الوصاية الدينية للدولة السلطوية.. مصر نموذجا**********
Sep 2, 2019 Jan 18, 2022 Mar 22, 2022 May 3, 2022
الشمولية هى الدولة التى تفرض سيطرتها على المجتمع ككل، بما فى ذلك جوانب الحياة العامة والشخصية للأفراد، بالإضافة للسيطرة على الاقتصاد والتعليم والفنون، بل تتدخل بشكل مباشر فى توجيه أخلاقيات المواطنين والتحكم فيها، بينما السلطوية تعنى أن تكون السلطة فى يد شخص أو مجموعة نخبوية تحتكر السلطة والنظام.
الشمولية والسلطوية لا تقترنان دائما بالنظم الاشتراكية فقط، وإنما بأى نظام يدعى امتلاك الحقيقة، واحتكار معرفة مصلحة المواطنين دون غيره، استنادا إلى شعارات جاذبة، وإعلاء لمخاطر محيقة بالوطن تلزم الجميع بالالتفاف حوله، دون التركيز على الكثير من الحقوق التى تهدر، والاستحقاقات التى تدفن، كما نعرف عن الدول الدينية، كما هو الحال فى إيران والمملكة العربية السعودية، أو الجماعات الدينية عند الوصول إلى الحكم كما شهدنا فى السنة التى حكمت فيها جماعة الإخوان المسلمين مصر، أو كما يحدث مع القاعدة فى أفغانستان.
ومن المؤكد أن العقلية الشمولية والسلطوية لا يستأثر بها الحكام فقط، ولكن المثير أنها تتمكن من المحكومين وأنساق التفكير وردود الفعل لديهم، وهى تتفق مع العقلية الدينية من حيث اليقين المؤكد، والإيمان الشديد بما يتبعون، مع النفور المبالغ فيه من أى تيار أو فكر لا يتوافق معهم، بغير سند إلا الشعارات والخطب الرنانة التى يتم إلقاؤها بمناسبة أو بدون، حتى إننا لنجد هذا المواطن يخاف من التغيير أكثر من خوفه من واقعه المر، تبعًا لاعتياده أن هناك من يتخذ له قراراته، ويتحمل أعباء معيشته ويخطط له حاضره ومستقبله.
وهنا تطل العلمانية برأسها فى محاولة لتصويب هذه الأنساق الفكرية الشمولية، سواء كانت على أسس سياسية أو أسس دينية، وقد يحدث الخلط هنا لدى الكثيرين المعتقدين أن العلمانية معناها فقط فصل الدين عن الدولة، وبذلك يمكن أن تتوافق مع بعض الأنظمة الشمولية السياسية، وفى ذلك خطأ كبير لأن العلمانية نسق تفكير يؤمن بالنسبية والتعددية والشك كمرجعيات أولية، مما يؤدى إلى مخرجات مثل تجنيب الدين من الدخول فى الصراع السياسى والاقتصادى، وبالتالى للتعددية السياسية وتداول السلطة ومن ثم الديمقراطية.
وواقع الأمر أننا عانينا فى مصر من النوعين على مر الزمان، سواء من الحكم الدينى وقت أن كان الحاكم ممثلا للخليفة، وبالتالى الوكالة عن الله فى كل عصور الحكم الإسلامى، وهو ما كان متوافقا مع طبيعة العصر والزمن، إلا أن الإخوان المسلمين حاولوا إعادة إنتاجه كحكام، كما يتبعون فى جماعتهم وهياكلهم التنظيمية، كما عانينا من شمولية يوليو السياسية، مما أدى إلى تراكم شمولى فى الذهنية العامة للمواطنين، من رفض الآخر، وتخوين المختلف، والإصرار على إنتاج نظام أبوى يلقون بكل أعبائهم عليه، لأن الاعتياد على عدم تحمل المسؤولية كان وما زال غالبًا كنتيجة حتمية لكل ما فات من ممارسات.
الشمولية والسلطوية لا تقتصرعلى أنظمة الحكم الاشتراكية، وأوضحت أن ما حدث أثناء فترة حكم جمال عبدالناصر من سيطرة الدولة على مناحى الحياة المختلفة للمواطنين، بداية من السياسة إلى الاقتصاد مرورا بالتعليم والصحة والصناعة والفن، مرورا بالحريات العامة والخاصة، نهاية بالسيطرة على أخلاقيات المواطنين، هو نفسه ما حدث خلال فترة حكم أنور السادات، الذى ادعى ومازال يدعى مناصروه أنه عصر الانفتاح السياسى والاقتصادى، بينما كان كل ذلك فى إطار شمولى توجهه الدولة وتراقب تحركاته.
وقد كان لكل من ناصر والسادات آلياته الخاصة لتمرير خطابه وتوجهاته لمواطنيه، الذين لم يكن لهم فى غالب الأحوال القدرة على المقارنة أو الاستماع إلى غير هذه الأصوات، بحكم الزمن والقدرات التكنولوجية، ففى عهد عبدالناصر ساهمت الإذاعة الموجهة، بمساعدة آلة الصحافة الهائلة بقيادة محمد حسنين هيكل، بالإضافة إلى جوقة فنية تم صناعتها وصقلها بعناية، وضع على رأسها عبدالحليم حافظ لتحويل الأحلام إلى شعارات، والشعارات إلى أناشيد، وهو ما اتبعه السادات بنفس المنهج الشمولى بفريق آخر، لأهداف مختلفة وبشعارات بديلة، بداية من التعبئة للحرب، مرورا بتمرير اتفاقية السلام- وهما خطوتان فى منتهى الأهمية- ولكن الخط الأخطر الذى سخر له السادات آلته الإعلامية كان الدعوة إلى إدخال الدين فى المجال العام فى محاولته للقضاء على التيار الناصرى والاشتراكى، عن طريق إيهام المواطنين بأن النظام الذى سبق عليه كان نظاما لا دينيا،
ثانيهما بمحاربة الناصريين واليساريين مباشرة بالجماعات الإسلامية مثل «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» و«جماعة الإخوان المسلمين»، بكوادر تنظيمية فى السلطة مثل «عثمان أحمد عثمان» و«محمد عثمان إسماعيل»، مستخدما آلة إعلامية مختلفة مثل «الشيخ الشعراوى» كداعية لعصر جديد و«الدكتور مصطفى محمود» الذى زاوج بين العلم والدين فى تركيبة مقحمة، حتى خرج السادات معلنًا دون تحفظ أنه الرئيس المؤمن لدولة مسلمة.
وقد بلغ هذا التوجه مداه بعد مظاهرات الخبز فى 18و19 يناير1977 وبدلا من أن يحاول السادات الإقناع بأهمية الإصلاح الاقتصادى، ترك الساحة عمدًا للإسلاميين ليقضوا على خصومه فعليا فى الجامعات، ولينشروا أفكارهم فى أذهان المواطنين، ثم حول نزوعه السياسى نحو التيارات السلفية والإخوانية إلى استحقاقات قانونية ودستورية، ليمرر تعديلا دستوريا يسمح له بالترشح أكثر من مدتين، وفى المقابل حول شيخ الأزهر من رتبة تابعة لوزير الأوقاف، إلى منصب يعادل رئيس الوزراء، ثم قام بالتعديل الدستورى الأخطر 1980 بتغيير المادة الثانية، بجعل «الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» بعد أن كانت «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى من مصادر التشريع»، وهى مجمل التوجهات والقرارات التى لا تزال تعانى منها مصر حتى الآن.
وإلحاقًا لما ذكرته- فى المقال السابق- من انعكاس الشمولية والسلطوية على ذهنية المواطنين، فمن المهم أيضا ذكر تأثيرها على المشاركين فى صنع القرار، حيث تخلق السلطوية طبقة من السياسيين تنحصر قدراتها فى تنفيذ ما يوكل إليها من مهام، دون أن يكون لها أى توجه سياسى، أو وجهة نظر اقتصادية، ولا أى رؤية محددة، وهو ما تجلى فى استمرار تواجد نفس الوجوه فى الاتحاد الاشتراكى، ثم عصر السادات الانفتاحى، ثم خلال عهود مبارك اللااشتراكى واللاانفتاحى، والنقطة الأهم أن اهتمام هذه الطبقة هو إرضاء رؤسائهم دون وضع اعتبار للمواطنين، لأن المحاسبة تأتى دائما من أعلى فى النظم السلطوية ولا يكون هناك أى وزن لاختيارات الشعوب.
إنه وإن كانت نهايات الأنظمة الشمولية والسلطوية أغلبها كارثية، إلا أن نتائج حكم عبدالناصر يمكن علاجها بقرارات سياسية واقتصادية، بينما يتكفل الزمن بمداواة تأثيرها على ذهنية المواطنين، أما ما اقترفه نظام السادات الشمولى السلطوى بمغامراته الإسلاموية، فتجاوزه قد يعد شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلا!
الشمولية والسلطوية لا تقتصرعلى أنظمة الحكم الاشتراكية، وأوضحت أن ما حدث أثناء فترة حكم جمال عبدالناصر من سيطرة الدولة على مناحى الحياة المختلفة للمواطنين، بداية من السياسة إلى الاقتصاد مرورا بالتعليم والصحة والصناعة والفن، مرورا بالحريات العامة والخاصة، نهاية بالسيطرة على أخلاقيات المواطنين، هو نفسه ما حدث خلال فترة حكم أنور السادات، الذى ادعى ومازال يدعى مناصروه أنه عصر الانفتاح السياسى والاقتصادى، بينما كان كل ذلك فى إطار شمولى توجهه الدولة وتراقب تحركاته.
وقد كان لكل من ناصر والسادات آلياته الخاصة لتمرير خطابه وتوجهاته لمواطنيه، الذين لم يكن لهم فى غالب الأحوال القدرة على المقارنة أو الاستماع إلى غير هذه الأصوات، بحكم الزمن والقدرات التكنولوجية، ففى عهد عبدالناصر ساهمت الإذاعة الموجهة، بمساعدة آلة الصحافة الهائلة بقيادة محمد حسنين هيكل، بالإضافة إلى جوقة فنية تم صناعتها وصقلها بعناية، وضع على رأسها عبدالحليم حافظ لتحويل الأحلام إلى شعارات، والشعارات إلى أناشيد، وهو ما اتبعه السادات بنفس المنهج الشمولى بفريق آخر، لأهداف مختلفة وبشعارات بديلة، بداية من التعبئة للحرب، مرورا بتمرير اتفاقية السلام- وهما خطوتان فى منتهى الأهمية- ولكن الخط الأخطر الذى سخر له السادات آلته الإعلامية كان الدعوة إلى إدخال الدين فى المجال العام فى محاولته للقضاء على التيار الناصرى والاشتراكى، عن طريق إيهام المواطنين بأن النظام الذى سبق عليه كان نظاما لا دينيا،
ثانيهما بمحاربة الناصريين واليساريين مباشرة بالجماعات الإسلامية مثل «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» و«جماعة الإخوان المسلمين»، بكوادر تنظيمية فى السلطة مثل «عثمان أحمد عثمان» و«محمد عثمان إسماعيل»، مستخدما آلة إعلامية مختلفة مثل «الشيخ الشعراوى» كداعية لعصر جديد و«الدكتور مصطفى محمود» الذى زاوج بين العلم والدين فى تركيبة مقحمة، حتى خرج السادات معلنًا دون تحفظ أنه الرئيس المؤمن لدولة مسلمة.
وقد بلغ هذا التوجه مداه بعد مظاهرات الخبز فى 18و19 يناير1977 وبدلا من أن يحاول السادات الإقناع بأهمية الإصلاح الاقتصادى، ترك الساحة عمدًا للإسلاميين ليقضوا على خصومه فعليا فى الجامعات، ولينشروا أفكارهم فى أذهان المواطنين، ثم حول نزوعه السياسى نحو التيارات السلفية والإخوانية إلى استحقاقات قانونية ودستورية، ليمرر تعديلا دستوريا يسمح له بالترشح أكثر من مدتين، وفى المقابل حول شيخ الأزهر من رتبة تابعة لوزير الأوقاف، إلى منصب يعادل رئيس الوزراء، ثم قام بالتعديل الدستورى الأخطر 1980 بتغيير المادة الثانية، بجعل «الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» بعد أن كانت «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى من مصادر التشريع»، وهى مجمل التوجهات والقرارات التى لا تزال تعانى منها مصر حتى الآن.
وإلحاقًا لما ذكرته- فى المقال السابق- من انعكاس الشمولية والسلطوية على ذهنية المواطنين، فمن المهم أيضا ذكر تأثيرها على المشاركين فى صنع القرار، حيث تخلق السلطوية طبقة من السياسيين تنحصر قدراتها فى تنفيذ ما يوكل إليها من مهام، دون أن يكون لها أى توجه سياسى، أو وجهة نظر اقتصادية، ولا أى رؤية محددة، وهو ما تجلى فى استمرار تواجد نفس الوجوه فى الاتحاد الاشتراكى، ثم عصر السادات الانفتاحى، ثم خلال عهود مبارك اللااشتراكى واللاانفتاحى، والنقطة الأهم أن اهتمام هذه الطبقة هو إرضاء رؤسائهم دون وضع اعتبار للمواطنين، لأن المحاسبة تأتى دائما من أعلى فى النظم السلطوية ولا يكون هناك أى وزن لاختيارات الشعوب.
إنه وإن كانت نهايات الأنظمة الشمولية والسلطوية أغلبها كارثية، إلا أن نتائج حكم عبدالناصر يمكن علاجها بقرارات سياسية واقتصادية، بينما يتكفل الزمن بمداواة تأثيرها على ذهنية المواطنين، أما ما اقترفه نظام السادات الشمولى السلطوى بمغامراته الإسلاموية، فتجاوزه قد يعد شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلا!
*Dec 1, 2021
عمرو حمزاوي
عن اللاءات السلطوية
توصف الحكومات بالسلطوية حين لا تقر للشعوب الحق في اختيارها بحرية وتغييرها بحرية من خلال انتخابات دورية ونزيهة، وحين تمنع التداول الحر للمعلومات وتمتنع هي عن التزام الشفافية في إدارتها للشأن العام، وحين تتنصل من احترام حقوق وحريات المواطن الشخصية والمدنية والسياسية مثل حرية الاعتقاد وحرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم وتساومه على حقوقه الاقتصادية والاجتماعية وحقه في الأمن.
تتعامل الحكومات السلطوية مع القانون كأداة لفرض سيطرتها على المجتمع، وللإمساك بالمؤسسات العامة والهيمنة على المؤسسات الخاصة، ولإخضاع المواطن وحمله على الابتعاد عن المطالبة السلمية بحقوقه وحرياته، ولإنزال العقاب بمن يمتنعون عن تقديم فروض الولاء والطاعة.
لا للفضاء العام الحر، لا للإعلام الحر، لا للأحزاب السياسية التي تسعى للتداول الحر والسلمي للسلطة، لا للمجتمع المدني الذي يراقب ويسأل ويحاسب الحكام، لا للحريات الدينية والفكرية والثقافية والأكاديمية، لا للحرية الشخصية؛ تلك هي لاءات الحكومات السلطوية التي تتكرر عبر المكان والزمان لتضع في خانة واحدة إسبانيا بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين، والبرازيل في ستينياته وسبعينياته، وروسيا منذ تمكن فلاديمير بوتين من مؤسسات وأجهزة الدولة بها، والمجر التي تدفعها اليوم حكومة منتخبة ديمقراطيا بعيدا عن الديمقراطية والليبرالية، والمملكة العربية السعودية منذ نشأتها في الربع الأول من القرن العشرين، ومصر منذ إعلان الجمهورية في 1952.
تتشابه الحكومات السلطوية في إهدارها لقيمتي حكم القانون الأساسيتين. القيمة الأولى هي قيمة العدل المستندة إلى موضوعية القواعد القانونية وشفافية إجراءات التقاضي وضمانات حقوق الإنسان والحريات، والقيمة الثانية هي قيمة المساواة المستندة إلى الامتناع عن التمييز بين المواطنين والإقدام على محاسبة المؤسسات العامة والخاصة حين تتورط في ممارسات تمييزية. وعلى الرغم من القواسم المشتركة بينهم.
السلطويين ليسوا دائما على حال واحد فيما يتعلق بتفاصيل وطرق تعاطيهم مع السلطات العامة من المؤسسات القضائية إلى توظيف أداة التشريع التي تقوم عليها البرلمانات (أي إصدار القوانين الجديدة وتمرير التعديلات على القوانين القائمة) لإدارة شئون الدولة والمجتمع والمواطن. السلطويون ليسوا أيضا على حال واحد فيما يخص حدود الالتزام بتنسيب قراراتهم وسياساتهم إلى «القوانين واللوائح المعمول بها» وحرصهم على اصطناع صورة الحكم المحترم لسيادة القانون.
قليلا من الحكومات السلطوية المعاصرة لا ينكر عداءه الصريح لوجود مؤسسات قضائية مستقلة، ولا يتوقف عن التغول على المحاكم والتدخل في أعمالها بطرق شتى. قليل منها يضرب عرض الحائط بالقوانين واللوائح،
فالأغلبية تريد للمكون الأمني أن يدير شؤون الدول والمجتمعات من وراء ستار.
فقط القليل من الحكومات السلطوية هو الذي لا يخجل من أن يعلن على الناس أن الحكم هو حكم الفرد أو حكم الحزب الواحد وأن صناديق الاقتراع لا أهمية لها وأن دون ذلك ستسقط الدول وتدمر المجتمعات وينهار الأمن ويذهب إلى غير رجعة الاستقرار.
تصر أغلبية السلطويين المعاصرين على أن حكوماتهم تحترم سيادة القانون، وتعلن على رءوس الأشهاد امتناعها عن التدخل في أعمال المؤسسات القضائية والمحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها وابتعادها عن السيطرة على المؤسسات التشريعية. تشدد أيضا على أن القضاء المستقل يمثل فرض ضرورة لتحقيق استقرار الدولة والمجتمع شأنه شأن البرلمان المستقل، ولا تمانع أن يتم النص دستوريا على استقلال المؤسسات القضائية وحياد القضاة واستقلالية البرلمانات وإرساء مبادئ الفصل والتوازن بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية. غير أن تواتر إعلانات النوايا الحكومية الحميدة وحضور الضمانات الدستورية القاطعة لا يحولان دون السعي المستمر للسلطويين المعاصرين إلى استتباع القضاء وإخضاعه إلى أهوائهم، تماما مثلما يضغطون على المؤسسات التشريعية لتقزيمها إلى برلمانات دورها الوحيد هو تمرير مشروعات القوانين التي تطرحها الحكومات والموافقة على قرارات وسياسات الحكام دون إعمال جاد ومستقل للأدوات الرقابية.
لا يريد العدد الأكبر من أولئك السلطويين في القرن الحادي والعشرين أن يبدو كمن ينتهك القوانين وهو يقمع ويتعقب ويضبط ويخضع أو أن يظهر العداء الصريح للمؤسسات القضائية المستقلة وهو يستتبع القضاء والقضاة أو أن يمتهن البرلمانات وهي تمرر القوانين المقيدة للحريات. باستثناءات قليلة، يهدر سلطويو القرن الحادي والعشرين القيم الأساسية لحكم القانون وهم يدعون أنهم يحترمون سيادته، ويقضون على معاني العدل والمساواة في إدارة شئون الدولة والمجتمع بإجبار البرلمانات على تمرير قوانين وتعديلات قانونية ظالمة وتمييزية.
يقمع الإعلام الحر في روسيا ويراقب المجتمع المدني أمنيا بالقوانين واللوائح. وفى المجر، تنزع شرعية الوجود عن منظمات حقوق الإنسان ويتعقب من يعمل بالقوانين واللوائح، وفي روسيا البيضاء، يعزل الرئيس لوكاشينكو أساتذة الجامعات وموظفي العموم وفقا للأهواء السياسية لأن القوانين واللوائح تمكنه من ذلك. وفي بلاد العرب، بحور متلاطمة من الأفعال السلطوية لحكام وحكومات لا يعنيهم غير إخضاع المواطن وضبط المجتمع والسيطرة على الفضاء العام.
*
مصر ما بعد الثورة
Dec 13, 2019
: قراءة ليبرالية من موقع «الخصومة»
يكتب عمرو حمزاوي، كما يقول، من موقع الخصومة مع الحكم الراهن في مصر. وهي خصومة، فرضها النظام عليه، برفضه التعبير الحرّ، وإغلاقه الفضاء العام، وتورّطه في انتهاكات حقوق الإنسان، وتعقبه للمجتمع المدني المستقل
النظام غير الديموقراطي، الذي يمارس القمع وقصّ الحقوق، ويعمل لصياغة وعي عام بدرجات متفاوتة من الفاعلية والكفاءة. هذا النظام هو الأقرب إلى الحالة المصرية حسب حمزاوي، إذ تسيطر عليه نخب عسكرية لا تعدم الحلفاء المدنيين، أو نخب مدنية تعتمد على المؤسّسات الأمنية وأدوات أخرى كالمؤسسات الدينية والأحزاب السياسية والأجهزة الإعلامية لإخضاع المواطن وضبط المجتمع والهيمنة. وهذا تصوّر لا يخصّ أرندت، بقدر ما يلاقي نظرية غرامشي عن الهيمنة وأدواتها. لكن حمزاوي يسرف في العودة إلى المرجعيات الليبرالية دائماً. وهذا لا يلغي أن هذه العودة ممكنة أحياناً: «تصطنع السلطوية الحاكمة من خلال توظيف أداة تشويه الوعي الجمعي مواطناً تحرّكه نوازع الانتقام من معارضي الحاكم الفرد ونخبته،
اللافت أن حمزاوي يعرف جيداً قدرة السُلطة على استلاب أدوات خطابه نفسها، خاصة في تطويع الدستور والقانون. باستثناءات قليلة، يهدر سلطويو القرن الحادي والعشرين القيم الأساسية لحكم القانون، وهم يدعون أنّهم يحترمون سيادته، ويقضون على معاني العدل والمساواة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع بتمرير قوانين وتعديلات قانونية ظالمة وتمييزية.
نظام يعتمد على المؤسّسات الأمنية والدينية والإعلام لإخضاع المواطن
المجال العام هو المكان الذي يمكنه استيعاب السجال والتفاهم في مسائل المصلحة العامة. وإن كان المجال العام واضحاً، فإنّ تحديد المصلحة العامة لا يتم وفق كليشيهات دائماً.
خلاصة عمل حمزاوي تتلخّص في تحديده للدولة القوية والعادلة: احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية لتمكين الناس من الحياة. لكن سرعان ما يطرح سيلاً من تعريفات لا تخلو من الرطانة: واجب الدولة تحفيز المجتمع المدني والقطاع الخاص على إنجازهما ودفع البلاد إلى الأمام. فإن كان التضييق على المجتمع المدني يتّخذ سمة الشمولية التي يجب نبذها، فإن دعم القطاع الخاص ليس منفصلاً أبداً عن مشاريع «السلطوية»، وعن أهدافها. وبعيداً عن الحالة المصرية، هناك نماذج أوضح بكثير، ربما، لتحديد أثر هيمنة القطاع الخاص، خاصةً عندما يكون «مطيّة» للاستبداد.
خلاصة عمل حمزاوي تتلخّص في تحديده للدولة القوية والعادلة: احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية لتمكين الناس من الحياة. لكن سرعان ما يطرح سيلاً من تعريفات لا تخلو من الرطانة: واجب الدولة تحفيز المجتمع المدني والقطاع الخاص على إنجازهما ودفع البلاد إلى الأمام. فإن كان التضييق على المجتمع المدني يتّخذ سمة الشمولية التي يجب نبذها، فإن دعم القطاع الخاص ليس منفصلاً أبداً عن مشاريع «السلطوية»، وعن أهدافها. وبعيداً عن الحالة المصرية، هناك نماذج أوضح بكثير، ربما، لتحديد أثر هيمنة القطاع الخاص، خاصةً عندما يكون «مطيّة» للاستبداد.
*Jul 8, 2022
في مخاطر الانتخابات الديمقراطية دون ديمقراطيين
غرب ديمقراطي تتعرض حكوماته لصدمات شعبوية متتالية وشرق تتجدد سلطويته وجنوب يراوح بين تحولات ديمقراطية ناجحة وأخرى فاشلة.
أنماط الحكم الديكتاتورية والسلطوية، وأنتجت ترتيبات جديدة لإدارة العلاقة بين الدولة والمواطنين اتسمت بالانفتاح السياسي والتنافسية.
بداية التسعينيات بعد انهيار حكم الأحزاب الشيوعية في مجتمعات أوروبا الوسطى والشرقية وتبنيها ليافطات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق، واستحال من ثم إلى قناعة بالحتمية التاريخية لانتصار الديمقراطية الليبرالية عالميا.
اختزال الاهتمام بدعم الديمقراطية في الخارج إلى مجموعة بسيطة من الأدوات والممارسات هدفت لحماية حقوق الإنسان والحريات المدنية وتفاوتت حظوظها من الفاعلية من إقليم إلى آخر ومن دولة إلى أخرى.
سيادة حكم القانون واستقرار مؤسسات الدولة الوطنية وحياديتها التي بدونها تتحول آليات وظواهر كالانتخابات الدورية وتداول السلطة والتعددية الحزبية وتنوع كيانات المجتمع المدني إلى واجهات خالية من المضامين والنتائج الديمقراطية.
في هذا السياق تستدعى حالات مجتمعات عربية كالعراق ولبنان والمغرب للتدليل على أن تنظيم الانتخابات التشريعية الدورية كآلية لإدارة التنافس السياسي في مجتمعات لم يستقر بها بعد حكم القانون وتعاني إما من غياب الحيادية والفاعلية عن مؤسسات الدولة أو من هيمنة التشكيلات الطائفية والعرقية ليس له إلا أن يؤدي إلى تعميق التوترات المجتمعية والسماح للصراعات بين النخب السياسية والاقتصادية بأن تغزو كامل الفضاء العام وتضعف إلى حد الإلغاء الدولة الوطنية.
لا تداعيات إيجابية إذا لتنظيم الانتخابات في العراق ولبنان والمغرب طالما استمرت الظروف الراهنة، والأجدر بالنخب السياسية والاقتصادية في البلدان الثلاثة
بجانب حكم القانون واستقرار مؤسسات الدولة، ثمة عوامل قانونية وسياسية ومؤسسية أخرى يشار إليها أيضا كشروط مسبقة للتحول نحو الديمقراطية مثل
تنوع النخب السياسية والاقتصادية الممارسة للسلطة على المستويات الوطنية والمحلية على النحو الذي يضمن عدم تركز السلطة في قبضة القلة ويؤدي إلى شيء من الفصل والرقابة المتبادلة بين ممارسي السلطة ويخدم من ثم الصالح العام.
مجتمعات أوروبا الغربية واضحة الهوية غير العراق ولبنان والسودان واليمن
تركز السلطة في بلدان كالجزائر ومصر والأردن ودول الخليج في يد القلة وتتعاقب على حكمها إما نخب تقليدية أو نخب عسكرية وأمنية، وما ينتجه تركز السلطة من طغيان للأجهزة التنفيذية وضعف بين في أدوار واختصاصات المؤسسات التشريعية وفي استقلالية المؤسسات القضائية، تقارن كافة هذه الأمور بتعددية شبكات النفوذ والسلطة السياسية والاقتصادية في مجتمعات أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية قبل انجاز التحول نحو الديمقراطية.
حتمية توفر درجة من النمو الاقتصادي ومن تماسك الطبقة الوسطى كأمر لا غنى عنه لانجاز التحول نحو الديمقراطية ولاستقرار الحكم الديمقراطي.
سنغافورة المدارة سلطويا والناجحة بامتياز على مختلف الأصعدة المعيشية وبين جنوب أفريقيا التي تحولت ديمقراطيا لتتعمق إخفاقاتها الاقتصادية والاجتماعية، وبين فنزويلا بديمقراطية حياتها السياسية منذ الخمسينيات وتوتراتها المجتمعية وانقلاباتها العسكرية التي لا تتوقف وشيلي التي مرت بفترة ديكتاتورية قاسية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلا أنها تمتعت بمعدلات نمو اقتصادي عالية مكنتها من التحول لاحقا بنجاح نحو الديمقراطية.
مصر قبل 2011 وبعد 2013 على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية حيث تعثر التحول الديمقراطي بفعل مقاومة مؤسسات الدولة القوية وخطايا القوى السياسية وانهارت مرافق مجتمعية حيوية.
توظف الخبرات المعاصرة للتحذير من اختزال البناء الديمقراطي في تنظيم لانتخابات دورية وتداول للسلطة دون اعتبار لمجمل العوامل القانونية والسياسية والمؤسسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتعين حضورها كشروط مسبقة لضمان نجاح واستقرار التحول الديمقراطي.
يصمت المحذرون من اختزال البناء الديمقراطي في انتخابات دورية وتداول للسلطة، يصمتون عن حقيقة ضعف حكم القانون ومؤسسات الدولة الوطنية في الكثير من المجتمعات المستبدة والسلطوية. يصمتون أيضا عن انتفاء مصلحة نخب الحكم في دعم نشوء حكم قانون قوي ومؤسسات دولة فعالة ومحايدة خوفا من الانتقاص مستقبلا من امتيازات النخب وتداعيات ذلك الأمر بالغة السلبية لجهة شيوع الفساد وغياب عدالة الحد الأدنى الاجتماعية. يصمتون، أخيرا، عن كون ضعف حكم القانون وشيوع الفساد يقللان من فرص النمو الاقتصادي المتوازن ويهددان التوافق المجتمعي مما يلزم بتفضيل التحول التدريجي والمنظم نحو الديمقراطية على الرغم من عظم المخاطر.
*Apr 30, 2022
دور المواطن والمجتمع في تحقيق التنمية
ليست منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والإعلام الحر هي وحدها التي تفقد أسباب الوجود والدور والحيوية حين تلغى الحقوق المدنية والسياسية، بل أيضا القطاع الخاص ومعه مبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية والمنافسة كمبادئ رئيسية لتنظيم النشاط الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات البشرية. الملكية العامة، وسيطرة الدولة على موارد المجتمع ووسائل الإنتاج، والقطاع العام الذي لا تزاحمه كيانات خاصة تستهدف الربح صغرت أحجامها أو كبرت؛ تلك هي الممارسات التي تتماشى مع النظرة إلى الدولة كماكينة التنمية والتقدم التي لا تحتاج سوى لمواطن ومجتمع التأييد وتتماشى مع القناعة بأولوية وأسبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ما عداها.
بعيدا عن قناعتي الشخصية بالأفضلية الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية لمبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية والمنافسة وللتنظيم الديمقراطي الذي يتأسس مستندا إليها، تظل المعضلة الواقعية الكبرى لنظرة الدولة كماكينة التنمية والتقدم الوحيدة هي قصورها المتكرر عن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على مدار فترات زمنية مستقرة وعن تحقيق الإسعاد المادي للمواطن والتوازن للمجتمع بعد أن استبدلت التعبئة والحشد بالحرية والمنافسة.
مصيدة الاحتكار ومحدودية الابتكار وضعف الإنتاجية.
في بر مصر من يرد ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، لا يستطيع أن يعول على انفراد مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية بالمهمة. من يرد وجود قطاع خاص تنافسي ومبتكر ويوسع من الملكية الخاصة ويتخلص من تغول القطاع العام، لا يستطيع أن يلغي لا المبادرة الفردية ولا حق المواطن في ممارسة حرية الاختيار ولا حق المجتمع في التنوع والتعدد.
Jul 8, 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق