Apr 18, 2021
نهايات وبدايات!
نهاية التاريخ والرجل الأخير» للكاتب الأميركي فرنسيس فوكوياما، والذي جاء بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وكان من خلاله يحتفل بانتصار الغرب ونموذج الليبرالية الديمقراطية، وكتاب آخر بعنوان «نهاية النفط» للكاتب الأميركي بول روبرتس، والذي توقع فيه نهاية عصر النفط تماماً ودخول العالم مرحلة جديدة يتخلى فيها عن السلعة الأكثر تأثيراً على اقتصاد العالم.
آخر أثار جدلاً مهماً وقت صدوره بعنوان «نهاية العولمة» للكاتب آلان جرومان، أشار فيه إلى أن حقبة العولمة انتهت وأن حقبة جديدة حلت مكانها تطغى عليها لغة انعدام الثقة والعنصرية والحمائية، وارتفاع القيود والحدود الذي يعوق حراك الشعوب ويضيق على حرياتهم بشكل لا يمكن إنكاره. وكتاب «نهاية الإيمان» للفيلسوف وعالم الأعصاب الأميركي سام هاريس، والذي يقول فيه إن ثقة العالم في رجال الدين اهتزت، وتم ربط أسماء العديد منهم بالتطرف، وإن المرحلة القادمة ستكون لصالح العلم والمنطق. هذه مجرد عينات من الكتب التي طرحت حجتها تتوقع وتستشرف فيها «نهايات» معينة، وهناك الكثير من العناوين الأخرى التي تتوقع نهايات أخرى للتعليم والحرية والنقد الورقي وغير ذلك.
«بعض المبالغة الشديدة جداً» وأن ما توقعوه لم يحصل في نهاية المطاف، إلا أن ما يحسب لهم هو إثارة مواضيع حرجة ومهمة وإلقاء الحجارة في المياه الراكدة، ورفع رايات الإنذار والتحذير بما هو آت، إلا أنه على ما يبدو أننا الآن نعيش حقبة «البدايات»، فالثورة العلمية التي ولدت بعدها ثورة الاتصالات الهائلة تحدث التغيير تلو الآخر في حياة الناس لتؤكد لنا معالمها أننا على مشارف مرحلة جديدة من البشرية، مرحلة بطلها هو الذكاء الصناعي، الذي سيزيد من قدرات الآلات بشتى أوصافها ووظائفها بحيث تستطيع التفكير واتخاذ القرار، كما أن طرح فكرة زراعة الشرائح الإلكترونية الذكية في أجساد البشر بدأت في التبلور، وستصبح في الوقت القريب جداً أمراً واقعاً لا مفر منه، ما يعني تقارباً غير مسبوق بين الآلة والإنسان، وتأسيساً لمنظومة جديدة سيكون لها انعكاسات هائلة وعظيمة على القوانين والأنظمة والتشريعات والحقوق المتعلقة بالحريات والخصوصية والعمل، وهي المسألة التي ستشكل تحدياً جاداً ومهماً للمفاهيم التقليدية المعروفة.
قدم الكاتب الإسرائيلي المعروف يوفال نواه هاراري بعنوان: «هوموديوس لمحة تاريخية عن المستقبل» وهو الكتاب الأكثر مبيعاً، والذي حقق أرقاماً هائلة في التوزيع، وتمت ترجمته إلى الكثير من لغات العالم. وجاء هذا الكتاب بعد النجاح المهول للكتاب الذي سبقه وعرف باسم «هوموسيبين» وترجمته العاقل بالعربية، وفيه يسلط الضوء على التاريخ البشري للإنسان العاقل على كوكب الأرض.
في «هوموديوس» يصور هاراري عالماً جديداً تتحطم فيه أفكار وأساطير وسرديات أساسية وقديمة، أمام واقع جديد تفرضه قدرات مذهلة بذكاء صناعي غير محدود ملامحه الأساسية تعتمد على تطور وقدرات النقلات النوعية والمذهلة للشرائح والرقائق الذكية، وكذلك التطور السريع والمذهل الحاصل في مجالات الهندسة الوراثية التي ستنعكس على قدرات البشر في التعامل مع الأمراض، وعليه ستتحسن معايير جودة الحياة وطول عمر الإنسان، لكن هذا الطرح الجديد ليس كله وردي اللون والملامح، فهناك جانب سوداوي للغاية ومخيف جداً في نفس الوقت. فرأينا كيف من الممكن أن تؤثر خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة مثل «فيسبوك» و«تويتر» في مسيرة ومصداقية ونزاهة المعركة الانتخابية الأميركية، وزيادة قدراتها في التجسس والرقابة على كافة أوجه الحياة لمستخدميها. كل هذه الأمثلة للمشهد المستقبلي من شأنها أن تطرح الأسئلة الصعبة التي تستحق الإجابة عنها. كيف ستتعامل الدول وحكوماتها مع تحدي إحلال الإنسان الآلي في موقع الإنسان، وأثر ذلك المخيف على معدلات البطالة، بالإضافة لتأخير سن التقاعد المتوقع وأثره في سوق العمل، بالإضافة إلى سؤال كيف ستتعامل الأديان مع تحدي الهندسة الوراثية القادم. إنه المستقبل القادم المليء بالتغيرات والتحديات.
*
معضلة الماضي وتحدي المستقبل!
هي كيف تتحول الأديان، وهي التي تنادي بأسمى القيم وأرقى المعاني، حينما يتم الحكم السياسي باسمها، إلى أداة لنشر العنف والطغيان والدم والقتل والحروب. وهذا ما جعل الكاتبة البريطانية الكبيرة كارين آرمسترونغ، وهي المتخصصة والمتعمقة في تاريخ الأديان العالمي، تطرح سؤالاً خطيراً في كتابها المهم «حقول الدم: الدين وتاريخ العنف» الذي استفسرت فيه بشكل واضح وصادم في آن بقولها «هل الأديان حقاً هي المصدر الحقيقي والفعلي للعنف والتطرف؟»، والمشهد العالمي الحالي يُظهر بشكل جلي وواضح أن الإنسان الذي وظفته الأديان كلها بمهمة نبيلة وعظيمة وسامية ألا وهي خلافة الله على الأرض والانشغال بإعمارها، حصلت له «لحظة انقسام تاريخية» ليبدأ التطبيق المزدوج والمختلف تماماً عن بعض لفكرة خلافة الله وإعمار الأرض. فهناك من سكن في جغرافية العالم الغربي لينشغل بالعلم والحقوق والتنمية والفنون، وأصبحت الدنيا تتسع له بقدر مساهماته وإنجازاته، وهناك من سكن جغرافية أخرى من العالم ليتحول مع الوقت إلى كائن مقهور وسلبي وبلا أي قيمة مضافة، وبالتالي استطاع مع حالته هذه أن يتحول من إنسان كرمه الله وأمر الملائكة بالسجود له إلى مواطن من الدرجة العاشرة يعيش مسحوقاً ومهموماً ينشغل بهم يومه وقوت يومه.
تحول هذا الكائن إلى النسخة العصرية من الأسطورة الإغريقية المعروفة «سيزيف» التي كانت تتحدث عن رجل انشغل طوال حياته في دفع الصخرة العظيمة من سفح الجبل إلى أعلاه لتهزمه في كل مرة وتعاود التدحرج إلى القاع ليعاود المحاولة تلو الأخرى مجدداً. وكانت من طبائع المنهزمين نفسياً أن يبحثوا حولهم لما قد يكون العنصر المساعد لتفريغ الشحنات السلبية الهائلة المتأججة بداخلهم، وكانت ضالتهم في الآراء الدينية التي تشير بأصابع الاتهام إلى الآخر، فيكون هو بالتالي كيس الملاكمة الملائم لتفريغ حالات الإحباط والقنوط واليأس الكامنة بداخلهم.
وليس هناك من داعٍ للتذكير بالثمن الباهظ الذي دفعه العالم العربي، ولا يزال، نتاج تبني خطاب ديني شديد التطرف، كان نتاجه ولادة أصولية إرهابية بأشكال مختلفة. ورغم التحذير المستمر عن خطورة التطرف والتحذير الذي لا يتوقف منه، وعدم الاكتراث بمقررات المؤتمرات، فإن الوضع بقي ملتهباً. في عام 1990 صدر إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، الذي حملت المادة الأولى منه فكراً تقدمياً مستنيراً وقالت فيه: «إن البشر جميعاً أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والبنوة لآدم، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية من دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي، أو غير ذلك من الاعتبارات. وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان. وبأن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، وأنه لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى». ومع شديد الأسف بقيت هذه الكلمات الرائعة في الأرشيف والأدراج، ولم يتم تفعيلها بشكل حقيقي وملموس.
وللكاتب البريطاني المعروف فريد هاليداي، رأي في غاية الأهمية فيما يتعلق بالأصولية، فهو يقول إن «الحركات الأصولية كلها (بغض النظر عن منشئها ودينها) معادية للحداثة وللديمقراطية تعريفاً، بل إنها عين الافتقار إليهما. فالآخر عندها مرفوض تماماً ومبدئياً. وحين تتشابك الهويتان الدينية والإثنية في إحداها، يتكامل العداء للآخر حتى يصير أقرب إلى العنصري. يصح هذا في نظرة الهندوس واليهود المتعصبين إلى الإسلام، بقدر صحته في نظرة المسلمين والعرب المتعصبين إلى اليهود».
ليس الغرض من هذه الكلمات هو جلد مبرح للذات، ولن تكون قادرة على حسم مسألة حيرت البشرية منذ سنين طويلة، ولكنها محاولة جديدة لتسليط الضوء على خطر يتم استغلاله المرة تلو الأخرى، وفي كل مرة تكون النتائج فتاكة ومدمرة ودموية. يولد المرء في كل بقاع الدنيا مثقلاً بهم الماضي وأعبائه، وقد لا يكون من المبالغة القول إن أكثر الناس تحملاً لعبء فاتورة الماضي الثقيلة هم العرب أنفسهم حتى تحولوا اليوم إلى ما يمكن وصفه بأمة خارج التاريخ الحديث.
آن أوان تبني المستقبل بالقدر الذي تبنينا فيه الماضي.
آن أوان تبني المستقبل بالقدر الذي تبنينا فيه الماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق