Nov 25, 2020 Jun 10, 2021 Oct 23, 2021 Jan 12, 2022000
Jun 29, 2021
Sep 1, 2021
للفلاسفة آراء ومفاهيم في الحب (1)، رأى أفلاطون (2) أن الباحث عن الحب هو نصف يبحث عن نصفه الآخر، أما سُقراط فيُعطي الحب رفعته ومكانته المُقدسة، ويرى أن الحب الذي ينتهي لم يكُن حبا من الأساس. ويتفق مع هذا رأي ابن حزم الأندلسي، إذ يقول في كتابه "طوق الحمامة في الألفة والألاف": "كل أجناس الحب التي تقوم على المنافع الحسية سرعان ما تزول وتنقضي بانقضاء عللها، إلّا محبة العشق الصحيح المتمكن في النفس فهي لا فناء لها إلّا بالموت". ويقول أرسطو: "الحب علاقة تُعبر عن جسدين بروح واحدة". كل هذه المفاهيم والتعريفات لرؤى الفلاسفة والأدباء عن الحب، وتبرير عذابه
الباحثين في مجال علم النفس يَرون أن للحب ست ركائز: التبادل، الوفاء، الأُلفة أو الأُنس، الاستمرارية، الثقة، والاهتمام. وأي نقص لواحد من هذه العناصر يعكس نقصا في العلاقة أساسا، أي: حُب ناقص. وبالقياس على "الحب من طرف واحد"، فالنُقصان جليّ وواضح، لأن صفة التبادل غائبة، كما يغيب الاهتمام الذي يبذله طرف واحد للآخر دون أن يستقبل ما يُماثله. وكذلك الأمر بالنسبة للاستمرارية، فيقول الدكتور بوزيداني: "يُمكننا أن نخلُص إلى أن الحب من طرف واحد هو علاقة حب غير مكتملة الأركان (ناقصة)".
خمسة أنواع مختلفة من العلاقات غير التبادلية:
– الالتقاء بشخص غير مناسب: على سبيل المثال؛ حُب الطالبة لأستاذها أو الطالب لأستاذته، مما يُنشئ علاقة غير متكافئة (اجتماعيا) تماما. وبسبب عدم التكافؤ هذا، تصطدم المشاعر بحاجز يجعل الاقتراب من الطرف الآخر أمرا صعبا ومُعقّدا. وبالعادة يميل الشخص المُحب -في هذه العلاقة- لتتبع أخبار الطرف الآخر عن بُعد، لإشباع مشاعره، بل وقد يصل إلى مرحلة الرضى بهذا القدر.
– عدم التكافؤ في المشاعر: في هذا النوع تكون هناك علاقة، ولكن حجم المشاعر والعاطفة المبذولة من الطرفين لا يكون متقاربا أو متكافئا ولا متوازنا.
– عدم البوح: كأن يتعامل الشخص مع زميل أو زميلة له أو شخص مقرب ويُطوّر مشاعره تجاه الآخر دون الإفصاح عن هذا التطور. ففي ظاهرها تبدو علاقة صداقة، ولكنها تحمل في أعماقها شكلا من أشكال الحب. وبسبب أنها علاقة صداقة، وبها من القُرب ما بها، فلا يجد الشخص حاجة إلى البوح، وهو ما يُعرف بـ "الحب الأفلاطوني" ويبعد قليلا عن الحب من طرف واحد. (3) ولكن الاستمرار في تطوير مشاعر القرب والصداقة إلى حب من أحد الأطراف هو ما يمكن اعتباره حبا من طرف واحد.
رد فعل الطرف الآخر: هذا النوع من الحب يمكن أن يُمثّل مرحلة من مراحل تطور العلاقة، إذ يُبادر طرف منهما بالإفصاح عن المشاعر التي يُكنّها للآخر، ولتنتقل العلاقة -بهذا الإفصاح- من مرتبة الصداقة إلى ما بعدها. الإشكالية هنا تتصل برد فعل المُعلن له، كأن يخجل بقوله: لا، ليُساهم حينها في بناء علاقة كهذه.
فالحب من طرف واحد هو حرب داخلية، صراع بين عواطف الإقبال وعواطف الإحجام، حرب بين الارتقاء بالذات وبين إضاعة الوقت في محاولات -فاشلة- متكررة في سبيل الوصول لطرف لن نصل إليه. وهي حالةٌ نقودُ بها أنفسنا لكسر قلوبنا وخواطرنا، فهناك طرف يعطي كل شيء، في مقابل طرف لا يعطي، ولو أعطى، فبقدر قليل جدا. في النهاية، الحب من طرف واحد هو تحطيم للفرد، لقدراته ولعلاقاته الاجتماعية التي سيُهملها في سبيل ابتكار وسيلة تقرب جديدة، فهو على استعداد لأن يصرف كل طاقته لرسم خريطة تقود به إلى الطرف الآخر الذي يقف على بُعد صعوبات وحواجز ورفض. فلماذا كل هذا؟ هُناك بالتأكيد من يُعَبّد لنا الطرق لنمشي بتوازن كما يليق بالعلاقات أن تكون.
كيف جعلت الرأسمالية "العمل" بديلا عن "الحب"؟
في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" يقول "ماكس فيبر" إن الأخلاق في المجتمع الحديث لا تشبه أي شيء قد مضى قبلها. لقد تفكك المعنى القديم للأخلاق التقليدية، وبالإضافة إلى ذلك فإن تعدد مجالات المعرفة وانتشارها وظهور تخصصات دقيقة في كل فرع من فروع العلم جعلت من الصعب جدا أو من المستحيل على أي شخص أن يعرفها ويكتشفها جميعا. في هذا العالم الذي لا يمكن استيعابه كليا، وإذ لا وجود لقيم مشتركة على المستوى العالمي، "فإن معظم الناس تشبّثوا بركنهم الخاص من العالم لا سيما وظيفتهم أو مهنتهم وتعاملوا مع العمل على أنه ديانة ما بعد دينية، أو "غاية مطلقة في حد ذاتها". لذا، إذا كانت "الأخلاق" أو "الروح" الحديثة لها أساس مطلق ونهائي، فهو هذا العمل".
إن روح الرأسمالية كما يراها فيبر تمثّلت في رؤية الخير الأعظم في "صنع الكثير من المال"، هذه الأخلاق تؤكد القيم الاحترافية ضيقة الأفق التي انتشرت في المجتمعات الحديثة بين رجال الأعمال والموظفين ذوي الأجور المرتفعة. تقوم المجتمعات الرأسمالية بحسب "إريك فروم" على مبدأ الحرية السياسية من ناحية، والسوق من الناحية الأخرى باعتباره منظم العلاقات الاقتصادية وبالتالي فهو أيضا منظم العلاقات الاجتماعية. إن سوق السلع يتحكم فيه صاحب رأس المال، وهو الذي يحدد القيم التي بناء عليها يدفع للعاملين أجورهم. فإذا كانت هناك طاقة ومهارة إنسانيتان لا يوجد طلب عليهما في ظل شروط السوق الموجودة فلن يكون لهما قيمة مقايضة. لقد تحول الإنسان نفسه إلى سلعة تخضع لقانون العرض والطلب
عندما يتحول الإنسان إلى سلعة تصبح تجارب حياته هي رأس ماله الذي لا بد أن يستثمره بأفضل الطرق المربحة، ويكون هذا الأمر هو مقياس نجاحه الذي يمنح لحياته معنى. فإذا لم ينجح في استثمار نفسه فهو فاشل، إذ إن قيمته قد تلخصت في "قابليته للبيع" وليس في خصائصه الإنسانية كالحب والعقل أو في قدراته الفنية، لذلك، وكما يقول إريك فروم، فإن إحساسه بقيمته الخاصة يصبح معتمدا على عوامل خارجية التي هي نجاحه وحكم الآخرين عليه. وبالتالي فإنه عليه أن يكون على قدم المساواة مع القطيع وأن لا يختلف عنهم في الفكر أو المشاعر أو السلوك لكي يضمن أمانه الشخصي
لكن مع كل محاولة للاقتراب من الصف، يشعر المرء بوحدته تزداد "محاصرا بالشعور بالقلق والزعزعة والإثم، وهي مسائل تنجم دائما عندما لا يمكن التغلب على الانفصال"، لكن الحضارة الرأسمالية تقدم مسكنات لهذه الآلام كي لا يظل الناس على وعي شعوري بهذه الوحدة، أول هذه المسكنات وقبل كل شيء هو "الروتين الصارم للعمل". يقول فروم: "يساعد هذا الروتين الآلي البيروقراطي الناس على أن يظلوا لا يعون أشد رغباتهم الإنسانية أساسية والاشتياق للتجاوز والاتحاد". إن هذا الطابع الاجتماعي للإنسان الحديث يحوله إلى آلة، و"الآلات لا تستطيع أن تحب".
كان موظفو يوميموطو كالأصفار لا قيمة لهم إلا خلف الأرقام الأخرى
إن الإنسان العصري نادرا ما يتواصل في عمله مع المنتج الكامل، فهو مغترب عن عمله، يعمل مثل ترس في دائرة محكمة من الأتمتة، لا يوجد له دور في تخطيط سير العمل. كذلك فإن استهلاكنا متغرب تدفعنا إليه الإعلانات التي تصممها الشركات وليس نابعا من احتياجاتنا الحقيقية، يقول فروم: "يتجلى لا معنى واغتراب العمل في التوق إلى الكسل التام، إذ يكره الإنسان حياته العملية لأنها تشعره أنه سجين ومحتال. يصبح الكسل مثله الأعلى". إن هذا الإنسان بالطبع خائف، بالإضافة إلى أن العزلة والانفصال ينتجان القلق، لكن نظام العمل في الشركات الكبرى في حد ذاته ينتج القلق، لا أحد يعرف إلى أين سيذهب به مساره المهني، هل سيعلو أم سيهبط، سيصعد مراتب السلم الاجتماعي أم سينحدر إلى الفقر، مثل هذا الإنسان يصعب عليه التفكير في خوض تجربة حب أو زواج قد تتطلب منه اجتهادا مضاعفا ليحافظ عليها. يكتب فروم:
يصبح الإنسان في المجتمعات الصناعية الأكثر تطورا مغرما جدا بالأجهزة التقنية أكثر من غرامه بالبشر وعمليات الحياة. قد تصبح رياضة جديدة بالنسبة لكثير من الرجال أكثر جاذبية من المرأة. يستبدل الاهتمام بالحياة والعضوية بالتقنية واللاعضوية. وبناء عليه يصبح الإنسان لا مباليا بالحياة.. فالإنسان الذي تشيأ هو إنسان قلق، لا إيمان لديه، لا قناعة، وقليل القدرة على الحب". في مقاله "الاستهلاك من أجل الحب" يرى إدوارد لوتواك أن معظم الأميركيين محرومون عاطفيا ويعانون من الفقر في علاقاتهم الأسرية، ما زال الأميركيون يتزوجون لكنه يراه زواجا هشا إن لم يكن محطما ويسبب الكثير من القلق. يعوض الأميركيون هذا الحرمان عن طريق الاستهلاك خصوصا للوجبات السريعة التي تعتبر وجبات عاطفية من الطعام.
لكن المصدر الرئيسي للإشباع العاطفي الذي تقدمه الرأسمالية بديلا عن الحب كما يراه لوتواك هو "العمل". يتم استغلال هذا الإشباع للقضاء على أي عجز عاطفي وكذلك استغلاله لبذل المزيد من العمل، يكتب: "هو علاج غريب للروابط العائلية الميئوس منها، لأن العمل في حد ذاته مدمر للروابط العائلية". إن ما يجعل العمل حلا أكثر سهولة من الحب هو أن الحب "نشاط"، ليس نشاطا بمعنى فعل، لكن المقصود أنه نشاط باطني "الاستخدام المثمر لقوى الإنسان"، وليس شعورا سلبيا، إنه الوقوف وليس الوقوع وهو "عطاء أساسا وليس تلقيًّا فقط"، وكما أسلفنا فإن إنسان الآلة يعاني من الكسل الداخلي ولا يرغب في فعل شيء. والشخص الكسول يعجز عن ربط نفسه بشكل فعال بالمحبوب. لذلك يطرح فروم في نهاية كتابه "فن الحب" سؤالا مهما:
"إذا كان كل تنظيمنا الاجتماعي والاقتصادي قائما على بحث كل إنسان عن فائدته، فكيف يمكن للإنسان أن يؤدي عمله، كيف يمكن للإنسان أن يتصرف داخل إطار المجتمع القائم، وفي الوقت نفسه يمارس الحب؟
ففي العمل "لن تكون نفسك" ولا من حولك هم أنفسهم، مما يعني وجود بعض الزيف وانعدام الأمانة، لكن هذا الوضع يلهينا عن التعامل المرهق مع آلامنا الداخلية. كذلك في العمل يتلقى الشخص تدريبا قبل البدء، لكن الحب هو تجربة شخصية لا يمكن أن تكون لدى كل إنسان إلا لنفسه وبنفسه، مما يجعل الحب غير متوقع ومحفوفا بالمخاطر، وإنسان اليوم لا يعرف الصبر ويريد نتائج سريعة لكل شيء، فلا يصبر على الحب. مهما كانت مهام العمل معقدة فلن تكون بمستوى الجهد المبذول في بناء علاقة حب حقيقية. يقول فروم
إن الناس القادرين على الحب في ظل النظام الحالي هم بالضرورة استثناءات، الحب بالضرورة ظاهرة جدية في الوقت الحالي، لا لأن الكثير من المشاغل لن تسمح بموقف الحب، بل لأن روح مجتمع السلع الشره المتمركز في الإنتاج هو على نحو لا يجعل سوى اللاممتثل وحده هو القادر على الدفاع عن نفسه بنجاح ضده"
*****
"خرافة الحب".. كيف تحولت المشاعر في عصر الاستهلاك إلى وهم
"السُيولة" بحسب عالم الاجتماع "زيجمونت باومان" في سلسلته الشهيرة عن السيولة في مجتمعات الرأسماليّة المعاصرة- ولذا فإنّ المجتمع الغربيّ -غالبا- يُغَلِّبُ أفكارَ "الذاتيّة" و"البراغماتيّة" والكسب المادي المباشر على حساب التصوّرات الكُلِّيَّة عن طبيعة الإنسان والكون، ومن ثمّ فإن الحقيقة الوحيدة المقبولة عند المجتمع الغربي هي ما تقرّه "الذات" التي تتعالى وتتجاوز على أي تصور غيبي وقيمة عليا.
فلاسفة "ما بعد الحداثة"- عن موت مشروع الحداثة وفشلِهِ
الفكر النقديّ الغربيّ يكشف حقيقة عن وجود أزمة عميقة في بنية فكر "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" على حدّ سواء، حيث تنكشف لنا تناقضات مختلفة وصعبة في مختلف القضايا[4] كتَحُوُّل المجتمع البشريّ من مجتمع إنسانيّ إلى مجتمع استهلاكيّ يقدّس الاستهلاك، تماما كتقديس الأديان لفكرة الألوهيّة[5]، ومن مجتمع فاعل مفكّر إلى مجتمع تصنع السلطاتُ ثقافته[6] ومن حضور الإنسان في شتّى مجالات الحياة إلى اغترابه أمام سطوةِ التقنيّة وتغوّلِ الاستهلاك؛ ممّا يجعل العالم "مقلوبا".
سرّ تراكم رأس المال في العمليّة الاقتصاديّة الحرّة قائم على الاستغلال للعمّال المأجورين الذين لا يتقاضون سوى معاشات زهيدة، فيما يذهب فائض القيمة الذي يولّده عملهم إلى أرباب العمل. تُمثِّل هذه العمليّة "الاستغلالية" -من خلال المنظور الماركسيّ التقليديّ- قلبَ النظام الرأسماليّ النابض، حيث إنها تعطي رأس المال قدرة غامضة على "التوسُّع الذاتيّ" وذلك من خلال علاقة طبقة "مالكي وسائل الإنتاج" الذين يستولون على أرباح الناتج الفائضة بطبقة العمّال المُجبَرين على بيع طاقتهم المستخدمة في الإنتاج حتى يعيشوا
"الرأسماليّة" في حقيقة الأمر ليست محضَ نظام اقتصاديّ قائم على العلاقة الاقتصاديّة بين طبقتيه، بل هي نظام اجتماعيّ متكامل
فالأخلاق أو القِيَم التي تسود الحياة العامّة في العالم الحديث مختلفة تماما عن قواعد الأخلاق التي جاءت بها الأديان؛ حيث إنّ أخلاق الرأسمالية أو الحداثة شخصيّة أو ذاتيّة أو نفعيّة المنشأ، وذلك بفعل انتشار معايير "الحداثة" التي كسرت معايير عديدة كالأخلاق الدينيّة والزواج وتعريف الجمال والعمليّة الجنسيّة؛ ولذا أصبحت القِيَمُ ملكا للفرد على نحو متزايد وليس للمجتمع في تحديدها نصيب كبير.
لقد أصبح السلوك العام في المجتمعات المعاصرة باردا ومحترِزا وصارما، محكوما بالانضباط الذاتي الشخصيّ في أغلب أحواله، وأصبح السلوك الصحيح يكمن في مراعاة الإجراءات الصحيحة كما لو أنه يسير على نصّ من القانون، كما أصبح السلوك العام الحديث منطقيّا ومتّسقا ومتماسكا كحال الذي أطاع حقائق جديدة لا مجال للجدال فيها مثل قوّة الأعداد وقوى السوق والتكنولوجيا
يأخذنا "تشاك بولانيك" في تحفته الروائيّة "نادي القتال" -التي تحوّلت إلى فيلم سينمائيّ لاحقا- إلى عمق الأزمات التي يعايشها الإنسان في ظلّ الرأسماليّة والحداثة، خاصّة تلك الشروط المفروضة علينا، أو القواعد التي تفرضها الرأسماليّة الغربية لنعرِّف أنفسنا من خلالها.
ترسمُ لنا الشخصيّات الرئيسة في الرواية الأنماط التي يمكن أن يكون الإنسان عليها في مجتمعات المال والاستهلاك، فهناك الإنسان المنضبطُ كالآلة وفق برنامج زمنيّ معيّن فُرض عليه من خلال طبيعة عمله ومواصلاته، وثمّة الرجل المتمرّد الذي يرفض الخضوع لشروط الحياة المحيطة ويقنع من حوله بالذهاب نحو الجحيم بدهاء لافت، فالحياة كالعبوديّة أو أشدّ، وللخلاص منها لا بدّ من إطلاق غرائز النفس لتجاهل آثارها، وهنا يأتي دور "القتالِ بلا قواعدَ" ليكون الشكل الأوضح لخلاص النفس البشرية من ترويض الحضارة الغربيّة لها، فـ "كينونة الناس في العالم الحقيقيّ تختلف جذريّا عن كينونتهم في نادي القتال"[10] حيث لا يشعرُ المقاتل بالحياة في الخارج كما يشعر بها في نادي القتال حين يقف مع الآخر تحت الضوء الوحيد وسط المشاهدين […]، نادي القتال لا يهتمّ بربح أو خسارة في المباريات، ولا يهتمّ بالكلمات، لأنّ القتال هنا حتميّ وإلزامي على كل عضو جديد
يقول "تايلر" ملخّصا الأسباب التي دعته للتمرّد على الواقع المشؤوم عبر الدعوة إلى نادي القتال: "نحن عبيد لأشياء لا نحتاجها، أشياء نقضي حياتنا في البحث عنها من دون التوقف للحظة والتفكير في سبب مقنع لهذه الحاجات النمطيّة والبحث عن مدى حاجتنا لها، المنزل المثاليّ، والزوجة اللطيفة، والأطفال الرائعين، وقطع الأثاث المتينة، والتُّحَف الفريدة التي تُبرِزُ الجانب الثقافيّ المفترَض وجوده عندنا"
تشخيص الذي قدمه "إيريك فروم" حول الإنسان المستَلب في عصر الرأسمالية، حيثُ صار الإنسان بلا ذات حقيقيّة في هذا المجتمع، فأمسى مستهلَكا ومستهلِكا بصورة مطلقة، بل صار منطق الحياة كلها قائما على مقولة: "املك واستعمل، أنا موجود أقلّ فأقلّ
لقد كان للنموذج الغربيّ -من خلال عولمة "الرأسماليّة"- قدرة كبيرة على رسم حدود الحياة المعاصرة بأكملها، فخُطِفَت السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية بجانب العقل المسلوب بفرضيّات الوعي الغربيّ، وتآكلت المخيّلة الإنسانيّة أمام سطوة المال والاستهلاك، حتى بات من المستحيل تصوّر بديل آخر عن نمط الحياة الغربية، وقد كان -على سبيل المثال- صدور نظرية "نهاية التاريخ" تجلّيا واضحا لمعنى حتميّة الحداثة الغربية الممثّلة بـ "رأسماليّتها" المتمدّدة، فأصبح محض التفكير بنظام بديل نوعا من العبث عند كثير من الناس، فقد انتهى التاريخ ولم يتبقّ من المستقبل سوى تكرار نماذج الغرب وسيناريوهاته الماضية وإعادة قولبتها
"ما زالت البشريّةُ قابعة في كهف أفلاطون"
تصور أفلاطون في أنّ المحتجَزين في الكهف يحتفون بالصور التي يرونها والخيالات التي تظهر لهم من خارج الكهف متصورين أنها حقيقة الأشياء، فيعدُّون ذلك كلّه حقائق أزليّة لا يمكن رفضها أو نقضها، وكذلك حال الناس في مجتمعات الرأسماليّة المعاصرة، حيث يقبلون ما تظهره لهم الشركات التجارية ووسائل الإعلام المحكومة بأجندات كثيرة على أنها حقائق لا يمكن تجاوزُها.
ساراماغو في روايته "الكهف" الأزمات التي يعيشها إنسان عصر الرأسماليّة والحداثة، حيث لا تظهر لنا سوى صور المادّة والاستهلاك وغياب الإنسان عن التأثير في هذا الوسط المادّي الرهيب. حيث تُظهِر لنا الرواية الحجم الهائل من التغيُّر الذي غزا حياة الناس، حيث يعمل العجوز سيبريانو ألجور في صناعة الخزف بيديه وانطلاقه بما ينتجه إلى ما يسميه بـ "المركز" حيث يقدّمه ساراماغو كصورة تعبيريّة عن المجتمع الاستهلاكي الذي طغت عليه قيم الحداثة، ليفاجَأ بعد مدة بأن مدير المشتريات في المركز يخبره بأن منتجاته لم تعُد مقبولة، فهي لا تجلبُ النفع أو الربح، خاصّة بعد قرار "المركز" استبدال الخزف بالبلاستيك المصنّع في المصانع الآليّة الحديثة
لقد قامت الشركات والنظُم الدعائية الجبّارة بمحوِ وعي الإنسان وخلق وعي جديد له، لقد جعلت منه كائنا نهما وجائعا إلى منتجاتها في كل موسم
لقد وقعت مجتمعاتنا اليوم -وبخاصة الرأسمالية منها- في فخ النزعة الاستهلاكية المتفشية وفي قبضة الميديا الإعلامية في محاولة لمنح الناس معنى لحياتهم، وقد ساهمت هاتان الوسيلتان في طغيان مظاهر التمركز حول الذات، وتراجعت الموضوعات ذات الأهمّيّة المجتمعيّة -مثل العدالة الاجتماعيّة- إلى الخلف كثيرا. لقد نكص أفراد مجتمعنا اليوم إلى حالة من تضخيم الذات وتمجيدها مثلما فعل الأثينيّون من قبل تماما، وهذه الحالة هي تماما ما سعى "سقراط" إلى الوقوف بالضدّ منها عبر الفلسفةِ وأدواتها المعروفة، وهو ما تسبّب في قتله نهاية المطاف
الكائن الاستهلاكيّ مسكون بالرغبات التي تُقْلِقُه كلها، فلا بلاغة الشعر أو روعة الفنّ أو روح الدين تسترعي قلقه، إنّ ما يقلقه على الدوام هو "الرغبة" التي تفترس وجوده "الزائف" من خلال سعيه في محاولة إشباعها بالاستهلاك المستمرّ، إلا أنّ ذلك أمر لا نهاية له، ممّا يجعل الإنسان "مملوكا" لما يملك من المال أو لما سيملكه عن طريق الاقتراض المصرفيّ، ويعد مثال أزمة "الرّهن العقّاري" التي افتتحت عصر الأزمة الرأسماليّة باعتباره أوضح النماذج على خطورة هذا الاستعباد النَّهِم
مجتمعا فقدت اللغة فيه شاعريّتها وتخففت من مجازاتها، لتركّز على الأرقام في معرفة وزن الأشياء وطولها وثقلها وحجمها
تتمدّدُ "الرؤية النفعيّة" في مفاصل الرواية بأكملها، فلا وجود للمودة والمحبة في التعامل مع الآخرين حتى وإن حقّق ذلك ربحا معنويّا، فالربح مقصور على القيمة المادّيّة فقط، كما أنّه لا يمكن تحقيق مكاسب من الإيمان بهذه القيم، فذلك سلوك مبنيّ على الأوهام
عبارات مستلزمات المال "المعبود": كم ثمنه، كم حجمه، كم يأكل، كم يكلّف، إلا أنّ الأهم من ذلك هو الإشارة إلى "الشاعر" وكأنه ليس أكثر من "ديكور" ومهرّج يسلّي ابنة صاحب الشركة الغنيّ
كتابه "فنّ الحب" مجادلة قويَّة في هذا السياق، حيث ينبّه إلى أنّ المشاعر الإنسانيّة كـ "الحب" تتأثّر بالبيئة التي يوجد فيها الإنسان. لذا، نشاهد تغيُّرات كثيرة لمفهومه في مختلف العصور والحضارات مما يؤكّد دور الأحوال الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة في تحديد وتقرير أشكال العلاقات العاطفيّة ونظرة الإنسان للحبّ.
يشير "فروم" بذلك إلى تغيُّر مفهوم الحب في الثقافة الغربيّة المعاصرة ذات الأنظمة الرأسماليّة، حيث تتحوّل جميع الأشياء النافعة والطاقة الإنسانيّة وفق هذه المنظومة إلى سِلَع تتمُّ مُقايَضَتُها أو الاستغناء عنها حسب محدّدات الطلب. يمكن وفق هذا الحال أن تتحوّل الطاقة والمهارة الإنسانية إلى أشياء لا قيمة لها وفق معايير السوق، ومن ثمّ لا غرابة في ملاحظةِ انتشار أسلوب المقايضة الذي يحكم سوق العمل ذاته في علاقات الحبّ والعاطفة الإنسانيّة، خاصّة أنّ الثقافة "السائدة" ترى في نجاح السوق المادّي القيمة البارزة لها، ارتكازا على فكرتي "النفع والمصلحة"، ومن ثمّ تتغيّر زاوية النظر للعلاقات العاطفيّة، فتقوم أيضا على الفكرة نفسها ممّا يؤثر في البناء الهرميّ للقِيَم، لتصبح الأشياء المادّيّة من "السِلَع المتكدّسة" أعلى قيمة من "الإنسانِ" ومشاعره وكل ما هو حيّ، ويفضي تقسيم العمل في المشاريع الكبرى إلى انتزاع هُويّة الفرد وشخصيّته، فيصبح كقطعة مستهلَكَة في آلة ما، بل يتحوّل هو نفسُه إلى آلة
*
لماذا نقع في حب مشاهير مواقع التواصل؟
مصطلح العلاقات شبه الاجتماعية (Para-social Relationships)، وعرَّفاها على أنها علاقة من طرف واحد، يبذل فيها أحد الأطراف "المتفرج" (Spectator) الاهتمام والوقت والطاقة العاطفية نحو طرف آخر "المؤدّي" (Performer) الذي قد لا يدرك أصلا وجود الطرف الأول (1). وبينما لا تمتلك هذه العلاقة القدر نفسه من الالتزام والمسؤولية الموجودين في العلاقات الإنسانية التقليدية، فإن هذا لا يمنع أن المتفرج قد يسعى، في سبيله لتعزيز هذه العلاقة الخيالية أحادية الاتجاه، لتوطيد أواصر الصداقة عن طريق محاولة التواصل مع المؤدي بالبريد الورقي قديما، أو بالتعليقات والرسائل المباشرة حديثا.
مذيعي التلفزيون والراديو وممثلي السينما المحليين، الذين يُعَدُّون نجوم ذلك العصر ومؤثريه، توسَّعت في يومنا هذا لتشمل كل مشاهير التلفاز والسينما من كل العالم،
وسائل التواصل صارت أكثر انتشارا بوصفها أداة للمشاهير، فقابلية الوصول إلى الشخص المشهور تجعل من الأسهل أن يكون لديك تفاعل أو علاقة شبه اجتماعية معه". ولم يتوقَّف الأمر هنا، بل إن مشاهير العالم الافتراضي من المدونين ومؤثّري الإعلام الاجتماعي (Social media influencer)، الذين اكتسبوا الشهرة عن طريق "تيك توك" أو "إنستغرام" أو "فيسبوك"، صاروا جزءا من هذه الظاهرة الاجتماعية الفريدة.
بينما قد يكون المشاهير بعيدي المنال، فإنه في حالة المؤثرين، يبدو أن الحد الفاصل بين "الأصدقاء" و"المتابعين" يصبح أقل وضوحا، ويمكنك بسهولة، وبتشجيع من المؤثر نفسه، أن تتحوَّل من مجرد متابع مجهول إلى صديق معروف لهذا المؤثر، يقبل طلب صداقتك ويتفاعل مع تعليقاتك. وعلى الرغم من كونها صداقة افتراضية في واقع افتراضي، فإنها تمتلك بعض مقومات الصداقة الحقيقية، فالمؤثر يشارك متابعيه أفكاره ومشاعره وتفاصيل حياته، تماما كما قد يفعل صديقك الحقيقي، هذا الارتباط النفسي بين المؤثر ومتابعيه يجعل من السهل عليهم أن يتأثروا به كما يتأثرون بأصدقائهم الواقعيين.
رغبة دفينة وتعويض لعلاقات ناقصة
قد يدفعك هذا للظن أن هذه التفاعلات أو العلاقات شبه الاجتماعية خطرة، أو على الأقل غير صحية، لكنَّ للأمر جذورا أعمق في النفس البشرية، بل وربما يكون نزعة طبيعية للبشر
نحن نثق بالأصدقاء
عندما يتعلَّق الأمر باختيارنا لمنتج أو خدمة ما، غالبا ما نلجأ أولا إلى نصائح الأصدقاء لنستطيع حسم قرارنا، وبحسب الاستقصاء الذي أجراه موقع "ميديام" (Medium)، حيث سُئل 500 شخص عمَّن يُفضِّلون الاستعانة به عند أخذ القرارات، صديق أم خبير، بداية من قرار شراء هاتف أو أحد منتجات التجميل مرورا بقرار اختيار التخصص الدراسي وصولا إلى قرار شراء منزل أو الاستثمار في شركة ما، واعتمدت إجابات المشاركين على حجم القرار المطلوب اتخاذه ومدى الوقت والمال المُستثمَر في القرار والمتعة النابعة عنه، ضمن عوامل أخرى، ورغم ذلك، أجاب 75% من المشاركين بأنهم يثقون برأي الأصدقاء فيما يتعلَّق باتخاذ قرارات شراء المنتجات أو الخدمات
*
May 25, 2022
مرض هوس العشق
الفيلسوف الفرنسي المعاصر كليمون روسي (1939 – 2018) في كتابه «اللامرئي»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق