لكن العلاقات التي تنشأ بين الناس تطغى عليها العاطفة التي تجبرنا على اختلاق ما يبعث على البهجة أو يخفف من الألم لدى الآخرين.
إن حاجة الإنسان للشعور باللذة في لحظات الألم أوجدت للكذب مبرراً أخلاقياً، فرحنا نرسم لوحة سعيدة لأشد الصور حزناً في حياتنا.
لكن كيف ستبدو الحياة لو كنا لا نعرف سوى أن نكون صادقين؟ كيف ستصمد علاقاتنا لو أننا لا نتقن الكذب؟
وكيف سيكون العالم أجمل لو أنها جربت الكذب!
فهو يجد نفسه يخبر والدته المريضة بأنها ستموت قريباً وتفنى للعدم، فليس هناك وجود لحياة أخرى حيث لا يؤمن أحد بهذا المجتمع بحياة أخرى للروح، ولا جنة يرتاح فيها الناس. فحقيقة الموت مؤلمة ومخيفة حيث لا وجود لفكرة تخفف من ألمها.
لا خجل
وبعد عدة مشاهد تصف الحياة في هذا العالم المثالي الصادق، حيث ينعدم فيه وجود أي فكرة للشر، فتخلو المدينة من وجود اللصوص وينتشر الأمن بين الجميع فالشعور بالأمن نابع من وجود الثقة السائدة بين الناس. فحتى أن المصارف تثق بالناس ثقة عمياء، مطبقة حرفياً مبدأ العملاء دوماً على حق. ويتضح هذا المشهد حين دخل البطل إلى المصرف وطلب أن يسحب رصيده البنكي، لكن النظام كان معطلاً، إلا أن الموظفة طلبت منه بعد أن اعتذار: أن يقول لها المبلغ الذي يريده كي تقوم بسحبه من رصيده الذي تجهله ! هكذا ببساطة ودون أن يكون عليها التأكد من صحة كلامه، فالأصل أن الناس في هذا العالم لا يكذبون أبداً. وحين أراد أن يقول لها المبلغ اكتشف في هذه اللحظة ” مقدرته على الكذب” حين نطق برقم يفوق ما هو موجود بالحساب. فأدرك عندها البطل أنه قادر على ” مخالفة ما يمليه عليه عقله” . إلا أنه رغم ذلك ما زال يجهل ما أصابه، ولا يعرف كيف يشعر بعد خروجه من البنك، فلم يكن يعرف كيف يصف الحالة التي انتابته وأن يعثر على الكلمة المناسبة لها، مما دفعه إلى الذهاب إلى مجموعة من أصدقائه ويحاول جاهداً أن يصف لهم الموقف، لكنه يعجز عن شرح ذلك، فيلجأ بطريقة كوميدية بالكذب عليهم ويكرر ذلك باختلاق قصص قائمة على الكذب لينتهي به الأمر بعد كل قصة لأن يعجز عن إيصال ما يريده فلا أحد فهم ما يقول، حيث كانوا في كل مره يصدقون ما يقوله، حتى لو كان خارجاً عن المألوف، وغير متصور حدوثه أو استيعابه كأن يقول البطل” بأنه شخص زنجي “ رغم بياض بشرته، فالجميع ظن بأنه يعني أن أصله زنجي!
رغم أن فلم “اختراع الكذب” يعد فلم كوميدي، مليء بالمشاهد المضحكة الساخرة، إلا أنه يطرح فكرة فلسفية عميقة تحرك بداخلنا أسئلة عديدة تجعلنا نعيد النظر مرة أخرى لمحاولة فهم مواقف كثيرة في حياتنا، نجد فيها صعوبة كبيرة في استعادة الثقة بالشخص الذي يكذب بغض النظر عن الأسباب، لأننا نفقد القدرة على تصديقه مره أخرى. ولطالما احترنا أمام موقف لم نجد له المسوغات أو المبررات التي تبيح ممارسة الكذب الذي نٌجمع كلنا على الانكار عليه.
إن مشاهدة “اختراع الكذب” يصور لنا كم ستبدو الحياة قاسية لو لم نخترع الكذب، وأن العيش مع هذه المعضلة الأخلاقية سهل، شرط أن لا نسيء استخدام الكذب لمصلحة قد تلحق الضرر بالآخر، بدل أن ندخل البهجة والسرور في قلبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق