Apr 23, 2021 Aug 5, 2021
ظاهرة الاستبداد، والدولة المشخصنة، والدعوة إلى العصيان، والنشأة الحديثة لأجهزة الحكم قبل 1952، وجهاز الدولة في الحقبة الناصرية، وأسلوب الانفراد بالسلطة في عهدي أنور السادات وحسني مبارك، وحصاد الاستبداد الديمقراطي لنظام 1971.
الدولة ليست مجالا للتقديس، ولكنها بحق أداة تفعيل للقيام بأدوارها وخدمة الشعوب ومواطنيها
بيت الاستبداد وشبكته أوهن من بيت العنكبوت، والعصيان والاحتجاجات السلمية في مواجهة عنف الدولة يشكلان مأزقاً لها
ويستدعي البشري تعبيرا لغاندي، يقول فيه: الحاكم عندما يواجه الحركة الشعبية السلمية بالعنف يكون كمن يضرب الماء بسيفه ليقطعه، فالعنف لا يهزم الحركة السلمية مهما آذى رجالها"، ليبلور دعوته بشكل أكثر وضوحا، وذلك بقوله "هل لنا نحن الأهالي أن نتداعى ونتواصى ونتنادى بأن نحدد يوما نسميه "يوم القلق" أو "يوم الحذر" أو "يوم اليقظة"، عسى أن يكون في يقظتنا الجماعية ما يوقظ النيام فينا، ولا يعتبر أي من ذلك تجمهرا يعاقب عليه القانون أو يستدعي ترخيصا من أحد، أو يمكن أن يُقال إن من شأنه تهديد الأمن والسكينة أو تعريض الممتلكات للخطر". هكذا كانت دعوته التي تحققت بعد أقل من سنوات خمس، حيث تداعت الجماهير المصرية، وعبرت، باحتجاجاتها المتراكمة، في كل ربوع مصر، داعية إلى السلمية بكل صورها.
*
كتب عن الاستبداد
أفكار هذه الكتابات التي ربما مارس بعضها فائضا من التعميمات، وبعضها قد يمارس تحيزات مختلفة هنا وهناك، تنبع من انتماءات كتّابها الفكرية والسياسية والأيديولوجية، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية زوايا النظر تلك في تكاملها بالحديث عن الظاهرة الاستبدادية.
كتاب "الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة"، تحرير علي خليفة الكواري (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005)، عدة موضوعات، أبرزها الإشارة إلى الجذور الدينية للاستبداد، والاستبداد في فكرة ولي الأمر، وفقه الغلبة وولاية الفقيه في الوقت الراهن. كما تناول موضوع الجذور الحداثية للاستبداد. وتناول الكتاب الوجه الباطني للاستبداد والتسلط، وأهمية تفكيك الاستبداد وإمكانيته. ورصد الكتاب الجذور التاريخية والثقافية للاستبداد، وكذلك مظاهر الاستبداد وتجلياته في الواقع العربي.
ربط عبد الحميد أبو سليمان، في "إشكالية الاستبداد والفساد في التاريخ الإسلامي" (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، 2012)، بين إشكالية الاستبداد والفساد ومدى تلازمهما، بالإضافة إلى مراجعة مقولات الفكر الإسلامي. كما تعرض للموقف من الجماعات والحركات الإسلامية المعاصرة، وتناول التجربة التركية، وفرّق بين المدنية الإسلامية والليبرالية العلمانية.
وأشار إمام عبد الفتاح إمام، في كتابه "الطاغية" (عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1994)، إلى خطورة موضوع الطغيان، وكيف أن العالم الثالث، ماضيه وحاضره، تحت هيمنة هؤلاء الطغاة، حتى أن ظروف دول العالم الثالث، من أمية وغياب الوعي، تهدر الفرص التي تأتي للتخلص من "الطاغية"، بل وصل الأمر إلى الحديث عن إيجابيات الطاغية، وهو أمر يراه الكاتب لا قيمة له، مهما بلغت الإيجابيات، لأن الثمن باهظ جدا كما يراه، وهو ضياع الإنسان، مؤكدا أنه إذا كانت السلطة ضروريةً فعليها أن تحافظ على حريات الأفراد التي جاءت لحمايتهم.
واعتبر كمال عبد اللطيف، في "تشريح أصول الاستبداد .. قراءة في نظام الآداب السلطانية" (دار الطليعة، بيروت، 2008)،
حاول إسقاط نظريات العصور الوسطى، وخصوصا نظرية الحق الإلهي للملوك على هذه المماثلة، مؤكّدا أنه ليس بالضرورة أن تكون المماثلة مطابقة تطابقا كاملا. ولكن، من وجهة نظره، يكفي أن تكون هناك بعض العناصر المشتركة، ولو كانت الاشتراك في اعتبار الديني ذا أولوية في موضوع علاقة السياسة بالدين.
جاسر عودة، في "الدولة المدنية نحو تجاوز الاستبداد وتحقيق مقاصد الشريعة" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2015)،
وإعادة تعريف النظام السياسي ليكون وسيلة لتحقيق مصالح الناس، من دون التنكر لتنوعهم. ولم يغفل الحديث عن قضية المرجعية الإسلامية، محاولا تقديم إجابة مقنعة وعملية تدعم ذلك التصور،
يرى الأول أن من يغلب بسيفه ويجتمع عليه الناس ويسمى متغلبا تنعقد له الإمامة، وعلى الأمة أن تسمع له وتطيعه، في حين أن اتجاها آخر يرى أن الإمامة لا تنعقد للمتغلب، ويجب إرجاع الأمر إلى الأمة، لتختار من تراه مناسبا للخلافة عن طريق البيعة الشرعية. وقد أشار أحمد الريسوني، في مقالته "إمامة المتغلب بين الشرع والتاريخ" (الجزيرة نت، 20/3/2014)، إلى أن الإسلام لم ينصّ على مشروعية هذه الطريقة في تولي الحكم، ولا هو أرشد إليها ولا أقرّ وقوعها ولو في نازلة واحدة، فلا نجد شيئا من هذا لا في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، ولا في سنة الخلفاء الراشدين.
*
فريديريك غرو: الذات التي لا تدفع إلى العصيان ليست ملاذاً للسيادة
منذ كتابه الشهير عن «فلسفة المشي» (2008)، أو عن الفلسفة والمشي، كان فريديريك غرو (1965) متحمّساً للكتابة عن «العصيان». وكان يعتقد أن ثمة علاقة بين المشي والعصيان، من دون أن يحدّد في كتابه الأول هذه العلاقة بالضبط، مكتفياً بفكرة ساحرة تتعلق بقدرة المشي على تنظيم علاقة الجسد بالمساحة. كان يمشي ويكتب، يمشي ويجهز نفسه للعصيان. أخيراً، صدر كتابه بالعربية «العصيان: من التبعية إلى التمرد»، (دار الساقي ـــ ترجمة جمال شحيّد ـــــ 2019)، والمفارقة أنه محكم لدرجة يصعب التمرد عليها أو ضدّها. إنه كتاب يجب أن يقرأ على طريقة غرو نفسه، بالمشي أثناء القراءة، أو على الأقل بعدها. كتاب (صدر بالفرنسية عام 2017) يدفع صاحبه القارئ إلى العصيان وربما إلى المشي أيضاً.
مثلما يُحدث المشي أصواتاً يبتلعها الفراغ، تحدث قراءة هذا الكتاب في مساحة معزولة في الرأس. يطرق المتفلسف الفرنسي هذه المساحة، فيسمع أصوات أولئك الحكام الذين يقبضون رواتب فاحشة، وأصوات أولئك الرياضيين الذين جمعوا الملايين. وبضمير مرتاح يردّدون قائلين: «لم أطلب هذه الأجور الباهظة، لقد اقترحت علي، ويستحسن أن أحصل عليها». يسمعهم يردّدون: «أرجوكم أن تقولوا للعمال المستغلين إلى أقصى الحدود إنهم يستحقون أجورهم وإنهم يقبضون رواتب مزرية لأن طينتهم دون طينة سائر البشر». لهذه المساحة عنوان كبير: قبلنا بما لا يمكن القبول به. وهو يمشي طوال الوقت، بين سطوره، خلف الحقيقة، لكنه يعرف أيضاً أن الحقيقة جينالوجية، وأنها تجري خلفه أيضاً. لا يمكنه التوقف لأنها ستتوقف أيضاً.
من بين ما قبلنا به أيضاً، التردي التدريجي لبيئتنا. الهواء والتربة ومنتجاتها والنباتات: كلها صارت ملوثة وقذرة حتى الاختناق. ولكن الطبيعة عرفت منذ القدم بقدرتها على التجدد وتكرار وضعها السابق. ولأنه مشاء، ولا يقصد بهذا مشائياً في الفلسفة، إنما شخص يمشي، وتمشي أفكاره معه وحوله، يعرف غرو أن المنتجات الثقافية تتهالك وتهرم وتموت على عكس الطبيعة التي لا تعرف إلا ربيعاً رئيسياً. يتنبأ بإيجابية مبالغ فيها بأن كل شيء يعود من جديد ويتكرر. وهذه معاودة أزلية للذات وانطلاقة جديدة لا تنتهي، وظهور سحري متجدد للأشكال نفسها. يتنبأ بهذا لأنه مأخوذ بتأثيرات فوكو، ومن خلفها تأثيرات نيتشه بالعود الأبدي. لكن ذلك لا يعفيه من إعجاب واضح بفلاسفة المشي الآخرين. ففي كتابه، تارةً يعود إلى كانط، وتحديداً إلى التمييز الذي طرحه بين التعليم والانضباط، وطوراً إلى آنا أرندت.
في الإطار التربوي، التعليم هو تعلم الاستقلالية، والحصول على محاكمة نقدية، والإتقان الحصيف للمعارف الأساسية، لا حصراً بجزء سلبي من معلومات يجب أن نكون قادرين على تكرارها. وكذلك، يغوص في حادثة أيخمان 1961. يلاحظ أن اختيار أيخمان لوظيفته هو تعبير عن حقد فظيع للسامية. النتيجة الأولى لهذه الأبلسة تكمن في تكاثف القتامة الأخلاقية في شخصيته. ليس بوسعنا إلا أن نتمنى الحكم عليه بالإعدام، ولكننا نضيف إلى الحكم وظيفة قصوى هي التصفية. معاقبته تعني أننا نزيله عن وجه الأرض لتخليص البشرية من مخلوق شيطاني. وفي الآن نفسه، يتجنب هذا التركيز على فرد ما، محاكمة منظومة معينة ويحجب سلسلة التواطؤات.
الترجمة ليست سهلة، وثمة فوارق منهجية بين التمرد والعصيان والإذعان. لكن غرو، في نصه الفرنسي، يبذل جهداً ألسنياً كبيراً في تفكيك المعاني، بحيث تصير الترجمة مكتفية بالنصوص الأصلية. في فصل «من الإذعان إلى التمرد»، يقول غرو إن الإذعان الذي يتحدث عنه هو طاعة إكراهية خالصة: نطيع من يحمل في يديه السلاح والسوط، والقدرة على التحكم بالوظيفة، بل بالحياة والموت. أي إننا نطيع رب العمل ورئيس العمال والمتعامل مع النازيين في المعتقلات والمدير الإداري والرئيس. يستلهم من نيتشه مجدداً: «إني أذعن أي أني سجين تتحكم بي علاقة قوة تخضع وترضخ وتستلب، بالمعنى الحصري للكلمة». ينتقل من حرب شخصية، إلى حرب طويلة، لأنه يمشي خلف العصيان، ويحاول الوصول إلى إجابة واضحة: لماذا لا يتمرد الناس. وربما لذلك، يبدو مروره على هوبز مفصلياً في كتابه. تلك الفكرة العظيمة التي يتحدث عنها هوبز، عن «الحرب التي يشنها الجميع على الجميع». لقد تخلصنا، حسب غرو، من حالة البؤس هذه بميثاق اجتماعي، أي بقرار عقلاني يدعو إلى العيش المشترك، وإلى إقامة سلطة وحيدة ذات صوت واحد، وإلى الانخراط الشامل في احترام القوانين المشتركة. يعتبر غرو أن هذا هو «التوصيف العقلاني» لإنتاج «الوحدة الاجتماعية»، أي الانتقال من الفوضى إلى النظام، ومن هنا تولد الدولة.
الفكر التمحيصي والعمل النقدي هما اللذان يدفعاننا إلى العصيان
*
لأستاذ الفكر السياسي المعروف فريديريك غرو بعنوان «العصيان»، أنجزها جمال شحيد. وفي هذا الكتاب، يدعو غرو إلى الديمقراطية النقدية والمقاومة الأخلاقية عبر طرح أسئلة حول جذور الطاعة السياسية: هل هي امتثال اجتماعي أم إذعان اقتصادي أم احترام للسلطات؟
إن الفكر الفلسفي الذي يدفعنا إلى رفض الاستسلام للبديهيات يحثّنا أيضاً على إيجاد معنى للمسؤولية السياسية. وفي الوقت الذي تأتي فيه قرارات الخبراء نتيجةً لإحصاءات جامدة، يصبح العصيان تأكيداً للإنسانية.
لماذا تُطيع؟ لأنني مُذعن: ويستحيل أن أتصرّف بطريقة مغايرة. هذه العلاقة واضحة وضوح الشمس. الذي يطيع على نحو مميَّز هو العبد.
أقصد بالإذعان طاعة إكراهية خالصة: نطيع من يحمل في يديه السلاحَ والسوط، والقدرةَ على التحكّم بالوظيفة، بل بالحياة والموت. أي إننا نطيع ربَّ العمل ورئيس العمال والكابو و(المدير) الإداري و(الرئيس)... أن أذعن يعني أنني سجين تتحكم بي علاقة قوة تُخضِع وتُرضِخ وتستلب، بالمعنى الحصري للكلمة. عندما أذعن، أكون تابعاً للآخر تماماً، فيسيّرني ويقرّر عني ويُصدر أوامره الهادرة ويمنعني من النجاح ويكسر حقوي وإرادتي. ما أفعله عندئذ هو أن أنفّذ باستسلام ما طلبه مني هذا الآخر الخارج عني والمهيمن عليّ. لا تستطيع لا الإرادة الخاصة ولا الدافع الداخلي ولا العفوية الحية ولا الحركة الشخصية أن تتدخّل في حركاتي وسكناتي.
ى الأرجح هو المعنى الأدقّ والأقسى للطاعة: هو علاقة (أن أكون مسيَّراً ومسيطّراً عليّ ومأموراً ومحكوماً... إلخ) ترغمني على التصرّف وفقاً لإرادة آخر، أي إنني عندما أتصرّف أبقى عديم الحيلة. هذه عبارة إشكالية في الإذعان: أي إنني أجمع عند شخص بمفرده بين الهمود والنشاط. راقبوهم كيف يتخبّطون: العامل أمام آلته الذي تُرهقه متابعة الوتائر المستحيلة، الموظف الصغير الذي يسعى حثيثاً في مكتبه لتطبيق التعليمات الزئبقية، المستخدَم الذي يرهق نفسه في (الانفعال). جميعهم منهكون ويستنفدون قواهم. ولكن هذه الحركة المحمومة ليست سوى الوجه الآخر لانفعال تام.
لماذا يطيع المذعنُ؟ لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر: إنه أقل قوة، وأقل اقتداراً. لماذا تطيع؟ لأنني لا أستطيع أن أعصي. ويعود سبب الطاعة عند المذعن إلى عبثية العنف الأعمى وعلاقات القوة.
قال أرسطو في كتابه (السياسات) إن العبد يملكه شخص آخر، وهو (سلعة حيّة)، (ktêma empsukhon) و(منفّذ أوامر). وهذا يعني أنه لا يمتلك نفسه. فجسده وحركاته وحياته بالذات يمتلكها سيدُه. هو أداة وآلة في أيدٍ غريبة. وهو سلعة يجري تبادلها وتُباع، وهو مُقتنى يتصرّف به مالكه على هواه، ويسيّره ويستطيع استخدامه أو يسيء استعماله.
العبد هو الذي لا يملك نفسه، و(ينفّذ الأوامرَ دون مبادرة منه. العبد لا يبادر في شيء، ولا يشرع في شيء: حركات يديه وجسده ليست سوى صدى وإجابة وردّ فعل ونتيجة لقولٍ آمر ناهٍ صدر أولاً وهيمن. العبد لا يبدأ شيئاً: إنه يتبع وينفّذ أوامر شخص آخر).
لماذا يطيع المذعِنُ؟ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر، ولأنه عاجز عن العصيان؛ ذلك أن العقاب المبرِّح يأتي مباشرة. وإذ إنه مهان ومسرَّح ومضروب ومستبعد ومتقهقر، فإن العصيان يكلّفه غالياً جداً... وينطوي على مجازفة كبرى. يطيع المرء لأن تكلفة العصيان مرهقة. في المحصلة، يكمن السبب الوحيد للطاعة في استحالة العصيان. يستند الإذعان إلى العنصر الاعتباطي لعلاقة متخلخلة في القوى، وإلى اللاعدالة في السلّم الهرمي. ينصاع العبد بصمت لأوامر سيده، ويزرع القن؛ إذ إنه يَبقُر أراضي سيده، ويَقبل العامل أن تُفرض عليه وتائر (عمل) مجنونة، ويُصغي المستخدم لانتقادات رئيسه الهازئة وهو يُصرّ بأسنانه. كيف يسعه أن يتصرف بأسلوب مغاير؟
في الآن نفسه، يستطيع الإذعان أن يَحمل كوجهه الآخر العتيد وعداً بالتمرّد أو بالفتنة. ينتظر المذعِن أن تحين ساعتها. يراقب مواقع الضعف عند سيده، وينتبه إلى الهشاشات وخطوط الانكسار، مستعداً للانقضاض وقلب المعطيات. إنني أكثّف هنا مفهوم (الإذعان). وإذا قلت عن ميزان القوى، هذا، إنه تاريخي وطارئ ومؤقت وقابل للانقلاب - أي إنه حالة حاصلة فحسب - عندئذ ينطوي الإذعان والطاعة الجامحة على اللاإذعان فيكون بمكانة انتقام. ما إن يتوصّل المذعنون إلى توحيد أنفسهم ليتآمروا على أسيادهم، وما إن يشعروا بقوّتهم الجماعية ويبنوها، حتى تبدأ الحرب. إن كلمة (rébellion) (الفتنة) المشتقة من (re–bellum) اللاتينية تعني أن الحرب عادت، وأن المهزوم سابقاً راح يرفع رأسه.
إن المذعِن عندما يرى عدد الثورات التي انقلبت على الثوار، وعدد الانتفاضات الخائبة، والصراعات التي تم احتواؤها، يقول في سرّه إن عجزه غير محدود، وإن اعتقاده الممكن بقلب الظروف سيكلّفه دماء غزيرة وويلات كبرى، فلا يبقى له خيار آخر سوى أن يستبدل الخيبات الأليمة ووجع الأحلام المنكسرة بحلاوة التسليم للقدر، أي بالإذعان المقبول في استدامته.
أو يقول لنفسه - لكنه يقول لها لأنهم علّموه أن يقول ذلك وأن يكرّره ويسمعه ويتلفّظ به (في المدرسة والعائلة) - إنّ تفاوت المستويات الاجتماعية هو في المحصلة أمر طبيعي وإنّ تفوّق الزعيم راسخ بسبب مواهبه الطبيعية (الذكاء والنزاهة)، أو يقول - في الشأن الخاص بالطاعة السياسية - يجب عليه أن يذعن للقوانين العامة، حتى إذا كانت لا تناسبه، لأن العصيان يعني الفوضى والمطالبةَ الأنانية بمصلحة خاصة. أو يلقي خطاباً مروّضاً جيداً ويدعو إلى تثبيط اللاإذعان، دون إعلان الهزيمة والتسليم بها: (ولكن أخيراً استيقِظوا، يا متمردي المساء الأول، خلخلوا وهْم نسف كل شيء وانفضوا الغبار عن أحلامكم؛ هذه السلطات الهرمية التي تعارضونها، لم تُبْنَ قط إلا من أجل هذا النظام الاجتماعي، النظام الذي تشكّكون فيه مع أنكم استفدتم منه منذ ولادتكم، وتقولون الآن (لا) لأن هذا القانون أو ذاك يتعارض معكم. ولكنكم في المحصلة قد أذعنتم أنتم أنفسُكم، وبحرية ومنذ الأبد، لتطيعوا القوانين بعامة! هذا المجتمع يعطيكم حقوقاً سياسية، فكوّنوا منابرَ بالأعداد التي تريدونها للإعراب عن معارضتكم، صوّتوا لممثلين من اتجاهات أخرى، ولكن أطيعوا بخاصة، احترموا قواعد اللعبة السياسية كما وُضعتْ من أجل الوئام العام والسلام العمومي وخير الجميع).
نرى في هذا الخطاب صورة أخرى من صور الطاعة: الإذعان للميثاق الجمهوري. وإزاءه - وحتى إزاء الطاعة الموقّرة (والاعتراف بالسلطة) - نرى أن مفهوم الإذعان، بقسوته وحدّته، قد لعب دوراً في إزالة الأوهام السياسية. ما استنكره متجاوزو الأوهام السياسية الكبار (ابتداء من ثراسيماكوس عند أفلاطون وماركس، مروراً بمكيافيلي) هو إرادة إخفاء علاقة الإذعان، هذه، إخفاءً منهجياً.
في ودنا أن ندفع الناس إلى الاعتقاد بأن الطاعة السياسية هي قبول حرّ طوعي، أو أنها تستند إلى امتنان صامت ومُشِيد. إن الخطاب الصغير القائل بالتخلي عن الأوهام السياسية يتعارض مع تكذيبه: (أرجوكم أنتم منظّري الانتماء السياسي، توقفوا، وكفّوا عن التأكيد - من محراب مكتباتكم الهادئة والوثيرة - أن طاعتنا السياسية هي طاعة عقلانية وشرعية، وأن رؤساءنا يحكموننا لخيرنا، وأننا عندما نثور على تلك القوانين التي لم تسنّ إلا لمصحة نخبة معينة، نخطئ من الناحية الفلسفية في العصيان. هذه الحجج واهية، في حين أنه لا يوجد واقع آخر سوى واقع الظلم المفروض بالوسائل العنفية، وأننا لا نطيع إلا لأن تكلفة العصيان باهظة فعلاً: دماء مسفوكة، إذلال فوري، هزيمة معلنة). نعم إن الإذعان بهذا المعنى موجِّهٌ يدل على تجاوز الأوهام السياسية، لأن المسألة هي أن تُظهر رشيم واقع الظلم والعنف خلف مباني الدخان. العصيان يعني معاودة الحرب، هذه الحرب الصماء التي لم تتوقف قط والتي تستمرّ تحت غلالة السلم الأهلي.
يكمن الالتباس الجسيم في أن مفهوم الإذعان، هذا، مع أنه موجِّه يدل على تجاوز الأوهام السياسية - ويفسد مقولة المواطنة المطيعة أو الاعتراف المرن - يشكّل موجِّهاً يدلّ على تجاوز الأوهام الأخلاقية.
نستطيع استعادة عبارات أرسطو: (العبد هو «ملكية مكتسبة» و«وسيلة» (organon) و«منفّذ أوامر»)، (1254a - 1253b). ويجب أن نفهم من ذلك أن جسمه ينصاع لإرادة شخص آخر، ولكن روحه لا تشارك إطلاقا في مضمون ما ينفّذه. السبب الوحيد الذي يدفع بالعبد إلى الطاعة هو أنه أُعطي أمراً. وهذا يقتضي قطيعة وانفصالاً: أعمل ما أمرني شخص آخر بفعله. وهنا تنفتح إمكانية الاستغلال الأخلاقي لمشاركة الروح والجسد. يستطيع الإذعان الذي يستغلّ هذا الانقطاع أن يتّخذ شكلين على الأقل.
الشكل الأول هو «إذعان المسايرة». وهذا يعني ما يلي: عندما يُكثر المذعن العلامات الخارجية للاستعباد، وعندما يبالغ في انحناءاته وطأطأة رأسه، وعندما يكثّف تصنّع التصاغر، فإنه يحافظ في قرارة نفسه على حكم نقدي صارم. المذعن يصغي بجدية كبرى واحترام عميق إلى لائحة الأوامر، ويحسب في سره كيف يتخلّص من واجباته ويعوّض مسبقاً وبصورة مأتمية لزجة ودبقة عن خموله العتيد وازدرائه العميق. هذا هو إذعان المسايرة، وهو الاستغلال الأخلاقي الأول للانفصال بين الروح والجسد: هناك مسرحة لعلامات الاستعباد بغية إخفاء العصيانات المادية والحرباوية والعينية، وهناك بخاصة إخفاء للازدراء النهائي. كلا، لم يستبطن المذعن استعباده، وإنما تحمّله وأوهم رئيسه فقط أنه يعترف بتفوقه الذي سيُثلج صدرَه. إن هذه اللعبة كلها وهذه المراوغة الاجتماعية - وهي ما سماه جيمس سكوت (الخطاب الخفي) - وإن هذا الإبراز الصاخب لصور الاستعباد التي من شأنها أن تحجب صور التحرر الملموسة، يصعب عملياً تقدير وظيفتها: هل سيكون إعداداً لصراعات مقبلة؟ - السبب في ذلك أن الاحتقار الاجتماعي يخزّن بعيداً عن استبطان الدونية، وأن روح الانتقام تعتمل في الذات - وهل هو صمّام أمان وتنفيس رمزي يتيح استدامة التباينات، ما دام لم يُقْدِم أي انتقام متخيّل قط على كسر شوكة الهرمية السلطوية؟ يبقى أن الأدب، من موليير إلى بالزاك، يعجّ بأولئك الخدّام الذين يسخرون من أسيادهم عندما يديرون ظهورهم، وبتلك المخلوقات الخانعة التي تغذّي غرور الأسياد لتطيع أقل فأقل. ولكنْ هناك استغلال أخلاقي آخر للتشارك بين الروح والجسد يشكّل المنحدر السياسي الأشد خطورة. لننظر مرة أخرى في ترسيمة الطاعة: المذعِن يطيع طاعة عمياء، فلا يعلم شيئاً عن غاية ما أُمِرَ به ولا عن مآله وهدفه ومعناه، ربما لا يريد أن يعلم شيئاً عنه. ينفّذ ويعمل لحساب ومصلحة شخص آخر دون مقاصد خاصة، ويترك الإرادة والقرار يقعان تحت مسؤولية شخص آخر. هو المنفّذ وليس صاحب القرار. لا بدّ من فصل الأمور عن بعضها بعضاً: أتصرف على هذا النحو، أنفّذ هذا الشيء، ولكن الفاعل ليس أنا حقاً، لست إلا المنفّذ والساعد الآلي والدماغ المستبصر والحركة الآلية، ولكن القرار والحكم لا ينبعان مني في أي حال من الأحوال. لماذا فعلتَ هذا؟ تلقيتُ الأوامر. وهذا يعني: لم آخذ زمام المبادرة، وأكاد أفتقر إلى اختيار الوسائل. لستُ فاعل ما أفعل. أنا منفّذ فقط. ولست مسؤولاً في المحصلة.
هذا مريح جداً في المحصلة، مريح لأنني تخلصتُ تماماً من مسؤولياتي. ترتاح نفسي عندما أقول إنني لم أستطع أن أفعل شيئاً، أو بالأحرى عندما أقول إن ما فعلتُه لست أنا الذي فعلته حقاً.
(لستُ مسؤولاً؛ أطعتُ الأوامر)».
* Jul 9, 2021
ضمان نجاح الثورات الشعبية
ضغط الحراك الشعبي السلمي.
العصيان المدني ليس خيارا أخلاقيا فحسب، بل ثبت أيضا أنه أكثر قوة وفعالية بمراحل من جميع أشكال الاحتجاج الأخرى في تشكيل المشهد السياسي العالمي.
تحليل مئات الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت على مدى القرن الماضي، خلصت شينوويث إلى أن فرص نجاح الحراك الشعبي السلمي أعلى من فرص نجاح الاحتجاج غير السلمي في تحقيق أهدافه بمقدار الضعف، وأن مشاركة 3.5 في المئة من السكان مشاركة فعالة في الاحتجاجات تضمن حصول تغيير سياسي حقيقي.
الأدلة القاطعة على قوة تأثير الاحتجاجات السلمية، مثل الناشطة الأفريقية الأمريكية سوجورنر تروث، التي حاربت لإلغاء العبودية، وسوزان بونويل أنتوني، التي نادت بإعطاء المرأة حق التصويت في الانتخابات، والناشط الهندي المستقل، ماهاتما غاندي، والناشط مارتن لوثر كينغ الذي ناضل من أجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.
لم تكن مقتنعة في بداية الأمر بأن الاحتجاجات السلمية أكثر تأثيرا من النزاعات المسلحة في معظم الحالات.
الشك الذي انتابني حول قدرة الطرق السلمية على إحداث تحولات جذرية في المجتمع هو الذي دفعني لإجراء الدارسة
استعراضا لجميع الدراسات التي أجريت عن المقاومة المدنية والحركات الاجتماعية خلال الفترة بين عامي 1900 و2006، مع التركيز على محاولات تغيير الأنظمة الحاكمة.
قاد الحراك السلمي إلى التغيير السياسي في 53 في المئة من الحالات، في مقابل 26 في المئة فقط للاحتجاجات العنيفة.
ارتفاع فرص نجاح الحراك السلمي إلى قدرة منظميه على حشد عدد أكبر من المشاركين من قطاعات عريضة من السكان، ما يؤدي إلى تعطيل المرافق العمومية وإصابة الحياة اليومية والاجتماعية بالشلل.
25 حركة احتجاجية شعبية من أكبر الاحتجاجات الشعبية في العالم، حقق 14 منها نجاحا بجميع المقاييس، لكن في المجمل يستقطب الحراك السلمي نحو أربعة أضعاف الأعداد التي تستقطبها الاحتجاجات العنيفة.
الحراك الشعبي يستمد قوته من أعداد المشاركين فيه بحيث يمثل تهديدا حقيقيا للسلطات الجاثمة على صدور الشعب.
بمجرد ما يصل عدد المشاركين إلى 3.5 في المئة من إجمالي عدد السكان، فإن نجاح الثورة يتحقق لا محالة.
ما من ثورة استقطبت في عنفوانها هذه النسبة من السكان إلا ونجحت في تحقيق أهدافها، ويطلق على هذه الظاهرة "قاعدة 3.5 في المئة". وتضرب مثالا على ذلك بثورة "قوة الشعب" في الفلبين وثورة الغناء في إستونيا في أواخر الثمانينيات وثورة الزهور في جورجيا في مطلع 2003.
شعرت بالدهشة في البداية من هذه النتائج، إلا أنها ترى أن الحراك الشعبي السلمي يحظى بهذا التأييد الكبير من الشعب لأسباب عديدة، على رأسها أن المحتجين السلميين يحافظون على مبادئهم الأخلاقية، في حين أن الاحتجاجات العنيفة ينفر منها الأشخاص الذين يخشون من إراقة الدماء ويكرهونها.
المشاركة في الاحتجاجات السلمية لا تشترط القوة البدنية، فليس من الضروري أن تتمتع بصحة جيدة لتشارك في إضراب، على سبيل المثال، بينما تعتمد الاحتجاجات العنيفة على الشباب الذين يتمتعون بقوة جسدية.
تنطوي الاحتجاجات العنيفة على مخاطر عديدة، وهذا يذكرنا برد فعل الصين على احتجاجات ساحة تيانانمن عام 1989. وترى شينوويث أن أخبار فعاليات الحراك السلمي تصل إلى عدد أكبر من الجمهور، لأنه من السهل الترويج لها على الملأ، بينما تعتمد الاحتجاجات العنيفة على عمليات سرية وتتطلب إمدادات من الأسلحة وقد لا يعرف عنها الشعب شيئا.
من المرجح أن يحظى الحراك الشعبي السلمي الذي تشارك فيه قطاعات عريضة من الشعب، بتأييد عناصر الشرطة والجيش، الذين تعتمد عليهم الحكومة في الحفاظ على النظام.
ربما لا تتمكن عناصر قوات الأمن من البطش بالمحتجين خشية أن يكون أحد أفراد عائلاتهم أو أصدقائهم بين حشود المشاركين. وتضيف شينوويث أنهم ربما لو نظروا إلى أعداد الحشود المشاركة في الحراك الشعبي، قد يظنون أن الأمور خرجت عن سيطرتهم ولم يعد بإمكانهم تغيير الأوضاع.
أفضل أشكال الاحتجاج السلمي، فتقول شينوويث إن الإضرابات العامة ربما تكون واحدة من أقوى أشكال المقاومة السلمية وأكثرها تأثيرا، رغم أنها قد تنطوي على خسائر شخصية.
حركة المقاطعة التي نظمها أصحاب البشرة السوداء في جنوب أفريقيا احتجاجا على سياسات التمييز العنصري، وامتنعوا حينها عن شراء المنتجات من الشركات التي يمتلكها أصحاب البشرة البيضاء، وقد أسهمت الأزمة الاقتصادية التي عانى منها الصفوة من أصحاب البشرة البيضاء جراء هذه المقاطعة في إنهاء الفصل العنصري.
هناك أشكالا أخرى للمقاومة السلمية لا تنطوي على مخاطر مادية، ولا سيما مع زيادة أعداد المشاركين، فضلا عن أن فعالياتها تحدث على مرأى من عدد أكبر من الناس ومن السهل أن يعرفوا سبل المشاركة فيها وتنسيق أنشطتهم لإثارة أقصى حد من الاضطرابات والتعطيل للخدمات العامة.
رقم سحري
بالرغم من ارتفاع فرص نجاح الثورات السلمية، إلا أن 47 في المئة منها أخفقت في تحقيق أهدافها، وعزت شينوويث وستيفان في كتابهما ذلك إلى أن بعض المسيرات السلمية لم تلق صدى بين الناس للوقوف في وجه الطغيان. لكن بعض المسيرات السملية الكبرى أيضا لم تحقق أهدافها، مثل الاحتجاجات ضد الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية في الخمسينيات من القرن الماضي التي استقطبت اثنين في المئة من عدد السكان.
مشاركة 3.5 في المئة من عدد السكان بشكل فعال هي قاعدة لا تخيب لضمان نجاح الحراك السلمي، لكن الحفاظ على هذا النوع من المشاركة الفعالة مرهون بمدى سلمية الاحتجاجات.
أهمية انسجام المحتجين وتوحدهم. وتضرب مثالا على ذلك باحتجاجات البحرين في عام 2011، التي شاركت فيها أعداد كبيرة من المتظاهرين، ثم سرعان ما انقسموا إلى فصائل متنافسة. وترى برامسين أن حالة التشرذم والتصدع التي آلت إليها حركة الاحتجاجات في البحرين حالت دون استقطاب التأييد الشعبي اللازم لإحداث التغيير.
كتب التاريخ المزيد من الاهتمام بالحراك الشعبي السلمي بدلا من تركيزها على الحروب. وتقول: "الكثير من القصص التاريخية التي نتناقلها تدور حول العنف"، في حين أننا نتجاهل النجاح الذي حققته الاحتجاجات السلمية.
"في كل عصر من العصور، شارك أشخاص عاديون في أعمال بطولية ساهمت في تغيير العالم، وهؤلاء يستحقون الاهتمام والإشادة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق