وإذا كانت المؤسسات الدينية في العالم العربي مثل مؤسسة الأزهر الشريف في القاهرة والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في مكة، قد حرّمتا تجسيد الأنبياء والصحابة تحريما قطعيّا، فإن ذلك ينطلق من تصور أن ظهور الأنبياء والصحابة مدعاة إلى انتقاصهم والحطّ من قدرهم والسخرية منهم.
لأن في القرآن الكريم ما يفي بذلك الغرض”.
وتمثيل الأنبياء يفتح أبواب التشكيك في أحوالهم والكذب عليهم، فلا يمكن أن يتطابق ما يقدمه الممثلون حال الأنبياء في أحوالهم وتصرفاتهم، وقد يؤدي هؤلاء الممثلون أدوارا غير مناسبة، سابقا أو لاحقا، فتنطبع في ذهن المتلقي تصورات ذهنية مناقضة للنبي وفق الشخصيات الأخرى التي قدمها الممثل. زي مسلسل عمر بن الخطاب
تعتمد الفتوى على أن قواعد الشريعة
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فكيف إذا كانت المفسدة أعظم من المصلحة وأرجح كما هو الشأن في تمثيل الأنبياء والصحابة؟
الموقف القطعي المتكرر فهناك مَن يرون أنه يُمثل وجهة نظر غير ملزمة تستند إلى مبررات واهية يُمكن تجاوزها تماما، ما يعني أن الأمر ليس حراما في حد ذاته إنما هو حرام لأنه يؤدي، وفق ظنّ البعض، إلى تصورات مناقضة للدين مثل التشكيك في الأنبياء أو السخرية من أي من أفعالهم.
قال عصمت نصار، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة فرع الخرطوم لـ”العرب”، إن هناك حاجة ماسة لإعمال العقل والاجتهاد في الأمر بما يفتح مجالات استفادة حقيقية لصورة الإسلام والمسلمين في العقلية العالمية من خلال الفن.
أثيرت هذه القضية مبكرا منذ النصف الأول من القرن العشرين، عندما فكّر الفنان المصري يوسف وهبي في تقديم شخصية النبي محمد على خشبة المسرح، لكن مؤسسة الأزهر اعترضت وحرّمت تجسيد النبي تماما، ثم توالت بعد ذلك فتاوى التحريم لتشمل باقي الأنبياء والصحابة، وقَصَر البعض الأمر على الصحابة المبشّرين بالجنة ورأى آخرون ضرورة أن يشمل التجسيد الفنّي كافة الصحابة.
هناك آراء لعلماء دين مستنيرين مثل الشيخ مصطفى عبدالرزاق وعبدالمتعال الصعيدي وبعض تلاميذ محمد عبده، ذهبت إلى إمكانية تشخيص الأنبياء والصالحين.
أماني فؤاد: الأعمال التي جسدت الصحابة كانت إيجابية لصورة الإسلام
نصار أن هؤلاء يرون أن جميع الفنون مباحة ولا حجة للمنع أو الكراهة أو التحريم إلا بعلة عقلية أو بنص صريح من الثوابت النقلية، وذهبوا إلى أنه لا غضاضة في أن يقوم أحد الممثلين بتشخيص شخصية واحدة من هؤلاء، بل إن تمثيل القصص له وقع جيّد وفائدة كبيرة لترسيخ ما نريده من فضائل.
طروحات مثل هؤلاء العلماء تدفع إلى ضرورة الاجتهاد وإعادة طرح الأمر بحرية وتحكيم حقيقي للعقل، فالخوف من الخلط بين شخصية الممثل والدور الذي يؤديه يتوقف على وعي الجمهور من جهة، وقدرة الممثل على الإقناع من جهة أخرى.
عبد المتعال الصعيدي
القداسة والعصمة والطهارة، وسيكون الغرض منها إظهار ما كان لهم من أغراض شريفة في قصصهم وما كان لهم من مقاصد نبيلة في رسالاتهم، ولا شيء مع هذا يخلّ بقداستهم، وإذا قام شخص في تمثيله مقام نبيّ فإنه يقوم به صورة فقط، وللنبي عليه السلام مقامه الكريم، ولا يمكن أن يتوهّم شخص أنه حلّ في التمثيلية مقامه في كل شيء حتى يكون فيها امتهان له”.
أما الفقه الشيعي فلا يرى تحريما أو كراهة للتمثيل بل يجد ترحابا من العلماء بنشر سير الأنبياء والمعصومين من الأولياء، شريطة أن تقوم بذلك مؤسسات لها دراية بآداب هذا الفن ومقصد العمل الدرامي.
ضرورة أن يبدأ الأمر أولا بتجسيد الصحابة باعتبارهم بشرا أقل تقديسا من الأنبياء، ثُم يتم بعد ذلك تقديم دراما وسينما الأنبياء وفق اشتراطات معيّنة تضمن عدم الإساءة لأي منهم والحفاظ على سمات الوقار المفترض.
أماني فؤاد، أستاذة النقد الأدبي بأكاديمية الفنون المصرية، أن بعض الأعمال الفنية النادرة التي جسّدت بعض الصحابة مثل فيلم “الرسالة” للمخرج مصطفى العقاد، كانت لها ردود أفعال إيجابية على صورة الإسلام في العالم.
لفتت فؤاد إلى أنه في ما يتعلق بتجسيد الأنبياء يمكن الاشتراط على من يقوم بتقديم شخصية النبي أن يوقّع على عقد بأنه لن يمثل شخصية أخرى كما فعلت الكنيسة في فيلم “آلام المسيح”.
ولا يُمكن الوصول إلى أذهانهم وإضاءة عتمة المعرفة لدى بعضهم إلا من خلال الفن.
أجاز الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق في عام 1938 فيلما يقدم حياة السيد المسيح كتبه أحد القساوسة وراجعه طه حسين وأخرجه محمد عبدالجواد، وكان يقوم بدور المسيح فيه الممثل المصري أحمد علام.
قال البعض من رجال الدين الذين شاهدوا مسلسل النبي يوسف إنه رغم اتفاقهم مع فكرة تحريم تجسيد الأنبياء لكن العمل لم يحمل إساءة له.
عمر بن الخطاب
ببعض الأخطاء الواردة في مسلسل “عمر” مثل إظهاره يقرأ آيات مدنية من القرآن الكريم وهو في مكة، قائلة إنّ “هناك بعض المرويات تحتاج إلى تمحيص ومراجعات مع التأكيد على أن ما يهم الحفاظ عليه هو الخطوط العريضة للقصص النبوي وسير الصحابة وفتح مجال للتخييل الدرامي في ما يخص التفاصيل الصغيرة”.
حرّاس للعقيدة مؤتمنون على نشرها وترغيب الناس فيها بينما هم ينفّرون الأجيال الصاعدة منها عبر إصرارهم على مواجهة التطوّر والتجديد اللذين لا يعنيان بالضرورة التشويه والتحريف كما يدّعي هؤلاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق