افترض شيطانا ماكرا يخدع العقل ويغشّه. بل إن ديكارت جعل في العقل نفسه فعاليات تعوقه عن المعرفة اليقينية مثل الذاكرة والخيال. وعلى الرغم من ذلك فإنّ العقلانية التقليدية لم تكن لتجعل الخطأ يتمتّع بقوّة تمكّنه من أن يصمد ويستمر في الوجود. فقد كانت هناك دوما لحظة يرتفع فيها الخطأ ويزول ليدع المكان للمعارف الصائبة اليقينية. وما "قواعد المنهج" عند صاحب "القواعد لتوجيه العقل" إلا أداة، للقضاء على الخطأ وبلوغ اليقين.
كانط الذي سيجعل الأوهام من صميم العقل، إلى أن نصل إلى ماركس الذي سيجعل الأيديولوجية من صميم البنية الاجتماعية. هنا لن تعود الأوهام من قبيل الكائنات العرضية الزائلة التي قد يعفينا منها قليل من الحذر وحسن النية وعدم التعجّل والسبق إلى الحكم ومراعاة قواعد بعينها، وإنما ستغدو من مكوّنات الذّهن البشري بما هو كذلك، بل من دعائم البنية الاجتماعية ذاتها التي قد تكون في حاجة إلى أوهام. "إذا كنا نريد أن نتخلى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا، فذلك يعني أن علينا أن نتخلى على وضع يكون في حاجة إلى أوهام".
غاستون باشلار في إعادة الاعتبار لمفهوم الخطأ. فهو الذي أوضح أن الفكر هو أولا وقبل كل شيء، قدرة على الغلط، وأن للخطأ دورا إيجابيا في نشأة المعرفة العلمية.
فالحقيقة تستمد معناها عند باشلار، من حيث إنها تقويم لأخطاء. فكأن "وجودها" مدين للخطأ. بل إن "صورة الفكر العلمي ذاته ليست إلا حقيقة منسوجة على أرضية من الخطأ". فلا وجود لحقائق أولى ومعارف بدهية. إن الأخطاء هي الأولى. وفي البدء كان الخطأ. وكل حقيقة جديدة تولد بالرغم من البداهة و"كل تجربة موضوعية صحيحة يجب أن تحدِّد دوما كيفية تصحيح خطأ ذاتي". فالخطأ والجهل ليسا نقصا وعيبا ولا وجودا. ليس الجهل فراغا معرفيا. الجهل كثافة وامتلاء. والمعرفة "لا تصدر عن الجهالة مثلما ينبثق النور من الظلمة". الجهل بنية متماسكة: "إنه نسيج من الأخطاء الإيجابية الملحة والمتماسكة".
لا يمثُل البحث العلمي عند الفيلسوف الفرنسي في تعميق ما نعرفه، وإنما في التخلّص مما نعرف، أو ما نعتقد أننا نعرفه. ما يعني أن العلم ينمو عن طريق الانفصالات والقطائع. فالفكر، أمام المعرفة العلمية،
كل بلوغ لحقيقة لا بد وأن يصاحبه نوع من "الندم الفكري".
لن تعود مسألة المعرفة، والحالة هذه مسألة نمو وبناء، وإنما ستغدو تراجعا و"ندما على ما فات"
"ثقافة الفشل"، هو الكفيل وحده بأن يجعلها تنتصر وتتقدّم وتنمو.
يقترن الفكر اليوم، ليس بالتراكم والبناء والتشييد، وإنما بالنقد والتراجع والحفر و"فكّ البناء".
نفكّر هو أن نتعلم كبح جماح الفكر، أن نتعلم أن نفكر "أقل". هذا "الأقل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق