كابوس لأن قراءة "أزهار الشر"، التي أتى بها تترك في النفوس كآبة عميقة وحزناً رهيباً.
لم أسمع أو أشاهد هذا القدر من الإباحية كما أقرأها هنا لدى بودلير. فهذه الصفحات هي بمثابة عرض مماثل للشياطين والأبالسة والقطط والبراغيث. إن هذا الكتاب هو مستشفى مشرع الأبواب لجميع عفونات القلب
هذه الكتب التي يجب منعها من التداول بن الناس.
إنها تحريض صريح على الفساد والانحلال الخلقي والرذيلة والابتعاد عن مكارم الأخلاق ومقاصد الدين"،
إننا لا نستطيع إبادتهم (أي المثقفين والشعراء)، لكننا نستطيع التضييق عليهم سعيا إلى درء الخطر الذي يمثلونه على المجتمع
القارئ لأزهار الشر سيكتشف أن هذا الشاعر قد سبق عصره بالفعل، بودلير تجاوز معاني الجمال والقبح، ليقرن بين الخير والشر، مع طابع سوداوي لا تغفله العين، ويزول التعجب من الأمر عندما تميز تأثرا واضحا لبودلير بشاعر أمريكا الأول في القرن التاسع عشر والذي اقترن اسمه بما يمكن اعتباره بداية إرهاصات أدب الرعب الحديث: إدجار آلان بو.
وعندما نهض محامي بودلير لبدء مرافعته، قال: "أيها السادة إذا كان بودلير يصف الرذيلة فإنه يهدف من وراء ذلك إلى محاربتها وإدانتها فهو يقول: الحماقة والخطأ والخطيئة والبخل تحتل أفكارنا وتشغل أجسادنا، وعذابات الضمير الحبيبة نغذيها كما يغذي قملهم الشحاذون، وبالتالي فإن نواياه تبقى صادقة وسليمة".
لم يسجن بودلير، لكنه دفع غرامة 300 فرنك فرنسي، وتم حذف القصائد ذات الرقم (20 و30 و39 و80 و81 و87) من مجموعته، ولم تتم "تبرئته" رسميا إلا عام 1949 كما أسلفت الذكر.
وشارل بودلير (1821-1867) شاعر وناقد فنى فرنسى. بدأ كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه "أزهار الشر"، مدفوعا بالرغبة فى شكل شعرى يمكنه من استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية فى المدن الكبرى حتى يقتنص فى شباكه الوجه النسبى الهارب للجمال، حسبما يرى النقاد.
ويرى النقاد أن شارل بودلير حرك المياه الراكدة فى بحور الشعر فى أوروبا بسفة عامة، والفرنسى بخاصة، إذ لديه مقولة شهيرة: "سوف أحاول استخراج الجمال من الشر".
***********
لماذا يبدو الشر أليفا؟
الشر-كمناقض للخير- يبدو لا إنسانياً بالرغم من اعتياد الناس على اقتراف الشرور؟ ربما لأننى حينما قرأت أزهار الشر لبودلير منذ أعوام، لم أتبين تماماً مكمن الشرور فيها؟ أو لأننا لا نعى تماماً هذا الجانب الأصيل فينا. سيادة الشر.
قراءة الكتاب بشكل مبدئى أدركت أننى وقعت تماماً فى شرك الشر وأننى لن أستطيع الإفلات بسهولة. لقد اعترف جورج باتاى مؤلف الكتاب منذ البداية أن هذه البورتريهات يكتنفها الغموض. لقد كتب هذا الكتاب بمنطق من يمارس التمرد على تقاليد مجتمعه الفكرية. النصوص مكتوبة بأسلوب تفكيكى ملغز
إنها رؤية جديدة للشر.
يعرض باتاى لرؤية بليك للشر: بدون أضداد، لا يحدث تقدم. الانجذاب والاشمئزاز. العقل والطاقة، الحب والكراهية ضروريان للوجود الإنسانى. من تلك الأضداد ينبثق ما تطلق عليه الأديان الخير والشر. الخير هو السلبى الذى يطيع العقل. الشر هو الإيجابى الذى ينبثق من الطاقة. الخير هو الجنة. الشر هو جهنم. الطاقة، كما يقول،
هى الحياة الوحيدة، وتنطلق من الجسد؛ والعقل هو محيط الدائرة الخارجية للطاقة.الطاقة، إذن، هى البهجة الخالدة. أما إيميلى برونتى فقد كانت موضوع لعنة مميزة. كانت بائسة على مدى حياتها القصيرة. وبالرغم من ذلك، لكى تحافظ على نقائها الأخلاقى سليماً، كان عليها أن تمر بخبرة عميقة خلال عالم جهنمى حافل بالشر.
استطاعت برونتى سبر غور الشر فى روايتها مرتفعات ويزرنج التى تثير مسألة الشر فى علاقته بالعاطفة، وكأن الشر هو أكثر الوسائل قوة فى فضح العاطفة. لو استثنينا الشكل السادى للرذيلة، فيمكننا أن نقول إن الشر، كما يظهر فى رواية برونتى، قد وصل لشكله الأمثل. ليس هناك شىء من المحتمل أن يدهشنا أكثر من شخصية وأعمال جان جينية مؤلف يوميات لص. لقد مثل الهوس بالقداسة، بالكرامة الملكية تيمة متكررة فى أعمال جينية، يتناولها باتاى بشكل فلسفى مفصل. لقد هرب جينية من إصلاحية الأطفال التى كان يتعين إرساله إليها، ارتكب جرائم سرقة، وفوق هذا كله، مارس البغاء. لقد عاش فى بؤس، متسولاً وسارقاً، يمارس الجنس مع الجميع، يخون أصدقاءه، ولم يكن هناك شىء يمكن أن يوقفه: لقد اختار أن يمنح نفسه للشر. لقد قرر أن يتصرف بشكل سيىء بقدر إمكانه فى كل مناسبة وحينما أدرك أن الجريمة الأسوأ ليست أن ترتكب شرورا فحسب، ولكن أن تعلن عن ارتكابها، كتب فى السجن مبرراته التى دعته لممارسة الشر، وهكذا كانت كتبه محظورة قانوناً. لم يكن الشر مخففاً فى قلب مارسيل بروست.
لماذا الشر؟ يجيب باتاى ببساطة ملغزة: «إن معرفة الشر، هى ما تشكل أساس الاتصال الانفعالى. هذه الدراسات هى نتيجة محاولاتى لاستخلاص جوهر الأدب. الأدب هو الجوهرى، أو لا شيء. أعتقد أن الشر- الشكل الخطير للشر- الذى يعبر عنه الأدب، يمثل قيمة رئيسية بالنسبة لنا. ولكن هذا المفهوم لا يستبعد الناحية الأخلاقية: على العكس، فإنه يتطلب أخلاقية مفرطة». الآن: هل يمكن أن تكون ترجمة هذا الكتاب مدخلاً معرفياً يجلب الضوء على مكامن الشر فى الأدب العربي؟ هل يمكن للمكتبة العربية أن تصاب بحمى الشر فتكشف لنا عن مداخل جديدة لفهم سيكولوجية المبدع العربى؟ نوازعه وحروبة السرمدية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق