الأربعاء، 11 نوفمبر 2020

من الدين إلى الطائفة، في ضرورة الدولة المدنية

 

في استحالة الدولة الدينية وضرورة الدولة المدنية


 تحوّل الأديان إلى مذاهب وطوائف وما ترتّب على ذلك من صراعات دموية لا تزال تلقي بظلالها على شعوب العالم.

هل الحركات الإسلامية التي تتجلبب بجلابيب طائفية ومذهبية تعبّر فعلاً عن أهداف الدين ومقاصده النبيلة أم أنها في جوهرها ومراميها حركات سياسية متلبسة زوراً بلبوس الدين؟ هل يعود العنف المصاحب لهذه الحركات إلى بنية الأديان، وهل الابتعاد عن الدين ورفضه يمنع المجتمعات من الانزلاق إلى العنف؟ و

 رؤية ليبرالية حداثية لتجاوز النزاعات الدموية والشروخ الطائفية وبناء مجتمع عربي قوامه العدل والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان.

ما تمارسه المذاهب والطوائف من اقتتال وبناء للكراهية بين أبناء الدين الواحد، أو بين الأديان المتقابلة، لا يصب مطلقاً في خانة الجوهر الأصلي الذي قامت عليه الأديان.

 التوظيف للدين هو المسبب الرئيسي للنزاعات الدينية التي تجري اليوم في العالم، وإذا كانت أوروبا قد دفعت مئات آلاف الضحايا من أجل إبعاد الدين عن السياسة، فان المجتمعات العربية والإسلامية تقدم اليوم مشهداً أقرب إلى المشهد الأوروبي في القرنين السابع والثامن عشر. إلا أن الأخطر في الأمر اعتماد الحركات الأصولية الإرهاب طريقاً أساسياً في عملها وتوظيف النص الديني في خدمته، ثم تقديم مشاريعها للسلطة بوصفها تطبيقاً للشريعة وتمهيداً لبناء الدولة الدينية.

كتاب من الدين إلى الطائفة. في ضرورة الدولة المدنية لخالد غزال، صادر عن دار الساقي عام 2015، يقع في 319 صفحة.

فالمذاهب المسيحية الكبرى؛ الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، التي كانت نتيجة طبيعية لانشقاق الكنيسة منذ القرن العاشر الميلادي إلى الإصلاح الديني في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر اختلفت حول عدة أمور أساسية في الدين المسيحي "كطبيعة السيد المسيح"، "والروح القدس"، "والعذراء مريم" ويوم "الدينونة"، "والكتاب المقدس"، "والمعمودية". وثانيهما الأسس السياسية، حيث إن الاختلاف بين هذه المذاهب لم يكن ليتحول إلى صراعات دموية عنيفة، وحروب دينية بين المسيحيين، وضد غير المسيحيين لولا تداخله مع الصراع حول السلطة والسعي إلى الحكم وامتلاكه، سواء من جانب المؤسسة الدينية أو من جانب السلطة السياسية التي انخرطت في ممارسات توظف الدين من أجل تبرير وتسويغ مشروعيتها السياسية حتى قبل ظهور المذاهب الكبرى.

إن الصراع على السلطة السياسية والاقتصادية من أجل السيطرة جعل كل طائفة دينية تفسر النص الديني بشكل يخدم إستراتيجيتها السياسية، وتستحضر الله كطرف في الصراع، مما حول الاختلافات والتمايزات بين المذاهب إلى صراعات دموية ترفع شعار خدمة الله.

من أبرز القضايا الكبرى التي شكلت مجالا للصراع العنيف في المسيحية يشير المؤلف إلى الصراع على الأبرشيات، والصراع بين الباباوات والأباطرة، والمتاجرة بالمناصب الكنسية، وزواج رجال الدين العاديين، والدعارة المتفشية بين الرهبان التي كانت من بين الأسباب الرئيسة للانفصال النهائي بين الكنيستين اليونانية واللاتينية أو ما يعرف بالانشقاق الأول الكبير، وفساد الكنيسة؛ من انهيار أخلاقي والاقتصار على حماية مصالحها الخاصة، وفرض ضرائب مرتفعة على الأديرة والأبرشيات وفرضها لصكوك الغفران التي تعتبر من الأسباب المباشرة للإصلاح الديني، والانشقاق الثاني الأكبر، والثورة الدينية بقيادة مارتنلوثر التي أدت إلى ميلاد البروتستانتية.

 الصراع على الخلافة؛ والصراع على جمع المصاحف وتكريس مصحف واحد؛ والصراع على الحديث النبوي بين الطوائف ورفض كل طائفة لأحاديث الأخرى، والصراع على الموقف من الصحابة... أهم مظاهر الصراع التي حكمت تاريخ الإسلام منذ وفاة الرسول إلى العصر الحديث.. والتي ستتخذ طابعا سياسيا واقتصاديا. وتشددت أكثر في ظل الصراع على السلطة السياسية والاستيلاء عليها والسعي إلى فرض مشروعية مستمرة مستمدة من المصادر الدينية كالاعتماد على النسب الشريف، والدفاع عن مذهب ديني، وتبني ألقاب دينية.

الاختلافات المذهبية التي تحولت بفعل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى حروب طاحنة بين مذاهب الدين الواحد، لم يكن لها لتنتشر وتتوسع لولا حمل النص الديني في الديانات التوحيدية لشرعنة العنف وجعله تشريعا، ذلك أن الكتب الدينية اليهودية والمسيحية والإسلام، كلها تتضمن نصوص تدعو بشكل صريح إلى العنف، وضرورة استخدامه لنشر الدين التي شكلت مرجعية للطوائف والمذاهب في صراعاتها الدموية المتجددة، سواء مع الآخر أو مع باقي الطوائف الأخرى، وأحيانا حتى داخل الطائفة الواحدة.

إن الصراعات الدينية في المسيحية كمحاكم التفتيش والحروب الصليبية، والحروب الدينية بين الكاثوليكية والبروتستانت التي كانت من أكثر الحروب دموية ووحشية.. تداخلت فيها الاختلافات المذهبية مع الصراعات السياسية على السلطة والمال والتي وجدت في تأويل النص الديني مظلة لحروبها وممارساتها.

كما أن الصراعات الدينية في الإسلام، كحروب الردة، وحروب الخوارج، وحروب علي ومعاوية، والاغتيالات ضد الخصوم.. لم تكن دينية محضة، بل كانت سياسية وقبلية في العمق، حيث وظف الحكام والطوائف الدينية كالخوارج والسنة والشيعة النص الديني لتبرير أساليبهم في التعامل مع الفئات المختلفة من أجل الوصول إلى السلطة والاستيلاء عليها أو معارضتها بالقوة، وهو التبرير الذي استمر في الصراعات الدموية الحديثة في العالم الإسلامي، وما توظيف آيات الجهاد في اتجاهات مختلفة من طرف القوى الدينية- السياسية إلا أحد المظاهر الدالة على ذلك.

فإسرائيل دولة عنصرية واستعمارية وظفت نصوص توراتية لخدمة إدعاءات الصهيونية؛ والمسيحية وتاريخها عبارة عن صراع متجدد بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، وحتى في ظل تفوق السلطة الدينية، لم يكن الأمر إلا هيمنة لرجال الدين وتبرير خرافاتهم وتجاوزاتهم تجاه الأفراد والشعوب. ولا يخرج التاريخ الإسلامي عن هذه القاعدة، إذ إنه بالرغم من دفاع بعض الفقهاء والمذاهب على أن الإسلام دين ودولة، فإن الثابت تاريخيا، أن الدولة لم تكن دينية إسلامية، وإنما كانت سياسية وسلطوية ودنيوية، اتخذت فيها الأسر الحاكمة النصوص الدينية وسيلة لشرعنة حكمها. الأمر الذي يتجدد بصورة مختلفة في الوقت الحاضر، سواء تعلق الأمر بالأنظمة القائمة التي تدعي تمثيلها لدولة إسلامية كإيران، أو بالنسبة لترهات "داعش".

الدولة المدنية: البديل الواقعي

وإذا كان قيام دولة دينية مستحيلا، لاسيما في الوقت الحاضر الذي تزايد فيها التداخل بين ماهو سياسي واقتصادي وثقافي وديني، وباعتبار ممارسة السلطة والحكم قضية زمنية نسبية وليست إلهية مطلقة، فإن البديل الواقعي عن فكرة الدولة الدينية، هو الدولة المدنية التي أثبتت نجاعتها في حماية معتقدات الناس وتدينهم، وضمان حريتهم في ممارسة الشعائر الدينية، وضمان التعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب الدينية. فالدولة المدنية نتاج للتطور السياسي الحديث، قائمة على الفصل بين الدين والسياسة، باعتبار الأول مجال المطلق والثاني مجال النسبي خاضع للتجريب والخطأ كما الصواب، وعلى المواطنة الحقة الضامنة لحقوق وواجبات متبادلة بين الدولة والمجتمع، أساسها تمتع الأفراد بجملة من الحقوق السياسية والاقتصادية التي تسمحلهم بالمشاركة الفعالة في المؤسسات والقرارات، والاستفادة من خيرات الدولة المادية بشكل متساوي، وتقاسم الأعباء، والفصل بين السلطات السياسية بشكل يمكن من إيقاف كل سلطة للسلطة الأخرى، والانضباط لحقوق الإنسان نصا وممارسة من طرف الدولة ومؤسساتها.. تسمح بتعزيز التسامح والمرونة، وتوفير مقومات التعايش والمساواة بين الفئات الاجتماعية والمواطنين لا أفضلية لفئة على أخرى.

 شبه صورية للدولة المدنية، والبنيات العصبية والقبلية والطائفية الموروثة، وغياب الثقافة الديمقراطية على مستوى المؤسسات والنخب، وعلى مستوى الجماهير، وضعف تنظيمات المجتمع المدني، وسيادة التخلف في عدد من القطاعات..عوامل مساهمة في الجمود الفكري- الديني، والصراعات المذهبية والطائفية، وتزايد تأثير التيارات الأصولية، والقوى العنيفة. وكانت هذه المعوقات التي تقف في وجه الدولة المدنية من جملة الأسباب التي كانت وراء مطالب الانتفاضات العربية التي انطلقت شرارتها في2011، حيث رفعت مختلف القوى الليبرالية واليسارية والشبابية والدينية شعار الدولة المدنية بخلفيات وأهداف مختلفة.

 نظرا لتزايد العنف التي يتخذ مظاهر دينية، وتنامي الصراعات الطائفية والمذهبية وانتشار الأفكار التكفيرية،


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق