الجمعة، 3 ديسمبر 2021

علم الكلام الجديد"... إصلاح الدين يتطلّب تغيير صورة الله كسيّد مخيف متمرّس في التعذيب

Jun 7, 2020

 رؤية شاملة للإصلاح، لا تبدأ من الشريعة بما هي قوانين ومعاملات، بل تبدأ من الأصل الإسلامي الأول، وهو الاعتقاد أو الإلهيات، أي من موضوع علم الكلام، أو علم أصول الدين.

أصول الدين هي الإطار العام الذي خرجت من تحت عباءته العلوم الدينية، والتدين الإسلامي الرسمي والشعبي، وأنه إذا أردنا إصلاحاً فلن يتحقق إلا بإصلاح الأصول.

علم يتضمن الحجاج على العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية"، وأول هذه العقائد مسألة التوحيد، وما يتعلق بأسماء الله وصفاته، والوحي، والنبوة، والإيمان، وغيرها من المسائل التي تتعلق بالعقائد الإسلامية.

لتحديث التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ بعلم الكلام ومسلماته المعرفية ومقدماته المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدّمات

 تجديد الفقه يبتني على تجديد علم أصول الفقه، وتجديد الأخير يبتني على تجديد علم الكلام، ذلك أن الأسس التي يقوم عليها علم الأصول ليست سوى مسلمات ومقولات لاهوتية، حقلها هو علم الكلام الذي يستند إلى مسلّمات معرفية ومقدّمات من المنطق الأرسطي.

لا يمكن تخطي القراءة السلفية الحرفية المغلقة للنصوص، وإنتاج قراءة تواكب العصر، ما لم نُعِد النظر بالبنية التحتية العميقة لإنتاج تفسير النصوص، ونتخطَّ آليات النظر والفهم المتوارثة.

يقول الرفاعي "إن علم الكلام يعبّر عن فهم المتكلمين للعقيدة، وفهمهم، كأية معرفة بشرية، يصطبغ بطبيعة الزمان والمكان، والنمط الحضاري للحياة، ومستوى تطور العلوم والمعارف الأخرى. وحتى تلك الحرية النسبية التي حظي بها المتكلمون الأوائل لم تعد موجودة منذ القرن الخامس الهجري، بسبب حظر السلطة العباسية للتفكير الكلامي، وفرض الاعتقادات السلفية".

حظر التفكير الكلامي، والاقتصار على ظاهر النصوص، ومنع أية محاولة لعقلنة الفهم العقيدي يفضي إلى تعطيل العقل، وشيوع نزعة نصوصية إخبارية تبناها المحدثون

هذا الحظر أدى إلى تعطيل التفكير الديني، وسيادة نسخة منغلقة عن الإسلام، وانتشار التطرف الديني ضد المخالفين، وانتشار الجمود والتقليد، حتى كانت صدمة اللقاء بالآخر الأوروبي مع الاحتلال البريطاني للهند

 قطيعة مع معظم كلاسيكيات علم الكلام القديم، ودعوة لإعادة بناء شاملة لعلم الكلام، تتخطى المنطق الأرسطي لتنتقل إلى المنطق والفلسفة الحديثين،

التحرر من سطوة الطبيعيات والرؤية القديمة للعالم، بتوظيف مكاسب العلوم والدراسات الإنسانية والرؤية الجديدة للعالم، وتبعاً لذلك يتحوّل منهج علم الكلام وبنيته، وتتبدّل كثيرٌ من مسائله، بل يحدث تحوّل في طبيعة وظيفته، فبدلاً من انشغاله في الدفاع عن العقائد، تصبح وظيفته الجديدة شرح وبيان وتحليل المعتقدات، والكشف عن بواعث الحاجة للدين، ومختلف الآثار العملية لتمثلاته وتحولاته في حياة الفرد والجماعة، تبعاً لأنماط الثقافة وطبيعة العمران والاجتماع البشري".

مصطلح "الإلهيات".

كون الإلهيات تدخل في باب الميتافيزيقيا التي تتجاوز الطبيعيات، ومن أنها قضايا لا منهج واحداً لحسمها، بل تظل في باب الاعتقادات، لا المعرفة الواضحة، يتحتم تغيير المناهج والرؤى التي تتناول هذه القضايا، بما يترتب عليها من شيوع التسامح في الاعتقاد، بدلاً من التعصب.

لا جوابَ أبدياً للأسئلة الميتافيزيقة الكبرى"، تلك هي المسلمة التي ينطلق منها الرفاعي في تأكيده على ضرورة بناء علم الكلام الجديد.

إن الإنسان لا يمكن أن يتصل بالله إلا من خلال الصورة التي يراها لله. وصور الله تتعدد بتعدد ما أنتجه لاهوت الأديان وعرفانها، بل ذهب محيي الدين بن عربي وبعض العرفاء إلى أن صور الله تتعدد بتعدد طرق البشر إليه. ولا يصل البحث في الميتافيزيقا إلى نتائج أخيرة، لذلك تظل الأسئلة العميقة فيها تتوالد باستمرار، بالتزامن مع تطوّر وعي الإنسان وتراكم معارفه وخبراته المتنوعة، وتنامي اكتشافاته لقوانين الطبيعة والتوغل في آفاق الكون والكشف عن أسراره".
ولسه قاريء لاهوت الاستبداد لعلي مبروك 

لما كان الوحي هو الأمر الجوهري في النبوة، فإن بناء مفهوم جديد للوحي، يُعتبر العلامة الفارقة للتمييز بين المتكلم القديم، والمتكلم الجديد، وهو المعيار الذي ينفرد به الرفاعي، ويوضح ذلك بقوله: "يبتني هذا المعيار على اجتهاد جديد يقدمه المتكلم لبناء مفهوم للوحي، لا يكرر مفهومَه في الكلام التقليدي، وتفسير للنبوة بوصفها ظاهرة ميتافيزيقية، وتحليل لنوع الصلة الوجودية التي يعيشها النبي مع الله. أما طبيعة الكلام الإلهي، وكيفية تشكل النص القرآني، وتاريخ تدوين الآيات، وجمع المصحف، فكلّ ذلك وغيره من مباحث تتفرّع عن الكيفية التي يفهم فيها المتكلم حقيقة الوحي وكيفية تلقي النبي له. وعلى هذا نرى أن كلَّ قول جديد في علم الكلام ينبغي أن يتأسس على بناء مفهوم للوحي في آفاق العقلانية الحديثة".

يصبح كل متكلم يفكر في آفاق العقل الحديث، ويفهم الوحي فهماً ديناميكياً، هو متكلم جديد. وكل متكلم يفكر في آفاق العقل القديم، ويفهم الوحي فهماً ميكانيكياً، هو متكلم قديم"، يقول الرفاعي

بحث علمي في الكلام الإلهي، لأن موضوعه الوحي الذي هو الموضوع المحوري في علم الكلام الجديد، والكلام الإلهي مبحث أساسي في بيان حقيقة الوحي، وإمكانية تواصل الله مع الإنسان بلغة بشرية، وهو علم ‘جديد’ بوصفه لا يستنسخ مناهج الكلام القديم، ويتحرر من كثير من مسائله وجدالاته المكررة، ويتسع لمسائل جديدة تتصل بأسئلة ميتافيزيقية توالدت في ذهن إنسان اليوم ولم يعرفها إنسان الأمس، خاصة الأسئلة المتصلة بمعنى وجود الإنسان وحياته ومصيره".

الكلام القديم اعتمد على الطبيعيات الكلاسيكية في تكوين رؤية للكون، أي طبيعيات اليونان التي أثبتت الفيزياء الحديثة زيفها. مقابل ذلك يتبني المتكلم الجديد العلوم الحديثة، ويعمل على صياغة الرؤية الدينية وفقها، وهو ما يؤدي إلى انفتاح الإنسان المسلم على العلوم. وفي علم الكلام القديم تتسيد النزعة التجريدية أو الفصام بين النظر والعمل، ونسيان الإنسان، والتعاطي معه ككائن ميكانيكي، وتجاهل روحه وقلبه وعاطفته، وتفريغ علم الكلام من مضمونه الاجتماعي، والتربية على الخوف وترسيخ نفسية العبيد وتراجع دور العقل وشيوع التقليد، وترسيخ اللاهوت الصراطي".

يفتقر علم الكلام القديم للمضمون الأخلاقي، فلا نرى فيه أثراً لمباحث تعالج ماهية القيم الأخلاقية، وطبيعة العلاقة بين الوحي والأخلاق، ولم يدرس الفضيلة أو السعادة، وكيفية تحقيقها. وتسببت الرؤية الأشعرية السائدة في عدم القبول بالتحسين والتقبيح العقليين، وربط الحسن والقبيح بما يقرره الشرع في تفريغ الأخلاق من مضمونها، ونفي الأخلاقية عن كل المجتمعات غير المسلمة، وترتب على ذلك فقر أخلاقي في حياة المسلم، ورؤية تحقيرية تجاه الآخر"، حسب تعبير الرفاعي.

محورية الله أم الإنسان


ليس المقصود بالمحورية أحكام قيمية تتعلق بالأفضلية، بل بالأولوية في البحث، وبالهدف من الدين، وهناك رؤيتان رئيسيتان حول الوجود الإنساني في الإسلام.

ترى الرؤية الأولى أن الإنسان عبد لله، لا إرادة له، وأن الإسلام عبارة عن شريعة تقدّم قوانين وقيوداً يسير عليها الإنسان العبد في حياته، حتى يدخل الجنة في الحياة الآخرة، وتقوم هذه الرؤية على أن الإسلام وحده، بل مذهب بعينه هو الحق، وتُقصي المخالف في المذهب وليس فقط المخالف في الدين، ولا تهتم بماهية الإنسان، وكيف يعيش حياته. ونجد ترجمة لهذه الرؤية في التدين الشكلي الذي لا يعرف الإنسان فيه لذة الإيمان، ولا يقين له بالله، بل يردد مجرد شعارات جوفاء، ويمعن في تعذيب نفسه، وكراهية الآخر. ومن هذه الرؤية يخرج التطرف والإرهاب، ومعاداة الحريات، وسيادة روح الخضوع للاستبداد، تلك التي لم يعرف الإنسان سواها.

مقابل ذلك، هناك رؤية ثانية ترى أن للدين مكانة في الحياة، وله دور في حياة الإنسان، لكن ذلك لا يعني العبودية بالمعنى المبتذل أو بمعنى الخضوع للاستبداد، بل التجربة الإيمانية الحرة، والعلاقة الحرة بين الله والإنسان، وهذه الرؤية تحترم حق الإنسان في الحرية، والاعتقاد، وتعمل على تحويل الدين من مجرد طقوس إلى تجربة إيمانية وجدانية، وتحويل الشريعة من مجموعة قيود إلى مبادئ عامة تدعم القيم الإنسانية النبيلة.

تُترجم هاتان الرؤيتان في علم الكلام، فنجد في القديم محورية مسائل الله بدون ذكر كافٍ للإنسان. ويقول عبد الجبار الرفاعي لرصيف22: "لم يُدرج المتكلمون في مؤلفاتهم مبحثاً خاصاً بالإنسان، يتناول تأصيل موقف نظري يحدّد موقع الإنسان في سلم المخلوقات، أي منزلة الإنسان وقيمته بالنسبة إلى غيره، والهدف من وجوده، وحقوقه وحرياته، وطبيعة وظيفته، وأنماط حياته وثقافته، وعلاقتها بما يتشكل لديه من رؤية للعالم".

أننا "في حاجة إلى صياغة رؤية جديدة للعالم، وإبراز موقع الإنسان فيها، وتحديد علاقته بالدين، مع التأكيد على أن الدين جاء لهداية الإنسان وتكريمه وخدمته. وتتجلى أهمية هذه الصياغة في واقع يتنامى فيه تطوّر الحياة الاجتماعية، وشيوع ألوان القهر والاستبداد، وامتهان الإنسان، وإهدار كرامته، وتدجينه على المفاهيم والقيم الرديئة".

يتصل بقضايا الإنسان موضوع صورة الله في الكلام القديم، فعندما ينشأ المسلم على صورة الإله الجبار، المرعب الذي يتلمس الهفوات لإلقاء الإنسان في الجحيم، سيتأثر نفسياً بهذه الصورة، وربما تصبغ معاملاته بالآخرين، ويقع بسببها في أسر الطقوس، والتطرف، والطاعة العمياء لرجال الدين، وسيلغي عقله، ولن يعرف قيمة الحرية. مقابل تلك الصورة هناك الصورة الرحمانية لله التي تركز على قيم الرحمة والحرية الإنسانية، وتسمح بحياة إيمانية تملؤها المحبة، والتسامح.

يفسر عبد الجبار الرفاعي ذلك بقوله: "صورة الله في علم الكلام القديم ‘الأشعري’ هي نموذج. هي صورة السيد المخيف المرعب، المتمرّس في البطش والتعذيب. وصورة الإنسان هي عبد مسترق خانع ذليل، لله أن يفعل به ما يشاء، يعذبه وإنْ كان طائعاً، ويثيبه ولو كان عاصياً، أي لا منطق للإيمان إطلاقاً، بل إله جبار يفعل ما يريد فقط، وما على الإنسان إلا التسليم، والخوف".

ترتب هذه النظرة "لاهوت الاسترقاق"، وهو بطبيعته "ينسج شباكاً معقدة لمختلف أنماط العبوديات التي تكبل حياة الشخص البشري، عبر إنتاج الاستبداد والنظام الأبوي في مختلف مستويات الاجتماع البشري، ويصادر حريات وحقوق الإنسان، ويجعله عبداً ذليلاً خانعاً، ويُفضي ذلك إلى إلحاد مختبئ، وإنْ كان يبدو مُقنّعاً بتدين زائف، ذلك أن الإنسان بطبيعته ينفر ممَّن يستعبده، ويكره مَن يمتهنه"، يُكمل الرفاعي.

يؤثر ذلك على تحقيق غاية الدين في الحياة، وهو ما يشرحه الرفاعي بقوله: "نمط الاسترقاق يُنتج علاقة مسكونة بالخوف والرعب والقلق بين الإنسان وربه، وهي علاقة لا تُسهم في تشييد حياة روحية أخلاقية أصيلة. ولعلاج ذلك يجب التحول إلى نمط علاقة تنبض بالتراحم والمحبة والوصال، وتقوم على الحرية والاختيار، دون إكراه أو امتهان. نمط الاسترقاق يرسخ للاستبداد، والخوف من الحرية، والفردية، والتفكير النقدي والعقلاني، والحداثة، ذلك أن الاستبداد يبحث دائماً عن الإجماع الشعبي، ويخشى التمايزات والمغايرة".

 رؤية الإنسان للعالم، والآخر، وحياته، وسيؤدي إلى تجديد حقيقي في أصول الفقه وفي الفقه، بما يجعل حقوق الإنسان محوراً هاماً في العلوم الإسلامية.
في كتابه "الدين والنزعة الإنسانية"، يقول عبد الجبار الرفاعي: "بناء إلهيات عقلية مستنيرة تحررنا من التفسيرات التعسفية القمعية للنصوص. وتحديث الإلهيات يتطلب الخروج من السياقات الكلاسيكية للتفكير الديني، وعدم التوقف عن طرح تساؤلات بديلة، والتوكؤ على منهجيات ومفاهيم مستوحاة من المكاسب الجديدة لفلسفة الدين، وعلوم التأويل وفتوحات المعارف البشرية، ما يفضي إلى التحرر من الصورة النمطية للإله التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي إلى ترسيخ صورة رحمانية للإله تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية، وأسمائه الحسنى، ورحمته التي وسعت كل شيء".

والتحرر من التحيزات الطائفية والقبليات المذهبية في البحث. و"تتجلى قيمة الاجتهاد الكلامي في الإصرار على التمييز بين الإلهي والبشري، بين المقدس وغير المقدس، بين الدين ومعرفة البشر للدين، بين العقيدة وإدراك الإنسان لها، بين الوحي الإلهي والعقل الإنساني، بين القرآن وتفسيره، بين الفقه وفتاوى الفقهاء والشريعة"، يقول الرفاعي لرصيف22.

لا يمكن للمعنى الديني الذي ينتجه علم الكلام القديم إرساء أسس للعيش المشترَك بين مختلف الأديان والثقافات، وبناء علاقات دولية سلمية تحقّق المصالح المشتركة بين الشعوب، إذ لا تصلح المقولات الكلامية الموروثة منطلقاً للحوار الصادق المنتج بين الأديان، أو الفرق الكلامية في الإسلام، والذي لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا بالإيمان بالحق في الاختلاف، وتبنّيه أصلاً في أي حوار وتفاهم ونقاش مع المختلف في الدين، والعمل على اكتشاف ما هو جوهري في كل دين".

أما عن التدين الشعبي، "فمن صورة الله التي يرسمها المتكلم، وّيروجها أتباع الفرق والمذاهب يُشتقّ نمط التديّن، فإنْ تشكلت شديدة صارمة مستبدة يتشكّل تبعاً لها تديّنٌ متشدّد صارم مستبد، وإنْ تشكّلت رحيمة محبوبة جميلة يتشكّل تبعاً لها تديّن رحيم مولع بالحب والجمال".
Nov 29, 2021*
صحيح أن اللغة الكلامية العتيقة لم تعد ملائمة ولا مقبولة للذوق الإسلامي الحالي، كما أن محاولات بناء علم كلام جديد من الإمام محمد عبده إلى حسن حنفي لم تفض إلى نتائج مشجعة.
تتفق النزعات السلفية وأيديولوجيات الإسلام السياسي على العداء لعلم الكلام الإسلامي واعتباره لغواً من القول لا حاجة إليه ولا فائدة منه، بيد أن الحاجة إلى منظومة تأويلية جديدة للدين تبدو في الآن نفسه قوية ومتزايدة. ولا شك في أن وضع هذه المنظومة يقتضي الرجوع لعلم الكلام من حيث هو تقليد ثري ما يزال قادراً على مدّنا بمادة عميقة للتأمل والتدبر والتفكير.
مقال السيد ولد باه وتكلم رضوان السيد 
 أستاذي الألماني جوزف فان أس
 ظواهر الأسى واليأس العربي لا تبدو في مقالات الصحف اليومية وحسب، بل وفي الروايات والشعر وعروض الأكاديميين في الاقتصاد والعلوم الاجتماعية والسياسية. فهل هي أزماتٌ يشهد العالم كله مثائل لها، أم أنها بالفعل «حقبة» انقضت بمعالمها الإيجابية والسلبية أو أنه بالأحرى عصرٌ ضاع فيه ملايين البشر ومظاهر الحضارة - أو التمدن - التي بنوها وعمّروها؟!
 كنتُ أميل - وليس على سبيل التفاؤل فقط - إلى أنها أزمات سياسية كبرى وهائلة في البلدان المعنية ولا علاقة لها بالوضع الحضاري العربي، بدليل حضور نهضات مشهودة في مواطن عربية بارزة مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر والمغرب. وبدليل أنه حتى في حالات اللاجئين والمهاجرين البؤساء وقد صاروا بالملايين، سرعان ما ينتظم هؤلاء في مجتمعاتهم الجديدة، بل ويزدهرون فيها دونما ظهور أمائر على الافتقار للحسّ المدني أو الحضاري.
لماذا ظهرت تلك التأزمات الكبرى - التي يبدو أنه لا نهاية لها - في بلدان الاضطراب المعنية؟ هل لأن العسكريين حكموها فكسّروا المؤسسات، وخلخلوا التماسك الاجتماعي المديني؟ لكنّ مصر حكمها العسكريون وما حدث اختلال، كما أنّ لبنان لم يسيطر فيه العسكريون والأمنيون.
ظاهري بس في مصر يا رضوان 
الأستاذ نزيه الأيوبي قد أصدر عام 1994 كتاباً رجعتُ إليه مراراً عنوانه: تضخيم الدولة العربية، درس فيه الانسدادات في الأنظمة السياسية العربية، وتوقّع تغييراً أو تفجرات. وما حدث التغيير السلمي المنشود من خلال حركات التغيير البادئة عام 2011،
 العلّة بالفعل في الطبقة السياسية السائدة، التي لا تستطيع الاستمرار في الغلبة والسواد إلا بالتدخل الخارجي،
والمافيا هم السياسيون ورجال الأعمال، أما الميليشيا فتتمثل في الحزب المسلح من إيران، الذي يتبادل المصالح مع الطبقة الثنائية المتضامنة والمتكافلة من سياسيين ورجال أعمال.
يحتاج الأمر إلى تغيير وإصلاحٍ كبيرين. وهو الذي يحدث في المملكة ومصر والإمارات. فهناك حكمة في الإدارة. وهناك سيرٌ حثيثٌ باتجاه التنمية المستدامة. أما بلدان الاضطراب فإنّ المسيطرين يأبون التغيير لصالح الإنسان ويستعينون على الخلود في مواقعهم بالتدخل العسكري الخارجي.

فالأزمة أزمة حكمٍ وإدارة وتدخلات أجنبية وليست أزمة حضارية.
 حوالي المائة مليون عربي مأزوم لا يستطيعون الهجرة جميعاً بالطبع، وسيظلون يحاولون التغيير بالسلم، بدلاً من السلاح الذي استقوى به خصومهم وحكامهم دائماً عليهم: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق