Dec 18, 2020 . Aug 25, 2021 Jan 22, 2022 Mar 9, 2022
يسلط المسلسل الضوء على واحدة من أبرز القضايا المطروحة للنقاش داخل المجتمع التركي، وهي الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين.
فكرني بمسلسل رامي
ربط التدين بالجهل
أحكام متوارثة
على الأريكة المقابلة للكرسي الذي تحكي عليه مريم تفاصيل حياتها تجلس الطبيبة بيري التي لم تخف منذ اليوم الأول كراهيتها الشديدة للحجاب والمحجبات، والصعوبة البالغة التي تجدها في التعامل معهن منذ صغرها بسبب "رعب" والدتها منهن كأنهن لسن جزءا من المجتمع.
شعرت بيري بالتوتر والاضطراب خلال جلساتها مع مريم، والغضب الشديد أثناء حديث الأخيرة عن ارتباطها بالشيخ.
لم تتحمل بيري الضغط النفسي الذي عرضته لها جلسات مريم، فترددت بدورها على مشرفتها النفسية غولبين، وأوضحت لها ما تفكر فيه، وكيف أنها أحالت مريضة سابقة لديها إلى طبيب آخر لأنها لم تتحمل حجابها أيضا.
ورغم ما حصلت عليه بيري من درجات علمية ودراستها في أميركا وانفتاحها على العالم وعملها كطبيبة نفسية -وهو ما يحتم عليها التعامل مع الحالات دون تمييز- فإنها لم تتمكن من تصحيح مفاهيم خاطئة زرعتها فيها والدتها تجاه الإسلاميين.
وحاولت بيري بعد أول جلسة الاعتذار لمريم وتوجيهها إلى طبيب آخر، لكنها لم تتمكن من فعل ذلك، واكتشفت تعلقها بقصتها وأصبحت تشغل كل تفكيرها حتى في حديثها مع صديقتها، لتصبح مريم أكثر من مجرد حالة تتردد على عيادتها.
مع تعقد الوضع في منزل مريم لم تجد مهربا سوى جلساتها مع بيري، لتصبح مواظبة عليها فتتطور علاقتهما أكثر.
لم تكن مريم الوحيدة التي تتلقى العلاج خلال هذه الجلسات، بل بيري أيضا، إذ بدأت تحاول التخلي عن أفكارها وأحكامها، وتسعى للتعامل مع هذه الفئة بتجرد وبدون تحيز.
اتهامات متبادلة
يلتقي عالما مريم وبيري في منزل غولبين، وتظهر الفجوة بين الإسلاميين والعلمانيين بقوة في علاقتها مع أختها، إذ تميل غولبين للعلمانية، فيما ترتدي أختها الحجاب وتميل للإسلاميين.
ترى غولبين أيضا أن أختها "مغيبة" وتصدر الأحكام على من حولها باستمرار، وفي المقابل تراها أختها أنها "منحرفة" عن الطريق الصحيح.
في البداية يبدو الأمر وكأن مريم هي الوحيدة من تعاني من الاضطراب في حياتها، ولكن مع تطور الأحداث في حياة كل الأطراف يتعمق المسلسل في ما وراء الشخصيات، فيظهر ما تعانيه بيري من وحدة شديدة، والانقسام في منزل غولبين، وخلافات صاحب المنزل -الذي تعمل فيه مريم- مع أمه، وشيخ القرية الذي تفاجئه ابنته برغبتها في خلع حجابها.
ويصور المسلسل بهذه العينات المجتمع التركي الذي يعيش داخله العلمانيون والإسلاميون صراعا خفيا يطفو على السطح في بعض الأحيان
ويتضح أن لكل الشخصيات قصصا لم ترو وأفكارا متغيرة ومشاعر مكبوتة وآلاما لا يمكن البوح بها، فرغم اختلاف توجهاتها وما يطلقه كل طرف على الآخر من أحكام أدت إلى انقسام مجتمعي فإن جميع هذه الشخصيات في النهاية تعاني، فهي بشر.
******
الاستهلاك الترفيهي في البيوت العربية
فهو ليس قصة حبّ مستحيل، ولا دراما تاريخية عن جواري السلطان سليمان القانوني، ولا عن ملاحم أرطغرل.
يطرح العمل موضوعاً لا يمسّ المجتمع التركي فقط، بل المجتمعات العربية أيضاً، وهو تأثير المعتقدات الدينية الشعبيّة على علاج الاضطرابات النفسيّة، والتصوّرات المسبقة المغلوطة عن الآخرين تبعاً لخلفياتهم الدينية أو طبقتهم الاجتماعية.
عاملة التنظيف مريم (أويكو كرايل)، وهي فتاة فقيرة، محجبة، تقيم مع شقيقها وعائلته، والطبيبة النفسية بيري (دفنة كايالار)، ابنة العائلة الميسورة، البعيدة عن أي ممارسة دينية.
تلتقي البطلتان في العيادة، حين تزورها مريم، بحثاً عن حلّ لنوبات اغماء متكرّرة، ولكن، عليها قبل أن تكمل جلسات العلاج النفسي، أن تأخذ إذن شيخ القرية.
يبدو أن تأثير مريم على طبيبتها، كان سلبياً. هكذا، تذهب بيري إلى عيادة المعالجة النفسية غولبين (تولين أوزن)، ولكن بدور المريضة هذه المرّة، لتحكي عن صراعها الداخلي تجاه مريضتها الجديدة.
يتبيّن أن تربية بيري الرافضة للتديّن، لا تستطيع أن تأخذ موقفاً موضوعياً من المريضة، لأنّها محجبة، ولأنّها تعدّ استشارة الشيوخ في أمور الصحة النفسية، من مظاهر "التخلّف".
صحيح أنّ غولبين ترفض الأحكام المسبقة، لكنها في الوقت عينه تجد صعوبة في التواصل مع شقيقتها، الرافضة لنمط حياتها.
كم مرّة نصادف أشخاصاً يبحثون عن العلاج النفسي في كتابة الحجابات، والرقية، وغيرها؟ وكم مرّة نصادف خلافات عائلية بين أشقاء وشقيقات يختارون مناهج مختلفة في الحياة؟ وكم مرّة نشعر بأنّ الآخرين يحاصروننا بأدوار نمطية تبعاً لطبقتنا الاجتماعية أو ديننا؟
صناع العمل أرادوا "إيصال فكرة أنّ الجميع يعانون من مشاكل نفسية سواء كانوا علمانيين أو متدينين".
موقف الطبيبة النفسية بيري، وتقول أنّها كادت تضحك عند مشاهدتها وهي تتحدّث عن شامان (معالج روحي) تريد زيارته في البيرو. "تبدي تحفظها على المؤمنين، وفي الوقت ذاته، تعبّر عن إعجابها بشيء لا تفسير له. كلّ شخص يختار إلهه في الحقيقة".
صعوبة ببناء صداقات عميقة مع المحجبات، لأن التعلّق بمظاهر الدين تضييع للوقت، والهدف منها إلهاء الناس عن اكتشاف الحياة، والتطوّر في العمل، والاستمتاع بما خلقه الله، عبر التفكير كل الوقت بالحلال والحرام
شخصية مريم، "وإن كانت مرتبطة فكرياً بشيخ قريتها، إلا أنّها تقبّلت فكرة العلاج النفسي، واستطاعت أن تفهم مشكلتها مع كبت الأحاسيس. وذلك ما لم نلاحظه على أخيها ياسين (فاتح أرتمان)، الذي بقي متعلقاً بالالتزام الديني، وغير قادر على استيعاب مرض زوجته روحية (فوندا إيريغيت) النفسي
مثل ابنة الشيخ هايرونيسا (بيج أونال) التي تخفي ميولها الجنسية المثلية عن أهلها المتدينين، وكذلك مثل مريم في خوفها وصدمتها من علاقات سنان خارج إطار الزواج
سنان هو صديق غولبين، وصاحب المنزل حيث تعمل مريم في التنظيف، وتنشأ لديها تجاهه مشاعر حبّ من طرف واحد، بينما هو يعيش علاقات متعدّدة مع أخريات.
شخص غير متدين، "لا علاقة لي بالمتديّن، وليس جميلاً أن أسخّفه أو أحاول تغييره، طالما أنّ شكل الايمان الذي يتبعه يمنحه راحة نفسية، وذلك ما وجدته في ايمان شخصية مريم التي من الصعب أن تنسلخ عن عادات شبّت عليها منذ الصغر. وكذلك في ايمان الشيخ علي (سيتار تانريوجين)، الذي تقبّل ابنته ودعمها مع أنّها تتبع نمط حياة لا يعجبه
الأخت الكبرى العصبية التي تريد دوماً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتريد الغاء أختها غولبين، ولا تتقبلها. وهذا الشكل من التديّن هو الذي يخلق نفوراً حين يصير أداة لتطويع الآخرين ومحاسبتهم
ومن خلال شخصية المعالجة النفسية بيري، "يحطّم المسلسل صورة الفوقية التي يتعامل بها غير المتدينين مع المتدينين"، تقول يارا. "حتى أنّها تقول في أحد المشاهد أن مريضتها المحجبة ذكية، وكأنّها مصدومة من ذلك، لأن لديها فكرة راسخة أنّ المتدينين أغبياء وأنها أذكى منهم".
تقول: "الطبقة التي نولد فيها، لها دور في تحديد هويتنا، ومن الصعب أن نختار ذلك، ولكن يمكننا أن نختار تخفيف أحكامنا المسبقة عن المختلفين عنّا".
مسلسل "طيف إسطنبول" لا يعبّر عن التديّن في تركيا بشكل عام، بل عن فئات معينة من المتدينين.
المسلسل لم يتطرّق إلا "لجزئيات من صراع العلمانية والتديّن في تركيا، مع أنّه ظاهرة تطال كل شيء من السياسة إلى يوميات الناس. لم يسلّط صناع العمل الضوء على هذا الصراع كحالة كاملة، لها جذورها التاريخية. يظهر المسلسل المتدين التركي البسيط، وعلاقته الشخصية بالدين الهادفة إلى التوفيق والستر والأمان الروحي، لكنه لا يتطرّق للأهداف الجماعية لبعض التيارات الدينية".
*****
جميعنا مرضى نفسيون
سيطرة المعتقدات الدينية على عقول البسطاء
يصور مجتمعين متناقضين
يقارن بطريقة غير مباشرة بين المجتمعين الريفي المتدين، والعلماني المدني
تفاوت المستوى العلمي والمادي والفكري، لكن المسلسل يظهر أن الجميع مرضى نفسيون بطريقة أو بأخرى.
جميعاً لدينا مشاعر نكبتها، ولا نستطيع مشاركتها مع من نحبهم، مشاعر لا نستطيع أن نعيشها أو نصرح بها حتى لأنفسنا هذا هو حالنا كلنا كبشر
تشعر مريم براحة عندما تعبّر دون قيود عن دواخلها أمام المعالجة النفسية، وترغب بأن تعود لزيارتها مجدداً، لكن ذلك مرهون بموافقة شيخ القرية الذي يعتبر مرجعاً لدى شقيق لها متدين، والشيخ يستشار في كل الأمور، ويتوقف الذهاب إلى الطبيب على فتوى منه.
تستمع بيري لاعترافات مريم الساذجة، والتي رغم الوضع التي تعيشه مع شقيقها المتسلط، وزوجته "روحية" التي تعاني من الاكتئاب، إلا أنها تبدو أكثر تصالحاً مع نفسها من الطبيبة التي تخفي قلقها وتوترها النفسي، وتخاف من الشيخوخة، فتذهب إلى النادي الرياضي وتمارس اليوغا وتتبع نظاماً غذائياً نباتياً.
بساطة مريم وصدقها جعلا الطبيبة تنهار أمامها بالبكاء، دون أن تقول أي كلمة.
أما شيخ القرية والذي لا يعتبر فقط مرجعاً دينياً، بل إن حياة سكان القرية تسير وفق ما يحلله لهم ويحرّمه.
ابنته "خير النساء" التي تدرس في قونية وهي مثلية الجنس، وتقرر في آخر المسلسل أن تواجه والدها بأنها لا تريد ارتداء الحجاب، لأنها غير مقتنعة به وأنها أجبرت عليه لأنها ابنة إمام المسجد.
المسلسل قدم نماذج لنساء متفوقات في الظاهر، لكنهن يعانين التخبط والفراغ العاطفي، والصدمات العائلية، نتيجة عدم البوح كما يحصل مع المعالجة النفسية غولبين وشقيقتها المحجبة التي تعتبرها فاسقة ومتحررة.
كما قدم المسلسل شخصية ميليسا التي أدت بدورها نسرين جواد زادة، وهي ممثلة موهوبة لكنها تمثل في مسلسل سيئ، ولكنه يحقق نسبة مشاهدة عالية لدى عامة الناس، وتستمر في العمل فيه، لأنها تريد جني المال، رغم عدم اقتناعها بالمسلسل
ويلمّح دور ميليسا إلى تدني ذوق المشاهد بإقباله على تلك الأعمال، وكأنها تشير إلى أن حتى النجوم مجبَرون على تقديم أعمال لا تروق لهم، لكنهم خاضعون لسطوة نسبة المشاهدة والذوق العام حتى لو كان رديئاً.
قدم المسلسل شخصية "روحية" التي تعاني من اكتئاب بسبب تعرضها في صغرها للاغتصاب، وبعد زواجها من ياسين ومعرفتها بأن مغتصبها توفي، تحلم بالذهاب إلى قريتها لتبصق على قبره
وعندما تذهب إلى هناك، تكتشف أنه لم يمت وأنه تزوج من صديقتها. تحصل بينهما مواجهة يعبّر فيها عن ندمه، وأنه عندما أقدم على ذلك كان صغيراً، وأن زوجها ياسين عندما جاء إلى القرية ضربه، وشوه وجهه وسمعته، وأن ابنته تخجل من مواجهة الناس. المواجهة بين روحية ومغتصبها غيّرت من وضعها النفسي. فهمت الان ***
**
تحاكي الواقع التركي، وتعكس تعقيدات النسيج المجتمعي
صراع بحثاً عن الهوية. فالصراع الطبقي، والصراع الديني، وصراع الحداثة والتقاليد، والصراع الجندري جزء من القضايا التي تساهم بتكوين الهوية التركية.
تمثل غولبين ببساطة الإنسان الساعي لرأب الصدع بين الطبقات. فنراها تحاول الخروج من طبقتها الأدنى اجتماعياً وجذورها الإثنية الكردية، من خلال تعليمها الذي يتيح لها دخول العالم الأوفر حظاً والأكثر دخلاً. لكنها لا تستطيع التخلص مما يربطها بعالمها الذي يستمر بمحاصرتها ويتسبب لها بإحراج في مكان العمل، عندما تقتحم أختها مكتبها وتقوم بتحطيمه.
من المفاهيم المهمة التي يعمل المسلسل على تفكيكها أيضاً، هي تلك المرتبطة بالذكورة وتنميطاتها. فالشخصيات الذكورية تواجه أسئلة مهمة ترتبط بـ"الشرف"، والحب، والحماية، والعلاقة مع الأم، والحبيبة، والزوجة، والأطفال. لذا نرى مثلاً شخصية ياسين (الأخ الأكبر لمريم)، تراوح بين القسوة الظاهرة والمحبة والحنان. كذلك شخصية شيخ القرية، الذي قد يبدو تقليدياً، لكنه رغم ذلك يبدي تفهماً لافتاً في بحث ابنته عن الحرية خارج ما تفرضه قيود المجتمع.
قد تصدمك حقيقة أن ما يهم في تأسيس علاقة قوية بين المُعالِج والعميل هو التركيز على ما يراه العميل مهما لإحداث تغيير، وليس ما يراه المُعالِج. يُخصِّص المُعالِج الجيد جلسات العلاج للاستماع لاحتياجات العملاء بدلا من تقديم حلول جاهزة. لذا، لا يستمع الأطباء إلى محتوى القصة فحسب، بل يذهب الأمر معهم إلى أبعد من ذلك، فينتبَّهون إلى أجزاء ومواضيع أعمق تدعم القصص التي يحكيها المرضى. هذه الطريقة تُمكِّن المُعالِج المحترف من أن يضع ملاحظات ويوجِّه نصائح فعالة بناء على ما استنتجه لتسهيل عملية التغيير بدلا من الكلمات والعبارات المتكررة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق