الجمعة، 1 ديسمبر 2023

بضاعتنا رُدّت الينا . الليبرالية «في أحوالنا وأحوال سوانا»

خروج من الانتماءات الضيقة الليبرالية سبيلا لتجاوز الفوات الحضاري العربي 

 علوم الغرب وتقدّمه ونهضته ذات أصول في حضارتنا العربية. وأنّ ما يتحدّانا به من إنجازات علمية وثقافية إنما هو "بضاعتنا رُدّت الينا" وهي المقولة المتوارثة من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وفرنسيس المراش ورشيد رضا الى راشد الغنوشي ومحمد عابد الجابري وحسنين توفيق ابراهيم وسواهم.

 هذا الإدعاء الذي يبلسم "وعينا الشقي" يتجاوز حقيقة أنّ الحداثة شكّلت فضاءً جديداً بالفعل، بما أرسته من قيم وتصورات غير مسبوقة بصدد الإنسان وموقعه في الكون، والعقل الإنساني ومرجعيته المطلقة، والسلطة وشرعيتها، ما أسّس لمفاهيم الفرد والحرية الفردية والعقد الإجتماعي والمجتمع المدني.

 "لماذا تأخّر العرب وتقدّم الآخرون؟

العرب لم يعرفوا إلاّ حداثة معطوبة مستوردة لم يشاركوا في إنتاجها أو صنعها.

فهل كانت ثورة الغرب الحداثية نتيجة لأفكار هوبز ولوك وروسو ومونتيسكيو، أم أنّ مجتمعات الغرب بديناميتها الإجتماعية والسياسية والثقافية هي التي أنتجت مثقفين مثل هوبز ولوك وروسو ومونتيسكيو، وأفكاراً مثل العقد الإجتماعي، ودولة الحق، والحرّية السياسية والإجتماعية؟

*

يستعيد المفكر السياسي حازم صاغيّة في كتابه «في أحوالنا وأحوال سوانا» (دار الساقي 2003) هذه الإشكالية، من موقع التشديد على الدور الذاتي، وأول هذا الدور «يطال مكافحتنا نظامَ القرابة الموسع - طائفية، إثنية.. مما كافحه غيرنا ممن تقدموا»

 عام 1902 اندلعَ السجالُ بين محمد عبده وفرح أنطون حول الدين والحرية والعِلم والعَلمَنة، وفي عام 1925 دعا علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحُكم» إلى فصل الدين عن الدولة، وفي عام 1926 كَتَبَ طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وفي عام 1937 وَضَعَ إسماعيل أدهم رسالته «لماذا أنا ملحد؟».

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنشئت دار الكُتب المصرية وصَدرت صحفٌ ومجلاتٌ مثل «الأهرام» و«المُقتطف» و«المقطم» في مصر، و«حديقة الأخبار» و«نفير سورية» في لبنان، وفي هذه الحقبة أيضاً، تعرَف العالَمُ العربي إلى المسرح والفن الروائي والسينما، وذلك كله كان على صلةٍ بالغرب والثقافة الغربية التي تأثر بأفكارها ومبادئها رواد نهضتنا الحديثة، من رفاعة الطهطاوي وبطرس البستاني إلى جرجي زيدان وطه حسين، مرورًا بجبران خليل جبران، وأمين الريحاني، ومن دون أن يذهب هؤلاء إلى ادعاء التبعية الكاملة للغرب أو أبوته لنا.

نشأة الإخوان المسلمين في عام 1928، ونكبة فلسطين في عام 1948، وانقلاب جمال عبد الناصر في عام 1952، ليحل محلها الالتحاق بالسرديات الشعبوية والاتجاه إلى عسكرة الثقافة.

راجت نظريات المنظر الشيوعي الايطالي أنطونيو غرامشي في «المثقف العضوي» حيث خَنَقَ العضوي الثقافي وقيده بمهماتٍ يصعب ردها إلى الثقافة، في حين لم يكن الالتزام هو قضية المثقف، بل الديمقراطية التي أساسها الحريات العامة، وقد انتهت تجارب مثقفينا العضويين، حتى مع أحزابهم وقياداتهم، إلى المهانة والأذى الذي بَلَغَ حد القتل، وفيما نزل بفرج الله الحلو، ورئيف خوري وصلاح الدين البيطار، وعبدالخالق السمرائي، وسواهم أدلة ساطعة على المآل البائس للمثقف العضوي والثقافة على السواء، فقد أسفر ذوبان الثقافة في السياسة عن ضمورِ الإبداع الثقافي، وتراجُعِ الدور المركزي للمثقفين في الدفاع عن الحرية.

 نظريةَ ابن خلدون في «العصبية» لما تتميز به من راهنيةٍ لفَهْمِ مُجتمعاتنا العربية، فما يُعانيه العالَمُ العربي من تفكُّكٍ وأزماتٍ وصراعاتٍ يَجِدُ تفسيرَه في سياساتِ العصبية، إذ إن «الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تَستحكم فيها دولة» على ما رأى ابن خلدون.

 اليمن ولبنان وليبيا والعراق وفلسطين، وغيرها لانتفاء غلبة عصبية «أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب منها وتتم الرئاسة لأهلها».

الإصلاحُ الديني الذي دشَّن عصرًا جديدًا في الغرب، فلا يعوِّل المؤلف على إصلاحٍ مُشابهٍ له مُمكن في الإسلام في الظرف العربي الراهن لافتقاره إلى حاملٍ اجتماعي يرتكز عليه، على عكس الإصلاح الأوروبي الذي جاء جزءًا من عملية تاريخية عريضة وسَّعت نِطاق الحرية والفردية، وفي مقابل الصعود الشامل الذي أحاط بالإصلاح الأوروبي، يغمرنا في العالم العربي اليوم محيط من التراجع والتبديد يتسع بإيقاعٍ يومي، حتى إن ما كان مُتاحًا مع محمد عبده ثم تلاميذه يبقى على تواضعه أكبر بلا قياس مما هو مُتاح اليوم.

ترافَقَ هذا التراجع مع تدميرِ مُدنٍ ثلاث من مُدن المشرق العربي هي من أهم مدنه وأعظمها الموصل في عام 2014، وحلب في عام 2016، ثم بيروت في عام 2020،

 تفضيل بل تبني الليبرالية مقابل الإيديولوجيات القومية والماركسية والإسلامية، فالليبرالية أساسها الأول الاعتقاد بأن الحرية هي القيمة السياسية الأولى، وأن الفرد يتقدم على الجماعة وبقيمة قائمة بذاتها، وبكرامة وفرادة إنسانيتَين، وأنه وحده صاحب القرارات التي تتعلق بحياته؛ ولذلك فإن قرارات الأفراد التي لا تنبع من دينٍ أو تقليدٍ موروث أو عواطف، هي وحدها القرارات العقلانية، فالمعرفة من منظورٍ ليبرالي ليست نصًا مقدسًا أو شبه مقدس، بل هي التفحص العلمي والنقدي الحر والمتواصل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق