لن تتحصل لنا معرفة وافية عن كل شيء!

ُيمثـل إدغـار مـوران أحـد أكـبر الأنثروبولوجيـين ُ في مجتمعنـا المعـا ِصر، كـا يعتـبر ُ أب الفكـر المركـب، الـذي قـدم
ُ مبادئه في مؤلفه الباذخ «المنهج » ّ Méthodeالمنشـور منذ حوالي ثلاثين سـنة، وهو لا يفتأ يؤكد أن ُ الفكر المركب
ُيشـكل أفضـل وسـيلة لفهـم العـالم في كامـل تنوعـه

هل أنت عالم اجتماع، أو فيلسوف، أو مفكر
ّ بكل ّ بساطة.. كيف ينبغي أن تقدم نفسك؟

يعتبروننـي -دائمـا- عالـم اجتمـاع، ولكننـي فـي
ّ واقـع الأمـر، أفكـر وأشـتغل فـي الخاصيـة الثلاثيـة
لإ ّ نسـان: الفـرد، والمجتمـع، والنوع. إنها الدراسـة
الأنثروبولوجيـة بالمعنـى القديـم للمفهـوم ربط 

الصلـة بين جميـع العلوم التي تدرس الإنسـان، وهو

مـا قادنـي إلـى تداخل الاختصاصات. لقـد وعيت هذا

ّ لمـا كنـت بصـدد تأليـف كتابـي الأول والمهـم، الـذي

ُنشـر سـنة  1951  الإنسـان والموت 

فـي هـذه الفترة لم تكـن المكتبة الوطنية

تشـتمل إ ّلا ُ علـى أربعـة كتب في الموضـوع، جميعها

ديني. ولكن، كي نفهم سلوك الإنسان تجاه الموت،
يوجـد، هنـاك، بالإضافة إلـى الدراسـة الدينية، علم
الأحيـاء، والتاريـخ، وحتـى دراسـة مـا قبـل التاريخ،
ودراسـة الحضـارات، وعلـم النفـس، والتحليـل
النفسـي، وفي الواقع جميع العلوم الإنسـانية، دون
ّ أن ننسـى الأدب والشـعر، اللذيـن تحد ً ثـا كثيـرا فـي
ّ الموضـوع. بإيجـاز، كل ُ قضيـة ك ُ بـرى أو مهمـة تظل
ً محتجبـة انطلاقـا ّ مـن تخصص منغلـق، وتحتاج إلى
مقاربـة متداخلـة الاختصاصات

هـذه المقاربـة المتعـددة الاختصاصـات هـي
مصـدر عملـك الفلسـفي الضخم، «المنهـج
هل نحن، هنا، في صلب فكرة التفكير الم ّ ركب
ُ الذي تدافعون عنه باستمرار؟ً - أجـل، هـذا مـا سـعيت دائمـا لالتقاطـه ولمعرفته:
ُ المركـب ( )complexusفـي أصلـه ضمـن النسـيج
ً المشـترك. لقـد حاولـت دائمـا إعـادة تركيـب هـذا
النسـيج المشـترك، لأن ملاحظتـي الأساسـية، هـي
ً أن معارفنـا جميعـا ّ مجـزأة، ومنفصلـة عـن بعضهـا
البعـض، فـي الوقـت الذي ينبغـي أن تكـون مترابطة
ّ فيما بينها. إن ّ الإشكالية الكبرى التي تصديت لها في
كتابي «المنهج »La Méthodeهي تجزيء معارفنا.
ّ ولكـن لا يكفـي أن نجمـع كل هـذه العناصـر، بـل
ينبغي، علـى الخصوص، إيجاد الأدوات المفاهيمية
ّ للجمـع بينهـا. وهـذا مـا فـرض علـي وضـع مجموعة
ٍ مـن المبـادئ لفهـم َ أفضـل ُ لقضيـة الفكـر الم ّ ركـب،
ّ كالمبـدأ الـذي أسـميته المبـدأ الحـواري، بمعنـى أن
ٍ الموضوعات يمكن أن تكون في آن ّ متكاملة وريادية

فعندمـا نصل إلى
تناقـض، ليس ذلـك، بالضرورة، علامـة على الخطأ،
ولكن علامة على أننا لامسـنا مشـكلة عميقة. أعتقد
ّ أن ُ هـذه التناقضـات يجـب، إذن، أن تؤكـد، ويتـم
الإقـرار بهـا، لا أن نتحاشـاها 

اشـتهر هيرقليـت بمفهومـه عـن عالـم يتغيـر

ً باسـتمرار. هـل هـذا يصـدق، أيضـا، على الفكر

ُ المركـب؟

ّ - اقتضـت منـي كتابـة مؤل ً فـي المنهـج جهـودا ّ جبارة

فـي البحـث والتوثيـق، لم أسـتطع أن أنهيهـا إ ّلا على

ٍ امتداد ّ زمني ممتد نسبيا ّ . كل ّ ما تقدمنا في المعرفة،

ً اكتشـفنا جهلا ً جديدا. وهذا ما يشـهد عليه، ببلاغة،

انبثـاق العلـوم الحديثـة. وهـذا صحيـح أننـا عندمـا

ُ نشـتغل فـي الفكـر المركـب، لا يمكـن أن نكتفـي

ٍ بمنهـج ّ كلاسـيكي فـي العمـل. هنـا، يمكـن أن تتغير

ّ الاسـتراتيجية فـي أي ٍ لحظـة، ففـي مجـرى الطريـق

ٍ نكتشـف معلومات ً أخرى، وتمنحنا المصادفة أفكارا

ّ جديـدة. وفـي أثنـاء التحريـر، حققـت ّ تقدمـا ً كبيرا،

ّ بعض الأفكار الثانوية أصبحت أساسية، غيرت الجزء

ّ الأول: «طبيعـة الطبيعـة» بعـد أن قرأتـه علـى أحـد

علمـاء الرياضيـات... وإذا أعـدت ّ اليـوم كتابتـه سـأعطي، بلا شـك،
ّ أهميـة أكبـر لثـورة المفاهيـم التـي جـاءت بها فيزيـاء الفضاء.
ُ فـي السـنة الأخيـرة، نشـرت ً كتابـا آخـر تحـت عنوان: «المعرفـة،
الجهـل، اللغـز» ّ كـي أثبـت أن ُ الفكـر الم ّ ركـب ليـس الفكـر النهائـي
ّ والكلي للكون. إن ً ه التقدير الأفضل فيه. لقد وقرت في ذهني -دائما-
ُ الفكـرة التي سـبق أن طرحها بعـض الم ّ فك ُ رين في القديم، ومفادها
ّ أننـا كلمـا تقدمنـا فـي المعرفـة، اكتشـفنا جهـلا ً جديـدا. وهـذا مـا
ٍ يشـهد عليـه، بشـكل رائع، انبثـاق العلـوم الحديثة. 

هـل تضعكـم هـذه الفكـرة فـي مصـاف الفلاسـفة الشـكاكين
ّ الذيـن يـرون أن لا حقيقـة قابلـة للوصـول إليهـا؟ُ - بالتأكيـد لا، لـم أكتـب سـتة م ّ جلـدات، وألفين وخمسـمئة صفحة
ّ التـي يتأل ّ ـف منهـا المنهـج لكـي أنتهي إلى مذهـب الشـك ّ ! إن َ العلم
ّ بالاحتمـالات ليـس مـن الشـك ّ ، والاعتقـاد بأننـا كلمـا عرفنـا، نتجـه
نحـو الجهـل، لا يغمـز في شـيء من هـذه المعرفة التـي تقودنا إلى
مثـل هـذا الجهـل. فعلـى العكـس تملك هـذه المعرفـة الفضل في
ّ تقريبنـا مـن لغـز الواقـع. والحقيقـة أن ُ المعرفـة الم ّ ركبـة لا يمكن،
أبـداً ُ ، أن تقصـي ال ّ ـلا ّ يقيـن. لـن يتحص ّ ـل لنـا معرفـة وافيـة عـن كل
َ شـيء! وهـذا مـا يحـدث إلى ح ّد ّ مـا في نظريـة الفوضى: فـي الكثير
مـن الأنظمـة الحتميـة، تكـون بعـض الإجـراءات غيـر قابلـة للتنبؤ،
ُ وغيـر م ّ تحكـم فيها. 

- لقد ن ُ شـرت ُ كتبي، وت ّ رجمت، ولكنني أعتقد أن ّ أفكارها الأساسـية

ُ لم تجد طريقها، أو ر ّب ّ ما لم تجد طريقها بعد، إلى النظام التربوي.

بـدءاً ُ ، لقـد ص ُ دمـت عنـد رؤية الكثير مـن الك ّتاب الذين سـاعدوني

ّ علـى صياغـة المنهـج، وقـد بقـوا مهمشـين بيـن علـوم الطبيعـة

والعلـوم الإنسـانية. إنـي أقصـد باحثيـن فـي سـنوات الأربعينـات

َ والخمسـينات مثـل عالمـي الرياضيات «كلـود شـانون Claude

،»Shannonأب النظريـة الإعلاميـة، و«نوربـرن وينـر Norbert

»Wienerوفي أصول السبرنتيقا «فون فوريستر ،»Von Foerster

و«فون نومان »Von Neumannو«أشبي »Ashbyوآخرين: لقد

ّ أمد ّ ونـي بالعناصـر لبلـورة نظري ُ ـة النظـام الم ّ ركـب، ولكنهـم بقـوا

مجهوليـن فـي الكثيـر الغالب سـواء أكان هذا في علـوم الطبيعة،

أم فـي العلوم الإنسـانية

درسـت ّ الفلسـفة، والاقتصاد، والعلوم السياسـية، ولكني تثقفت

ّ بنفسـي بالبحـث فـي قضايا مرك ّ بـة ومتداخلـة التخصصات. صحيح

ُ أننـي بالنسـبة لرجـال الثقافـة، والم ّ تخص ّ صيـن الكلاسـيكيين، أظـل

ً نوعـا ّ مـن الأطباق الطائـرة، على الرغم من أن ُ جميع المواد الم ّ كونة

لهـذا الطبـق الطائر هي من ثقافتنا، وليسـت مـن الفضاء الخارجي!

اشـتغلت كذلـك بالمركـز الوطنـي للبحـث العلمي. واُ ً نتخبت رئيسـا

للبحـث قبـل أن أُ ّ حـر ّ ر أطروحتـي للدكتـوراه، لأن ّ هـم تكرمـوا باعتبـار

كتابي حول الإنسان والموت ذا مزايا. وبعد ذلك، ارتقيت الدرجات،

ّ وأنا أتمت ّ ع بحر ّية كبيرة. وهذا ما سـمح لي بإشـباع فضولي. درسـت

السـينما التـي كانـت تعتبر حينئذ مادة غيـر جديرة بالبحث (وجدت

ّ كتاباتـي فـي تلك الفترة طريقها للنشـر.) لقـد تمك ّ نت، في كل أطوار

ٍحياتـي، مـن أن أسـلس القيـاد لرغباتـي وللمصادفـات. ومـن ناحية

أخـرى كان العديـد من المسـؤولين بالمركز الوطني للبحث العلمي

متفهميـن من جهتي.

ً وكان لـي الحـظ الأوفـر أيضـا ّ في أن أتمكن من النشـر وإثـارة اهتمام

ُ الق ّ ـراء فـي جميـع مجالات العلـم والفكر. فكتاب المنهـج لم يدرج

ً يومـا ُ فـي الم ّ قـرر الجامعي أو في البحـث، ولكنه موجود

كتاب «المعارف السبع الأساسية لتربية المستقبل،» الذي اقترحت

فيه، على المستوى الدولي، موضوعات لإدراجها في التعليم، مثل

ّ معرفة المعرفة، والخطأ والتوهم، وفهم الآخر، والواقع الإنساني.

ِ ول ُ ـم نـدرس، فـي أي مـكان، المشـكل الم ّ هم ّ جد ًا َ : م ْن هو الإنسـان؟

أنـت حاضـر كثيـراً فـي النقاشـات العموميـة.. أليسـت هـذه

الطريقـة الفضلـى لتمديـد عملـك الفلسـفي، بالمعنـى الـذي

ّ تكون فيه الأفكار ويكون فيه الفعل عناصر مهمة في الفكر

ُ الم ّ ركب؟

- أجـل، لجميـع النـاس أفـ ٌ كار،

فعن طريـق الأيديولوجيا، يمكن أن نصبح عبيدا لأفكار

إيماني هو إيمان
ّ بالأخوة، وبالحب،
ّ مع العلم أن ّ الحب
ّ والأخوة يمكن ألا
ّ ينتصرا. وهو ما يترتب
عنه العيش في
الحدود وخارج الحدود،
في الأمل واليأس، في
الفزع والدهشة 

وفيمـا يخـص ُ الفعـل، فهو يعود بنا إلى مبدأ لا يقين الفكر الم ّ ركب:

ّ ففـي مؤلفـي «الأخـلاق - ( ،»Ethiqueالجـزء السـادس للمنهـج،)

ّ أشـرح أن ّ كل ً قـرار يجـب أن يكـون واعيا ّ بأنه تحـد ّ . وأن ّ كل ٍ فعل، ما

ٍ إن يدخل في وسط ُم ّ عين،