الخميس، 19 نوفمبر 2020

المقاطعة الاقتصادية هل هي سلاح فعال حقا؟

  قرَّرت الإمبريالية الغربية توسيع رقعة السوق لا بالغزو العسكري والتوسع الأفقي الذي يتطلب القوة العسكرية، وإنما عن طريق الانتشار الرأسي داخل النفس البشرية، إذن أصبح النظام العالمي حسب المسيري نظاما لعولمة هذه الإمبريالية النفسية عن طريق الاستهلاك لتحويل الإنسان الحديث إلى "إنسان ذي بُعد واحد لا يكترث بالوطن أو بالكرامة، ولا يهمه سوى البيع والشراء والمنفعة واللذة"، فيرى المسيري أن المجتمعات الاستهلاكية لا يهمها المعنى ولا تبحث عنه، إنما تبحث عن السلعة الأفضل والمتعة الأطول وقتا، فتتحوَّل العقلانية والترشيد إلى قفص حديدي من الإنتاج والاستهلاك مثلما قال ماكس فيبر، ويصبح الإنسان محتجزا داخل هذا القفص لا يملك أي خيار سوى مزيد من الاستهلاك.

غير أن ما قاله المسيري يختلف عما حدث بعد أن وجَّه ماركوزه انتقاداته لنظام السيطرة الاجتماعية في أميركا عبر البروباغندا والإعلانات، فقد نشبت في الولايات المتحدة عدة احتجاجات طلابية بنهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، قاد هذه الاحتجاجات طلاب وشباب يساريون قالوا إن نظام السيطرة الاجتماعية خلق ضابط شرطة داخل عقولهم أرغمهم على الانغماس في الاستهلاك بدلا من التعبير عن تضامنهم مع المظلومين والفقراء، والتعبير عن آرائهم وإرادتهم تجاه قرارات الحكومة، خاصة بعد تورُّط الجيش الأميركي في حرب فيتنام.

مهاجمة محلات الأغنياء، مع دعواتهم لمقاطعة الشركات الكبرى التي تقود حملات الدعاية والإعلانات التجارية لزيادة أرباحها، والدعوة إلى إسقاط النظام الذي يقوم على الأنانية والجشع ومراكمة الأموال عبر إغراق الشعوب في الاستهلاك والمتع المؤقتة والمزيفة، إلا أن الحكومة الأميركية لم تقف مكتوفة الأيدي، فقد اشتبكت الشرطة الأميركية مع المتظاهرين وقاموا بقمع التظاهرات بمنتهى العنف والقسوة، إذ أظهرت الحكومة الأميركية قوة قمعية لم يتخيلها هؤلاء الطلبة، مما أنهى موجة المقاومة وأحدث تغييرات كبيرة في نظام البروباغندا، ودخل علم النفس الأميركي في مرحلة جديدة من محاولة إدماج هؤلاء الشباب الغاضبين بالنظام الرأسمالي والمجتمع الاستهلاكي عبر الانتقال من أطروحات فرويد وابن أخته غدوارد برنايز إلى ابنته آنا فرويد ثم أطروحة ماسلو (4)، وبدا أن القفص الحديدي للاستهلاك لا فرار منه.

لا ينظر لنا الغرب باعتبارنا كيانا مستقلا لنا طموحاتنا المشروعة وأهدافنا المختلفة، وإنما على أننا مادة استعمالية لا بد من تنميطها حتى ندخل القفص الحديدي، قفص الإنتاج والاستهلاك، دون هدف أو غاية سوى المنفعة واللذة. فإن طرحنا أهدافا أخرى مثل التمسك بالأرض والدفاع عن العزة والكرامة ورفض التنافس بوصفها نقطة مرجعية، فإنه يخفق في تصنيفنا وينظر لنا باعتبارنا مخلوقات متعصبة لا عقلانية".

(عبد الوهاب المسيري، الهوية والحركية الإسلامية)

في عام 2005، نشرت جريدة دنماركية صغيرة تسمى "يلاندس-بوستن" صورة مسيئة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، خرجت بعدها دعوات لمقاطعة المنتجات والبضائع الدنماركية تحوَّلت سريعا إلى حملة شعبية في كثير من البلاد الإسلامية،


فإذا كان القفص الحديدي للنظام الرأسمالي ودوامة الاستهلاك لا فرار منها، حيث يُعيد النظام الاستهلاكي احتواء الغاضبين عليه مثل طلاب الولايات الأميركية، ثم يُعيد تشكيل وصياغة الروابط الاجتماعية والإنسانية في المجتمعات التي يغزوها، فهناك سبيل آخر اكتشفته الشعوب لمقاومة هذا النظام منذ عصر التحرر من الاحتلال الغربي وحتى حملة مقاطعة المنتجات الأميركية والإسرائيلية احتجاجا على احتلال فلسطين وغزو العراق وأفغانستان.

لمستهلك يسهل إمتاعه، ويمل بسرعة، والتزاماته الجوهرية قليلة، ويُثمِّن عاليا الخيار الفردي فوق أي شيء آخر، فهو بلغة المواطنة تُوجِّهه الجماليات بدلا من الأخلاقيات


سقوط المواطنة وصعود الاستهلاك وغياب التضامن في المجال العام، مع ظهور المجال العام الافتراضي على وسائل التواصل الاجتماعي،

 الليبرالية الجديدة وآليات السوق الحر،

 تعلق قرارات الاستهلاك لدى الناس العاديين بتصورات ثقافية ولغوية وهوياتية لا مجرد المتعة الفورية المؤقتة كما يقول زيجمونت باومان (6)، فالاستهلاك الذي أغرق الشعوب منذ منتصف القرن الماضي تحوَّل الآن إلى نوع من التعبير عن الذات لدى الشعوب المهمشة. ممثل في الكرورة واسماء الفننين واخبار الموت بمصر مثال 


تأتي المقاطعة بوصفها فاعلية شديدة التأثير والجدوى داخل حقل الاستهلاك الذي أصبح حقلا أساسيا في عصرنا، حيث لا تؤثر المقاطعة فقط على مبيعات الشركات وصادراتها وأرباحها وسمعة منتجاتها في العالم، بل هي تصنع سحابة ممطرة من التضامن الأخلاقي بين شعوب وجماعات يضعها النظام الرأسمالي في خانة الهامش أو المستهلكين غير المؤثرين سياسيا واقتصاديا، إذ لا تُطيق الأسواق الحديثة "اقتصادا لا يقوم على السوق الحرة"، لا تُطيق تلك الحياة التي تُعيد إنتاج نفسها بنفسها من دون تبادل للنقود وزيارة المتاجر بشكل دائم، تلك الحياة لا قيمة لها وفق مُنظِّري اقتصاد السوق، بل إنها عدوان وتَحدٍّ وفق ممارسي اقتصاد السوق، "إنها فضاء لم يتحقق غزوه إلى الآن، ودعوة قائمة للإغارة والغزو".


كذلك لا تُطيق الأسواقُ الحديثة القائمة على آليات السوق الحرة وجودَ أي مبدأ أخلاقي داخل عمليات البيع والشراء غير المنفعة والربح والخسارة، لأن تلك المبادئ الأخلاقية تُعطِّل عمليات التجارة وتُقلِّل الأرباح، مبادئ مثل الاشتراك الأسري في البضائع والخدمات، وتقديم العون للجيران والأصدقاء، ومقاطعة المنتجات التي تُحرِّمها الأديان، ما يسميه السياسي النيوزلاندي ألبرت هنري هالزي بـ "الاقتصاد الأخلاقي" الذي يسعى اقتصاد السوق لتدميره وتفكيك أي جماعات تراحمية إنسانية تقف خلفه.


فالكائن الوحيد الذي يعتبره المُنظِّرون جديرا بالاهتمام هو الكائن الذي له الفضل في "استمرار دوران عجلة الاقتصاد" وتشحيم عجلات النمو الاقتصادي، الذي يسميه باومان "الإنسان الاقتصادي"، أي الفاعل الاقتصادي المنعزل المتمركز حول نفسه ومصالحه من أجل تحقيق أفضل الصفقات، مهتديا "بالاختيار العقلاني" وحذرا من السقوط فريسة لأية عواطف يستعصي تحويلها إلى مكاسب نقدية.


كائن يجد في سِرْب الزبائن المتسوقين في المحال التجارية الجماعة الوحيدة التي يعرفها ويحتاج إليها، فهو إنسان "بلا صفات" أنضجته الحداثة فأصبح إنسانا "بلا روابط"، وهذا النوع من الرجال والنساء هم السكان المثاليون لاقتصاد السوق والأنماط التي تبث السعادة في نفوس مراقبي الناتج القومي الإجمالي. أما هؤلاء الذين لديهم مبادئ أخلاقية ويُشكِّلون شبكات من التضامن فهم العقبة الأكبر في وجه النظام الرأسمالي.


 القرن الماضي عبَّر سيد قطب وعلي شريعتي عن نفورهما من العالم الذي أوجدته الرأسمالية الأوروبية، وتدخُّل سلطة رأس المال لتقويض قيم المجتمعات الإسلامية وإعادة صياغتها من جديد، وأدركا أن المجتمعات الإسلامية تحتاج إلى مفاصلة معرفية مع أسس المعرفة الاجتماعية والتوجيهية التي صاحبت توسُّع الإمبراطوريات في العالم معتمدة على تراكم رأس المال وتسليع العمل، فقدَّم سيد قطب وعلي شريعتي، كلٌّ على طريقته، عددا من الإجابات في شكل أطروحات حاولت توظيف القيم الإسلامية لمواجهة الواقع الجديد، ووضع تصورات لكيفية التعامل مع هذا الواقع.


تمحورت الإجابات حول القدرة على مقاومة الإغواء الذي فُطِر عليه النظام الاستهلاكي الرأسمالي من جهة، مع استخدام النقد المادي الذي وجَّهته الاشتراكية لهذا النظام من جهة أخرى، وكان كلٌّ منهما يرى أن هذه الإجابات ستكون بداية إعادة صياغة تصوُّر للعالم وفرصة لإنشاء مجتمع يقوم على العقيدة الإسلامية يصلح لأن يكون نموذجا يُحتذى به ومصدر إلهام لجيل جديد تربى على منظومة قيمية ستُسقط السلطة المادية المهيمنة


أغلب الإجابات والأطروحات التي قدَّمها الإصلاحيون الإسلاميون لم تؤتِ ثمارها بالشكل المُتوقَّع، بل استطاع النظام الرأسمالي العالمي كل مرة أن يُجدِّد نفسه ويتجاوز ما يخلقه من أزمات، كما أن الهجمات العنيفة على أبراج التجارة العالمية نفسها لم تُسقِط النظام الرأسمالي العالمي، في الوقت نفسه، تزداد حمى الاستهلاك في جميع البلاد العربية والإسلامية وبلاد العالم الثالث، حيث تحرص الشركات والحكومات على غزو جميع المجتمعات وتفكيك كل أشكال الاقتصاد التقليدي والأخلاقي وتدميره وإحلال اقتصاد السوق الحر وبضائعه مكانه.


في هذا السياق، يبدو خيار المقاطعة الاقتصادية خيارا شديد الفاعلية والجدوى، فمن جهة لا يرفض خيار المقاطعة الاستهلاك بشكل كلي، حيث لم يعد في الإمكان رفض الاستهلاك كليا، فقد تحوَّل إلى واقع يومي لا يمكن تجنُّبه، ومن جهة أخرى تقوم المقاطعة باستبدال البضائع والسلع الأجنبية بسلع أخرى محلية أو من بلاد أخرى، مما يُشجِّع على دخول المبادئ الأخلاقية داخل عمليات التجارة والبيع والشراء، كما يُشجِّع الصناعة المحلية والاقتصاد الوطني.


تبدو المقاطعة الاقتصادية أُفقا جديدا لبناء شبكة من التضامن الأخلاقي والسياسي، ليس فقط ضد مَن يُسيئون للإسلام ونبيه، بل كذلك على المستوى الوطني، إذ تُعَدُّ المقاومة الاقتصادية هي أكثر وسائل المقاومة السياسية فاعلية في العصر الحديث.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق