لا شك أن الإنترنت يعد واحداً من أهم التقنيات والاختراعات التى أبدعها البشر فى الثلث الأخير من القرن العشرين وأن ما حدث من تطورات عليه عبر السنوات القليلة السابقة من القرن الحادى والعشرين وحتى الآن قلبت وغيرت الكثير من المفاهيم والأمور التى استقرت فى الحياة البشرية طوال القرون السابقة. ولمن لم يعرف بعد، فالمقصود بالإنترنت، تلك الشبكة العنكبوتية التى خلقت ذلك المجتمع الافتراضى غير المرئى الذى سمح بتداول كل المعلومات البحثية والعلمية والشخصية وأتاح على أكبر نطاق ممكن المشاركة المعرفية بين البشر فى كل أنحاء العالم على أساس من المساواة والتعاون بين الجميع.
للتواصل الأفقى للابتكار المتزايد والتنظيم، واستهدف ذلك خلق مجتمع إنسانى أكثر حرية وأكثر انفتاحاً تكون المعرفة فيه متاحة للجميع ويتشارك فيها الجميع، ومن ثم يمكن للأفراد اختراق الحواجز المؤسساتية والتنظيمية بفضل هذا الربط الشبكى الموسع كما يمكنهم بالتالى مواجهة الاستبداد السياسى الذى يقوم على التصور الهرمى الجامد وخلخلته لصالح ديمقراطية المعرفة والمشاركة السياسية التى تسوى بين الجميع.
وبعبارة أخرى فالإنترنت –كما عرفته «ويكيبيديا»– يمثل شبكة اتصالات عالمية تسمح بتبادل المعلومات بين شبكات أصغر تتصل من خلالها الحواسيب حول العالم وتعمل وفق أنظمة محددة أو بروتوكول موحد، وتشير لفظة إنترنت إلى جملة أو مجموع المعلومات والمعارف المتداولة عبر الشبكة وأيضاً إلى البنية التحتية التى تنقل تلك المعلومات عبر قارات العالم. ويقول الفيلسوف الفرنسى بول ماتياس فى كتابه «ما الإنترنت؟ » أن انخراطنا فى ممارستنا على شبكة الإنترنت يتمحور حول أربعة أشكال؛ أهمها تلك الخدمات والمزايا التى يمكن أن تتحصل عليها؛ ففى المجال الاقتصادى يفتح الإنترنت المجال واسعاً للازدهار الاقتصادى، وفى المجال الثقافى تتضاعف أشكال المعرفة والمعلومات، وفى المجال السياسى يمكن تعميم الديمقراطية، وعلى الصعيد الفردى يتمكن الأفراد من تطوير قدراتهم وزيادة طاقتهم لاستيعاب واكتساب المعارف والمعلومات الجديدة.
وبالطبع فقد كان الصبية والشباب منذ نشأة الإنترنت وحتى الآن هم الفئة الأكثر تفاعلاً معه وأكثر المستخدمين استفادة من مزاياه؛ إذ يقول عالم الاجتماع الفرنسى ريمى ريفيل المتخصص فى اجتماعيات الإعلام فى كتابه «الثورة الرقمية – ثورة ثقافية» أن الشباب فى هذه الفئة العمرية يكون همهم البحث عن التواصل مع الآخرين نتيجة الحاجة إلى معرفة أصدقاء جدد بعيداً عن العائلة ويجدون ضالتهم من خلال الإنترنت حيث يسبحون فى فضائه ليجدوا أقرانهم من هذا الجيل الرقمى حيث التقارب فى الأذواق والاهتمامات المشتركة، فالمحادثات وتبادل الصور والفيديوهات والملفات الموسيقية والإبداعات الشخصية والألعاب تحفزهم على الدخول فى روابط متدرجة الكثافة وتجعلهم يقدمون ويقبلون أكثر على الحياة، لقد أصبح الإنترنت يشكل علامة فارقة بالنسبة لهذه الأجيال الشابة سواء الحالية أو المستقبلية فهو يمكنهم من ابتكار وصياغة ذواتهم المستقلة. وقد كشف بعض المختصين عن أن الحرية التى يتمتع بها الصبية والشباب فى التعبير عن أنفسهم عبر هذا الفضاء الرقمى بما فيه من أدوات التواصل الاجتماعى جنّبتهم الشعور بالكآبة؛ فقد أصبحت أداة للتنفيس عن الذات والتعبير الساخر عن كل ما يشعرون به تجاه المجتمع والسلطات القائمة فيه، بدءاً من السلطة السياسية والدينية حتى سلطة الأب والأم فى الأسرة.
وإذا كان ذلك هو مبلغ اهتمام الشباب بمنفعة الإنترنت على الصعيد الاجتماعى، فإن منفعته على الصعيد الثقافى والبحث العلمى لكل الأعمار أصبحت بلا حدود حيث ساهم المخزون المعلوماتى بما فيه من كتب وأبحاث علمية ومجلات تخصصية وسهولة الحصول على كل ذلك بمجرد ضغطة زر، ساهم فى نشر المعرفة العلمية ودمقرطتها. وبالطبع فكما سهلت الشبكة الرقمية تبادل المعلومات وقربت بين البشر ثقافياً، فقد ساهمت بشكل أكثر فعالية فى حركة التجارة والاقتصاد العالمى بين الشركات وبين الأفراد فى آن واحد. أما فى مجال الاعلام والتغطيات الاخبارية فقد أصبح العالم بفضل وسائل التواصل الاجتماعى أشبه بقرية واحدة حيث تصل المعلومات للجميع عن الجميع فى نفس اللحظة التى تحدث فيها فى أى مكان فى العالم بجهاته الأربع.
أما فى المجال السياسى، فقد بلغ تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى، خاصة «الفيس بوك» والرسائل القصيرة والفيديوهات الهادفة والرسائل الإلكترونية مرتبة خطيرة حيث لعبت أدواراً رئيسية فى العملية السياسية منذ الانتخابات الأمريكية عام 2008 فقد كسب بها باراك أوباما هذه الانتخابات لدرجة أدهشت كل المراقبين والمحللين السياسيين، لقد نجح أباما وفريق عمله فى الوصول إلى الناخب الأمريكى شاباً كان أو شيخاً واقترب من الجميع وتواصل معهم. لقد راهنت حملة أوباما الانتخابية بقوة على الإقناع بواسطة الإنترنت ونجحت فى حشد الكثير من المؤيدين والمتعاطفين، ولقد استطاع هؤلاء المؤيدون فى ثنايا ذلك التواصل فيما بينهم من أجل اختراق الآخرين وفتح لائحة تليفوناتهم والاتصال المباشر بهم واستقطابهم عن طريق الرسائل القصيرة وغيرها من الوسائل. وقد كانت هذه الانتخابات علامة فارقة حيث أصبح استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى المختلفة من الأدوات الرئيسية لجذب المؤيدين وإقناع المترددين فى كل صور الانتخابات وفى جميع بلدان العالم تقريباً.
+++++++++ لا يعجبي 2
إن الإنترنت والتكنولوجيات الرقمية قد رفعت من قدرات البشر على التفاعل والتعاون والمشاركة على قدم المساواة ومن ثم فقد وسعت بشكل ملموس إطارنا الزمكانى على حد تعبير ريمى ريفيل وغيرت بلا شك تصورنا عن العالم، وبعيدًا عن كل القيود فإن هذا العالم - عالم الإنترنت والتكنولوجيات الرقمية يشكل وسيلة للتحرر من كل القيود. ومع ذلك فينبغى أن ندرك على الجانب الآخر أنها كما شكلت وسيلة للتحرر فإنها قد تشكل بالقدر نفسه وسيلة للهيمنة، حيث يمكن للقائمين على الشبكة أن يستخدموا هذا الكم الهائل من المعلومات عن الأفراد والشركات والعلاقات السياسية والتجارية بين الأفراد والدول فى ممارسات وأنشطة تجسسية مدمرة فضلًا عن استغلال نفس المعلومات فى توجيه الأفراد والجماعات واستهدافهم وتهديدهم فى حياتهم الخاصة والعامة!
ولعل من أهم الانتقادات التى توجه إلى الهيمنة الرقمية على الناس الآن تكمن فى ذلك التأثير السيئ لما اتجه اليه معظم المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعى من شفافية متزايدة وكشف المستور والاستعراض حيث بدت الشبكات التواصلية مثل الفيس بوك وإنستجرام وتويتر وغيرها تظهر كواجهات لنرجسية الأفراد ومرايا تعكس خصوصيات هؤلاء الناس بما قد يضر بهم وبسمعتهم الشخصية والعائلية.
إن الإنسان المعاصر الساعى دومًا إلى الاستمتاع باللحظة والباحث عن الرفاهية الفورية وتحقيق ذاته يسعده أن يشاركه الآخرون نفس الشىء فيرسل لهم صوره الجميلة وتسجيلاته للحظاته الحميمية فيلتقطها بعض المتصفحين ويحدث الكثير مما لا يقع فى حسبانه! وفى الواقع أن هذه المؤانسة والتسالى بين أصدقاء الإنترنت قد تسبب الكثير من المشكلات لأطرافها. والحقيقة أن ثمة تساؤلًا مُلحًا هنا: ما جدوى هذه الصداقات الافتراضية ومن يضمن كونها كذلك وألا تنقلب فى لحظة يتغير فيها المزاج لهذا الصديق الافتراضى من نعمة المؤانسة الافتراضية غير الواقعية إلى لعنة ومشكلات لا تنتهى! إنها فى الواقع صداقات مفرغة من محتواها الاعتيادى وتفتقد إلى اللقاء المباشر بين شخصين وبين جسدين! إن هذه الصداقات ليست وليدة احتكاك حياتى مباشر فهى تقوم بين أشخاص افتراضيين قد يكون أحدهما مخادعًا يخفى شخصيته الحقيقية ونوعه الجنسى ويظهر لصديقه غير ما يبطن ويقول ظاهريًا ما ليس مقتنعًا به حقيقة! أما ما يقوله البعض عن أن اللقاء عبر الإنترنت يتم بالفعل بين وجودين وجسدين فى تجربة تكنولوجية حيث إن كليهما يتحدث إلى الآخر فى نفس اللحظة وعبر نفس الآله (الحاسوب) فأنا موجود وأنت موجود باعتبارنا نتفاعل عبر هذه التجربة التكنولوجية المباشرة، فالسؤال هو: كم توزن قيمة هذه الصداقة بالقياس إلى الصداقة الحقيقية التى تتم عبر اللقاء الجسدى الفعلى المباشر؟! إن اللقاء عبر الشبكة الإلكترونية رغم أنه قد لا يستبعد الجسد إلا أنه لا ينبغى أن ننسى أن الجسد هنا قد انتقل ليصبح هجينًا وماديًا وافتراضيًا فى الوقت نفسه.
ويكفى هنا القول إنه لقاء عبر اللمس للزر الإلكترونى وليس عبر اللمس الجسدى المباشر.. إنها ليست علاقة نوعية بل علاقة كمية حسب منطق التركيب لشبكة الويب، وفرق كبير بين هذا اللقاء الافتراضى الكمى وبين اللقاء الاعتيادى الجسدى المباشر، فالأول لقاء على الشاشة الشفافة وربما تكون معظم التبادلات فيه زائفة والثانى لقاء واقعى إنسانى حقيقى مادى ملموس وأعتقد أن هذا جوهر الصداقة الإنسانية الحقة! وكم من الحماقات قد ترتكب باسمك أيتها الصداقة الإنترنتية!
إن فلسفة الإنترنت لا تتوقف إذن عند حدود المنافع والغايات الخيرة، بل تكمن فيها وربما بنفس القدر الغايات والأهداف الشريرة. ومن ثم وجب على الجميع تقدير المنافع وتعظيمها ووضع الاستراتيجيات الفردية والجماعية للحد والتقليل من الآثار التى قد تترتب على الاستخدامات الشريرة والمعادية!
إن الإنترنت كأى منتج أو اختراع بشرى له وجهين، وجه إيجابى ووجه سلبى، أما الوجه الإيجابى فهو عادة الوجه الظاهر والوجه الذى ابتدع هذا المخترع أو ذاك من أجله، أما الوجه السلبى فهو الوجه الخفى المضمر الذى عادة ما يظهر بعد الاستخدامات الخيرة والمفيدة حيث يتبارى البشر فى الكشف عن الوجه القبيح الذى يمكن توظيفه فيه ومن ثم استخدامه بنظرة عدائية ضد بعضهم البعض! هذا ما لمسناه فى كل صور المخترعات التكنولوجية المتقدمة، فقد اخترع البارود لكى نتمكن من نسف الجبال وتسهيل شق الطرق وتمهيدها ثم تحول بعد ذلك إلى أداة شريرة وتحول إلى سلاح للفتك بالإنسان ذاته، وقد اخترعت الطائرات للتقريب بين المسافات ولسهولة السفر بين البلدان والقارات ثم أصبحت من أدوات الحرب والتدمير والقتل! وهكذا الحال فى الإنترنت الذى كان مقدرًا له خدمة البشر وتفعيل المشاركة الإنسانية والمساواة بينهم وتيسير البحث العلمى بتخزين نواتجه والمساهمة فى سرعة الوصول للمعلومات والاستفادة من كل ما هو متاح على الشبكة العنكبوتية، وفجأة أصبح أيضًا من أدوات الجاسوسية والتلصص على الآخرين دولًا وجماعات وأفراد ومن ثم التربص لهم والإضرار بهم. وعلى ذلك وجب التنبه إلى كل ذلك ونحن نتعامل مع الإنترنت لنعظم الاستفادة من إيجابياته ونتجنب ونبتعد عن سلبياته وشروره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق