عملية الخوف من الحرية والهروب منها إلى الظل، تحت مسمّى الحضارة ومنجزاتها ومباهجها التي لا يتنعم بها غير أصحاب النفوذ المصابين بحمى البحث عن اللذة، أو المفطورين عليها، بما فيها لذة سفك الدم والقتل ومسخ الآخرين وشهوة إذلالهم، وقبلها طبعاً لذة تخويف المجموع وزرع الرعب في صدورهم من بهجة الحرية ومسؤوليتها.
مشكلة الفلسفة بدأت بمعضلة السذاجة التي تحيط بالحياة، والتي يمكن اختصارها بعملية التسليم الساذجة
النظرة المتفحصة والدقيقة تؤكد فعلاً أن كل أنواع السلطات وأولها السلطات الكهنوتية لم تكن سوى الحرب المنظمة على حرية الإنسان وفرديته، وعلى حرية تفكيره من بعدها، وعلى فطرة حياته وشهوة ممارستها وفق رغبة حواسه وحاجات كيانه المتمظهرة بشكل جسده الذي يجب أن يكون أول ما يحرص على بقائه سالماً، بل وعلى خلوده أيضاً، ومن يعترض على هذا فلينظر في تاريخ الطب والتداوي، ألم يكن جهده الموغل في القدم، لغاية المحافظة على سلامة الجسد وإدامة نشاطه ونضارته، لأنه كيان ممارسة حياة الفرد؟
كيف ولمَ أهملت الفلسفة قضية الدفاع عن الجسد، ولمَ انطلت عليها خدعة رجال الإكليروس في فكرة نبذه وإقصائه من صيغة وجود الإنسان، ككيان بصورة ثابتة، أول ملامح تمظهرها، الدالة على وجودها، هو الجسد، وهو الجهاز الفاعل، والذي نلمس فعله وفاعليته، بوظائفه وحواسه ووسائل اتصاله وتعبيره عن رغبات وشهوات وانفعالات الكيان الذي يسكنه (هل عليّ أن أقول يمثله؟)، والتي تأتي بحواسه وانفعالاته، وطرق تعبيره عنها والانغماس في فعلها، فكيف يمكن إهمال وتحقيّر كل هذا والاستعاضة عنه بتمجيد “أشباح” أفعال أو افتراضات غير مرئية ادعت السلطات الكهنوتية صدورها عن الروح التي صورتها على أنها جوهر الكيان الإنساني دون أن تقدم أي دليل ملموس على وجودها الفعلي؟
ازدراءً، كهنوتياً وفلسفياً، بالمادية والحيوانية والدنيوية.
حضارة الثورة الصناعية حولت الحياة إلى سلسلة من عمليات الاستهلاك الغبية والدوران الأعمى وغير المجدي في عجلتها
*
Feb 27, 2022
كُلُّ ما في الأمر، أنّ الحبلَ المربوط في عنقكَ أطولُ قليلاً من حبال الآخرين» الرواقيون. برزت أهمّية فلسفة «العقد الاجتماعي» بوصفها علاقةً تحكم أفراد المجتمع بالسُّلطة الحاكمة، وتنظّم حرّيات الأفراد في صورة حقوق وواجبات، بتنازل الأفراد عن جزءٍ من حرّياتهم، مقابل الحفاظ على الباقي منها ضمن الحريّة الجماعية في منظومة «الدولة» التي وصفها (جان جاك روسو) بأنها «شرُّ لابدّ منه»، حيث تفرض أنظمةً وقوانين توفّر الأمن، وتمنع العودة إلى شريعة الغاب، وفي الوقت نفسه، تحاول تحقيق السّعادة والعدالة للجميع. إنّ الهدف الأسمى لتطوّر التاريخ -كما في فلسفة هيجل- هو حرّية الاختيار، لكنّ المعضلة في أنّ اختياراتنا المزعومة، تشكّلها مجتمعاتنا نفسها، ومن هنا، برزت مُعضلة كبيرة لدى الفرد، وهي ذوبان شخصيّته، وضعف اعتزازه بنفسه، وسط مجموعات بشرية كبيرة تعمل بشكلٍ تلقائي، دون إرضاء شغفه بالتقدير والتميّز، فحتى ما يُقال عنه «الرأي العام»، هو في الواقع وسيلةٌ فعّالة للتحكّم في الحريّة الفردية.. لكن من الضروري الاعتراف، بأنّه مع تنامي الاستقلالية الفردية، يزداد عبءُ المسؤوليّة الشخصية، لذلك يفضّل أكثر الناس العُبودية على الحرّية!. يقول (إريك فروم): «يبدو أن غالبية الناس ليسوا إلا أطفالاً، غير واعين تماماً، يمكن التأثير عليهم إلى حدّ كبير، وهم مستعدُّون للتخلّي عن إرادتهم والاستسلام لمن يكلّمهم بلهجةٍ ناعمة، أو على العكس، بلهجةٍ قاسية بهدف استمالتهم».
والحقيقة، تُعدّ الفردانية -على استحالتها- قمّة الحريّة، أن تكون مستقلّا مُنفصلاً مُستغنياً غير مبالٍ، تفعل ما ترغب وتتخلّى عمّا لا تريد، ألّا يخبرك أحدٌ عن مشكلاته، ولا تخبر أحداً عن مشاعرك، أن تنام بعمق وتصحو دون أن يوقظك أحد، أن تفكّ ارتباطك بكلّ من حولك، وتعود غريباً مطمئناً، لا يعرفك الناس ولا تعرفهم!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق