الأربعاء، 2 أكتوبر 2019

مفاهيم إشكالية في الوعي الإسلامي عبد الجواد ياسين

في الحب الإلهي (8) عصاب العشق الصوفي - عبدالجواد يسن

في القرن السابع الهجري كتب بهاء الدين ولد: “يمكن القول إنك ترقد في السجود على بديعة العينين، وتقبلها شفتاك بقراءة آيات الصلاة”.
لماذا لا يبرح الصوفي مدار العشق؟ لماذا تحضر المرأة دومًا في خيالاته وهو يتغزل في حب الله؟ ولماذا يتمادى بالغزل إلى أقصى درجات الشبق الجسدي؟
 المشاكلة التقليدية بين الفقه والتصوف الإسلامي حول جواز وطريقة التعبير عن الحب الإلهي، بل إلى سحب المسألة لحقل الدراسات الإنسانية المعاصرة، التي تعيد قراءة الصوفية والظاهرة الدينية إجمالًا بما هي “واقعة” إنسانية تنشأ داخل الاجتماع، وبما هي، خصوصًا في علم النفس، “تجربة” ذاتية تنبع من باطن الوعي الفردي
يكاد المعنى الصوفي يُستغرق في العشق، الذي لا يجري التعبير عنه دائمًا بلغة عذرية، ويظهر السؤال عما يبدو أنه تشابك ضروري ومعقد بين الوعي الصوفي والحب الجسدي، وعما يبدو أنه تشابه مثير بين الاتحاد الصوفي والاتصال الجنسي.
في أشعار ابن عربي، كما تُظهر النقول السابقة من ترجمان الأشواق، كان بإمكانه مقاربة الحب الإلهي عبر التغزل في عيون المرأة وشفتيها وفي ساقيها وحركة أردافها، ولم يبتعد في ذلك عن مسار الشعر الصوفي بوجه عام. وفي شروحه التأويلية لهذه الأشعار، التي ضمنها كتابه ذخائر الأعلاق، اختبأ ابن عربي وراء فكرة “المجاز” الشعري كحائط صد أمام هجوم الفقهاء.
التشابه بين الفناء في الله والفناء في المرأة. شرح ابن عربي في “الفتوحات المكية” وبشكل أوسع في “فصوص الحكم” كيف أن “أعظم ظهور لله تعالى هو تجليه في المرأة للرجل وفي الرجل للمرأة”، وكيف أن الرجل يحب المرأة لأنها جزء منه كما أحب الله الإنسان لأنه صورته، وأن الرجل في حبه للمرأة إنما يحب الله في حقيقة الأمر، وهذا الحب هو ما يدفع الرجل إلى الفعل الجنسي بوصفه غاية الحب الطبيعية، “فليس في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أمر بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة”.
يقدم ابن عربي هذا الشرح في الفص السابع والعشرين “الكلمة المحمدية”، ويلاحظ أبو العلا عفيفي، وهو من أهم المعلقين المحدثين على تراث ابن عربي “أن أحدًا من شراح الفصوص لم يحاول صرف الفص عن ظاهره، مع أنه يكاد يكون من المستحيل فهم النص على ظاهره، إلا إذا اتهمنا ابن عربي بمادية شنيعة لا تتفق مع روح مذهبه”. ولذلك يتولى عفيفي بنفسه صرف النص عن ظاهره بغرض تبرئة ابن عربي من تهمة المادية (يقصد الحسية) الشنيعة فيذهب إلى أنه (يستعمل كلمة “المرأة” هنا رمزًا للدلالة على أي موضوع محبوب، و”الشهوة” رمزًا على الرغبة الملحة في الحصول على المطلوب و”وصلة النكاح” رمزًا على الاتحاد الصوفي، و”الاغتسال” رمزًا على الطهارة الروحية).
بين حب الصوفي لله وفنائه فيه وحبه للمرأة وفنائه فيها من خلال الفعل الجنسي
يريد المزج بين الحسي والروحي داخل معنى الحب،
لا يتوقف ابن عربي –كمجمل الوعي الصوفي- عند فكرة الفصل الحاسم بين الروحي والحسي والعقلي، وهي الفكرة التي تكرست في تراث الفكر التقليدي (بما في ذلك الفكر الديني الرسمي) بمؤثرات يونانية. وهذه واحدة من أهم خصائص الوعي الصوفي، بما هو تيار باطني “حر” يمارس التدين من خارج الأطر الرسمية للديانة.
سيكولوجيا التصوف يُعرَّف التصوف بوصفه “عودة إلى الحالة البدائية لعلاقات الحب عندما كان الوعي لم ينفصم بعد عن اللاوعي”.

العشق الصوفي (3) مشكلة ابن عربي

ظل ابن عربي نصف صوفي ونصف فيلسوف؛
عاشق توزع شوقًا بين حب المرأة وحب الله؟
 التناقض بين الحبين؛ فالمرأة -حسب وحدة الوجود- صورة من صور التجلي التي يظهر الله فيها، ولذلك فالرجل وهو يحب المرأة يحب الله في الحقيقة. بل إن حب الرجل للمرأة وفناءه جسديًا فيها، هو أكمل أشكال التعبير عن حب الله، لأن الرجل حين يضاجع المرأة يندمج فيها بكليته كما لا يندمج في أي شيء آخر، بما أنها من نفس طينية التي خلقها الله على صورته.

في “فصوص الحكم” استكمل ابن عربي بناءه النظري لوحدة الوجود كمبدأ كليِّ يفسر جميع الحقائق في الألوهية والطبيعة والنفس. وفي هذا الكتاب -وهو أهم وآخر كتبه الكبرى- شرح نظريته في الحب الإلهي بشكل مفصل. وهي نظرية جريئة، تبدو سابقة لسياقها الزمني (القرن 7هـ/14م) بآلياتها المنهجية التي تجمع داخل المصطلح الصوفي بين مباحث متفرقة تنتمي إلى الفلسفة، والفن، وعلم النفس (سيظهر توافق لافت بين رؤية ابن عربي وقراءات حديثة في علم النفس الديني، مثل قراءة وليم جيمس لخصائص التجربة الدينية، وقراءة زينر حول البعد الجنساني في التجربة الصوفية في كتابة “الصوفية، والمقدس، والمدنس”. راجع أيضًا: دراسة كريستينا مازوني حول “العصاب، والصوفية، والجنس” ودراسة كونستانس فيوري بعنوان “الجنسانية” ضمن كتاب جامعة كامبردج عن “التصوف المسيحي” تحرير آمي هوليوود).

 أنكر الفقهاء أن يكون ابن عربي أراد بأشعاره حب الله، بل حب الفتاة الفارسية التي ائتمن على صحبتها، والتي تغزل في مفاتنها بشعر مكشوف: “كان الشيخ يتستر لكونه منسوبًا إلى الصلاح والدين”، مما يشير إلى اتهام “أخلاقي” مباشر يتضمن النفاق والكذب وخيانة الأمانة، فضلًا عن لغة العشق الفاضحة.
فتاة ابن عربي كانت بالنسبة له حبًا حقيقيًا ووسيطًا رمزيًا معًا (حيث لا تناقض). وهو ما يتناغم تمامًا مع نظريته في الحب الإلهي الذي يتحقق في أعظم صوره من خلال حب المرأة.
لم ينكر ابن عربي غرامه بالفتاة المكية، فهي: “مسكنها جياد وبيتها من العين السواد ومن الصدر الفؤاد. أشرقت بها تهامة. وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فتمت أعراف المعارف بها بما تحمله من الرقائق واللطائف، عليها مسحة مَلَك وهمة ملِك”. وصرح في عبارة واضحة بأن غزلياته الشعرية كانت موجهة إليها: “فنظمنا فيها أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق وعبارات الغزل الرائق

المواجهة مع السلطة الفقهية، فلم يتطرق إلى مشروعية حب المرأة وكونه أكمل صور التعبير عن حب الله، بل دافع عن نفسه بطريقة
 فقهية تقليدية نافيًا الوقوع في أي محظور شرعي، فبدا وكأنه يتبرأ من فعل الحب، وبدت المرأة عبر شروحه التأويلية مجرد رمز لا وجود له خارج القصيدة.

العشق الصوفي (2) الحلاج وابن عربي

حسب الحلاج، نظر الله إلى ذاته في الأزل فأحبها وأثنى عليها، فكان هذا تجليًا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد. ثم شاء سبحانه أن يرى هذه المحبة ماثلة في الوجود، فأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه، وهي آدم الذي جعله الله صورته أبد الدهر. ولذلك عظمه ومجده واختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه هو هو.

هذا حب الله للإنسان، أما حب الإنسان لله فهو انعكاس لحب الله له.
على الإنسان أن يحقق ذاته بما هو صورة الله الكاملة، وهذا ليس مستحيلًا لأن الله ليس بعيدًا عنه، بل هو حاضر فيه يتجلى من الإنسان لسائر الخلائق. الطريق الصوفي هو مسيرة الإنسان لتحقيق ذاته في الله، وسبيله إلى ذلك هو الحب الذي هو أعلى الدرجات الروحية. أما أعلى درجات الحب فهي أن يترك الإنسان ذاته بالكلية فيفنى عن ذاته في محبوبه حتى لا يعود يرى لنفسه وجودًا مستقلًا، ولا يرى في الوجود إلا الله الواحد:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
 ذروته يسكر العاشق حتى يذهل عن كل شيء، بما في ذلك وصال الحبيب ذاته، وهذا هو الفناء عن الفناء.
 يظل روحيًا، فهو علاقة مجردة تسمو عن فكرة الغرض، وتقوم لذاتها لا في مقابل شيء ما، مهما كان ذلك الشيء، حتى ولو كان العبادة والصلاة، فالصلاة، حسب الحلاج، مراضاة لله “ومن ظن أنه يرضيه بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمنًا”، وهذه إهانة لمقام العشق تصل في نظر العاشقين إلى درجة الكفر:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى
ويذهل عن وصل الحبيب من السكر
فيشهد صدقًا حيث أشهده الهوى
بأن صلاة العاشقين من الكفر
الحب هنا يشرح معنى الحلول والاتحاد بما هو فناء في الله. وهو يفسر الفناء في الله لا بما هو واقعة موضوعية، بل بما هو شعور جامح ناجم عن تجربة الحب القصوى،
 فكرة تنزيه العاشق عن مقايضة الحب بالصلاة، فنحن حيال نوع من التعبير الفني عن حال الذهول، لا حيال تقرير عن حكم الصلاة، ولا حيال إعلان عن إسقاط التكاليف، كما قرأه العقل الفقهي الذي لا تستهويه مجازات الفن
روحية الحب عند الحلاج في تنزيهه عن فكرة الغرض، تظهر أيضًا في تنزيهه عن التفسير بفكرة اللذة، حيث تغيب عن معالجته للحب الإلهي مفردات الشهوة والنكاح والحس والطبيعة، خلافًا لابن عربي.
 ابن عربي يلغي المسافة بين الروحي والحسي، فاللذة نوعان: روحية وطبيعية. ولأن النفس الجزئية متولدة من الطبيعة (فهي أمها والروح الإلهي أبوها) فإن اللذة الروحانية لا تخلص من الطبيعة أبدًا.
الحب -بحسب ابن عربي- شهوة، بل هو “أعظم شهوة وأكملها”. والشهوة هي إرادة الالتذاذ بما يلتذ به، وهي تعلو وتسفل حسب المشتهى
ويبلغ التذاذ الإنسان أقصاه إذا كان التذاذه بمن هو على صورته، لأنه يُشعِر الإنسان بكماله. ولذلك فإن الإنسان كما يشرح ابن عربي: لا يسري الالتذاذ في كيانه كله، ولا يفنى في مشاهدة شيء بكليته، ولا تسري المحبة والعشق في طبيعة روحانية إلا إذا عشق جارية أو غلامًا. وهذا راجع إلى أنه يقابله بكليته لأنه على صورته، بينما كل شيء سوى ذلك في العالم ليس إلا جزءًا منه فلا يقابله إلا جزئيًا. لا يفنى الإنسان في شيء يعشقه إلا إذا كان هذا الشيء شبيهًا به. فإذا وقع التجلي الإلهي في عين الصورة التي خلق آدم عليها، طابق المعنى المعنى، ووقع الالتذاذ بالكل، وسرت الشهوة في جميع أجزاء الإنسان ظاهرًا. ولهذا فإن من يعرف قدر النساء وسرهن لم يزهد في حبهن، فهو حب إلهي يقربنا إلى الله. بل هو –كما يكرر ابن عربي شرحه في الفصوص- أتم صور التعبير عن الحب الإلهي “فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله”.
يقوم الحب على اللذة بما في ذلك الحب الإلهي. وهي فكرة تلتبس بفكرة الغرض التي ينفر منها الوعي الصوفي، لكن وقعها الإشكالي يخف نسبيًا في ظل التداخل الضروري بين الحسي والروحي، وهو ناتج عن التداخل المنهجي المركب عند ابن عربي:
 مقولة خلق الإنسان على صورة الله. وبالاستنتاج العقلي ينزع الأصل إلى صورته وهذا هو حب الله للإنسان، وتنزع الصورة إلى أصلها وهو حب الإنسان لله وللإنسان. لكن الإنسان (الصورة) لا يستطيع شهود الأصل (الله) إلا من خلال الحسي (المادة/ الطبيعة) فحب الإنسان لله هو حب حسي روحاني معًا “وهذه مسألة صعبة التصور،
الخلط بين مفردات الواقع والفكر يتم بشكل تلقائي في ممارسات الفكر عمومًا، بحيث يمكن اعتباره إشكالية مصاحبة لعملية التفكير ذاتها (الأمر الذي يرجع إلى الطبيعة الازدواجية للوجود، فالتفكير وهو ينصب ضرورة على مادة الواقع، يحول الواقع إلى فكرة، وهو ما يعني إنشاء خصائص ذهنية للواقع لا تتطابق تمامًا مع خصائصه في ذاته. وهذه هي الإشكالية الخالدة في تاريخ الميتافيزيقا، والتي يسعى مفهوم العلم إلى تجاوزها.

 (4) – العشق الصوفي

قال بهاء الدين ولد: “إن الرب يلتبس شكل النساء وشهوة الرجال. وإن عشق الرجال وذكور الحيوانات يصدر من أنهم يلامسون الرب في شكل المرأة أو الأنثى في أفعالهم في القبلات وما أشبهها. وقد يكتسب الرب شكل الرجال أو ذكور الحيوانات ليلامس الذات الأنثوية مثلما لامس مريم وكما تتلامس الأرواح الطيبة والشريرة. وقد يتخذ الرب شكل النباتات الخضراء والماء والهواء والأرض، ولا يعلم أحد أبدًا هيئته وطريقة هذا الاتصال وهذه الملامسة وهذا النكاح”.

 صادمًا لحس المدونة الرسمية (الفقهية) التي تضعه في خانة التجديف، يبدو طبيعيًا في الوعي الصوفي الذي صار منفتحًا على وحدة الوجود ومجازاتها الحلولية:

ليس ثمة إلا الله، الذي يتجلى في صور الموجودات جميعًا. ولذلك فحين يحب الرجل المرأة ينصب حبه في الحقيقة على الله الذي “يلتبس شكل النساء” وحين تحب المرأة الرجل فهي في الحقيقة تحب الله الذي “يلتبس شهوة الرجال”.

ويسري ذلك على مفردات الطبيعة التي تتزاوج –بدورها- في نكاح إلهي دائم لا أحد يعلم هيئته ولا طريقته.

لإنسان صورة من الله، لأنه نفخ فيه من روحه، فما يشتاق إلا إلى نفسه.. ثم اشتق له منه شخصًا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه. فحببت إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلى نشأتهم الطبيعية”.

إن الرجل يحب المرأة إذن، بوصفها صورة منه، مثلما يحب الله الرجل بوصفه صورة منه، “فما وقع الحب إلا لمن تكوَّن عنه”. وتحب المرأة الرجل بوصفه أصلها مثلما يحب الرجل الله بوصفه أصله.

وبحسب ابن عربي، يبلغ التعبير عن الحب الإلهي ذروته في الاتصال الجنسي، “فشهود الحق (الله) في النساء أعظم الشهود وأكمله”. ويشرح ابن عربي هذه المسألة في فصوص الحكم على النحو التالي: “ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة، أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح. ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أمر بالاغتسال منه. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك:

فلهذا أحب (صلى الله عليه وسلم) النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهده مجردًا عن المواد أبدًا.

لم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله. وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه ليرى فيه نفسه”.

 التزاوج الإلهي، التي عرفتها سياقات التدين المبكرة. وهي سياقات تفكير “قبل يونانية” لم تفرق تفريقًا حاسمًا بين الحسي والروحي داخل الوعي الإنساني، فلم تنظر إليهما كمستويين متناقضين يسمو أحدهما على الآخر، ولم تتعاط مع الاتصال الجنسي كفكرة مرذولة في حد ذاتها، بل كمعطى طبيعي وثيق الصلة بفكرة الحياة وفكرة الألوهية معًا.

تدين مباشر يعول على القلب أكثر من تعويله على العقل، مما يسمح بإطلاق الطبيعة الحيوية للإنسان، وتحريك وعيه الوجداني، وهو التوجه الذي صار يتفاقم في ظل التأويلات الكلية لوحدة الوجود. يشرح ابن عربي في الفصوص كيف أن العقل يمثل حجابًا كثيفًا بين السالك إلى الله والحقائق الكشفية في أول الطريق الصوفي، ولذلك عليه أن “ينزل عن حكم عقله إلى حكم شهوته، وليكن حيوانًا مطلقًا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة عدا الثقلين، فحينئذ يعلم أن قد تحقق بحيوانيته” (الفص22).

منذ البداية يظهر الحب في أدبيات التصوف كفكرة مركزية. وربما كانت هي نقطة الصدام الأولى بين الصوفية الناشئة وسلطة الفقه النقلية القريبة من الدولة، قبل ظهور الشطحات الحلولية التي سيطلقها البسطامي والحلاج في نهايات القرن الثالث

قالب شعري قريب من التقاليد العذرية، وفي كثير من الحالات اكتفى الصوفية بتمثل أشعار العذريين شرحًا لأشواق الوجد التي لا تنتهي إلى الذات الإلهية.
يشتكى ذو النون المصري:
 أموتُ وما ماتت إليك صبابتي        ولا رويت من صدق حبك أوطاري
وتتكرر الشكوى على لسان البسطامي:
شربت الحب كأسًا بعد كأس       فما نفد الشراب وما رُويتُ
ويبث الحلاج معاناته في لغة عذبة:
 يا نسيم الريح قولي للرشا        لم يزدني الورد إلا عطشا
 لي حبيب حبه وسط الحشا        إن يشا يمشي على خدي مشى

 (3) بين الفقه والتصوف

اعتبر القول بمحبة الله بدعة لأن الخوف هو أصل العلاقة بين الله والعبد. لكن الفقه تجاوز هذه النقطة فأقر إجمالًا بأن الخوف والمحبة أصلان متجاوران

يعكس الخلاف بين الفقه والتصوف فارقًا جوهريًا في طريقة التعاطي مع المسألة الإلهية والتفكير في معنى الدين
 الصيغة التي سادت تاريخيًا بفعل التحالف المتواصل بين الكهنوت والدولة. فيما يشير التصوف إلى الدين بما هو تجربة الإنسان الفرد، التي تعكس حيوية الذات وتنوعها الطبيعي. كان الفقه بنسقه التشريعي القريب من الدولة يعبر عن نموذج الديانة الرسمي (السلطوي) الموروث من تاريخ التدين الكتابي، ويترجم بأدواته النقلية التصور التقليدي النمطي للإله كقوة مخيفة ذات سلطة آمرة، وينظر من ثم إلى الدين بوصفه مجموعة من التكاليف. بينما كان التصوف يعبر عن النزوعات الطبيعية ذات النفس الوجداني، التي تنشأ تلقائيًا على هامش الديانة وتشتغل من خارج إطارها الرسمي. وهي نزوعات فجة تحتك مباشرة بالموضوع الديني، وتتسع لتصورات مختلفة عن الإله يلزم صدورها عن تعدد الذوات.

من وجهة النظر الفقهية لا يجوز فصل الخوف عن المحبة، التي لا تعني أكثر من الاتباع والطاعة، فكما يستشهد الفقيه الحنبلي ابن رجب “كل من أدى محبة الله ولم يوافق أمره فدعواه باطلة، وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور”.

فقهيًا، لا يفهم الحب الإلهي على معنى العاطفة الدافئة والميل القلبي إلى الذات الإلهية، فهو ليس علاقة “غرام” مع الله، بل حالة من “التبجيل” الدائم له. وإذا كان ثمة علاقة فهي غير مباشرة، لا تظهر إلا من خلال الأفعال “فمن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه”. الحب هنا لا ينصب على عين الذات الإلهية، بل على ما تحب الذات الإلهية. وعلى نحو لا واعٍ تقريبًا، يستبعد الموقف الفقهي أن يكون الله موضوعًا لعاطفة الحب التي تفضي إلى لوازم الهوى.

في المقابل يأخذ الموقف الصوفي الحب إلى آخر معناه الطبيعي كعاطفة قلبية. وهو ينصب مباشرة على الله، الذي يظل ذاتًا قابلة للتعين حتى في ظل القول بوحدة الوجود (وهذه واحدة من مفارقات المفهوم الصوفي لوحدة الوجود، لكنها تعكس طبيعة التصوف بما هو تدين وجداني حاد) فالحب يظهر كعاصفة عاتية تستغرق الوعي وتحجب الإحساس بما سواها من المشاعر بما في ذلك الخوف. ولذلك يجري التعبير عنها بلغة الهوى، اللغة التي تستطيع الوصول إلى مناطق الشعور الأكثر عمقًا.

حرفيًا، يبدو الموقف الفقهي أقرب إلى الطرح القرآني من الموقف الصوفي، الذي سيحتاج إلى كثير من التأويل الباطني لتأسيس نفسه قرآنيًا، أو على الأقل لنفي تناقضه مع القرآن: 

لا يمكن القول بأنه منع وقوع الحب على ذات الله أو نفى صدوره عن هذه الذات. فالآيات تشير إلى أن الله “يحب المحسنين” و”يحب التوابين” و”يحب المتطهرين” (البقرة 195-223) وإلى أن “الذين آمنوا أشد حبًا لله” (البقرة 165)، وفي الآية (54) من سورة المائدة “فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه”.

لكن هذه الآيات جميعًا وردت في سياق عملي تكليفي يربط بين الحب والطاعة، فالطاعة أولًا “علامة” على حب العبد لله، وهي ثانيًا “شرط” لحب الله للعبد “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله” (آل عمران 31)، وفي آية المائدة سيتعين على المؤمنين أن يثبتوا حبهم لله بحزمة من الأفعال تتضمن الجهاد في سبيل الله حتى يكونوا جديرين بحب الله لهم. 

وخلافًا للعهدين القديم والجديد لم يستخدم القرآن صيغة الزواج أو العشيق أو الخطيب أو العريس في وصف علاقته بجماعة المؤمنين، ولم يقرب مفردات ولوازم التعبير الشائعة في لغة الهوى كما سيفعل الأدب الصوفي.

(2) العهد القديم والحب المسيحي

في الحب والحب الإلهي (7)
العشق الصوفي (4)
مشكلة ابن عربي (2)
+++++++++++++++++++++

مفهوم القانون (3) في القانون والأخلاق والشريعة

حسب المذهب الوضعي، لا تدخل الأخلاق في مفهوم القانون الذي يجب ألا يتضمن عناصر خارجية. القانون ما هو إلاّ مجموعة من القواعد التي تضعها سلطة مختصة، وتحظى بقوة سريان فعلي. وبعبارة كلسن: “يمكن لأي محتوى يُرغب به أن يكون قانونًا” دون حاجة إلى التحقق من كونه عادلًا أو غير عادل.

 المذهب الطبيعي فرضية الربط بين القانون والأخلاق، بحيث تكون القاعدة القانونية مشروعة عندما يتوافق مضمونها مع الأخلاق، أو مع مبادئ القانون الطبيعي المشتركة في الوعي الإنساني. ويسري ذلك على مجمل النظام القانوني الذي يجب أن تقوم أحكامه على قيم العدالة والإنصاف

يتكئ المذهب الوضعي، أساسًا، على البعد الإجرائي العملي في تعريف القانون، وهو يتعاطى معه كعلم وصفي يتعلق بالواقع، لا كعلم معياري يستهدف القيم.

من وجه النظر الوضعية لا يغير الاحتجاج الأخلاقي من واقع القانون الجائر، وكما يشرح هورستر: “لن نستطيع بمجرد تعريف مفهوم ما أن نغير الواقع. إن القانون الصادر في إطار النظام القانوني النافذ والمشكوك فيه أخلاقيًا -سواء اعتبره فلاسفة القانون صحيحًا أم لم يُعتبر كذلك- يحوز بمعزل عن عدم عدالته صفات مجملة كتلك التي يحوزها القانون الأخلاقي السليم: فقد سن وشرع بناء على الدستور النافذ، كما أنه طبق من قبل الدوائر المختصة، ومن يرفض الخضوع له لعدم أخلاقيته، فعليه أن يضع في الحسبان النتائج القانونية الناجمة عن خرق القانون”.

لا تنكر المدرسة الوضعية وجود قانون إلهي، وبحسب أوستن -وهو المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة في القرن التاسع عشر- التقسيم الأساسي في القانون هو بين: القانون الإلهي والقانون الإنساني،
لا يعني ذلك أن فلسفة القانون تناقش مصداقية القانون الإلهي كموضوع للإيمان، بل يعني الإقرار بوجوده كضابط اجتماعي ينطبق عليه وصف القانون. وهو ما ينطبق على الأخلاق، فكل هذه الضوابط تتضمن أوامر وواجبات من طبيعة واحدة، “والفارق بينها ليس في القالب الذي يصاغ فيه الأمر، بل في قدرة وتصميم الطرف الآمر على إنزال الألم والعقاب في حالة عدم مراعاة الأمر”. وفي هذا الإطار تبدو دائرة القانون الإلهي والأخلاق أوسع من دائرة القانون الوضعي.

يدخل العقل الديني إجمالًا في مدرسة التفكير الطبيعي، فالقانون الوضعي يجب أن يصدر عن (أو لا يتعارض مع) مبادئ القانون الطبيعي، وهو ذاته القانون الإلهي الفطري الذي يضم الأخلاق الكلية والشريعة. ومن هذه الزاوية سيبدو مصطلح القانون الإلهي أوسع من مصطلح الشريعة الذي يشير إلى قواعد تفصيلية ذات طابع فرعي منصوص عليها في الكتاب.

كن علينا في هذا السياق أن نصرف مصطلح العقل الديني إلى تراث التفكير المسيحي بوجه خاص. فهو التراث الديني الذي ناقش مسألة القانون في علاقته “الإشكالية” بالأخلاق والشريعة في إطار لاهوتي موسع، وهو ما يظهر بالمقارنة مع التراثين اليهودي والإسلامي، وحتى مع التراثين اليوناني والروماني      ( من أفلاطون حتى سيشرون).

لم تناقش المسألة في الفكر الإسلامي المبكر بحكم سياقه اللاهوتي التاريخي، ولم تظهر أبعادها الإشكالية قبل التحول إلى الدولة الوطنية الحديثة: في المفهوم الإسلامي التقليدي القانون هو الشريعة (الفقه) والشريعة (الفقه) هي القانون. الشريعة إلهية وبالتالي أخلاقية، أي لا حاجة للبحث في أخلاقيتها من حيث المبدأ.

. منذ البداية اتحدت سلطة الدولة وسلطة الدين، وغابت فرضية الازدواج الناجمة عن انفصال الدين والدولة، أي غابت فرضية وجود دولة تصدر قوانين مدنية مستقلة عن الشريعة. ومن هنا غياب مصطلح (القانون) وإشكالياته كمفهوم مقابل للشريعة والأخلاق. وهي الإشكاليات التي ستحضر مع الدولة الوطنية، حيث تقلص الارتباط النظري بين الدين والدولة، التي تبنت نموذج القانون الوضعي، مع بقاء الشريعة كمرجعية دينية تدخل في علاقة ملتبسة مع القانون.

تكشف هذه العلاقة عن حالة تداخل غامضة وغير صحية، فالشريعة لم تتحول إلى قانون لأسباب تتعلق بقدرتها على التكيف مع أبنية الواقع الآخذة في التطور، فيما ظلت فكرة القانون عاجزة عن تسكين نفسها داخل النظام الاجتماعي وبنية الدولة لأسباب تتعلق باكتمال مستوى التطور.
في هذا السياق تظهر النسخة الإسلامية لإشكاليات التقابل بين القانون، والشريعة، والأخلاق. وهي نسخة مختلفة عن مثيلتها المسيحية التي أنتجتها ازدواجية العصور الوسطى. بين أسباب الاختلاف المتعددة بين النسختين يبرز السبب الأولي المتمثل في غياب الشريعة عن المسيحية، التي تقر مبدئيًا بحق الدولة العلمانية في تملك سلطة القانون. أي في غياب الدمج بين الدين والشريعة والدولة.

الدولة الدينية

تشكل الفكر السياسي عبر القرون الثلاثة الأولى، التي تمثل عصر التدوين،
في سياقات أسبق، متحررة من وصاية اللاهوت تهيأ للثقافتين اليونانية والرومانية التفكير في الدولة كمفهوم يُعقل لذاته، وإنتاج نظرية سياسية تتعاطى مع الدولة بما هي موجود اجتماعي طبيعي يقرأ بمعزل عن الآلهة، ولا يقرأ بمعزل عن “المجتمع المدني”. وهو المصطلح الذي سيظهر في اللاتينية ثم الفرنسية ترجمة لمصطلح أرسطو “ koinonia politike” الجماعة السياسية. لكن الثقافة المسيحية، التي تكونت على وقع الصدام مع الإمبراطورية الرومانية. ستبدأ التفكير في الدولة من خلال علاقتها بالدين، وستقف على المشاكل العملية والنظرية التي تثيرها هذه العلاقة.

خلافًا للمسيحية، التي اكتمل تكوينها كديانة قبل أن تتوافر على دولة بعدة قرون، امتلك الإسلام دولته “الخاصة” منذ البداية تقريبًا. ولعدة قرون تالية. تكرس الربط في السياق الإسلامي بين الدين والدولة بعد تقنينه فقهيًا في صيغة الدولة الحارسة للدين. في محيطه المحلي المنعزل نسبيًا، لم يدخل الإسلام الناشئ في مواجهة سيادية مع دولة قوية بحجم الدولة الرومانية، ولم يقع بالتالي في مشكل التعارض مع سلطة علمانية مفارقة كما وقعت المسيحية. الفكر الإسلامي السلفي الذي لم يعاين وجودًا للدولة المنفصلة عن الدين، لم يصطدم بمشكل ازدواجية السلطة (الخضوع لسلطة الدين وسلطة الدولة منفصلتين) كما لم يكن مهيأً للوقوف على الوجه الآخر للمشكل، وهو (المخاطر الكامنة في اندماج السلطتين معًا في قبضة واحدة، هي قبضة الدولة الدينية).

نظريًا، بحكم الصدور عن نسق التدين التوحيدي ذاته، يمثل الدين في المسيحية والإسلام سلطة كلية ذات طابع شمولي حصري، مما يعني الحديث عن سلطة صدامية لا تقبل التشارك. يقول المنطق التوحيدي بحاكمية واحدة، تتسع حدودها بقدر تمدد مساحة الشريعة داخل الديانة. وبما هي قانون تتقاطع الشريعة بالضرورة مع الصلاحيات التقليدية للدولة.

ومع ذلك كان على المسيحية، وهي تولد في ظل الحضور الراسخ للدولة الرومانية، أن تعترف بوجود المجتمع المدني، ومشروعية الدولة العلمانية القائمة. بشكل صريح تخلت المسيحية عن شريعة الكتاب متنازلة لقيصر عن سلطة الحكم بقانون الدولة. مقابل الحصول على مساحة داخل المجتمع المدني. لاحقًا، ومع تحول الدولة الرومانية إلى المسيحية وتفاقم نفوذ الكنيسة، سيشرع الفكر المسيحي في إعادة توزيع ميزان القوة بين السلطتين لصالح الكنيسة، في ظل بقاء الازدواجية.

33333333333333333

+++++++++++++++++++++

الحالة الإسلامية الدولة، والدولة الدينية (2)

الفقه -الذي أحرز هيمنة واضحة على مجمل الثقافة- لم يقف على مفهوم “المجتمع المدني”، وقدم تقنينًا نصيًا لواقعة “التغلب” كآلية لإسناد السلطة ولفكرة الشريعة كشق من الدين الذي تقع مهمة حراسته على الحاكم. وقام الأدب السلطاني، أو فكر النصيحة -الذي يستغرق معظم المادة المكتوبة في السياسة في الإسلام الوسيط- بترويج السلطة المطلقة للحاكم بوصفه ظل الله في الأرض، وتأكيد فكرة التفويض الإلهي للسلطة. أما الكتابات الكلامية والفلسفية -المتأثرة نسبيًا بالفكر اليوناني- فلم تقدم اختراقًا حقيقيًا للطرح الأوتوقراطي الثيوقراطي الذي قننه الفقه وكرسته الأدبيات السلطانية.

في المقابل، يشتغل الفكر الإسلامي المعاصر في واقع اجتماعي معقد، يعاني من حالة بؤس سياسي واقتصادي مزمنة. فيما يعاني هو من حالة تضارب داخلي بين مكوناته التراثية ومثيراته الحداثية. قيم الحداثة السياسية لم تتحول إلى مكونات بنيوية، لكن حضورها المتفاقم يشكل ضغوطًا كافية لتعميق وعيه بالمشكل. الأمر الذي يعني تحميله بأعباء “تغييرية” مزدوجة، حيال الواقع وحيال تكوينه النظري ذاته.

تطرح الحداثة السياسية على هذا الفكر حزمة من الأسئلة الشائكة عن تكوين الدولة، والمجتمع المدني، وطبيعة السلطة، وشكل الحكومة، وفي هذا السياق يبرز سؤال “الأوتوقراطية” كمعضلة قائمة يصعب حلها من داخل النظرية التراثية بشقيها (الخلافة والإمامة)، أي من داخل فكرة الحل والعقد السنية، أو فكرة العصمة الشيعية.

لكن السؤال الأكثر إشكالية هو سؤال “الثيوقراطية” أو الدولة الدينية من حيث المبدأ، بما هي معضلة نظرية، يصعب حلها بغير صدام، لا مع النظرية التراثية التي كتبها الفقه فحسب، بل مع الأصول الأكثر جذرية في نسق التدين التاريخي. وهي الأصول التي ترجع إلى فكرتي الحصرية والتأبيد، والتي تضع “الدين” عند لحظة بعينها، في تناقض مع اثنين من قوانين الاجتماع الطبيعي: قانون التعدد (الذي يفرضه تنوع الكثرة)، وقانون التطور (حركة التغير الضروري في الزمن). وهنا  -في الواقع- يكمن مشكل الفكر السياسي الإسلامي، بما هو في نهاية المطاف فكر ديني، يصدر عن نسق التدين التاريخي الموروث.

على المستوى الشيعي تربط هذه الأًصول بين الدين والدولة بشكل عضوي مؤبد، لا يكتفي بإدخال الدين إلى أهداف الدولة، بل يدخل الدولة في أركان الدين. تحولت الدولة ممثلة في الإمام المعصوم، إلى كائن ديني خالص، ينطق مباشرة باسم الله، ويمتلك من ثم صلاحيات شمولية مطلقة. وهي صلاحيات لم تعد تقتصر على الإمام المعصوم فحسب، بل أعيد إسنادها –حسب نظرية ولاية الفقيه- إلى الفقهاء غير المعصومين.
شيعيًا، بدأ التفكير في الدولة من نقطة الإمام، أعني في سياق الموقف المذهبي المناصر لأحقية عليّ وأبنائه في الحكم. في مناظرات الجدل المبكرة مع التيار العام (السني لاحقًا) استند الفكر الشيعي إلى فكرة اللطف الإلهي الذي يقتضي تدخل الله في تعيين الحاكم كي تنتظم حياة المجتمع. فكرة اللطف -وهي فكرة جرى تداولها في النقاش المسيحي المبكر منذ أوغسطين- لم تطرح في السياق الشيعي لتفسير فكرة الدولة بما هي كذلك، بل لصالح الاحتجاج لإمامة بعينها. ومع ذلك فهي تربط ضمنيًا بين فكرة الدولة والإرادة الإلهية. وهو ربط سيحظى بخدمات احتجاجية متواصلة مع تطور التنظير الشيعي.
أما الأصول السنية فبالرغم من أنها لم تسم الإمامة ركنًا من أركان الدين، اعتبرتها “ضرورة” لازمة لحراسة الدين بما هو نظام جمعي (شريعة). الأمر الذي يفضي في نهاية التحليل إلى النتيجة الشيعية ذاتها، وهي الربط الأبدي بين الدين والدولة، وتحميل صلاحيات الحاكم، الأوتوقراطية أصلًا، بحمولة ثيوقراطية مضمرة.
في الوعي السياسي الحداثي، تتحلل الثيوقراطية إلى أوتوقراطية مضاعفة، بما هي سلطة مطلقة تمارس باسم الله وتفويضه المباشر، أي بما هي سلطة مطلقة ذات حصانة مقدسة أقوى. ومن هذه الزاوية تظهر الثيوقراطية بوصفها أخطر صور الأوتوقراطية.
تاريخيًا، انبثقت “الدولة الحديثة” من تراث الغرب المسيحي، في سياق صراعي طويل ضد فكرة “السلطة المطلقة” بجناحيها: 1- السلطة المطلقة للدين كما مارستها الكنيسة، 2- السلطة المطلقة للحاكم كما مارسها النظام الملكي. ومن هنا ارتبط مفهوم الدولة الحديثة بفكرتين رئيستين:
العلمانية (نقيض الثيوقراطية)، 2- والسيادة الشعبية (نقيض الأوتوقراطية).
الدور القمعي الذي لعبته الكنيسة بامتداد العصور الوسطى. ونتيجة لذلك اعتبر الفكر الغربي في مراحل “الانتقال” للحداثة أن حل المشكل يكمن في إجراء نوع من وحدة السلطة، بحيث تصبح الدولة أو الحاكم على رأس الكنيسة. انتهى إلى هذا الحل مفكرون إصلاحيون متحررون نسبيًا مثل ريتشارد هوكر، بل ومفكرون أكثر تحررًا أو “علمانيون” مثل هوبز. وحتى روسو امتدح نظام الدولة في الإسلام بوصفه نظامًا أحاديًا يجمع السلطتين الزمنية والدينية في قبضة واحدة، بحيث لا يتمزق الفرد بين طاعة الله وطاعة الأمير.



مفهوم القانون في الدولة والدين (1)

يرتبط وجود القانون بوجود مجتمع، أي بوجود حالة فوق بدائية من الاجتماع البشري تتوافر على حد أدنى من الوعي بفكرة النظام، سواء وجدت الدولة أو لم توجد، وسواء وجد الدين أو لم يوجد. لكن فرضية غياب الدولة أو الدين تبدو بعيدة عن الواقع المرئي بسبب الاشتباك التاريخي الطويل بين المجتمع والدولة من جهة، والمجتمع والدين من جهة ثانية.

تاريخيًا، تمثل الدولة درجة متقدمة نسبيًا في تطور المجتمع الخام. وهي نشأت أصلًا عن هذا المجتمع كمنتج أخير لعمليات تطور متتابعة كي تعبر عن حالة اجتماعية أكثر تعقيدًا، وأكثر وعيًا بفكرة النظام. وهي الفكرة التي لا تزال تقدم الدولة كضرورة موضوعية لازمة لبقاء المجتمع بما هي ضامنة للقانون، أو بما هي حسب تعريف هانز كلسن ” وصف آخر وبسيط للنظام القانوني”.

على مدى زمني طويل من تاريخ التدين، لم يدخل القانون في بنية الدين، التي ظلت تشير بالأساس إلى ممارسات طقوسية، ومضامين روحية مشربة بوعي أخلاقي عام. وعلى الرغم من أن الغرض التوجيهي للأخلاق يجعل منها ” قانونًا” بالمعنى الكلي الواسع، يظل الفارق واضحًا بين المبدأ الأخلاقي والقاعدة القانونية التي تشير إلى حكم تفصيلي مشمول بسلطة زجر خارجية تكفل تنفيذه عند الاقتضاء.

قد لعبت الشريعة – ضمن خصائص أخرى في التجربة العبرية- دورًا مؤثرًا في تكريس الدين تاريخيًا كنسق تكليفي جمعي، أي كمظلة سلطة شمولية، على حساب الروح الإيماني وخصوصية الذات الفردية.

ظهرت المسيحية كانشقاق يهودي داخلي. وعلى الرغم من الطابع الروحي المناهض لشكلانية الفريسيين، أعلن المسيح عن تمسكه بالشريعة واستشهد بنصوص الناموس: “لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل” (متى 5:17). لكن المسيح لم يعط الأولوية للشريعة حين تصطدم بقانون الدولة، فعندما سئل عن جواز أداء الجزية إلى قيصر حسب القانون الروماني أجاب بقوله: “أدوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ( متى 22:15-21).

 استبعاد الشريعة من وظائف الدين لتسند عملية التنظيم الاجتماعي التفصيلي إلى الدولة، التي يجوز أن تشتغل في هذا المجال بعيدًا عن الدين. وهذا معنى الإقرار بالعلمانية في المسيحية النظرية المبكرة.

لكن استبعاد الشريعة لم يؤد الى تقليص الحضور الجمعي للدين كسلطة ذات طابع شمولي، بسبب تبلور “المؤسسة الدينية” التي ظلت تشتغل على الطقوس واللاهوت، وفرضت نفسها كسلطة موازية لسلطة الدولة القائمة؛ للدولة مملكة “القانون” وللكنيسة مملكة “الروح”.

بعد تحول الدولة الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع لن تتغير الوضعية الازدواجية، لكن سلطة الكنيسة ستتفاقم تدريجيًا طوال العصور الوسطى، لتهيمن على المجال العام خصمًا من صلاحيات الدولة.
منحت الكنيسة نفسها صلاحية إصدار قوانين نافذة داخل مساحة السلطة التقليدية للدولة، وصارت المسيحية تتوافر –عمليًا- على نوع من القانون الديني أو الشريعة بالمعنى الضيق.
عند أواخر العصور الوسطى كانت الازدواجية تكشف عن مظاهرها الإشكالية الفادحة، التي مزقت الفرد والمجتمع المسيحي بين سيادتين “مشروعتين” متنازعتين. وهي المظاهر التي مثل النقاش حولها صلب الجدل في الفكر السياسي والقانوني، الآخذ في التخفف من وصاية اللاهوت منذ بدايات النهضة: تحت ضغط التطور العام، أعيد النقاش على نطاق واسع حول علاقة الدين والدولة، وموقف القانون منهما.
في أدبيات الإصلاح البروتستانتي المبكرة الموجهة ضد سلطة البابا، جرى تقليص صلاحيات الكنيسة لصالح الدولة المدنية استنادًا إلى نصوص الكتاب

مفهوم القانون بين الدولة والدين (2) المسيحية والإسلام

مشكل التناقض بين الإيمان المسيحي والوطنية الرومانية التي كانت تتخذ –بدورها- مظهرًا دينيًا شكليًا.

بحسب أوغسطين -وهي فكرة أصلية في النسق الحصري وستظهر لاحقًا في السياسي الإسلامي- لا يميز الكتاب المقدس إلا بين مجتمعين أو مدينتين: مدينة الله، والمدينة الدنيوية، مجتمع المؤمنين الخاضعين للقانون الإلهي، والمجتمع الأرضي الذي يعيش وفقًا للشهوات الطبيعية للجسد. لكن المدينتين تتقاطعان واقعيًا، فمدينة الله لا تلغي الحاجة إلى المجتمع المدني، الذي يقدم الحاجات المادية اللازمة لحياة الناس على الأرض، فيما تمنح مدينة الله المجتمع المدني وسائل تحقيق هدف أسمى من أي هدف يمكن أن يسعى إليه، لقد وحَّد أوغسطين بين مدينة الله والكنيسة وقدم تأسيسًا نظريًا لهيمنة المؤسسة الدينية على الدولة والمجتمع بامتداد العصور الوسطى.

رجمت هذه الهيمنة إلى صلاحيات تشريعية واسعة أسفرت عن سلسلة من القوانين الكنسية التي صارت تمثل “شريعة” دينية جديدة داخل المسيحية. لقد ثار السؤال عما إذا كانت مسيحية العصور الوسطى قد تحولت –كالإسلام واليهودية- إلى ديانة اجتماعية سياسية ذات طابع شمولي. ومع ذلك ظل الحضور العلماني للدولة يقابل حضور الكنيسة، ويمنع تولد سلطة ثيوقراطية موحدة على النمط التقليدي المعروف في تراث اليهودية والإسلام، وظلت المسيحية قادرة على الانتساب لجذور نظرية علمانية، الأمر الذي سهل على الكنيسة تبرير التراجع أمام ضغوط التطور الاجتماعي، وسهَّل عملية الاندماج في أطر الدولة الحديثة.

لقد نشأت الدولة الحديثة كرد فعل لسياقات التطور التاريخي في الغرب، حيث كانت المسيحية واحدًا من الفواعل الرئيسة في هذه السياقات. وبشكل أساسي كان الوصول إلى نقطة العلمانية الكاملة نتاجًا لتطور الجدل حول الازدواجية المسيحية بالذات، أي تصعيدًا لحالة دولة نصف علمانية. وهو ما يشرح قابلية التناغم النسبي بين المسيحية والدولة الحديثة قياسًا إلى الإسلام الذي يعاني من صعوبات واضحة في الاندماج مع أبنية هذه الدولة حتى على المستوى الشكلي.

هذه الصعوبات ترجع باختصار إلى طبيعة الإسلام كما تطرحه المدونة الفقهية، أي الإسلام المحمل بثقافة تدين تاريخي موروث (في جميع الأحوال تعرض الديانات من خلال مدونتها التاريخية، التي لا تحفل بفكرة الجوهر الداخلي للدين). يعرض الإسلام، حسب المدونة، بوصفة –في المقام الأول- لائحة قوانين صادرة عن الوئح لتنظيم الحياة الخاصة والعامة للناس تنظيمًا شموليًا مؤبدًا.

وهي الفكرة التي يتبناها الإسلاميون باعتبارها حكمًا صادرًا عن الله لا عن تاريخ الفقه والدولة.

مفاد ذلك أن الإسلام، كدين، يتصدى لفعل التشريع/ القانون. وهو ما يعني تغيير طبيعة القانون من عملية اجتماعية متغيرة باستمرار، إلى قيم مطلقة لا تقبل التغيير ولا تستجيب لضرورات التطور. “هل يمكن للقانون، بما هو مجموعة القواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية، أي بما هو يعالج معطيات نسبية ومتغيرة بطبيعة الاجتماع، أن يكون جزءًا من الدين في ذاته، وهو في الحد المشترك توحيديٌّ مطلق وثابت؟ في صياغة أخرى: هل يجوز أن يكون الدين قد أسبغ إطلاقيته المؤبدة على ما هو بطبيعته نسبي ومتغير، بحيث يفرض على القانون أن يكون واحدًا على المستوى الكوني ثابتًا على مدى التاريخ، بغض النظر عن حقيقة التعدد والتطور في بنيان الواقع الاجتماعي؟.

التصدي لفعل التشريع يضع الدين بالضرورة أمام مشكل التناقض مع قانون التطور، وهو قانون طبيعي من قوانين الاجتماع (بما هو طبيعي فهو إلهي). وفي هذه الحالة نستطيع تسكين “العلمانية” داخل قوانين الاجتماع الطبيعي. أشير خصوصًا إلى قانون التطور الذي يتناقض مع فكرة القوانين/ الشرعية المؤبدة، وقانون التنوع الذي يستلزم الإقرار بفكرة التعددية. في هاتين الفكرتين يكمن مشكل الإسلام التاريخي مع الدولة الحديثة. (ما أقصده بقانون التطور هو محض “التغير” بفعل الحدوث الزمني، كنتيجة ضرورية لحركة الاجتماع، وهو قانون استقرائي متواتر. لا أتحدث عن حتمية موضوعية توجه التغيير في اتجاه خطي بعينه، ولا عن مسار “تقدمي” محدد رسمته نبوءات التنوير الأوروبي).

لم يتصد الموقف الإسلامي لمواجهة جادة مع أي من المشكلين. وإذا كانت المسيحية قد واجهت المشكل الأول بسهولة نسبية عبر استعادة الأصول العلمانية المبكرة، إلا أنها تواجه صعوبة حقيقية في مواجهة المشكل الثاني. بسبب طبيعتها الحصرية كديانة تنتمي إلى النسق التوحيدي. ومع ذلك فهي أبدت، تحت الضغوط الحداثية، مرونة أوسع بالقياس إلى الموقف الإسلامي، حيال الإقرار بالتعددية الدينية (راجع الانفتاح النسبي حيال الديانات الأخرى في مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني 1963-1965، وتطور الموقف التسامحي لدى البابا فرنسيس).

في السياق الإسلامي المبكر، وفي ظل وحدانية السلطة، كانت الشريعة (الفقه) هي قانون الدولة، ولم تظهر إشكاليات الازدواج التشريعي التي عرفها السياق المسيحي، لم يعرف الفكر الإسلامي مفهوم القانون بما هو مقابل للشريعة، أي لم يقف على مفهوم القانون بما هو “نظام للدولة”، مقابل “للنظام الديني”.

لقد تبلور “الفقه” بما هو علم الشريعة العملي، ثم “أصول الفقه” بما هي علم الشريعة النظري. وظهر الفقه بوصفه العلم الرئيس الذي يهيمن على سائر مواد المدونة الإسلامية بما في ذلك على الكلام (اللاهوت)، وهو ما يعكس الطابع الاجتماعي القانوني للإسلام قياسًا إلى المسيحية، حيث ظل اللاهوت هو العلم الأول الذي يهيمن على مادة المدونة، حتى في ظل التمدد التشريعي في العصر الوسيط. (لم تنتج المسيحية علم فقه موازياً للفقهين الإسلامي واليهودي).

في النسق الفقهي يشتغل التفكيرعلى الجزئي، ويعمل من الداخل بشكل تحليلي. وعندما انتقل الفقه إلى التفكير الكلي من خلال علم الأصول، ظل التفكير داخليًا (تحت السقف) لوضع قواعد التعاطي مع الحكم “الشرعي” بغرض ضمان شرعيته، أي ظل يشتغل على الحكم بما هو شرعي، وليس على الحكم في ذاته، أي لم يشتغل على “فسلفة” الشريعة/ القانون. وهذا مفهوم في ظل المعنى الإلهي النهائي للشرعية.

في هذا السياق لم تظهر إشكالية المقابلة بين “قانون وضعي” و”قانون إلهي”، ولم يناقش هذا المصطلح الأخير في إطاره العام الذي يتجاوز حدود الشريعة المكتوبة، فلم يظهر مفهوم “القانون الطبيعي” ليُقرأ كشق من القانون الإلهي كما سيقرؤه الفكر المسيحي (توما الإكويني)، أو كمصدر أرضي للقانون الوضعي كما سيناقشه الفكر القانوني الحديث. وفي الإطار ذاته، لم تُناقش الأخلاق بما هي في ذاتها قانون إلهي، أو من حيث علاقتها بالشريعة.


لكن هذه المفاهيم ستعود لتفرض نفسها على الفكر الإسلامي المعاصر. أعني في إطار الدولة الوطنية “الحديثة” التي صارت تعرف القانون كمفهوم مستقل عن الشريعة. هل يمكن الحديث عن نوع من “الازدواجية” الجديدة أو الناقصة، حيث تتقابل سلطة القانون التي تملكها الدولة مع سلطة الشريعة التي يمثلها الفقه بوصفه “مؤسسة” معنوية ذات قوة معنوية موروثة؟

وعلى الرغم من أن الدولة “الوطنية” في السياق الإسلامي، لا تتوافر على شروط الدولة الحديثة بالمعنى الضيق (الغربي) يمكن الحديث عن صعوبات تكيف بينها وبين الموقف الإسلامي حتى في صوره الأكثر اعتدالًا. فكرة القانون التي تبدو غير “شرعية” في الوعي الأصولي، لا تزال تبدو غير مكتملة في وعي الدولة والأفراد، فيما تبدو مضطربة في تعاطي “الهيئات الدينية” شبه الرسمية التي تعمل من خلال الدولة وتحمل نظريًا فكرة الدفاع عن الشريعة… يتبع

في فكرة التجديد الديني من حيث المبدأ

تمر الديانة بمرحلتين تأسيسيتين، قبل أن تنتقل إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة “التجميد”، حيث تتحول الديانة إلى عدد من “المدونات” المذهبية، تشير كل واحدة منها إلى نسق أو نظام نهائي مغلق، ومحصن بسلطة ذات طابع مؤسسي.

السؤال المطروح هنا هو: متى وكيف يتغير النظام الديني بعد الدخول في مرحلة التجمد؟ وهو سؤال أوَّلي يستدعي الوقوف على طبيعة هذا النظام وعلاقته المركبة بالنظام الاجتماعي، ويُعد، لذلك، مدخلًا ضروريًا لمناقشة المقاربات التجديدية المطروحة في السياق الإسلامي الراهن.

ينشأ النظام الديني كإفراز مباشر للنظام الاجتماعي السائد في حقبتي التأسيس. لكن النظام الديني يتم تثبيته بفكرة المقدس، بينما النظام الاجتماعي لا يكف عن التغير بطبيعة الاجتماع وقوانين العالم. وهو ما يجعل التناقض بين النظامين –عند لحظة ما- ضروريًا.

في المراحل المبكرة يكون التناقض طفيفًا، ومن ثم يمكن استيعابه من داخل آليات النظام الديني. وبوجه عام يظل التناقض قابلًا للاستيعاب من داخل هذه الآليات، طالما كان التغير الاجتماعي دون حد التطور الجذري قياسًا إلى اجتماعيات التأسيس.

الوصول إلى حد التناقض الجذري يؤشر إلى أن النظام الديني لم يعد يشبع حاجات النظام الاجتماعي، والنظام الاجتماعي لم يعد يحتمل إكراهات النظام الديني. هنا يمتنع استيعاب التناقض بآليات النظام الديني التقليدية، ويتحول التناقض إلى صدام (سلسلة من المعارك الضمنية أو الصريحة) تسفر تدريجيًا عن “تراجع” النظام الديني. القانون الذي يحكم هذه الحالة هو بعينه قانون التطور، وهو قانون طبيعي: تؤدي حركة الاجتماع إلى ظهور التناقضات داخل العالم، لكن التناقضات تتنافى بنزوع التناغم عند نقطة بعينها. يعمل القانون لصالح الجديد على حساب القديم  (النموذج الكلي لديالكتيك هيجل).

يجري التراجع –إذن- كرد فعل لقوة الضغط الاجتماعي ويتناسب معها طرديًا. ولذلك فهو يمثل الآلية الوحيدة  “لتغيير” النظام الديني، الذي لا يقدم تنازلات طوعية على مستوى السلطة أو في منطوقه النظري بعد دخوله في مرحلة التجميد. مما يقلل من أهمية التعويل على مبادرات الفكر التجديدية التي تطرح قبل اكتمال التطور.

تاريخيًا، لم يحدث تطور جذري ضاغط قبل مراحل الحداثة التي بدأت مع العصر الصناعي، وتبلور الرأسمالية، ونتائج العلم التجريبي. طوال المراحل السابقة على الحداثة، كانت “التطورات” الكلية تنتمي إلى طبيعة الهياكل القديمة: البنى الاقتصادية ظلت رعوية أو زراعية ريعية، والبنى الاجتماعية ظلت عشائرية قبلية أو شمولية إجمالًا، فيما ظلت البنى العقلية تدور في فلك التقاليد اليونانية السابقة على التجربة. التطور الحداثي الذي فرض التراجع على المسيحية الغربية، لم يواجه المحيط الإسلامي بعد، إلا بشكل “جزئي” يكفي لترجمة التناقض إلى حالة توتر، وليس إلى صدام تراجع صريح.

وفقًا لهذا التحليل، النظام الديني جزء من النظام الاجتماعي، وبالتالي فـ”التغيير الديني” عملية اجتماعية تخضع لقوانين الاجتماع الطبيعي البطيئة المعقدة. تاريخيًا ومنذ البداية، لم يكن الدين مجرد فكرة “خالصة” ولا خيارًا “فرديًا” محضًا، بل تمثل على الدوام في شكل نظام  (واقعي/ جماعي)، وفرض نفسه كسلطة شمولية تهيمن على مؤسسات المجتمع العضوية (العائلة، العشيرة، القبيلة، الدولة) وتتداخل مع أنساقه التوجيهية (العرف/ الأخلاق/ القانون).

حضور الدين بما هو “نظام” اجتماعي يبدو أكثر وضوحًا في النسق الكتابي وخصوصًا في الإسلام، بسبب فكرة الشريعة التي تبسط سلطة الدين على مساحة أوسع من الاجتماع، ما يعني تصعيد قابليات التناقض.


في السياق الكتابي اشتغلت فكرة التطور الاجتماعي على الديانات الثلاث بدرجات متفاوتة، تعكس تفاوت الميراث والضغوط التي تعرضت لها كل ديانة بعد التجميد:

اليهودية –التي كانت بالأساس ديانة تشريعية- واجهت بطابعها الإثني الضيق بعد مرحلة التجميد، سلسلة من التطورات والضغوط الاجتماعية الهائلة (سياسية وثقافية إجمالًا) تفسر حجم وشكل حضورها الراهن. وفي تصوري أنها كانت مرشحة للاندثار تحت هذه الضغوط لولا انبثاق المسيحية وتبنيها للكتاب العبري كجزء من كتابها المقدس.

المسيحية –التي بالغت عبر هيمنة الكنيسة في الاستيلاء على النظام الاجتماعي- تقدم نموذجًا بارزًا لتغير النظام الديني تحت الضغط الاجتماعي: حركة التجديد البروتستانتي، التي فرضت نفسها على الرغم من مقاومة الكنيسة، كانت استجابة من قبل الديانة لضغوط التطور “النسبي” الاقتصادية والعقلية التي أخذت تتراكم في أوروبا بعد القرن الثالث عشر. استجابة جزئية، قياسًا إلى حركة التراجع “الواسعة” التي ستفرض على المسيحية لاحقًا بفعل تفاقم التطور وتحوله إلى انقلاب جذري شامل.
عند القرن التاسع عشر، كانت المسيحية قد انسحبت –تقريبًا- من المساحة التي سيطرت عليها طوال العصور الوسطى في المجالين العام والخاص، وفي هذا السياق تبرز أهمية الدور الذي لعبته الكنيسة نيابة عن الديانة كمؤسسة جامعة تملك صلاحيات تمثيلية ذات طابع إنشائي. استنادًا إلى هذه الصلاحيات أدارت الكنيسة عملية انسحاب منظمة للديانة من النظام الاجتماعي (تخلت كليًا عن المجال العام لصالح الدولة العلمانية، أما المساحة التي تركتها من المجال الخاص فأعيد توزيعها بين الدولة والأفراد). وعبر مناورات تأويلية جرى تقنين الانسحاب على المستوى النظري (بنية المدونة المكتوبة) في شكل تنازلات معرفية ولاهوتية صريحة، طالت مبدأي الحصرية والتأبيد.
إذا كان التغيير الديني ينتج فعليًا بضغط التطور الاجتماعي، فإن أي مقاربة تجديدية تطرح قبل اكتمال التطور، تبقى مجرد مقترح نظري يحتاج إلى إقرار. في السياق الإسلامي يثير غياب المؤسسة الجامعة مشكل الصفة التمثيلية: من الذي يمثل الإسلام بحيث يمتلك صلاحية اقتراح وإقرار تعديلات جوهرية في بنية المدونة المكتوبة؟
لم يسند النص صلاحيات “إنشائية” بعد النبي المؤسس إلى أي هيئة أو فرد، لكنه يلزم الجميع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو ما صار يفهم كنوع من التمثيل على الشيوع للديانة، ويسهم في توليد الفرق والجماعات وتثبيت المعنى الأصولي. وقد جرى تكريس هذا الفهم في ظل التداخل المبكر بين الديني والسياسي في مرحلة التأسيس الثانية (حقبة التدين) التي أسفرت بشكل نهائي عن ربط الدين بالدولة (إسناد دور مؤسسي للدولة كحارسة للدين) وربطه بفكرة الشريعة (إسناد دور مؤسسي للفقه كشارح للشريعة).
عند إغلاق الديانة، صار الفقه (الفقهاء) يتقاسم مع الدولة الأدوار التقليدية للمؤسسة الدينية باستثناء الصلاحيات الإنشائية المعروفة لدى الكنيسة الكاثوليكية. وبعد تراجع الدولة (الإسلامية) الحارسة ظل الفقه يحافظ على سلطته المعنوية الموروثة (حماية اللاهوت/ تفسير الشريعة/ خدمة الطقوس). وهي السلطة التي سيُجرَى تأميمها لاحقًا من قبل الدولة (الوطنية) التي حولت الفقهاء إلى هيئات إدارية ملحقة بالجهاز الحكومي، وعادت في إطار عصري مخفف إلى تقمص دور الدولة الحارسة للدين.
يشار –أحيانًا- إلى هذه الهيئات بوصف المؤسسة الدينية. وهي إشارة مجازية وغير دقيقة؛ ففضلًا عن افتقارها إلى تفويض نصي لتمثيل الديانة، لا تحظى هذه الهيئات بقبول جمعي داخل المحيط الإسلامي المنقسم أصلًا على المستوى المذهبي والسياسي، والواقع –الآن- تحت ضغوط مزدوجة من قبل الطرح الأصولي والإشعاع الحداثي معًا. وهي من وجهة النظر الأصولية جهات متساهلة وخاضعة لأغراض الدولة “العلمانية”، فيما تبدو سلفية وجامدة إلى أبعد مدى من وجهة نظر الحداثة.
عمليًا، وعلى الرغم من توافقها المعلن مع التوجه الحداثي للدولة، تمتنع الهيئات الرسمية عن تقديم طرح تجديدي جذري (يتجاوز الحلول الفقهية الجزئية)، لكنها تواصل دورها “الوصائي” حيال أي مقاربة تغييرية داخلية أو خارجية.

في فقه المرأة (3) التأسيس الديني لوضعية المرأة

كانت الهيمنة الذكورية جزءًا من ثقافة البيئات السامية التي شهدت ميلاد الديانات التوحيدية جميعًا. وبقوة الاجتماع اخترقت هذه الثقافة جدار المبادئ الكلية للدين، وعبرت عن نفسها من داخله من خلال التشريع.

عكست التشريعات العبرية منذ البداية الوضعية الدونية للمرأة قياسًا إلى الرجل، عبر المراحل التي استغرقها تكوين النص في مجتمعات سامية متعددة. ومع انتقال المسيحية إلى المحيط الروماني، حملت معها الخطوط العامة للرؤية العبرية التي تربط خضوع المرأة للرجل بالخطيئة الأولى لحواء.

صرح بولس في القرن الأول بأن “على المرأة أن تتلقى التعاليم وهي صامتة بكل خضوع، ولا أجيز للمرأة أن تعلم، ولا أن تتسلط على الرجل، بل تحافظ على السكوت، فإن آدم هو الذي جبل أولًا وبعده حواء، ولم يُغوَ آدم، بل المرأة التي أغويت فوقعت في المعصية”

 كمتهمة، فأنت باب إبليس، أنت التي فكت أختام الشجرة المحرمة، أنت أول من عصى الأوامر الإلهية. وأنت التي نجحت فيما فشل فيه إبليس عندما ضللت ذلك الذي لم يجرؤ الشيطان على التعرض له، أنت التي قضيت بسهولة على الرجل، صورة الرب، فتلقي الموت جزاء فعلتك يا من كنت السبب في موت ابن الله” (زينة النساء).

سلاميًا يظل التأصيل اللاهوتي حاضرًا، فدونية المرأة عن الرجل حكم مقرر من الله، لكنه لا يتكئ على فكرة الخطيئة كما في التأسيس المسيحي، بل على فكرة “النقص” الأصلي في طبيعة الخلق، فالأنوثة نقص بحد ذاتها، أي بطبيعة التركيب الجسدي والنفسي الذي خلقه الله.

الآية (34) من سورة النساء كسبب لقوامة الرجل على المرأة.

 معنى شائع في كتب التفسير والفقه على السواء. بحسب ابن كثير “الرجال قوامون على النساء” أي الرجل قيم على المرأة، وهو رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت. و”بما فضل الله بعضهم على بعض” أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله (ص): “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” رواه البخاري. (التفسير).

 طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة فيكون فيه معنى اللين والضعف” (الجامع).

كتاب الإشراف على نكت مسائل الخلاف” يعلل ابن علي البغدادي منع المرأة من تزويج نفسها بدون ولي ذكر بقوله: “لأنها ناقصة بالأنوثة كالأمة. ولأن من طباع النساء شهوة النكاح والميل إلى الرجال، والتسرع في ذلك، فلو جعلت العقود إليهن لتسرعن ولم يراعين كفاءة ولا حظًا في عاقبة، وفي ذلك ضرر بهن وبالأولياء فمنعن منه”.

 فقه المرأة -2

فقه المرأة

تعاني الثقافة من حالة ازدواجية مربكة، وهي تجمع بين مكوناتها التاريخية الموروثة، ومفردات مكتسبة من الإشعاع الحداثي، صارت تجاور هذه المكونات وتتدافع معها. لم تفلح المكونات التراثية في صد الإشعاع الحداثي، فيما لا يبدو هذا الإشعاع كافيًا -حتى الآن على الأقل- لإزاحة المكونات التراثية.

بوجه عام، ظل المكون التراثي قادرًا على استثارة الحساسيات التقليدية الخاصة بالمرأة، والموروثة من ثقافة الفقه ذات الطابع الذكوري، والتي تكاد تختزل المرأة في مسألة عرض خاص بالرجل، لكن المكون الحداثي ظل قادرًا على إثارة الوعي بالمضامين الإشكالية التي تنطوي عليها المدونة الفقهية.

لا أحاكم النظام الذكوري هنا من منظور قيمي مطلق (أخلاقي/ عقلي) بل من زاوية مقبوليته في ثقافة اللحظة الاجتماعية الراهنة، التي لم تعد هي ذاتها ثقافة التراث التقليدي أحادية التكوين.

بوجه عام، وحتى في ثقافات الاجتماع الأكثر حداثية، لا تزال المفاهيم الذكورية تفرض حضورًا نسبيًا في علاقات الزواج، وتنعكس على الوضعية الاقتصادية والمجتمعية والقانونية للمرأة. لكن في المحيط الإسلامي، وبالمقياس النسبي ذاته، لم تعد لهذه المفاهيم سلطتها الطاغية ومساحتها التقليدية الواسعة.

في هذا السياق يظهر الدور السلبي للتيار الأًصولي في تصعيد الارتباك الثقافي الناجم عن الازدواجية، وتعميق مشكل التناقض: تنطلق الأًصولية من موقف مبدئي مضاد لفكرة الحداثة، ومخاصم لنمط التدين الشعبي. وهي تعبر عن الروح السلفي الساري في المدونة، تستدعي خياراتها الفقهية الأكثر رجعية (تشددًا) خصوصًا في مسائل الأحوال الشخصية والمرأة، التي تحظى بموقع مركزي داخل الخطاب الأصولي، وتبدو أحيانًا وكأنها محور من المحاور الأصلية للدين. وهي مسلكية تحتاج إلى نقاش تفسيري من زوايا علم النفس الاجتماعي والديني والمعرفي.

تاريخيًا، اندمج الفقه بسلاسة مع العرف داخل المحيط الإسلامي طوال المراحل السابقة على الحداثة. وهي ظاهرة مفهومة بما أن الفقه نشأ انعكاسًا لثقافة البنى الاجتماعية التي لم تشهد تغيرًا جذريًا منذ عصر التدوين. لكن العرف، وهو يشتغل من خلال آليات التدين الشعبي، يظل قادرًا على احتواء الفقه وضبطه على موجات الواقع الاجتماعي المتغيرة.

مع الاهتزازات الطفيفة التي جلبتها الحداثة المبكرة في الهياكل التحتية (الاقتصادية/ العقلية/ الاجتماعية) أظهر التدين الشعبي مرونته الطبيعية، وتجاوب ضمنيًا مع حركة التغيير العام التي بدأت منذ القرن التاسع عشر تحت عنوان النهضة، بما في ذلك التحولات النسبية في وضعية المرأة. والموجات الأصولية اللاحقة لم تفلح في إيقاف هذه الحركة، ولكنها نجحت في تبطيء إيقاعاها.

بنى الفقه في عصر التدوين، نظرية متكاملة في الزواج، تأسيسًا على مرجعيات نصية وغير نصية متعددة. وبسبب المذهبية والتنوع الناجم عن التمدد الجغرافي، احتوت النظرية على تباينات فرعية تكشف عن تبعية التشريع الدائمة للاجتماع. لكنها ظلت -في مجملها- تحمل السمات الذكورية للاجتماع العربي في القرن السابع كما سجلها النص. وهي سمات مشتركة في المحيط السامي عمومًا، وتظهر بوضوح في النصوص البابلية والآشورية والعبرية.

بدورها، لم تخرج النظرية الفقهية عن الإطار العام الذي رسمه القرآن، لكنها، بطابعه التفصيلي، ستبدو أكثر منه تعبيرًا عن نظام الهيمنة الذكورية، وهو ما يظهر بوضوح في معالجاتها التقنية الموسعة لأبواب الولاية، والقوامة، والعصمة، والحجاب، والتأديب، ويمكن قراءته إجمالاً في “التعريف” الذي تقدمه النظرية لعقد الزواج:  

بحسب التهانوي في “كشاف اصطلاحات الفنون” الزواج “عقد وضع لملك المتعة”: موضوع العقد المتعة، وغرضه التملك. المالك هو الرجل أما المرأة فليست طرفًا في العقد، لأن طرفيه الزوج وولي المرأة التي هي “محل” الاتفاق الواقع عليه تراضي الطرفين بالإيجاب والقبول، مثلما يكون الشيء المبيع محلاً للرضا في عقد البيع بمصطلح القانون المدني.

يكشف التعريف عن ثقافته الاجتماعية ذات الجذور السامية، التي اعتبرت المرأة المتزوجة ملكًا لزوجها والفتاة العذراء ملكًا لأبيها، وأباحت للزوج المدين أن يبيع زوجته عن استحقاق سند الدين كما في قانون حمورابي، وتعاملت مع الزوجة كجزء من التركة يرثها أبناء الزوج المتوفى كما في تقاليد بعض القبائل العربية، أو يرثها إخوته كما في النصوص العبرية.

تظهر هذه الثقافة في لغة النصوص المنسوبة إلى الرسول، ففي حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي “فخطبها رجل فقال رسول الله (ص): هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن، ويضيف الراوي، جاء في بعض طرقه: “ملكناكها، ومكناكها، وأملكناكها وأنكحناكها وزوجناكها وأبحناكها”.  

تواتر هذا المفهوم في كتب الفقه وتحول إلى مصطلح ثابت، ففي الفقه المالكي –مثلًا- نقرأ في كتاب “الإشراف على نكت مسائل الخلاف” أن النكاح “ينعقد بلفظ الهبة، والبيع، وكل لفظ تمليك يقتضي التأبيد، دون التأقيت.. ودليلنا قول الرسول (ص): قد ملكناكها بما معك من القرآن. ولأن لفظ تمليك لا يقتضي توقيتًا، فأشبه لفظ النكاح والتزويج، ولأنه عقد معاوضة فجاز أن يعقد بأكثر من لفظين كالبيع”. ويؤكد ابن العربي في “أحكام القرآن” هذا المعنى منكرًا على الشافعي قوله: إن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج. وبحسب ابن قدامة في “المعنى” قال الثوري، والحسن بن صالح، وأبوحنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع والتمليك.

وبعض الفقه يدخل الزوجة في نطاق مفهوم “ما ملكت اليمين”، ففي معرض النقاش حول الآية (24) من سورة النساء: “والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم” يشير القرطبي في “الجامع” قالوا: معناه نكاح أو شراء، هذا قول أبي العالية، وعبيدة السلماني، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين.

تتكرر الإشارة إلى الزواج على أنه عقد معاوضة، كما تتكرر المقايسة بينه وبين عقد البيع. المهر في عقد الزواج هو العوض الذي يدفعه الرجل مقابل المتعة، ما يعني أن جهة الرجل هي الجهة الوحيدة المعتبرة في المتعة، إن المتعة هنا متعة الرجل، وكأن المفترض أن المرأة لا تستمتع، أو لا يصح لها أن تستمتع، أو –وهذا هو المفهوم الواقعي حسب الثقافة– لا يجوز التصريح بأنها تستمتع. هي فقط موضوع المتعة التي تتقاضى نظيرها أجرًا هو المهر.

يشرح القرطبي هذا المعنى تعليقًا على آية “فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة” بقوله: “الاستمتاع التلذذ والأجور المهور. وسمي المهر أجرًا لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرًا، وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة، أو منفعة البضع، أو الكل؟ ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي ذلك”.

 اختلاف “العلماء” -كما ينقل القرطبي- لا يدور على مفهوم المتعة وكون المرأة موضوعًا له من حيث المبدأ، أو كونه يستغرق أغراض الزواج، بل يدور على “محل” الاستمتاع من المرأة، هل هو البدن عمومًا أم البضع أي الوطء تحديدًا؟ وهو اختلاف لا يخرج بالمسألة عن نطاق المتعة الجنسية. فالبدن في نص القرطبي لا يقابل –مثلًا- بالروح أو النفس أو المشاعر، بل يقابله الوطء، مما يصرف معنى البدن في النص إلى أشكال الاستمتاع الجنسي دون الجماع. في مجمل المشهد تغيب المضامين الإنسانية والوجدانية ذات البعد النفسي التي يستوعبها الزواج كنظام عريق في الاجتماع البشري، مدعوم من قبل الدين.


في هذا السياق تحضر فكرة المقارنة مع النصوص القرآنية الكلية التي تعبر عن المطلق الأخلاقي مثل “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”.

ويحضر السؤال عن كيفية التوفيق داخل القرآن –كنص واحد- بين النصوص الكلية والنصوص التشريعية.

النصوص الكلية ذات النفس الأخلاقي تعبر عن المعنى الجوهري للدين وهي تعرضت للتحجيم على يد الفقه بغرض تطويعها لأغراضه التشريعية، من خلال آليات تقنية متعددة (التأويل/ النسخ/ تخصيص العام/ تقييد المطلق/…)، أما النصوص التشريعية فتعبر عن حقائق الاجتماع في لحظة النص، التشريع بطبيعته يعكس الاجتماع كما هو في زمان ومكان معينين، بينما الأخلاق تعكس القانون الكلي المفارق، ولذلك فهي، وليس التشريع، ما يمثل الجوهر الثابت للدين.

الشريعة.. والقانون

الشريعة قانون، والقانون متغير بطبيعة الاجتماع؛ والمتغير ليس من جوهر الدين بما هو مطلق.
يُطرح “تطبيق الشريعة” من قبل الحركة الأصولية كهدف نهائي يختزل معنى الدين، ويلزم تحقيقه بجميع الوسائل بما في ذلك استخدام العنف

هل يجوز أن يكون الدين قد أسبغ إطلاقيته المؤبدة على ما هو بطبيعته نسبي ومتغير، بحيث يفرض على القانون أن يكون “واحدًا” على المستوى الجغرافي الكوني، وأن يكون “ثابتًا” على مدى التاريخ؟

نعلم بالاستقراء أن الواقع الاجتماعي في بيئة معينة كان دائمًا هو الذي ينتج القانون، ثم يعود فيفرض عليه أن يتغير كي يعكس التطور في حاجات وعلاقات البشر تبعًا للتغير الدوري في الظروف الطبيعية والاقتصادية والسياسية والعقلية، وهو ما يفسر تعددية النظم القانونية وتطورها عبر الزمن. هل يستطيع القانون لمجرد التحاقه بالدين واكتسابه وصف الشريعة أن يجعل من ذاته استثناء من هذا الاستقراء؟

اريخيًا، وكما يؤكد السجل التشريعي الديني والإسلامي بوجه خاص، “لم تكن أحكام المعاملات الفرعية تصدر في شكل لائحة مكتملة سابقة التجهيز عن مخطط اشتراعي مفارق للواقع، بل كانت تنشأ تدريجيًا كرد فعل لمعطيات البيئة الاجتماعية التي ظهرت فيها الديانة وجوابًا على أسئلتها المحلية، سواء بالتوافق مع مفردات العرف السائد كما في الغالب، أو بالتناقض مع بعض هذه المفردات بشكل جزئي. وفي هذه الحالة الأخيرة كان التناقض يعبر عن نقطة تحول نضجت شروطها الظرفية قبل الديانة أو بسببها. وما يؤكد هذا السجل أيضًا هو أن الواقع الاجتماعي المتغير فرض على شريعة الإسلام مثلما فعل بشريعة التوراة، أن تتنحى عن هيمنتها التاريخية في المجتمعات الإسلامية مع ظهور الدولة الحديثة، عبر مسار تدريجي طويل، ظلت الحاجات الفعلية من خلاله تملي علاقاتها الجديدة في أرض الواقع قبل أن تتحول إلى تشريع مكتوب”.

إسلاميًا، وبعد إغلاق النص التأسيسي، ستظهر “عملية” التشريع الفقهي الواسعة التي صنعت مفهوم “الشريعة”. وهي عملية وثيقة الارتباط بنشوء الدولة، التي ظهرت وتطورت استجابة لتطورات الاجتماع السياسي بعد مرجلة التأسيس. كان مفهوم الشريعة ناتجًا لاندماج الفقه والدولة، وهما ظاهرتان متزامنتان متداخلتان من حيث النشوء والتطور، وفي واقع الأمر كان الحضور المتواصل للدولة هو الذي كرس مفهوم الشريعة، ولم تكن المسألة أن حضور الشريعة في النص هو الذي أوجب إنشاء الدولة لتقوم بتطبيق الشريعة كما سيقول التنظير السلفي لاحقًا.

ما هو حاضر في النص –باستثناء المطلق الإيماني الأخلاقي- هو معالجات تفصيلية لواقعات محلية ذات طابع آني خاص لمجتمع النص، وتم استصحابها –في ظل وبسبب الدولة- إلى المجتمع الإسلامي الجديد، ثم تمديدها –في ظل وبسبب الفقه– كقواعد نهائية ثابتة.

في القرن الثاني ظهرت فكرة “الدولة حارسة الدين” بتأثيرات فارسية. وساهم ذلك في تزايد نزعة التديين التي أخذت تتمدد إلى الثقافة. وفي هذا السياق ستظهر تنظيرات الشافعي لمفهوم “السنة” عبر تحويل أحاديث الآحاد إلى نصوص ذات حجية مكافئة لحجية القرآن، وهي العملية التي جرت بالتزامن مع عملية التشريع الفقهي وتداخلت معها.

وعندنا انتهت عملية التحديث في أواخر القرن الثالث، كان للفقه حضور ملموس على المستوى الموضوعي (تراكم كمي للأحكام)، وعلى مستوى السلطة (كمرجعية معنوية يستند إليها القضاء والفتوى)، كما على مستوى التنظير لأدواته المنهجية (مبادئ الأصول المبنية أساسًا على تصعيد حجية السنة/ الحديث، وحجية الصحابة/ الإجماع). وهو تصعيد مذهبي أي اختياري مقابل لخيارات تدين مخالفة كتصعيد الشيعة لحجية أهل البيت، وتهبيط الإباضية لحجية قول الصحابي. لكن الفقه سيحتاج لاحقًا إلى قرن على الأقل كي يتبلور بخصائصه المعروفة التي سينغلق عليها في أواخر القرن الرابع، والتي ستمثل في مجملها الملامح النهائية للشريعة.
عمليًا أسفرت العملية “الفقه- حديثية” عن تكون بنية قانونية دينية هائلة الحجم بالقياس إلى البنية الأصلية التي انغلق عليها النص التأسيسي.



 مشكلة الحرية.. والدين


مسألة الإرادة الحرة، وهي قديمة قدم الرواقيين على أقل تقدير، يصعب صوغها بوضوح، وقد شغلت الناس العاديين والفلاسفة المتخصصين في آن..


 لا معنى للحديث عن حل “نظري” لمشكل الحرية. وهو الدرس الذي تعلمته من تاريخ الفلسفة بوصفه سلسلة من التمارين الفكرية، التي تعيد تقليب المعطيات انطلاقا من نقطة ذاتية مسبقة، لا تحظى أبدًا بالإجماع.

الإكراه الاجتماعي، والقهر السياسي، سواء في صورها القمعية المباشرة، أو غير المباشرة التي تتغطى عادة بغطاءات العرف أو القانون.

التعويل على الفلسفة يأتي من الخلط المعتاد بين الفكر والواقع، وهو أحد أهم المشكلات الموروثة من تاريخ المثالية اليونانية. في الفكر حيث ينزع العقل إلى الوحدة والتجريد الكلي -يعني حل المشكل الوصول إلى صيغة مقبولة في الذهن لما يبدو علاقة تناقض بين فكرة الحرية وأفكار كلية مقابلة كالعدالة، أو الفضيلة، أو الخير. ثمة دائمًا طريقة لرفع التناقض من خلال إعادة ترتيب أو تسمية الأفكار وفقًا لمنطق التناغم المفترض.

أما في الواقع -حيث يتسع الاجتماع، بالمكان والزمن، لتجاور موجودات متعارضة، أي حيث يُجرَى فعليًا استيعاب التناقض الناجم عن الكثرة- فإن حل المشكل لا يعني رفع التناقض بل إدارة معطياته القائمة، بحيث يمكن الوقوف على آليات تحقق الحرية، أعني القدر الممكن منها في ظل قوانين الطبيعة وقوانين الاجتماع. يمكن القول: إن الواقع ليس منطقيًا بالضرورة، أو إن له منطقه الخاص الذي لا يتماهى مع منطق العقل اليوناني.

واقعيًا، ينتج مشكل الحرية عن “حالة الاجتماع” بحد ذاتها، أعني عن التعارض الضروري بين “طبيعة” الوجود الفردي، وطبيعة” الوجود الاجتماعي: ينزع الوجود الفردي بطبيعته إلى “الفعل” وهذا بعينه ما تعنيه مفردة الحرية، فهي –إذن- من جوهر الوجود الفردي ذاته، وأي تعريفات خارجية ستكون بمثابة شرح أو تبرير إضافي. وبطبيعته، يتكون الوجود الاجتماعي من عدد من “الوجودات” الفردية المتقابلة، مما يعني الجمع في صعيد واحد بين نزوعات فعل متقاطعة.

ومع ذلك، فالوجود الاجتماعي في الواقع ليس مجرد حاصل جمع الوجودات الفردية، لأنه يخلق تلقائيًا ما يمكن وصفة بـ”ذات كلية” أو “ذوات كلية” مفارقة للذوات الفردية. وهي –بدورها- تنزع إلى الفعل بطريقتها الخاصة.

معنى ذلك أن نزوعات الذات الفردية لا تتقابل مع نزوعات الذوات الفردية المعاكسة فحسب، بل أيضًا من نزوعات الذوات الكلية التي تنشأ عن حالة الاجتماع (العائلة/ العشيرة/ القبيلة/ المجتمع/ الدولة)، وهي الأطر الجماعية القابضة، التي تشكلت من خلالها مفاهيم السلطة الشمولية المعروفة (العادات/ التقاليد/ العرف/ القانون).

هذا التقابل بين الوجودين الفردي والجماعي، هو الوجه الأقل غموضًا في مشكل الحرية. وهو الذي يشير إلى المشكل بمعناه الحقيقي (العملي) لأنه يتعلق بالقدرة على الاختيار داخل مجال الممكن. أما الوجه الآخر للمشكل فيأتي من كون الوجودين الفردي والجماعي محكومين أصلًا بقوانين الوجود الطبيعي، أي بحتميات الفيزياء والبيولوجيا، التي تسبق فعل الاختيار داخل الوعي، أو تسحبه خارج الممكن.

قريبًا من هذا السياق يمكن تسكين فكرة “الظروف” الفاعلة، التي تكشف عن صورة من “الضرورة” الاجتماعية، تتشابه من جهة اضطراد النتائج مع الحتمية الطبيعية. فالظروف الاقتصادية، أو الانتماء الطبقي، أو بيئة التكون الثقافي، تنطوي على نوع من الحتمية الناعمة، وتعمل كعقبات تحتية في طريق الإرادة فيما هي توجه مسارها منذ البداية. بالطبع، تبدو هذه العقبات بالنسبة للوعي الفردي أقل حتمية من عقبات الطبيعة، ومن ثم قابلة للتجاوز على نحو ما. ولكن هذه القابلية جزئية وتظل نظرية في مجمل سياقات الواقع كما تؤكد الماركسية.

جوهر الحرية هو القدرة على الاختيار. وكلما اقتربنا من أرض الواقع ظهر أن المشكل –وهو بالأساس مشكل الإرادة الفردية- لا يتعلق بالحتميات الطبيعية، التي تتداخل مع الجبر الميتافيزيقي، بقدر ما يتعلق بعقبات الإكراه الاجتماعي والسياسي.
أين موقع الدين من هذه المعادلة؟
أدت حالة الاجتماع الطبيعي المبكرة إلى اندماج الفرد في كيانات جماعية فرضتها غريزة الاحتماء من خطر الطبيعة. وعلى الرغم من أن الوعي الفردي أخذ في الظهور والتفاقم تدريجيًا مع تواصل التطور باتجاه السيطرة على الطبيعة، فإن سلطة الأطر الكلية (العائلة/ العشيرة/ القبيلة/ الدولة) ظلت قابضة على كيان الفرد، خصوصًا بعد تكريس سلطة الدين كإطار اجتماعي مهيمن على جميع هذه الأطر.
تاريخيًا، لم يظهر التأثير القابض للدين على النزوع الفردي، بشكل حاد قبل تبلور النسق التوحيدي، الذي سيؤدي بدءًا من التجربة العبرية، إلى تصعيد حضور الدين كسلطة شمولية طاغية. فمع هذه التجربة توسعت صلاحيات المؤسسة الدينية، وتعمق ارتباطها التقليدي بالدولة. لكن دورها الشمولي الأهم يأتي من تحميل الدين بفكرتين: الحصرية، والشريعة.
1- الحصرية
طوال المراحل السابقة على هذه النسق فرضت التعددية نفسها على التدين، وجرى الإقرار على نحو متبادل بحق الجماعات والشعوب في تقديس الآلهة أو الإله الذي تؤمن به، وبهامش نسبي للأفراد داخل الجماعة في اختيار إله من بين الآلهة المتعددة، أو التعبير عن عبادته بطريقته الخاصة. بوجه عام، لم يوضع التفكير الفردي على نطاق واسع مقابل رؤية أحادية للدين، ولم يشتغل مفهوم “التكفير” ومفهوم “الهرطقة”. وفي هذا السياق لم يؤد التدين إلى حروب واسعة أو صدام بين الأفراد أو مع الأفراد بالمعنى الذي سيظهر مع النسق الحصري.
جلبت اليهودية مفهوم التكفير بمضامينه الإكراهية (اللعن/ الإقصاء/ القتل) إلى صلب المصطلح الديني. وهو المفهوم الذي سيشتغل في المسيحية تحت مسمى الهرطقة ليقدم من خلال الكنيسة والدولة معًا، النموذج القمعي الأكثر وحشية في تاريخ العلاقة بين الحرية والدين. أو بين الحرية الفردية والنظام الاجتماعي المؤمم من قبل الدين والمدعوم بسلطة الدولة. ألقت الكنيسة الكاثوليكية آلاف البشر في أوروبا أحياء بالمحارق لمجرد التفكير في الدين بطريقة لا تطابق رؤية الكهنوت الرسمي.
في السياق الإسلامي، وتماشيًا مع التراث القمعي للدولة التي تقمصت دور الكنيسة كحارسة للدين، أنتج الفقه تراثًا نظريًا موازيًا لم يلتفت قط لمطالب الروح الفردي، وذلك من خلال توظيف آليات ومفاهيم شمولية (كالإجماع/ الأمة/ الفتنة/ البدعة) إضافة إلى التكفير بالطبع.
لكن السياق الإسلامي يتوافر في هذا الصدد على خصوصية نسبية:
بدرجات متفاوتة تعطي جميع الديانات (التوحيدية) لأفراد المؤمنين نوعًا من السلطة التوجيهية نيابة عن الديانة حيال “الأفراد” الآخرين. وهو ما يظهر إسلاميًا بشكل أوضح في ظل غياب مؤسسة دينية جامعة، وبسبب تراجع الدور التمثيلي للدولة. من خلال فكرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” تتوزع سلطة التوجيه –نظريًا- بين الدولة والأفراد، فيما يمثل الفقه في ذاته سلطة خلفية ضاغطة تهيمن على النص، ولا تتطابق مع سلطة الدولة. يمنح مبدأ “النهي عن المنكر” صلاحية التغيير باليد، وهي صلاحية تنفيذية تستدعي النقاش حول “التوتر” الذي ينجم عن التصادم بين سلطات التوجيه (الدولة/ الأفراد/ الفقه)، لكن جوهر المشكل يظل كامنًا في حساسيات الصدام مع حاجز الروح الفردي الذي ينزع للخصوصية بما في ذلك خصوصية فهم الدين.
الشريعة
باستحداث فكرة الشريعة الإلهية تم تأميم “القانون” لصالح الدين، ومن ثم توثيق التداخل بين الدين وسلطة الدولة بشكل نهائي. كان ذلك يعني أولًا: توسيع مساحة السلطة التكليفية التي تحظى بحماية الدولة، والتي تعمل إلى جانب العرف ككوابح تقليدية لحركة النزوع الفردي. وكان يعني ثانيًا: تشديد الطبيعة الزجرية لسلطة القانون عبر تصعيده إلى موقع المقدس.
الأمر الذي يؤدي من الزاويتين إلى مضاعفة قابليات التناقض بين النزوع الفردي والنظام الاجتماعي.
من هنا يمكن القول بأن قابليات التناقض بين النزوع الفردي والدين تتناقص بقدر ما يتخلص الدين من لوائح الفقه التفصيلية الواسعة التي انضمت إلى معنى الدين، عبر تاريخ التدين، بفعل المؤسسة الدينية.
والمعنى أن “الدين في ذاته” بما هو توجه روحي نابع من داخل الذات الفردية لا يتعارض مع طبيعة الوجود الفردي، خلافًا “للدين التاريخي” بما هو نظام تكليفي مصنوع بمعرفة النظام الاجتماعي ويمثل جزءًا منه.
بالطبع، سيظل “الدين في ذاته” ينطوي على حد أدنى من المعنى التوجيهي بما هو حامل للأخلاق الكلية، ولكن هذا الحد الأدنى الأخلاقي يكون مقبولًا من الذات، بما هو صادر أصلًا عن نزوعاتها الأولية، التي تماهي بين الله والمعنى الأخلاقي الكلي.

 العزلة الشعورية والاستعلاء بالدين

 قاموس سيد قطب، وقضايا الجدل الفرعي الداخلية، التي فرضتها الحركة الأصولية على مشاغل الثقافة، والتي حرفت اهتمامات المجتمع عن مسارها الطبيعي تجاه التطور والخروج من حالة البؤس المزمنة التي يعاني منها على جميع الأصعدة، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، فضلاً عن الروحية والأخلاقية.

يعتبر سيد قطب المنظر الأول أو الأكثر أهمية للأصولية الإسلامية في المنطقة العربية، بالنظر إلى دوره في “تطوير” الحالة الإخوانية في مصر وتصعيدها إلى مناطق موضوعية وجغرافية أوسع،

 إن أولى الخطوات في طريقنا أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيراً لنلتقي معه في منتصف الطريق.

من هذه الزوايا يمكن قراءة العلاقة بين التدين الشعبي الاعتيادي والتدين الأصولي المتطرف كعلامة نفور متبادل في صميمها: تنظر الأصولية إلى الممارسات الشعبية كنمط تدين فج متساهل أو منحرف عن النموذج المكتوب، وتابع دائماً للسلطة الخارجة عادة عن الدين.
فيما يشعر الشارع الاعتيادي بالطبيعة الأحادية المتزمتة للأصولية وإيقاعها التكليفي الخشن المخاصم للعفوية والتعدد.

 الاقتصاد الإسلامي


 قوى “رأسمالية” متعددة لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية.

فدلالة المصطلح تكاد تنحصر، عمليًا، في إعادة تسمية سعر الفائدة بمسميات مستمدة من قاموس الفقه، بغرض تجاوز عقبة دينية طارئة صارت تهدد الاندماج في نظام السوق.

لا معنى للحديث -من حيث المبدأ- عن “اقتصاد ديني”، من منطلق أن الاقتصاد علم وصفي لا تتفسر قضاياه بعلل غائية مستمدة من خارج الواقع، أو من منطلق أن الدين معنى مطلق يخاطب المشترك الإنساني بما هو كذلك.

 الاقتصاد في الواقع ليس مجرد علم وصفي، بل معطى اجتماعي واقعي يمكن قراءته على أكثر من مستوى جماعي أو فردي، سياسي أو قانوني، كما أن الدين، تاريخيًا، لم يكن مجرد معنى مطلق (روحي أخلاقي) يخاطب المشترك الإنساني، أو فكرة مجردة تعبر عن تجربة الذات الفردية، بل فرض نفسه كسلطة جمعية ذات بنية تشريعية سياسية، في صيغ متعددة تشي بصدورها عن سياقات اجتماعية متباينة.

تتخذ الديانة التاريخية شكل مدونة مكتوبة، تضم حزمة من التصورات (اللاهوتية) والتكاليف (الأخلاقية/ التشريعية) ويجري تمثلها في الواقع بدرجات متفاوتة فرديًا وعلى مستوى التدين الشعبي العام. مما يعني أن الدين بما هو بنية تشريعية يتقاطع مع الاقتصاد بما هو جزء من البنية الاجتماعية. الأمر الذي يبرر قراءة العلاقة بين الإسلام والاقتصاد في إطار القراءة الشاملة لعلاقة الدين والاجتماع. وهي قراءة لازمة لفهم الظاهرة الدينية التي يثير حضورها على الدوام نوعًا من التوتر في المحيط الاجتماعي.

في العقل الديني (التوحيدي) حيث الدين حقيقة مطلقة مفارقة، لا شيء في البنية الدينية يرجع للاجتماع. الدين فاعل دائمًا والاجتماع مفعول، وبالتالي لا مجال للحديث عن تأثير اقتصادي في الدين، ثمة فقط تأثير ديني في الاقتصاد. وفي المقابل ينظر العقل الوضعي إلى الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية خالصة، أي تنتمي إلى العالم. ومن ثم فهي تخضع لقوانين الاجتماع الطبيعي في التعدد والتطور، وتتبادل حركة التأثير والتأثر مع المثير الاقتصادي.

في الماركسية لا يمثل الدين ظاهرة اجتماعية فحسب، بل ظاهرة اجتماعية “ثانوية”، تجد تفسيرها دائمًا في ظواهر الاجتماع السياسي خصوصًا الاقتصادية. يوفر الدين -في الواقع- غطاءً أيديولوجيًا يستر الاغتراب الاقتصادي الناشئ عن الرأسمالية. فهو يوظف من قبل القوى المهيمنة بشكل “تبريري” لإضفاء مشروعية على سلطة النظام الطبقي. ويستخدم من قبل الطبقات المقهورة في “التعويض” عن حالة الحرمان، أو في “الاحتجاج” عليها. وهو ما يظهر عن إنجلز الذي قدم تحليلًا طبقيًا للإصلاح البروتستانتي في كتابه “حرب المزارعين الألمان”، فجماعة الأنا بتستي (الذين رفضوا تعميد الأطفال) كانت تعبر بلغة دينية عن حركة احتجاج سياسية معارضة للقهر الاقتصادي والاجتماعي داخل مجتمع إقطاعي.
ماكس فيبر –بدوره- يقرأ الدين من داخل التفسير الاجتماعي الخالص، لكنه سيعالج علاقة الدين بالاقتصاد من زاوية أوسع من الزاوية الماركسية. فهو يقر باستقلالية نسبية للموضوع الديني ضمن السياق الاجتماعي، ويقدم طرحًا وظيفيًا للدين يتجاوز كونت ودور كايم، فالدين لا يؤدي دور اللّحمة اللازمة لتماسك المجتمع، بل يؤدي أيضًا دور المثير القادر على إحداث التغيير أو التطور الاجتماعي. وفي سياق هذا الدور الأخير يقدم طرحه عن التجانس بين تطور الرأسمالية وحركة الإصلاح البروتستانتي خصوصًا عند كالفن.
بحسب فيبر، وفرت الكالفينية، تأصيلًا نظريًا للأخلاق المسيحية يتلاءم مع الخصائص العقلانية للاقتصاد الرأسمالي؛ ربط كالفن بين المبدأ الأخلاقي وممارسته عمليًا كفعل دنيوي داخل العالم، فالله يتعبد الناس بالطاعة من خلال السلوك أي الفعل الاجتماعي، والطاعة تنطوي على تنازلات عاجلة مقابل الوعد بمكافآت آجلة، مما يعني أن المؤمن يجري عملية لحساب المنافع تشبه حساب الربح والخسارة. أهم ما ينسب إلى كالفن هنا هو تقديمه لتبرير ديني معقلن لفكرة “الربح” كنجاح دنيوي يعبر عن نعمة الرب ومطابق لروح الرأسمالية، ولفكرة “سعر الفائدة” متجاوزًا التفسير الكاثوليكي التقليدي للربا.
وتأسيسًا على ذلك اعتبر فيبر أن الجوانب الأكثر إيجابية في نشأة الرأسمالية واستقرارها، أوضح حضورًا في المناطق البروتستانتية من أوروبا. وبسبب غيابها واجهت الرأسمالية عراقيل تطور في السياقات الدينية الأخرى كالهندوسية والبوذية والإسلامية (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية).
وفقًا لهذا التحليل تبدو الرأسمالية وكأنها نتاج مباشر للبروتستانتية، ويبدو التطور الاقتصادي تابعًا لتطور ديني صريح، أي صادر عن بنية تحتية ذات طابع نظري. لا يتوافق فيبر مع الرؤية الماركسية حول أسبقية التطور الاقتصادي (المادي) كبنية تحتية مطلقة، لكنه لا يجعل الدين بنية تحتية مقابلة، بل يتحدث عن تفاعل متبادل بين التطور الديني والتطور الاجتماعي عمومًا؛ فكل تطور اجتماعي يخلق تطورًا دينيًا، كما أن كل تعددية اجتماعية تفرز تعددية في الرؤى الدينية، فأنماط التدين تختلف باختلاف طبقات الانتماءات المهنية التي تبصم رؤية أفرادها ببصمتها الخاصة (الفرسان، المزارعون، العسكريون، الحرفيون، القساوسة، رجال الفكر). قارن فيبر بين التطور العملاني الذي تبنته البرجوازية الأوروبية، والقائم على زهد إيجابي نشيط يعتد بالعمل كسلوك نافع ومستحب من الله، وتصور النبلاء المثقفين الذي يمارس التدين من خلال التأمل الداخلي في الله كوجود مثالي محض. ولاحظ بشكل إجمالي أن التصور الأول ساد في الغرب المسيحي والشرق الأوسط الإسلامي، بينما هيمن التصور الثاني على طابع التدين الهندي، وبدرجة أقل الصيني.
لكن ما يلزم التنبه إليه -بعيدًا عن فكرة البنية التحتية- هو أن الدين بوجه عام، فعل ينشأ داخل العالم، ويتطور وفقًا لقوانين التغير الاجتماعي. لم يصنع كالفن الرأسمالية، بل أنتجها التطور الصناعي ضمن حركة الانقلاب الشامل التي أخذت تدب في أوروبا قبل قرنين من عصر الإصلاح. وفي هذا الاطار يلزم قراءة البروتستانتية كرد فعل لضغوط التطور الاجتماعي العام، التي فرضت على المسيحية –من خلال كالفن- أن تظهر ضربًا من المرونة التشريعية كي تتوافق مع النظام الناشئ.
الدين هنا، أو بالأحرى التدين، يبدي استجابة صريحة للمثير الاجتماعي، تسمح بتمرير إرادة التطور واستكمال دورتها.
في دراسته حول “الأخلاق الاقتصادية للديانات الكبرى” يعلل فيبر تخلف النموذج الرأسمالي في المنطقة الإسلامية بغياب تأصيل أخلاقي اقتصادي معقلن، وهو تعليل ينطوي على مبالغة نظرية. بوجه عام ليس ثمة فوارق جذرية في التصور الأخلاقي بين الديانات التوحيدية الثلاث، فيما يتعلق بالموقف المتداخل أو المزدوج حيال المال والعمل الدنيوي. الفوارق تكمن في السياقات الاجتماعية الاقتصادية ومن ثم الثقافية. يحتوي النص الديني على طيف واسع من الخيارات التي يمكن تأصيلها نظريًا، والمناخ الاجتماعي هو الذي يعين خيار الرؤية السائدة. لم يكن كالفن أول من صرح بأن الجزاء الأخروي يتم تحصيله عبر الفعل الدنيوي (الاجتماعي)، ولم يستحدث مشروعية الربح الملازمة لفكرة التجارة. التأصيل الأخلاقي الاقتصادي الذي قدمته البروتستانتية الكالفينية وجد -في الواقع- تحت ضغط الرأسمالية الصناعية، أي نتيجة لتطور اقتصادي اجتماعي سابق على كالفن. كان الزخم “الدنيوي” المصاحب لحركة التطور هو الذي أدى إلى تصعيد قيم العمل ومشروعية الربح إلى سطح المدونة الدينية، على حساب قيم التواكل والزهد أو الانسحاب الأخروي الكامنة –بدورها- في صلب المدونة، والتي كانت أوضح حضورًا في أخلاق العصور الوسطى.
في السياق الإسلامي لا يتعلق المشكل بغياب تأصيل أخلاقي ديني معقلن، فهذا التأصيل كامن في نصوص المدونة الإسلامية الواسعة، التي تتسع لقيم الربح وقيم الزهد على السواء. وقد جرى استخدامها بالفعل في التنظير المعاصر لتأييد سياسات اقتصادية واجتماعية متباينة (رأسمالية واشتراكية). المشكل يتعلق بمستوى التطور الكلي، أي بالهياكل الاقتصادية/ الاجتماعية/ العقلية التي لم تتغير بشكل “جذري” عن مثيلاتها في مراحل التأسيس الديني، التي تنتمي إلى العصور السابقة على الحداثة إجمالًا، ظلت الهياكل الاقتصادية ريعية، والاجتماعية قبلية عشائرية، والعقلية أسيرة لروح التفكير التأملي السابق على التجربة.

بين الأخلاق والدين

في المنظور الديني التقليدي ليس للأخلاق وجود مستقل عن الدين.
الدين مصدر الأخلاق، وهي جزء منه لا يستغرق بنيته الكلية، والأخلاق أخلاق أي خيرة لأن الله وصفها بذلك، وليس باستحسان العقل أو تقرير العرف. ولذلك فهي محكومة بالدين لا حاكمة عليه، بمعنى أنه لا يصح محاكمة الدين إلى مبادئ مستقلة عن منطوقه، أو بعبارة مكافئة لا يجوز التساؤل عن أخلاقية الأحكام الدينية. فمثلًا حين ينص الدين على إباحة الرق فهذه الإباحة أخلاقية في ذاتها، أي لا يجوز تقييم خيريتها بمعايير خارجية ( فوق دينية). وينطبق ذلك على بقية الأحكام التي تبدو صادمة للحس الأخلاقي الخالص مثل أحكام التحريض على العنف، أو أحكام التفريق بين البشر في حرمة الدماء بسبب الدين ( لا يقتل اليهودي بغير اليهودي قصاصًا، ولا يقتل المسلم بغير المسلم قصاصًا).
في المقابل يعتبر الفكر الوضعي أن الأخلاق – كالدين- ظاهرة اجتماعية تاريخية نشأت وتطورت داخل العالم بفعل الإنسان. وهي رغم تقاطعها مع الدين التاريخي تحتفظ بوجود مستقل عنه، حيث الدين بالأساس بنية طقوسية لاهوتية؛ ثمة أخلاق رفيعة في سياقات غير دينية، وهي تغيب أحيانًا في سياقات دينية، ولذلك يمكن الحديث عن أخلاق دينية خاصة بكل ديانة، ويمكن محاكمة هذه الأخلاق الخاصة إلى الأخلاق الكلية.
2-
حسب الأنثروبولوجيا الكلاسيكية ( التطورية) بدأ الدين كحالة طقوسية خالصة قبل أن يتحول إلى نظام شامل يضم اللاهوت والأخلاق. وهي فرضية مناقضة للتصور الكتابي الذي ينظر إلى الدين كمطلق كلي ولد نهائيًا ولا يرد عليه التطور، وهو ما ينطبق على الأخلاق بوصفها شقًا من الدين.
أرسطو فقدم تأصيلًا عقليًا خالصًا للأخلاق لا يتكئ على الدين رغم إلمامه بالمفهوم الإلهي. السعادة هي الخير المطلق، أو الخير النهائي المطلوب لذاته، ونحن نطلب الفضائل من أجلها. تستطيع الفضائل تحقيق السعادة بما هي التوازن الذي يهيئ لقيام الإنسان بوظيفته ككائن بيولوجي اجتماعي عقلي معًا، بوجه عام لم يكن الدين في السياق اليوناني بعيدًا عن الأخلاق، ولكنها ظلت مبحثُا ومطلوبًا اجتماعيًا يصدر عن العقل.
حسب كانط لا يستطيع العقل النظري برهنة الدين لعجزه عن تجاوز حدود التجربة، ولكن الأخلاق بما هي عقل عملي تستطيع إثبات حرية الإرادة، وخلود النفس، ومن ثم وجود الله. في البداية   ” نحن لا نعتبر الأفعال ملزمة لأنها فروض إلهية، بل هي تعتبر فروضًا إلهية لأننا نشعر بأننا ملزمون بها في داخلنا”. تقوم الأخلاق على فكرة الواجب. ولأن المكافأة على فعل الواجب لا تتحقق كاملة في الحياة الحاضرة تفرض العدالة وجود حياة ثانية كي يكافئنا الله على الفضيلة بالسعادة. هنا يبدو الله جزءاً من نظرية الأخلاق، جزءاً ضروريًا كي تكون الأخلاق ممكنة.
لكن الأخلاق بعد أن لعبت دورها في إثبات وجود الله ستعود فتكشف عن مصدرها الإلهي، فشعورنا الأصلي بالإلزام الأخلاقي هو جزء من طبيعتنا التي خلقها الله. هذا الشعور بالنسبة لكانط هو جوهر الدين الذي يكاد يستغرق معناه، فأهم ما في الدين ليس الطقوس ولا تفاصيل اللاهوت، بل فعل الواجب استجابة لصوت الضمير الذي هو صوت الله.
بحصره التقريبي لمعنى الدين في الأخلاق، كان كانط يقدم مفهومًا عقليًا اختزاليًا للدين لا يقبله اللاهوت الكتابي المؤسسي. ولكنه كان لا يزال يتعاطى مع المسألة من داخل الإطار التقليدي للجدل بين اللاهوت والميتافيزيقا. فالفكرة المطلقة ظلت هناك، وظلت الأخلاق كالدين إلهية قادمة من خارج الاجتماع.
في القرن التاسع عشر ستنتقل المسألة – على يد فيورباخ- إلى منطقة قراءة مغايرة؛ الدين ليس أصل الأخلاق بل الأخلاق هي أصل الدين، وكلاهما بشري صادر من داخل الاجتماع. ينطوي التكوين الإنساني بطبيعته على الأخلاق ( العقل والإرادة والمحبة)، وهي أعلى ما في الإنسان، أو هي الإنسان في كماله المثالي. لقد نسب الإنسان هذه الطبيعة المثالية إلى قوة عليا مفارقة وأطلق عليها إسم الله، فصارت مطلقة، ومن هنا ظهر الدين في صورته التقليدية     } فيورباخ – جوهر المسيحية{.
حسب فيورباخ، الدين مفهوم اجتماعي طبيعي يمكن أن يفتح بابًا للأمل أمام الإنسان، الذي عليه توظيف طاقاته الأخلاقية الطبيعية لتحقيق سعادته الفردية والجماعية، أي لتحقيق ” خلاصه” الاجتماعي، وهو مكافأة الفضيلة التي تنجز داخل العالم وليس في السماء.
ثمة مسافة واضحة بين دين فيورباخ الطبيعي الاجتماعي، ودين كانط العقلي الإلهي، لكن أخلاق فيورباخ ظلت قريبة من أخلاق كانط من حيث احتفاظها بشيء من خصائص المطلق، فهي على الرغم من صدورها داخل العالم عن الإنسان، تنبع من طبيعة ثابتة فيه تشبه الفطرة، وهي تنزع إلى الكمال. لذلك يلزم فهم نقد فيورباخ على أنه موجه إلى الدين التاريخي، أي الدين الطقوسي التشريعي، الذي تكون بفعل المؤسسة، من تراكمات اجتماعية زائدة عن القانون الأخلاقي. لقد نقل فيورباخ المبحث الديني الأخلاقي خطوة واسعة باتجاه الانثروبولوجيا والاجتماع التاريخي، ولكنه لم يقطع كليًا مع الميتافيزيقا.
على أن تقليص الدين إلى مجرد أخلاق كما فعل كانط، أو تصعيد الأخلاق إلى موقع الدين كما فعل فيورباخ، لم يكن كافيًا لإشباع التمرد العقلي الجامح للقرن التاسع عشر الأوربي، الذي كان يستهدف فكرة المطلق من جذورها.
عبر نيتشه عن هذا الجموح في حده الأقصى وهو يشن حملته الواسعة لا على الدين والأخلاق فحسب، بل أيضًا على الأيديولوجيا ومجمل الحداثة الأوربية التي لم تتخلص بعد من الحمولات المطلقة للقيم.
لم تعد المسألة هي ما إذا كان الدين أخلاقًا أو الأخلاق دينًا، فكلاهما ينتمي لوهم المطلق الموروث والمناقض ” لطبيعة الحياة”. تلك الطبيعة التي يلزم أن تكون هي ذاتها قانون ” الأخلاق” بديلًا عن قانون الخير والشر. حسب نيتشه يعمل الدين على تكريس أخلاق الجماهير الدارجة، وهي أخلاق القطيع التي تذل الجسد وتقهر الدوافع الحيوية وحرية العقل والإحساس بالجمال.
وقف نيتشه على الخصائص الأنطولوجية المشتركة بين الدين والمثالية اليونانية، وشن حملته على الدين عبر الهجوم على أخلاق أفلاطون. وبالنسبة له كان أفلاطون هو من أطلق ” الأضلولة الدوجمائية الأكثر خطرًا والأطول عمرًا في تاريخ الفكر، وهي اختراعه للروح المحض وفكرة الخير في ذاته”، وكانت المسيحية نوعًا من المثالية الدارجة أو ” الأفلاطونية المخصصة للشعب”  } ما وراء الخير والشر- تباشير فلسفة المستقبل{.
فكرة الروح المحض الأفلاطوني كفكرة المطلق المفارق الديني، تقابل ” منظورية” نيتشه التي تعني أن جميع القيم نسبية من حيث نشأتها وقابليتها التأويلية، فليس ثمة في الواقع شيء مطلق. لقد عبر الدين عن فكرة المطلق قبل الفلسفة اليونانية، وهي ظهرت في هذه الفلسفة قبل أفلاطون، لكنها في الواقع لم تحظ قبله بتأصيلها النظري الذي منحها هذه القدرة على البقاء في الفكر. الأهم- وهذا ما يرمي اليه نيتشه- أن الدين هو المسئول تاريخيًا عن تعميم وترسيخ وتوريث منظومة القيم السائدة. وهي قيم العبيد البليدة والخانعة التي تنبع أصولها من روح الضعف والضغينة لدى الكهان ( جنياجولوجيا الأخلاق – م ا ف 7).
نقد نيتشه الموجه إلى الأخلاق ينصب على نقطتين؛
الأولى: أنها، كالدين، مطلقة أي قبلية ونهائية.
الثانية: أنها بقيامها على فكرة الخير ضعيفة لا تعبر عن جوهر الطبيعة الحيوانية للإنسان وهو القوة.
لكن نقد الأخلاق يعني محاكمتها إلى فكرة ما، هي بالضرورة مرجعية قبلية ونهائية ذات طابعي قِيَمي، أي مطلقة. كما أن نيتشه يقطع في خصوص الطبيعة الحياوية للإنسان بجوهر أحادي واحد يربط فكرة القوة بالقسوة، وهو قطع ميتافيزيقي غير مبرهن، ينطوي على احتجاج بمحل النزاع.

مناقشات حول مستقبل التدين الإسلامي (1) – مدخل مقارن


ثمة أكثر من وجه لمقارنة اللحظة الإسلامية الراهنة في الشرق العربي بلحظة الانسداد المسيحي في القرن السادس عشر الأوروبي، حيث كانت تداعيات التطور الكلي (الاقتصادي/ العقلي/ السياسي) قد بدأت تكشف عن تناقضات صريحة بين “النظام الديني” المهيمن و”النظام الاجتماعي” الآخذ في التغير.

 قوة الضغط الناجمة عن التطور الاجتماعي فرضت على النظام الديني تراجعًا “نسبيًا” تمثل في استيعاب حركة الإصلاح البروتستانتي، لكن هذه القوة لم تكن كافية بعد لإجباره على تقديم تنازلات جوهرية واسعة ستفرضها لاحقًا ضغوط الحداثة المتفاقمة. (تاريخيًا، يتراجع النظام الديني كرد فعل لحركة التطور الاجتماعي ويتناسب معها طرديًا. وهي الصيغة الوحيدة الممكنة لتغير جذري في هذا النظام، الذي لا يقدم تنازلات طوعية على مستوى السلطة أو في منطوقه النظري بعد دخوله في مرحلة التجميد).

عند هذه اللحظة وبسبب مستوى الضغط، كان النظام المسيحي لا يزال قادرًا على التحاور مع قانون التغير، أي على تطوير نفسه داخليًا من خلال مادته اللاهوتية، وأدواته التأويلية، وجهازه المؤسسي الموروث، فالبروتستانتية في جوهرها، وعلى الرغم من طابعها التجديدي، كانت حركة دينية ذات دوافع وأهداف أصولية. ولذلك فهي تقرأ هنا كرد فعل داخلي (نوع من الاستجابة الجزئية) من قبل المسيحية لمثيرات التطور الاجتماعي، التي سيتصاعد إيقاعها لتسفر في القرن التاسع عشر عن انسحاب كلي للدين من المجال العام، وتقلص واضح لنفوذه التقليدي في المجال الخاص. (المساحة التي انسحب منها الدين في المجالين جرى اقتسامها بين الدولة و”المجتمع المدني” الذي كان يستعيد حضوره كـ”مقابل” طبيعي للدولة والدين معًا في ظل تصاعد الروح الفردي والإقرار بمشروعية التعدد).

يمثل القرن التاسع بالنسبة للغرب لحظة المد الأعلى للحداثة بالمعنى الأنواري، أي كمفهوم تغييري موجه بالأساس إلى النظام الديني. في هذا السياق كان السؤال عن مستقبل الدين يعني النقاش حول النبوءات التي أطلقها الفكر الوضعي، والتي تشير إلى مسار تراجعي متواصل للدين سينتهي حتمًا بزواله، توازيًا مع تطور العلم الذي يمثل آخر مراحل التطور البشري، والذي سيتمكن من معالجة الأسئلة الكبرى التي كان الدين يتولى الإجابة عنها، بما في ذلك سؤال الحياة والموت.

مع التطورات اللاحقة في القرن العشرين سيظهر مصطلح “ما بعد الحداثة” ليشير إلى موقف نقدي موسع من مجمل القيم الحداثية، التي لم تعد قادرة على استيعاب مشاكل الوعي المعاصر. تخلق الثقافة ما بعد الحداثية اشتباكاتها الجديدة الناجمة عن إفرازات الحداثة ذاتها، وخصوصًا التحولات الهيكلية التي جلبتها التكنولوجيا (من نوع ثورة الاتصالات والتطوير الجيني) بنتائجها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومردوداتها الفادحة على المستويين العقلي والروحي

فمع تصاعد حركة التطور بامتداد القرن سنستمع إلى نغمة أكثر تواضعًا حول القدرة المطلقة للعلم، الذي صار أكثر اعتدادًا بنفسه، وأقل اهتمامًا بفكرة المواجهة مع اللاهوت. واقعيًا، لم تعد المواجهة بين الطرفين تأخذ شكل المعركة، أو بعبارة أدق، لم يعد لهذه المواجهة توترها المبكر الذي ظل يلازمها وقت أن كان اللاهوت يخوضها من موقع السلطة.

لا يعني ذلك أن الثقافة المعاصرة تخلت عن التحفظات الأساسية للحداثة حيال الموقف الديني، بل يشير إلى تغير طريقة التعاطي مع الظاهرة الدينية، التي صارت تتخذ صيغًا إشكالية جديدة. لقد بدا الفكر الحداثي في سياقاته المسيحية وكأنه حسم النقاش حول علاقة الدين بالدولة والمجتمع، وذلك بالوصول إلى صيغة “العلمانية القانونية” التي تستبعد الدين من مجال الدولة، مع استيعاب حضوراته المتعددة (الفردية أساسًا) داخل المجتمع. لكن هذه الصيغة صارت تكشف عن أزمات جديدة، ولم تفلح في احتواء “المسألة الدينية” التي عاودت الظهور –خلافًا للنبوءات- بإيقاع أكثر توترًا.

خلافًا للنبوءات، لاحظ الفكر الغربي أن فكرة الدين لم تظل حاضرة فحسب، بل عادت إلى التعبير عن نفسها بشكل تصاعدي منذ منتصف القرن العشرين: كانت الكنيسة قد نجحت في الحفاظ على وجودها كمؤسسة رسمية بعد أن أبدت مرونة لافتة لإعادة التكيف مع التطورات الحداثية. (التخلي عن فكرة احتكار المعرفة لصالح العلوم/ الإقرار بالطبيعة المدنية الخالصة للدولة/ التراجع المتدرج عن فكرة الحق الحصري). وفيما تواصلت ثقافة التدين الشعبي الذي تحتضنه المؤسسة، ظهرت صور جديدة للتجمع الديني تعمل من خارج الإطار المؤسسي في شكل حركات ذات طابع سياسي أو مدني، وجرى رصد ظاهرة التدين الذاتي أو الاختياري كتجربة روحية خاصة وذات طابع انتقائي تصدر عن الحس الفردي.

تحدث هابرماس عن “ظهور عالمي جديد للدين” تبدو مؤشراته في تزايد النشاط التبشيري، والراديكالية الأصولية، والتوظيف السياسي للعنف الكامن في كثير من ديانات العالم”، ولاحظ أن فكرة المراهنة على اختفاء الدين بتواصل الحداثة بدأت تتآكل”. وبحسب بيتر بيرجر فإن بحث الإنسان عن الدلالات النهائية لم ينفد بعد من العالم، ولذلك تبدو الديانات التاريخية في مستوى القدرة على تحمل آثار الحداثة، سواء من خلال أشكالها التراثية القديمة، أو بإعادة تكييف هذه الأشكال مع الواقع الجديد.
شكل دراسات الواقع والتاريخ 

في هذا السياق صار السؤال عن مستقبل الدين يعني النقاش في كيفية التوفيق بين اللاهوت ومفردات الحداثة؛ مما شكل الاستجابة المتوقعة من قبل الدين لحركة التطور. ناقش هابرماس –مثلًا- بنوع من التفاؤل إمكانية الوصول في المدى المنظور لأرضية مشتركة بين الدين والعلمانية (نظرية الفعل التواصلي). وناقش بيرجر مصير الدين أو ردود أفعاله المحتملة حيال واحدة من أهم ظواهر الحداثة وهي “التعددية” الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تترسخ بقوة في المجتمعات المعاصرة.

في ظل التعددية صار الفرد يسعى إلى تشكيل دينه الخاص. مناخ التنافس العام الذي تسانده سياقات العولمة يساعد على “العبور الطليق” إلى الرموز الوافدة من مختلف المشارب الثقافية والدينية، ويحدث امتلاك حر لهذه الرموز من جانب الأفراد. والحال كذلك يمكن توقع الانتقال من “دين مرئي” محدد إلى “دين غير مرئي”، أو من واحدية في نظام الاعتقاد إلى تعددية في العوالم الرمزية تفهم كوضعية تدين مقبولة اجتماعيًا، وتوقع نوع جديد من التدين “عابر الحدود” يتجاوز فيه الفرد حدود دينه الأصلي.

مراهنة هابرماس على إمكانية المصالحة بين الدين والعلمانية تستبطن بالطبع، ثقافة التجربة المسيحية في الغرب، التي عاينت بالفعل تراجع نفوذ الكنيسة أمام الدولة المدنية، وهو تراجع لا يتعارض مع الأصول النظرية للاهوت المسيحي الذي يقر بشرعية طبيعية لسلطة الدولة على المجال العام. لذلك نفهم أن أطروحة هابرماس تناقش المسألة الدينية في إطارها العام، الذي يعبر عن نفسه بشكل صاخب في المحيط الإسلامي خصوصًا. (يسهل ملاحظة الإيقاع الهادئ لعودة الدين في الغرب قياسًا إلى مثيله الزاعق في الشرق الإسلامي) 

حيث لا يزال الدين يهيمن عمليًا على مجمل الثقافة، وحيث يصعب تقديم تأصيل لاهوتي لفكرة استبعاد الشريعة بوصفها شقًا من بنية الديانة، ومن ثم فكرة التخلي عن المجال العام لصالح دولة مدنية. (وهو المشكل الذي يزداد تعقيدًا في ظل الحضور الفعلي للدولة الوطنية).

وفي توقعات بيرجر تظهر ملامح واضحة لوعي غربي ما بعد حداثي، بعيدة تمامًا عن مشاغل وهموم الواقع الإسلامي الراهن، التي تحركها بالكاد مثيرات الحداثة التقليدية. فهذا الواقع لا يزال غارقًا في إفرازات المشكل في نسخته الأصلية (الثيوقراطية الأوتوقراطية) كما كان يناقشها إسبينوزا وهوبز ولوك ورسو، وذلك بحكم طبيعة الحاضر الموروث في جملته من الماضي قبل الحداثي. (وهو المشكل الذي يزداد تعقيدا بفعل الاحتكاك الضروري بالثقافة ما بعد الحداثة). 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق