعدين رفيعي المستوى وذلك منذ عقود. وبالتالي، تساعد هذه الشبكة من الضباط العسكريين المتقاعدين في ضمان بقاء السياسات الاقتصادية والقرارات الاستراتيجية لشركات القطاع الخاص ضمن المعايير التي تحددها المؤسسة العسكرية. هذا هو السبب الرئيس وراء عدم نجاح الخصخصة الحقيقية في مصر مقارنةً مع دول ناشئة أخرى، باستثناء فترة وجيزة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
*
تدلّ كافة المؤشرات الاقتصادية على تخلّف الأداء الاقتصادي لمصر في العقود الأخيرة مقارنة بأقرانها في الأسواق الناشئة.
فعلى سبيل المثال، في الفترة من 1988 إلى 2018، بالكاد تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في مصر، حيث وصل إلى أقل من 3000 دولار أمريكي في السنة الأخيرة، في حين نما نفس المقياس في مجموعة الأسواق الناشئة التي يتم تتبعها على نطاق واسع بنحو خمسة أضعاف ليصل إلى 5250 دولارًا. والأمر اللافت أنه في حين كانت مصر وكوريا الجنوبية على مستويات تنمية مماثلة في الخمسينيات من القرن الماضي، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في كوريا الجنوبية بحلول العام 2018 إلى أكثر من عشرة أضعاف مثيله في مصر، إلى حوالي 35000 دولار. علاوةً على ذلك، حتى النمو المتواضع الذي حققته مصر لم يتمّ توزيعه بشكل منصف بين السكان. فمعدلات الفقر في مصر مثلًا تفوق بكثير معدلاته في الدول النظيرة، في حين أن البطالة بين الإناث وفي أوساط الشباب هي ضعف معدلاتها لدى عامة السكان، والتي هي نفسها مرتفعة نسبيًا وبشكل مزمن.
يُعد وضع القطاع العام المهيمن والذي يتمتع بالعديد من الامتيازات، وخاصة الجزء التي تسيطر عليه المؤسسة العسكرية، في الاقتصاد سببًا رئيسيًا لفشل مصر إلى حد كبير في تطوير قطاع خاص دينامي وخلّاق، وفي تحديث وعولمة اقتصادها بالكامل. على سبيل المثال، يتجاوز التوظيف في القطاع العام في مصر حاليًا 6 ملايين شخص (باستثناء القوات المسلحة التي يبلغ عديدها نحو 1.5 مليون)، أو أكثر من 22 في المئة من القوة العاملة في البلاد، وذلك مقارنةً مع حوالى 13 في المئة في تركيا وأقل من 9 في المئة في كوريا الجنوبية. قُدِّر الحجم الاقتصادي للقطاع العام في مصر بنحو 31 في المئة في العام 2017، أي حوالى ضعفي أو ثلاثة أضعاف المتوسط في الاقتصادات الناشئة الرائدة. وتعمل مصر تعمل شركات القطاع العام في ظل نظام امتيازات حيث نادرًا ما تتنافس مع القطاع الخاص، وبالتالي تظل محمية من المنافسة الأجنبية، ما يؤدي إلى تدلي الكفاءة وتضخم العمالة.
منذ أوائل السبعينيات، ساعد انفتاح التجارة العالمية والتدفقات الكبيرة لرؤوس الأموال والتكنولوجيا والمواهب العديد من البلدان الناشئة والنامية على تطوير صناعات جديدة واعتماد تكنولوجيا حديثة وتوسيع تجارتها في الأسواق العالمية. في المقابل، أبقت مصر جزءًا كبيرًا من اقتصادها مغلقًا نسبيًا، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى مقاومة القطاع العام العازم على رفض الإصلاحات التي ترتكز على قوى السوق، والحفاظ على امتيازاته. وهكذا، خلال العقود الدينامية للعولمة وللتجارة العالمية (من الثمانينيات إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين)، اختارت مصر الاعتماد على الريع الاقتصادي الذي يمكن أن تحصل عليه من مزايا خاصة مثل الموارد الهيدروكربونية، والإرث الفريد من المواقع السياحية، وتحويلات العاملين من دول الخليج، والتجارة عبر قناة السويس، والتحويلات الرسمية التي غالبًا ما تُمنح كمكافأة لاعتبارات جيوسياسية (مثل الحفاظ على السلام مع إسرائيل والانضمام إلى التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في حرب تحرير الكويت).
جورج العبد باحث متميز في معهد التمويل الدولي ومدير سابق لدائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.
***** 5
الطبقة الحاكمة الناشئة في مصر
يعتمد استيلاء المؤسسة العسكرية المصرية على موارد الدولة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي على سوء إدارة الدولة والفساد الواضح للنظام السابق، ما ينذر ببروز طبقة حاكمة جديدة من ضباط عسكريين.
لم تعد المؤسسات التجارية العسكرية في مصر صندوقًا أسودَ، ما يفتح آفاقًا جديدة لفهم حجم الهدر والفساد في أكبر دول العالم العربي من حيث السكّان. لم يكن التحول الدراماتيكي للاقتصاد العسكري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي نتيجة للاقتصاد سياسي يطغى عليه الجانب العسكري بشكل متزايد، بقدر ما هو نتيجة لتسلسل هرمي للضباط يسعى إلى ابتزاز أكبر قدر ممكن من الامتيازات خلال عهده (المحدود ربما) في السلطة.
تتمثّل الميزة الرئيسية للمؤسسة العسكرية في هذا الاستيلاء على موارد الدولة في أن العديد من المصريين يتذكرون الفساد الباذخ في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، وكذلك مشاركة المؤسسة العسكرية في بناء العديد من المؤسسات العامة الأكثر أهمية في مصر في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر. بعبارة أخرى، استغلت المؤسسة العسكرية المصرية التاريخ الوردي والفرصة الاقتصادية السانحة للظهور كنواة لطبقة حاكمة جديدة في مصر.
جزءًا كبيرًا من عملية انخراط المؤسسة العسكرية في الاقتصاد يتم بشكل غير رسمي.
أدى عدم الاتساق والطابع غير الرسمي والافتقار العام إلى البيانات حول العمليات الاقتصادية للقوات المسلحة المصرية إلى صعوبة مقارنتها بالمؤسسات العسكرية الأخرى ذات المحافظ الاقتصادية. ويبقى السؤال ما إذا كانت المؤسسة العسكرية تعمل كطبقة حاكمة فريدة بسبب سيطرتها على أدوات الإكراه، أم لأنها متجذّرة في جميع أركان الاقتصاد، مما يجعل القوة الغاشمة غير ضرورية. هل تستفيد القوات المسلحة المصرية اليوم من نفوذها الجديد لتصبح طبقة حاكمة جديدة، أم أنها تستخدم أدوات الإكراه في خطة مدروسة ترمي إلى إعادة تشكيل الاقتصاد وإخضاع البلاد إلى سطوتها؟
تشير الدلائل إلى قدرٍ من الانتهازية. لقد جعل التحليل السابق للاقتصاد العسكري المصري من الطابع الإكراهي للقوات المسلحة نقطة انطلاقه التحليلية، إلا أن هذا الأمر يعيق القدرة على رؤية ضباط المؤسسة العسكرية كطبقة حاكمة ناشئة، تارةً تستوعب بقايا نظام مبارك السياسي وطورًا تتخلّى عنها. تُعتبر التعيينات في مجالس إدارة الشركات، والمناصب الإدارية في الشركات الكبرى، والتكليف بمهام استشارية للجهات العامة والشركات الخاصة، والتواصل مع الشركات الدولية في المشاريع الكبرى من مزايا الطبقة الحاكمة وتشكل أساس نفوذها.
هذا النفوذ ليس فريدًا، لكنه يعمل على غرار طبقة حاكمة نموذجية، حيث تشكّل السيطرة على رأس المال — بما في ذلك الوصول إلى أموال الدولة وعمالة المجندين والأصول الأساسية والأراضي والاستثمار الأجنبي والمساعدات العسكرية الرسمية — الأساس للتراكم المستمر. وفيما تعتمد الطبقات الحاكمة في الدول الأخرى غالبًا على النفاذ إلى الأسواق الخارجية أو خلق فرص جديدة لتراكم رأس المال، إلى أن المصدر الأساسي لإثراء الطبقة الحاكمة العسكرية في مصر هي الدولة المصرية. إذ يتغلغل الضباط العسكريون الموجودون في الخدمة الفعلية وكذلك المتقاعدون في بيروقراطية الدولة، خاصةً منذ العام 2011، عندما بدأت العقود الحكومية الجديدة والسيطرة على التدفقات الاستثمارية الضخمة من الخليج في دفع توسع الاقتصاد العسكري.
يسلّط التكافل بين العمليات العسكرية الرسمية وغير الرسمية الضوء على الفرصة التي استغلتها هذه الطبقة الحاكمة الجديدة. فقد يحصل ضابط لديه عملية في القطاع الخاص لإصلاح المركبات الرياضية الفاخرة على قطع غيار والوصول إلى آلات باهظة الثمن مجانًا، لأن المؤسسة العسكرية تقوم بتجميع وتعديل العديد من المركبات المماثلة بموجب عقود حكومية رسمية. وقد يكون لضابط آخر فيلا مجانية في منطقة منتجعات، ممنوحة له من الحكومة، لا يمكنه تأجيرها وفحسب، بل يمكن استخدامها أيضًا لاستضافة رجال الأعمال الأجانب وشركاء الاستثمار المحتملين. شبكات الامتياز التكافلية هذه سمة أساسية من سمات الطبقة الحاكمة التي استغلت الإنفاق العالي على الدفاع والمليارات من المساعدات العسكرية الأجنبية ومجموعة الامتيازات المؤسساتية التي تمنحها لها الدولة.
يعمل الاقتصاد العسكري مثل حاضنة امتيازات لطبقة حاكمة نموذجية بطرق أخرى أيضًا. فالضباط العسكريون يتمتعون بإمكانيات غير متكافئة للحصول على الإعانات، والتسلل إلى صفقات سياسية واقتصادية لاستخراج القيمة، والتناوب داخل وخارج الجهات الحكومية والشركات الخاصة للاستفادة من العلاقات الشخصية والوصول إلى معلومات مقيدة. وفي الكثير من الأحيان، يتلقى ضباط رواتب من قبل شركات خاصة للعمل في مناصب العلاقات العامة أو الشؤون الحكومية لأن بإمكانهم تسريع الحصول على التراخيص والإعفاءات التنظيمية والخدمات الحكومية الأخرى. هذه سمة من سمات أي طبقة تسعى إلى الريع أو الاستغلال.
منافع الاستيلاء على الدولة
هناك منافع كبيرة تنتج من هذا السعي إلى الريع. والمعلومات المحاسبية والمالية المحدودة التي تعلن عنها المؤسسة العسكرية تجعل من الصعب على المراقبين أو المدققين المدنيين الحصول على فهم شامل أو نقد الاقتصاد العسكري، الأمر الكفيل بإدامة الامتياز العسكري من خلال جهود الخداع والتضليل والتعتيم. إن قدرة المؤسسة العسكرية على التسلل إلى كل قطاع آخر، بما في ذلك قطاع المصارف والتمويل، بالإضافة إلى التعقيد الصناعي للاقتصاد العسكري، يصعّب على المنظمين والمراجعين التحكم في العمليات. وبالتالي، يستطيع الضباط العسكريون تجديد العديد من الامتيازات التي تتمتع بها الشركات التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية في مصر، مثل التهرّب الضريبي والمدخلات المدعومة وعمليات الإنقاذ.
تمتلك المؤسسة العسكرية أيضًا هوية مؤسساتية قوية تؤثر على عملية صنع القرار الاقتصادي. تضع المؤسسة العسكرية عناصرها كحامين ومتنفذين في العدد المتزايد من المساحات الوسيطة بين شركات القطاعين العام والخاص والمنظمات غير الحكومية ومصارف التنمية ومنظمات المعونات. يرى صانعو القرار العسكريون مؤسستهم على أنها مصدر للتغيير الهيكلي، كما الدعم الحكومي والتفاخر المؤسساتي ،لا الربح، هما ما يدفعان القوات المسلحة المصرية إلى توفير السلع الأساسية والرعاية الطبية بأسعار أقل من السوق. تسلّط هذه العقلية العامة واللامساواة الشديدة في الموارد التي يراكمها الضباط من ذوي الرتب العليا، الضوء على المدى الذي ستذهب إليه هذه الطبقة الحاكمة الجديدة من أحل الحفاظ على امتيازاتها.
يشير خالد إكرام، المدير السابق لدائرة مصر في البنك الدولي، إلى الفصائل ذات الامتيازات داخل مصر التي "تستفيد من الريع الاقتصادي الناجم عن عدم الكفاءة في الاقتصاد" (75). ومع ذلك، فإن هذه المظاهر الريعية — الرشاوى والفيلات والمدخلات التي تكون أقل من سعر السوق والأرباح المحصلة من العقود — تنتج عدم الكفاءة، وليست ناتجة عن عدم الكفاءة. يعمل هذا الريع على تحويل الموارد من المجالات التي يمكن تطبيقها فيها بشكل مثمر، عادةً في البنية التحتية أو الرعاية الصحية الأساسية أو التعليم، إلى مجالات أخرى.
لزيادة الكفاءة الاقتصادية (مثل الخصخصة والتحرير) المؤسسة العسكرية عن سلطتها، ولن توطّد بطريقة ما نفوذ مجموعة من نخب القطاع الخاص الليبرالية التي تنتظر أن تحل محل المؤسسة العسكرية. بدلًا من ذلك، يتطلب الإصلاح تغييرًا سياسيًا هيكليًا كبيرًا من داخل مصر وخارجها، فضلًا عن زيادة الدعم للطبقات الفقيرة والعاملة.
يشير الانخراط المتواصل للشركات الأجنبية متعددة الجنسيات والمستثمرين المحليين الأثرياء في الاقتصاد المصري، على الرغم من التكاليف الكبيرة في تقديم الرشاوى والعمولات، إلى هوامش ربح كافية لتغطية التحسن الكبير في أجور العمال وظروفهم في جميع المجالات. وستؤدي مقاضاة المصارف الأجنبية والشركات الاستشارية وغيرها من الجهات المهنية (الغربية في المقام الأول) على خلفية تسهيل هروب رأس المال غير المشروع والتهرب الضريبي للمصريين الأثرياء، إلى تحسين الظروف الاقتصادية من خلال توفير الأموال لبرامج الرفاه المحلي إضعاف الطبقة الحاكمة الجديدة التي دفعت الدولة إلى الخراب.
يمكن للمؤسسة العسكرية أن تواصل حشد الدعم من المصريين لأن عملها على توفير الخدمات الجماعية مثل البنية التحتية والسلع الأساسية والرعاية الصحية أكثر وضوحًا لعامة الناس من أنشطة الفساد والاحتيال والهدر التي تمارسها هذه المؤسسة. ربما كان الانتقال إلى حكم المؤسسة العسكرية في العام 2013 بمثابة بداية النهاية لحقبة المؤسسة العسكرية في السلطة، حيث يزيد دمج الطبقة الحاكمة الجديدة من فرص ظهور فسادها وعدم كفاءتها.
لم ترفع عقود من الزمن من المساعدات الدولية والاستثمارات التي تم ضخها في القطاعات الإستخراجية أو قطاعات المضاربة مثل الخدمات المالية والعقارات الفاخرة، مستويات المعيشة، بل خلقت طبقة من المصريين فاحشي الثراء الذين يعتمد استمرار امتيازاتهم على دولة سيئة الإدارة لا تستطيع فرض ضرائب على الأغنياء، أو منع التدفق غير المشروع لرأس المال، أو فرض حماية للعمالة أو البيئة، أو التدخل لكبح مراكمة الثروة. إن الطبقة الحاكمة القومية التي تقدم أحيانًا سلعًا جماعية ستحظى دائمًا بدعم شعبي أكثر من مجموعة من النخب المتنوعة التي تختلف من لغتها وأنماط حياتها عن الغالبية العظمى من السكان. يمكن إلقاء جزء من مسؤولية الميزة السياسية للمؤسسة العسكرية مباشرة على النظام السياسي الذي أبقته في السلطة لعقود قبل العام 2011. لو لم يكن مبارك وحلفاؤه الغربيون فاسدين إلى هذا الحد، لما احتاجت المؤسسة العسكرية اليوم إلى أكثر من مجرد زي عسكري رتيب ومخابز لإقناع الناس بأنهم لطالما كانوا في صفٍ واحد.
شانا مارشال مديرة مساعدة لمعهد دراسات الشرق الأوسط في كلية إليوت للشؤون الدولية
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق