الفقية والسلطان... التوظيف السياسي للدين في عهد عبد الناصر
مثّل الدين أحد الروافد الرئيسية لأنظمة الحكم المتعاقبة في مصر، فمنه استمدت شرعيتها وشعبيتها وحصلت على سند معنوي يبرّر إجراءاتها السياسية، ويضمن لها التأييد. وبقدر ما تفاوتت سياساتها وانحيازاتها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الإقليمية، تبدل موقع الدين وصيغته الرسمية المعتمدة، وتفسيراته الرائجة والمقبولة، سواء خرجت من يمين السلطة أو يسارها. وعلى مدار التاريخ، كان الثابت الوحيد استمرار عملية التوظيف السياسي للدين. وبقدر ما حاول كل الحكام نفي هذه الممارسة عنهم كانوا يمارسونها بنفس الدرجة. تحمل الدعاية المضادة للنظام الناصري إدانة صريحة لكونه علمانياً ومعادياً للإسلام وطبق الإشتراكية الإلحادية. وقد روّجت أدبيات جماعة الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي لذلك. فقد صرخ عبد القادر عودة أثناء محاكمته أن "الإسلام سجين".
تراوح آراء السياسيين والمؤرخين بين القول إن عبد الناصر لم يخلط الدين بالسياسة، وبين اعتبار أنه لم يقطع مع الدين، وإنما قدم رؤية تثويرية وتنويرية له، مثلما يقول المؤرخ المصري يونان لبيب رزق الذي برأيه، "استطاعت الناصرية بمهارة أن توظف الوجه المضيء والحقيقي للدين لخدمة مواطنيها، بدلاً من جعله أداة للإرهاب والقهر والتسلط". اعتمد عبد الناصر استراتيجية دينية تقوم على الاحتواء وتأميم المجال الديني، سعى من خلالها إلى بناء مشروعيته السياسية ومواجهة خصومة، سواء من الإخوان المسلمين في الداخل أو ما أسماهم بالرجعية العربية وعلى رأسها السعودية ودول الخليج
فالدين بالنسبة له ليس أيدولوجيا سياسية مستقلة إنما هو عنصر أساسي في نظريته السياسية "القومية العربية"، وجزء من عملية التعبئة الجماهيرية ضد الإستعمار وإسرائيل، وبمثابة العمود الفقري الذي تنتصب عليه عملية التنمية الإجتماعية التي يقوم بها.
غم كل ما يتبادر إلى الأذهان من وجود تناقض حاد بين التوجهات التقدمية للدولة العلمانية الإشتراكية والأيديولوجيا الدينية.
أن يصبح أداة من أدوات السلطة السياسية. وبرأيه، كان التحدي هو القدرة على احتكار العمل في المجال الديني، والظهور بمظهر الحامي والمحافظ على منطلقاته الروحية والطقوسية دون أن يجرف ذلك الدولة والمجتمع إلى تبني ايديولوجية دينية تحكم باسم السماء، بل وتوظيف الدين في خدمة ايديولوجية يسارية مغايرة قد تبدو في كثير من أطرها النظرية على النقيض تماماً. وأضاف: "أوضح عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة"، وهو يحدد الدوائر الثلاث التي تنطلق من خلالها مصر إلى فضاءات التنمية والعدالة، الدائرة الإسلامية كمصدر إلهام روحي وتاريخي لها، وكان لا بد أن تمسك الدولة الناصرية بزمام الظاهرة الدينية كي لا تنفلت من بين أيديها قواعد اللعبة،
وهو ما تسبب في تنحي شيخ الأزهر محمد الخضر حسين الذي أزعجته قبضة الدولة على المؤسسة الدينية الأكبر التي باتت مصدراً من مصادر سيطرة الدولة على حقل الدين. وانتهى الصراع على السلطة بسحق حركة الإخوان المسلمين، أحد أبرز اللاعبين بورقة الدين في المجال السياسي، ومضت الدولة وحدها تمارس سلطة العمل في هذا السياق". ومن بين المظاهر والإجراءات التي دشنتها الدولة الناصرية في محاولة استدعاء الدين في المجال العام السياسي والاجتماعي، قام عبد ناصر بجمع المصحف مرتلاً، وترجمته لكل اللغات، كما أنشأ إذاعة القرآن الكريم، وجعل الدين مادة إجبارية في المدارس، وتضاعف في عهده عدد المساجد، ونشط العمل في مجال جمع ونشر كتب التراث، فظهرت موسوعة جمال عبد الناصر للفقه. وأسست مدينة البعوث الإسلامية ضمن خطة لتطوير التعليم الديني، وأغلقت بيوت الهوى وفرضت قيود على نوادي القمار، وأسست الدولة مقر الكاتدرائية المرقسية للاقباط، واحتفظ ناصر بعلاقات وطيدة مع البابا كيرلس السادس.
فكانت الرمزية الدينية فاعلاً مهماً في تكريس صورة القائد الملهم الذي وقف على منبر الأزهر إبان العدوان الثلاثي يعلن مضيه قدماً في طريق المقاومة والقتال حتى النصر. استدعي عبد الناصر دور الأزهر في إطار ما يخدم رؤيته ويدعم توجهاته، فساندته المؤسسة الدينية الرسمية، التي دخلت دائرة الصراع السياسي المحتدم عام 1954، في ما عرف بأزمة الديمقراطية بين محمد نجيب وعبد الناصر. وخلالها أصدر شيخ الأزهر فتوى تقول إن "الزعيم الذي يتعاون ضد بلاده ويخذل مواطنيه فإن الشريعة تقرر تجريده من شرف الوطن". وأعلنت هيئة كبار العلماء بالأزهر في بيان عام 1954 "انحراف هذه العصابة (تقصد جماعة الأخوان المسلمين) عن منهج القرآن في الدعوة".
تجاسر على تنفيذها عبد الناصر هي السيطرة على جامع الازهر عام 1961، حيث أقر قانوناً بإعادة الهيكلة وأصبح تعيين شيخ الأزهر في يد رئيس الجمهورية. وثمة تغييرات أجراها على المناهج الدراسية الأزهرية ومحتواها، فأدخلت مواد حديثة وكليات جديدة تشمل كلية الطب والهندسة، وذلك بهدف تقويض النخبة الدينية واستقطابها دون التخلص منها كقوة اجتماعية. وقام بإلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد منظومة القضاء الوطني. كما قام بعض علماء الأزهر أمثال محمد بن فتح الله بدران وعبد المغني سعيد والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوي بالأزهر، بالذهاب إلى السجون وإلقاء الخطب والمحاضرات ومناقشة معتقلي الأخوان في المسائل الخلافية، التي يعتبرون فيها النظام خارجاً عن الدين وتصحيحها لهم أو تبريرها. فقدم الشيخ السبكي دراسة يهاجم فيها كتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، انتقد تجهيل قطب للمجتمع وتكفيره لهم حكاماً ومحكومين
فشريعة الله هي "شريعة العدل وهي شريعة المساواة، أما شريعة الرجعية فهي شريعة ضد الإسلام وضد الدين مهما تمسحت به"، والذي يريد أن يطبق الدين "لا يقسم الشعب إلى أسياد وشعب من العبيد. ده هو الكفر"، كما ردد عبد الناصر في أحد خطاباته عام 1961. وفي هجومه على ملك السعودية قال: "بتطلع تقول لهم دي الاشتراكية ضد الدين، هم الناس مغفلين، الاشتراكية تكافؤ الفرص، والاشتراكية مساواة ما فيش أمير ولا فيش غفير، لا صاحب سمو ولا صاحب جلالة ولا فيش واحد بذقن ولا واحد مالوش، الاشتراكية ازاي تبقى ضد الدين إذا كنتوا يا أصحاب الدقون قايمين تتاجروا بالدين؟". ويعد المفكر الماركسي أحمد عباس صالح من بين المثقفين الذي اعتمد عليهم عبد الناصر في محاولة تطويع نصوص الإسلام التي تدعم فكرة العدالة الإجتماعية وتبرز الصراع الطبقي في التاريخ الإسلامي، على أساس أن الرسالة المحمدية جاءت كضرورة لتأزم الوضع الإجتماعي وانسدادته التاريخية، وحل التناقض الطبقي وإعادة توزيع الثروة وتمكين المستضعفين في الأرض، وجرى الاستشهاد بتعبير الصحابي أبو ذر الغفاري الذي قال أن الناس شركاء في ثلاث "الماء والكلأ والنار". وضع عباس صالح كتاباً بعنوان "اليمين واليسار في الإسلام"، اعتمد منهج التحليل الطبقي في عرض فصول التاريخ الإسلامي، وهدف من خلاله إلى "البحث عن النسب الحقيقي للثورة العربية الطليعية التي بدأت في مصر عام 1952، والتي تشير إلى انطلاق حضاري جديد واسع المدى"،
ثمة منحى آخر يبرزه أحد خطابات عبد الناصر عام 1962، والذي يكشف عن وعي سطحي أو ربما خطاب شعبوي للعلاقة بين الدين والماركسية، يحصرها في نظرية الحادية أتباعها ينكرون الدين والرسل، وكأنه لا يتخطي التعريف الذي يروجه خصومه فيقع ضحية خطابهم ويتبنى مقولاتهم الشائعة والساذجة، ولايقطع الحبل السري بينه وبين الدين، الذي يبقي مرجعية سياسية وسلاح تكفير أو إيمان، يرسخه لدى المواطنين الذين يركن وعيهم إلى معاداة هذه النظرية التي تستفز إيمانهم وتحول بينهم وبين الله. فيقول عبد الناصر: "الفرق الأول بيننا وبين الشيوعية هو ان احنا نؤمن بالدين وأن الماركسية تنكر الدين، وان احنا نؤمن بالرسل، والماركسية تنكر الرسل، أن الشيوعية تنكر الأديان، وتعتبرها أفيون الشعوب، واحنا بنؤمن بالله وحطينا ده ضمن المبادىء الأساسية، اعتبار الإيمان إيمان بالله لا يتزعزع". ولكن في كل حال، كشفت هزيمة 1967 فشل عملية التحديث المحدود والجزئي الذي شمل عدة أنشطة وقطاعات، مثل زيادة عدد انشاء المدارس والمصانع، فالعناصر الجوهرية للدولة القديمة المتخلفة ظلت متماسكة لم يمسها جوهر التغيير، وظلت قيم الدولة الحديثة من المجتمع المدني وسيادة القانون والعلمانية والمواطنة غائبة ومغيبة عمداً. ولم يكن النظام، في ظل تطبيقات ما عرف بالاشتراكية الناصرية، يهدف إلى تغييرات ثورية في بنية النظام الطبقي والإجتماعي المصري، ويدشن لوعي جديد قادر على استقبال تداعيات التغيير ويمتلك أدواته المعرفية وقيمه السياسية والإقتصادية الجديدة. فكان نظام يوليو نفسه غير مؤهل لهذا المخاض بأي صورة ولا يملك آلياته وإنتاج كادر حداثي يصبح عضواً في الحضارة الحديثة بقيمها وإنتاجها المادي والعلمي
وفي خضم هذه الأحداث والعوامل تكونت الحاضنة الأولى للمد الديني الإسلامي الذي شهدته مصر في سبعينيات القرن الماضي، من أحداث الفتنة الطائفية، وانتشار الحجاب بين الفتيات، وعدم الإختلاط بين الجنسين، ومنع الأنشطة الأدبية والفنية في الجامعات، ومن ثم سقطت شعارات النظام وتهاوت دعايته السياسية وقدم الإسلام السياسي نفسه بديلاً منافساً لما زعم أنهما سببا الهزيمة سواء الاشتراكية الملحدة أو القومية العربية. وداخل هذه الصورة الملتبسة التي يتردد فيها موقع الدين بين عدة مواقع وأدوار تبدو متناقضة، يتكشف أن الإستخدام النفعي للدين يحصر الذهنية الدينية داخل الأساطير والإيمان بالغيبيات والحلول العجائبية، مهما بدا ثورياً وتقدمياً. وبصورة أوضح يقول المفكر السوري صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني": "بعض الأنظمة التقدمية العربية وجدت في الدين عكازاً تتكئ عليها في تهدئة الجماهير العربية وتغطية العجز والفشل الذي كشفته الهزيمة عن طريق مماشاة التفسيرات الروحانية للانتصار الإسرائيلي والخسارة العربية".
لى لسان أجهزة إعلام بلد يعتبر نفسه ثورياً اشتراكياً كان يجب أن يضع إمكاناته الإعلامية في خدمة الشعب بغية تثقيفه لا بغية تضليله والشطط في متاهات الهلوسات الدينية وتزيين الخرافات بمظهر الحقائق العلمية.
+++++++++++++++
كيف تنشر بعض خطب الجمعة ثقافة الكره بين المصلّين؟
في بنها، في كل شارع في الأحياء والمناطق الشعبية، يوجد مسجد، وهي ظاهرة باتت منتشرة منذ منتصف السبعينيات، مع العائدين من السعودية والخليج. إذ يُبنى مسجد أسفل كل عمارة جديدة يتم تشييدها، وكثيراً ما يكون السبب سعي الباني إلى إعفائه من دفع الضرائب، أو حماية عقاره من الإزالة، إذا كان مخالفاً، إذ يستحيل هدم مسجد. في مسجدين تابعين إلى جمعية أنصار السنة المحمدية،
لم تخل من التطرف والتشدد المعهودين في وصم المختلفين عن اتباع ما يعرف بـ"منهج أهل السنة والسلف" بالكفر والمروق، ووعد التيارات الفكرية بالعذاب في النار. انخرطت الخطبة في الحديث عن الفرقة الناجية، فوعدهم النبي بالنجاة بعد افتراق الأمة لثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. وذكر الحديث النبوي الشهير الذي يصف الفرقة الناجية بأنها: "هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". وتتابعت نصائحه بتنقية أفكار المسلمين وعقيدتهم، من شبهة الانحراف والفتنة، وعدم الخروج على طاعة القرآن والسنة. وقال: "لا تبنِ عقيدتك بقواعد المنطق، وتنهل من فلسفات الغرب وأفكار علم الكلام الموروثة عن فلاسفة اليونان وشركهم الوثني، الذي أدى إلى تصدع المجتمعات الإسلامية".
++++++++++++++++++
نقد ذهنية العرب
"إن عقلية ماكو أوامر وذهنية ما فيش تعليمات وعدم التصرف بدون موافقة ولي الأمر لا تتجلى في ميدان القتال فحسب وإنما هي جزء من نسيج المجتمع العربي وعاداته وطباعه التي تخضع لسلطان الأب ويبدو أنه من العبث أن نتوقع من ضباطنا في جحيم المعركة السلوك المرن والمبادرة الفردية السريعة وتحمل مسؤولية القرارات الحاسمة دون الرجوع إلى من هم أكبر منهم سناً ومنزلة ومرتبة". يواجه هنا العظم، في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة، الموروث الثقافي والسياسي واستبداده الماثل في بنية المجتمعات العربية المحكومة بركود مستمر تؤدي لزوماً إلى هزائم متكررة. ويعمد إلى مكاشفة ظواهر أساسية في واقعنا اليومي تشير إلى جهل المواطن العربي بذاته وبالآخر تحت تأثير أوهام الأصالة وفضائل الخصوصية والانسحاق في أمجاد قديمة متوهمة تخرج العرب من التاريخ وتحيلهم إلى واقع جدير بالرثاء تنتصر فيه القبلية والعائلية والطائفية على حساب المصالح الوطنية
التصدّي للخرافة
قام العظم في كتابه نقد الفكر الديني بتوجيه أحد أسلحته العلمية ضد شيوع الخرافة والتلفيق لمحاولات دمج الدين مع الأطروحات العلمية والفكرية والسياسية الحديثة بشكل قسري، والذي غايته النهائية إيجاد نزعة إيمانية ذات قداسة وعصمة وتملك دفاعات تبريرية تحميها من النقد في حال ثبوت فشلها وهزيمتها. واعتبر العظم أن إحدى المناورات التي استخدمتها الدولة الناصرية لتصفية آثار العدوان هي استغلال واقعة تجلي العذراء فوق إحدى كنائس ضاحية الزيتون وقد تبنتها وسائل الإعلام الرسمية والجهات السياسية والدينية وروّجت لها باعتبارها ذات مغزى كفاحي مؤيد للعرب. يقول في كتابه: "إن تصوير الأطياف الروحانية وربط تحرير القدس والصمود في وجه العدو بظهور العذراء تجيء على لسان أجهزة إعلام بلد يعتبر نفسه ثورياً اشتراكياً كان يجب أن يضع إمكاناته الإعلامية في خدمة الشعب بغية تثقيفه لا بغية تضليله والشطط في متاهات الهلوسات الدينية وتزيين الخرافات بمظهر الحقائق العلمية". ويؤكد على ضرورة الفصل بين الديني والدنيوي وتصفية الأفكار الملتبسة حول وجود تصور ديني للكون ووجود مرجعية دينية للأفكار العلمية والفلسفية. بل تجاسر على تحليل بعض القصص الدينية ووضعها في إطار ميثولوجي أعاد تقديمه بصورة مجازية. وانتقد موقف الشيخ نديم الجسر الذي يربط بين التقدم بمعرفة أمواج الضوء والإيمان بالجن والملائكة. وأوضح في الكتاب ذاته: "نحن نجد مثل هذه الملاحظات البديهية جداً عن البرق والرعد والسحاب والليل والنهار في أساطير حضارة ما بين النهرين، ملحمة جلجامش مثلاً، وفي التوراة والإلياذة والكتب المقدسة الصينية والهندية كما نجدها في القرآن".
نقد استشراق إدوارد سعيد
وفي القسم الأول من كتابه ذهنية التحريم ينتقد العظم مسألة الاستشراق لدي ادوارد سعيد ويعتبر أن الأخير يرى العالم العربي تابعاً فكرياً وسياسياً وثقافياً للولايات المتحدة لكنه يعترض فقط على شكل التبعية ويسعى إلى تحسين شروط علاقة التبعية وليس الدعوة إلى تحطيمها. ويرى العظم أن سعيد في كتابه الاستشراق أكد على مفاهيم المستشرقين تجاه الإسلام باعتباره تركيباً حضارياً متمايزاً وفريداً ويتمتع باستقلالية واستمرار في ذاته وأنه يتطلب نظاماً معرفياً خاصاً به لتحليله، ولا يمكن أن تطبق عليه أدوات الحداثة مثلاً أو التحليل الطبقي. وفي هذا السياق يقول العظم: "إن نظرة سريعة لأدبيات الإسلامانيين تبين أنهم يستعيدون، بصورة شبه حرفية، التصور الاستشراقي للكل الإسلامي المتماسك دوماً عبر العصور، ولكن مع فارق واحد يتلخص في قلبهم للخصائص الثابتة التي يسبغها المستشرقون بشيء من الازدراء على هذا الكل، إلى فضائل عظمى".
عن الإسلام والعلمانية
يتساءل العظم عما إذا كان العرب قادرين على إنجاز مشروع ديمقراطي علماني، هذا السؤال الذي يفرض نفسه على جدول أعمال الفكر العربي الحديث. فهل الإسلام ينسجم مع العلمانية والتكنولوجيا الحديثة؟ وهو يطرح هذه الأفكار التي تشكل في راهنيتها خيطاً مشدوداً تجاه تحقيق مشروع التقدم في مجتمعاتنا والتخلص من انسداداته التاريخية أو ولاداته المجهضة. يضطلع بهذا السؤال في كتابه الدفاع عن المادية والتاريخ من خلال الرؤية التي يصادر بها الفكر الغربي العرب، فيقول إن اللاوعي السياسي الغربي يختزل الحياة الفعلية المتنوعة والمعقدة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة وتاريخها الطويل إلى الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي العريض للعبارة، ويرى أن الاتجاهات الثقافوية في الوصف والتفسير والتحليل والتعليل مستشرية في الغرب اليوم، ما يؤدي إلى اختزال الثقافة بكل تفرعاتها وتعقيداتها إلى الدين ومن ثم "اختزال الدين إلى جوهر أزلي ثابت اسمه الإسلام لا يتحرك إلا حركة دائرية من نوع العود الأبدي أو حركة شبيهة بالمد والجزر، فهو يتقدم ثم يتراجع ثم يتقدم". ويتابع: "من هنا رواج نظريات عودة الإسلام وما يشبهها، وكأن الإسلام روح هيجلي يمتد وينتشر ثم يعود فينسحب ويتقلص. والمفارقة في الموضوع هي أن هذا الفهم الاختزالي الماهوي الغربي لحياة الإسلام يتطابق تطابقاً كلياً مع المقولات التي تطرحها الحركات الأصولية الراهنة عن الإسلام وطبيعته ومع المفهومات النظرية التي تستخدمها هذه الحركات في تفسيرها للإسلام التاريخي والحالي والمستقبلي".