نقد النظرية الليبرالية العقلانية، كما نجدها في «نظرية العدالة» لجون رولز، و«تواصلية» يورغن هابرامس
فالمؤسسات الديمقراطية ليست محايدة، بل هي مجال للهيمنة والهيمنة المضادة، ولا يمكن للسياسة أن تقوم على الإجماع العقلاني، بل على النزاع والتصارع بين مختلف مشاريع الهيمنة السياسية. ترفض موف أيضا مبدأ الفردانية الليبرالية العقلانية لأنه يهمل أساليب بناء الهوية السياسية الجمعية، أي مجموعة الإجراءات الأيديولوجية والخطابية، التي ليست بالضرروة عقلانية دائما، التي تشكل الـ»نحن»، أو الطريقة التي تعي المجموعات بها نفسها سياسيا، في مقابل الـ»هم»، أي الآخر السياسي.
الشكل والأسلوب الذي تعمل به المؤسسات السياسية القائمة لا يتسم بالضرورة والحتمية، بل هو فقط واحد من الإمكانيات الموجودة، والتي قُدر لها أن تتحقق بفعل نجاح مشروع سياسي واجتماعي معين في فرض هيمنته. هذه الهيمنة تحاول إخفاء كون ما أسسته مجرد إمكانية ضمن ممكنات أخرى، وتحاول رفعه إلى مستوى «الحس السليم»، أي بوصفه بديهيات مشتركة بين الناس، لا جدال فيها.
ما يميز الشعبوية اليسارية عن نظيرتها اليمينية، هو سعيها لتحقيق المطالب الديمقراطية لطيفٍ واسعٍ من المواطنين، مثل العمال، الفئات الوسطى المفقرة، الأقليات، النساء، الحركات البيئية، مجتمع المثليين..الخ. مؤسسة مفهوما جديدا للشعب، بالتناقض مع الآخر السياسي (هم)، أي الأوليغارشية المالية المعولمة، التي تمتع تحقيق هذه المطالب الديمقراطية الموسعة.
إطار المؤسسات الليبرالية ودولة القانون ونظام التعددية الحزبية والمرجعية الدستورية، وذلك بعد فرض الهيمنة الشعبية عليها. لأن هذه المؤسسات هي ما يؤمن تحويل «العدو» إلى «خصم»، أي بدلا من إقصاء الآخر السياسي، والمطالبة بتصفيته سياسيا أو حتى جسديا، يمكن من خلال المؤسسات الليبرالية الاعتراف بحقه في الوجود والممارسة السياسية، وجعل الميدان السياسي قابلا للصراع السلمي بين المشاريع المختلفة، التي يمكن للمواطنين الاختيار بينها. فضلا عن أن هذه المؤسسات هي ما يعطي البشر الإمكانية للتعرف على هويتهم السياسية،
تستطيع بشكل مقنع التوفيق بين عناصر، تبدو متناقضة تماما للوهلة الأولى، من فكر شميت وهابرماس وغرامشي وميكيافيللي والنظرية البنائية.
نعيش حاليا في شرط ما بعد ديمقراطي وما بعد سياسي، وذلك بسبب هيمنة «الحس السليم» للأوليغارشية على المجال العام، وجعل «الإجماع» المبني على السياسات البيروقراطية والتكنوقراطية بديلا عن التعددية التي ينتجها الصراع السياسي. اليوم لا توجد بدائل حقيقية يختار بينها المواطنون، بل تقتصر مهمتهم على إسباغ الشرعية الانتخابية على ما تقرره النخب سلفا، بوصفه الطريق الوحيد الذي تستلزمه «الديمقراطية الناضجة»، التي تدعي النخب تجسيدها.
بالمقارنة بفكر نانسي فريزر، التي تدعو أيضا إلى يسار شعبوي، ولكن من خلال القطيعة مع «النيوليبرالية التقدمية» وناشطيها البورجوازيين، تبدو شعبوية موف أقل جذرية مما تدعي، وغير قادرة على تمثيل الفئات ذات المصلحة الفعلية باستعادة الديمقراطية وتجذيرها. وهذا لا يعيب موف بالطبع من ناحية النظرية السياسية،
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق