، فالحوار العميق والممتع الذي يُقرأ في دقائق يحتاج إلى أسابيع من إعداد جادّ. ومن الأمور التي يسميها أسامة الرحيمي “مفاهيم إيجابية” أنه يسعى إلى محاورة المبدع الحقيقي، ولا يجري حوارا هدفه الترويج أو إلقاء ضوء على متوسطي الموهبة ممن يلاحقون الإعلاميين، “واعتقادهم البائس بأن العلاقات العامة ونفاق الصحافيين جزء مكمل للنجاح، وأن لكل صحافي ثمنا”. هكذا ينطلق المؤلف من معرفة قيمة من يريد التحاور معه، مدفوعا بالمحبة، والإيمان بأن الاختلاف لا يعني الصدام. ويؤكد أن “المجلس أمانات”، فلا ينشر رأيا قاله أحد بانفعال، أو اعترف به في لحظة استرخاء من باب التطهّر؛ فقد يتأذى من التصريح أحد. ولم يتردد في أن يحذف من حوار مع كاتب مصري تولى رئاسة هيئة ثقافية كبرى قوله “لم أترك صديقا إلا وخنتُه، ولم يتركني صديق إلا وخانني”.
ويعترف الرحيمي بأن هناك حوارات يتعلم منها كيف يصوغ الأسئلة، ويحدد المصطلحات، ففي لقائه بعالم الأنثروبولوجيا المصري أحمد أبوزيد (1920 ـ 2013) سأله بعفوية عن “القبائل البدائية الأفريقية”، فاستوقفه الرجل قائلا “هذه التسمية العنصرية ابتدعها المستعمر الأبيض، وأطلقها على الشعوب الأفريقية لكي يزعم أنه أتى ليمنحهم التحضر الأوروبي، والحقيقة أن هذه القبائل قبل أن يصل إليها ذلك المستعمر المتغطرس كانت أكثر تحضرا ورُقيّا من الشعوب الأوروبية الآن”.

المؤلف يرسي قواعد مهنية يلتزم بها طوال مشوار مهني يزيد على 25 عاما، ولا يذكر هذه المبادئ من باب إسداء النصيحة وإنما الاعتراف
وكان أبوزيد قد عمل خبيرا بمنظمة العمل الدولية، وأسس مجلة “مطالعات في العلوم الاجتماعية” التي أصدرتها اليونسكو، وترأس تحرير مجلة “تراث الإنسانية” المصرية، وأسهم في تأسيس جامعة الكويت ومجلة “عالم الفكر” الكويتية.
وفي الحوار يذكر أن باحثا أميركيا زار مصر في الستينات وقال “لا كرامة مع الفقر”. وبعد أكثر من نصف قرن يعلّق قائلا “إفقار دول العالم الثالث عمدي لإذلال شعوبها والسيطرة عليهم، كما يحدث لمصر الآن (2010)، أعتبر الاحتجاجات الأخيرة مهما كانت أسبابها دليلا على شعور الإنسان المصري بكرامته”.
في الحوار مع قارئ القرآن الشيخ أبوالعينين شعيشع (1922 ـ 2011) استعادة لطبيعة النسيج الاجتماعي المصري قبل صعود المدّ السلفي. يعترف الشيخ بدور مهمّ للمسيحيين في حياته، “المسيحيون والمسلمون كانوا شيئا واحدا، وهذه كانت روح مصر في ذلك الوقت”، ففي صغره طلب الجار المسيحي فهمي حنا أن يقرأ عليه آيتين، فاكتشف جمال صوته ونصح أباه بإرساله إلى الكُتّاب ليحفظ القرآن. وقام سامي داود المذيع المسيحي بتقديمه إلى إذاعة الشرق الأدنى كأول قارئ للقرآن فيها، “ومن فرط إعجابه بصوتي يأتي ويقبلني وأنا أقرأ على الهواء، وكان ضليعا في اللغة العربية”. وكان السياسي البارز في حزب الوفد فخري عبدالنور (1881 ـ 1942) يدعوه إلى بيته، ويجلس على الأرض هو وأولاده، “يسمعون القرآن بحب واحترام”، وأحضره بالطائرة من يافا، لإحياء ذكرى سعد زغلول في مدينة جرجا بصعيد مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق