الأحد، 24 مارس 2024

كِتاب «القوة القاهرة» للفيلسوف الفرنسي كليمون روسي (1939- 2018م) صدر في الأصل الفرنسي عام 1983.

العود الأبدي، وفهم نيتشه للمأساويّ؛ كما أنه، مثل نيتشه، يبني العديد من أمثلته حول البهجة على الفن، وتحديداً الموسيقى.

تجمع بين الفلسفات الوجودية والمقولات التشاؤمية (شوبنهاور وسارتر وسيوران وغيرهم) من ناحية، وفلسفة القوّة النيتشوية من ناحية أُخرى. فصحيحٌ أن الوجود أمرٌ عبثيّ أو شبه عبثيّ بالنسبة إلينا، نحن الذين نعيش في شروط صعبة دون أن نختار ذلك، إلّا أن هذا لا يعني أنّ حياتنا ليست إلّا انتظاراً للموت (سيوران)، بل يمكن لها أن تكون قلْباً وتغييراً لمعنى الواقع نفسه، حيث يمكن له أن يتحوّل إلى نعيمٍ على الأرض.

تمثّل البهجة، أو المرح، المفتاح النظري في رؤية روسيه هذه. فبدلاً من الحديث عن السعادة، التي شغلت الفلاسفة منذ البدايات الإغريقية وحتى يومنا هذا، يفضّل روسيه القول إن البهجة ــ باعتبارها لحظية، وعابرة ــ هي الوحيدة التي يمكنها أن تُجيب عن سبب العيش: أن يعيش المرء، ذلك يعني أن يستلذّ بحاضره، قاسياً كان أو ممتعاً، وأن يُعالج مرارة العيش بفرح البحث عن الحقيقة، وربما العثور عليها.

 *

عيش في ظل اللحظة (أو اللحظات) الزائلة، خاضع لسلطان الوجود المنفلت، لهذا لا مناص من اعتناق «الوجود المؤقت» والإقرار بحتمية الموت.. ولا يتحقق الشفاء من هذا «القلق» الوجودي، والمأساة الناتجة عن تلك الحتمية، إلا بعيش حياتنا الوحيدة، في سيرورة وتحولات لحظاتها مثلما تبتغيه الضرورة.

البهجة جوهر الوجود

التراجيديا
فالبهجة كاملة الحضور في صيرورات الزوال، فهي «تستمر رغم عدم وجود أي شيء تتعلق به، ورغم حرمانها من أي أساس تستند إليه» (ص17). بهذا تغدو البهجة عنقاءَ تقوم من رماد موتها، من اندثار الآني، إنها شبيهة اللذة إذن، بل أكثر. لهذا يتعذر التعبير عنها، مثلما يخبرنا روسي

الاستحالة من عدم قدرة المبتهج على التعبير عن بهجته، وأحيانًا يقف حائرًا إزاء مسببات ابتهاجه وسروره. فتصير ذات تناقض رئيس؛ لأنها «غير قابلة للتصور العقلي» (ص42). ملزمة بأن تكون «كامنة في الرضا والقبول بالوجود الذي تعتبره مأساويًّا، وفي هذه الحالة فإن البهجة متناقضة لكنها ليست وهمية» (ص43).

نشعر بالفرح ونبتهج على الرغم من الطبيعة المأساوية للحياة. سرعان ما تتحول جنازة ما إلى لحظة من السرور، نكاد ننسى تراجيديا الموت في دوامة الصيرورة الزمنية؛ إذ «لا وجود لبهجة حقيقية إلا إذا كانت، في الوقت نفسه، موضع تعارض وتناقض مع نفسها؛ ذلك أن البهجة تكون متناقضة أو لا تكون بهجة» (ص44). شبيهة بتمزيق ديونيسيوس لنفسه في أقسى حالات النشوة. لهذا فهي «لا تأبه بأي إحساس»، ولا يعني ذلك أنها خاضعة للسذاجة، بل إنها -يقول روسي- شرط ضروري للحياة على العموم، من دون حاجة لتسويغ نفسها. إنها جوهر الوجود، فبالقدر الذي لا نعي به السبب الذي من أجله نحيا، فنحن لا نستطيع الوعي بمسببات الابتهاج. وبالتالي، يسهل وصفها أكثر من شرحها أو تأويلها.

من المستحيل إذن، استحضار البهجة أو تحقيقها من خلال فعل معين، فهي «القوة القاهرة» -الوحيدة- في الوجود، تتحقق دونما شرط؛ غير أنه يمكننا التخلص من العقبات الذهنية التي تقلل من قدرتنا على الشعور بها. تتمثل إحدى العقبات في الاعتقاد الراسخ بأن عواطفنا مشروطة بالظروف الخارجية، وبالتالي يجب أن تكون متزامنة معها. إن البهجة، بهذا المعنى، تعدّ نبوءة تحقق ذاتها. فهي كامنة في الحياة وحدها، وفي تقلبات الوجود المنذور لزوال اللحظة لا ديمومتها. يقول روسي: «طعم الوجود هو طعم الزمن العابر والمتغيّر وغير الثابت وعديم اليقين وغير المتناهي، وفي هذه الحركة بالطبع أفضل وأضمن «دوام» الحياة» (ص36).

التملص من الأمل

فلسفة صاحب المطارق وفيلسوف الديناميت؛ إذ ركز روسي على مفهوم «الغبطة» béatitude، (مقابلًا للبهجة) مثلما صاغه هنري بيرو،

مفاهيم مثل: «العود الأبدي»، و«إرادة الاقتدار» (القوة) و«الإنسان المتجاوز لذاته» (الأعلى). فهي تعابير فلسفية لصاحب الكتاب، وتنويعات عن الغبطة بشكل مباشر تقريبًا؛

مكمن «القوة القاهرة» عند كليمون روسي يقع في البهجة، التي لا تظهر إلا بوصفها شاملة. أي في كونها «بهجة الحياة» والوجود. وبصورة أدق، فإن البهجة، مثلما في فلسفة نيتشه، تسمح لنا بالتفكير في الوجود بما يعتريه من تراجيديا، التي تعدّ محركًا له، لا لعنة ينبغي الانفلات منها، فهي حتمية وطاقة لديناميةِ الحياة، شأنها شأن الأزمة، لهذا فهي «العود الأبدي» ودافع الإنسان لتجاوز ذاته ومنبع إرادة الاقتدار. وبالعودة إلى النص نفسه، يكشف روسي دوافع هذه العودة الأبدية، والأولوية الممنوحة للموسيقا خاصة في فلسفة صاحب «ميلاد التراجيديا»، ويظهر أن كوكبة نيتشه المفاهيمية تنجذب حول مبدأ «الغبطة»؛ إذ إن «الابتهاج الموسيقي عند نيتشه مبدأ كل تجربة للغبطة» (ص85).

مفاهيم الفرح والسرور والابتهاج والغبطة، بوصفها جميعها مفاهيم غير خاضعة لأي منطق. لكونها غير عقلانية، لهذا تكاد تتعلق بالجنون عينه، ومنه اشتق تعبير «جُنَّ فرحًا». وإنها سُبل ذات جدوى لإدراك واضح للمأساة في كونها متلازمة وجودية عضالة. وعليه، وبعد الإيمان بهذا المعطى، لن يفرّ المرء من الواقع، ولن يبحث عن مضاعف سيمولاكري يقيه مأساته، التي سيحتضنها بأذرع مفتوحة وغبطة عارمة. وهذا الإقبال على قوة الواقع ومصيره المأساوي، هو القاعدة العظيمة والفريدة لمفهوم الحياة، والتشبث بها.

أهمية الفلسفة النيتشاوية

فلسفة إميل سيوران، بوصفها توجهًا فكريًّا يجد جذوره في فلسفة صاحب «الإنسان المفرط في إنسانيته».

ضحك والسخرية والمرح.

 «معاناة الوجود في العالم» التي يعانيها مؤلّف «مثالب الولادة»

اشترك الرجلان في السخرية اللاذعة من العالم الثقافي السائد، مؤسسين نظرتهما المشتركة على مرح مشترك، يحاولان إضفاء ابتهاج معين على الحزن الذي يعتري العالم. كل بطريقته. لقد تمتعا بمتعة الوجود معًا، صداقة بالمتناقضات، نابعة من فورة الضحك التي تعبر عن القدرة على عدم أخذ الأمور على محمل الجد والضحك عاليًا في وجه حماقات العالم. هذه الضحكات -المشتركة- هي أيضًا علامة أكيدة على القدرة على الابتهاج. وإن كان سيوران المتشائم وروسي المؤكد للبهجة لا يرتويان من أصل الابتهاج نفسه، لكن من المنبع النيتشاوي والشوبنهاوري عينه. 

مجلة فيصل 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق