الجمعة، 23 نوفمبر 2018

الدين والانسان عنوان كتاب

شروع التنوير الغربي الذي ارتسمت ملامحه بوضوح في قرن التنوير/ القرن الثامن عشر؛
 الهم الذي سيطر على الرواد الأوائل لمشروع النهضة العربي لم يكن تحرير العلم من هيمنة المرجعيات الكهنوتية، ولا التصدي للاستبداد ولواحقه، ولا تحرير الإنسان الفرد وتثبيته كقيمة عليا ذات مرجعية مكتفية بذاتها؛ بقدر ما كان الهم المسيطر على تفاصيل المشروع يسير في صوب مقصد شرفي/ فخري يتمثل في محاولة استعادة أمجاد الأمة (الحقيقية أو المتوهمة!) التي طواها الخمول

النهضة للأسف، لم تكن تسعى لتضاهي زمن النهضة الأوروبي الذي تخلّقت بداياته الأولى في إيطاليا؛ إلا بمقدار ما تضن أنه كفيل باستعادة المجد الأممي التليد الذي تمثل استعادته رد اعتبار للذات. 

يشير الباحث المصري/ نصر حامد أبو زيد إلى أن أهم عناصر التحدي التي فرضها المد الاستعماري في عنصر "الدين" هو اتهام الإسلام بأنه سبب التخلف. وأن هذا التفسير الذي فرضه الوعي الأوروبي لإشكالية "التخلف" في العالم الإسلامي

جوهر التنوير هو الإنسان، الإنسان في تحققه العيني كفرد، فإذا غاب "الإنسان كفرد = الإنسان في كل فرد" غاب التنوير

الثقافة العامة التي تترسخ في الأعماق وتتحكم في الطارئ الثقافي، كانت ثقافة جماعية تستريب بـ"الفرد الحر/ المستقل"، وترى أن قيمته كفرد غير ذات معنى؛ ما لم تكن هذه القيمة تُشكّل نضالا عن المجموع/ الكلي للإنسان الذي تحوّل إلى دالٍّ لا يرى تحقق مدلوله في الواقع.


العرب بين الحداثة والواقع التقليدي

من موقع الحرة
كثير من الرواد التقدميين لم يكونوا تقدميين في العمق، فهم وإن 
رفعوا أحدث الشعارات التقدمية فقد كانوا يكتنزون أنظمة الوعي  العتيقة +كانت خطة ليقرأهم العوام وينتشروا 
إن تغيير القناعات الراسخة التي تجذرت في الوعي عبر مئات السنين ليس بالأمر اليسير؛ كما توهم ويتوهم كثير من رواد الأيديولوجيات التقدمية الذين تصوروا أن نشر الأفكار التنويرية/ التقدمية عبر وسائل النشر النخبوية التي تمارس دورها بأبوية استعلائية، كفيل بتغيير نظام الوعي العام الذي تناسل ثقافيا في تراث أجيال وأجيال.
لا يمكن لمحاضرة عابرة، أو مقال في صحيفة، أو كتاب مخاتل، أو حتى درس منهجي يتيم (والذي لا يصل تأثيره إلا إلى عدد محدود، وفي دقائق محدود)، لا يكمن لكل هذا مجتمعا أن ينافس ثقافة عامة/ موروثة يتشربها الطفل رضيعا، ويشب عليها، ويتعامل بمنطقها مع محيطه الاجتماعي؛ حتى في أدق التفاصيل.

إن هذه الثقافة الموروثة ليست ثقافة ساعة عابرة من نهار، وليست ثقافة مرحلة أو محطة من محطات العمر، بل هي ثقافة تتكاثف لتحكم كل المراحل العمرية، وتتكرر مؤثراتها القولية والفعلية على مدى أربع وعشرين ساعة في اليوم (بما في ذلك منطق الأحلام)، حتى تتجسّد عادات وتقاليد وأعرافا، و"أصعب شيء في مسار تحولات التاريخ البشري هو تغيير العادات والتقاليد، لا سيما ما ترسّخ منها في العقلية الشعبية، وخصوصا ما حظي منها بصفة المقدّس، وما اندغم بترابها واندمج في تراثها، مصدر هوية الجماعة وحافظ ذكرتها التاريخية، ذاكرة المكان حيث يحقق الإنسان وجوده"(التراث العربي، خليل أحمد خليل، ص153).

لا ريب أن الإسلام يمثّل أكبر منعطف روحي وفكري في تاريخ العرب. ومع هذا لم تكن المتغيرات الروحية والفكرية التي أحدثها قادرة على تجاوز الأنساق الثقافية الموروثة التي بقيت في العمق تشتغل من خلال الوسيط الأدبياتي الإسلامي، أو على الضد منه في صراع صريح معه على أرض الواقع. وحتى في لحظات القداسة الأولى، وفي وقت كانت فيه الانعطافة الروحية/ الفكرية في أوج توهجها القدسي، وعلى يد كثير ممن أرسى الدعائم الأولى، كان المكنون الثقافي الأعمق يطل برأسه؛ مهددا كل المكتسبات التي بدت للوهلة الأولى وكأنها استقرت في أعماق النفوس، وتمكّنت من ضبط معادلات الواقع.
يمكن اعتبار ما يسمى بـ"الفتنة الكبرى" نموذجا للثقافة الأعمق عندما تكشف عن نفسها في عناد واضح وصريح مع الطارئ الثقافي/ الروحي الذي مثّله الإسلام. فبعد غياب المُلهِم/ النبي ـ ص ـ مباشرة، عادت معادلات الواقع ـ المحكومة بمنطق الثقافة المطمورة حديثا ـ لتشاغب المشروع الجديد في عَصَبه الرئيس/ تشكيل النظام السياسي ذي المرجعية الروحية. ثم كانت المفاجأة الفتنة الكبرى التي صدمت حتى أولئك الذين أصبحوا أهمّ أدواتها؛ عندما بدأ منطق الاحتراب (المتضمن منطق العشائرية الأولى المناقض لمنطق التضامن الروحي) يحاول إعادة نفسه إلى الواقع على حساب أهم وأقدس مبادئ الدين الجديد
إن هذه الواقعة بأحداثها المتتالية/ المتعاقبة صدمت وأربكت وأحرجت ـ ولا تزال تصدم وتُربك وتحرج ـ الضمير الإسلامي الذي يحاول تفسيرها وتبريرها، بل والقفز عليها بتزييف السرديات التاريخية أو تحويرها؛ تحت وطأة منطق مضمر يهمس قائلا: إن ما حدث ما كان يجوز أن يحدث أبدا. ورغم كل محاولات التفسير التبريري، ورغم كل محاولات القفز والتزييف والتحوير، لا تزال هذه الانتكاسة/ الواقعة الجارحة للضمير حيّة إلى اليوم، حتى في أدبيات المتأسلمين؛ بشكل صريح أو غير صريح.
عرب اليوم لا يزالون؛ كما كانوا، يصنعون صورا تبجيلية عن أنفسهم، وصورا تبخيسية عن الآخرين، ثم يعتقدونها حقائق واقعية لا تقبل الجدال
نجد التونسي الذي يقدم نفسه كإسلامي تقدمي/ صلاح الدين الجورشي، يقول عن هذه الفتنة الكبرى: "حدثت رجفة حقيقية كشفت طبيعة التوحش الكامن في الإنسان العربي، رغم القناعات الدينية. وبعد عشرين سنة فقط من محاولة رفع البناء والسماح للنواة بالنمو، حدث الانفجار الرهيب" (الإسلاميون التقدميون، صلاح الدين الجورشي، ص164).
إلى اليوم لا تزال النظرة التقليدية التبجيلية (التي قد لا تكون صريحة، بل هي متضمنة أحيانا حتى في مشاريع نقد التراث) تقف حائلا دون تأسيس وعي حداثي حقيقي. وإذ "لم تكن الأخبار التاريخية عند الرواة المسلمين الأوائل غاية في ذاتها، بل انحصرت قيمتها في تكوين صورة تاريخية دالة ومتسقة مع معتقداتهم وتوقعاتهم" (الإسلام شريكا، فريتس شتيبات، ص150)، فهذا واقع معرفي/ بحثي يحكمه المنطق التبجيلي. وهو واقع لم يتغير منذ فجر تاريخنا حتى اليوم إلا في حالات فردية نادرة جدا؛ رغم كل مسارات التحديث المعرفي التي يبدو أنها لا تسير في اتجاه البحث المعرفي عن الحقيقة؛ بقدر ما هي جزء من مشروع الفخر الذاتي.
لا زالت النتائج ـ في مسار الثقافة العربية ـ توضع قبل بداية البحث. لا تزال البحوث مجرد تهميش/ هوامش على المسلمات العقائدية لتأكيدها (المسلمات العقائدية المقصودة هنا هي ما يكون في السرد التاريخي، لا في السرد اللاهوتي)، بدل أن تكون نتائجها هي التي تكتب المتن العقائدي لتصور أحداث التاريخ. لهذا، بقيت هذه الثقافة تقليدية/ غير حداثية؛ فعجزت عن الوعي بذاتها؛ إذ عجزت عن مواجهة ذاتها وتحويلها إلى موضوع للبحث الموضوعي. ومن ثمّ، تحولت من أداة لنقض وتقويض الواقع التقليدي، إلى أداة لترسيخه وتحصينه؛ بترسيخ وتحصين مكوناته الأساسية التي يتأسس عليها كل ما نراه من مسلمات في كل المجالات.

الوقوف ضد يقينية المفاهيم وكذب الحقائق والشك فى الركون إلى معانى اللغة المرتبة المنظمة الممنهجة، والشك فى التاريخ وفـى خطيـة الظواهر وتسطحهـا وتراكمها الزمنى... إلا أن كل ذلك يدخل تحت مظلة واحدة، وتفسير ذلك هو أن الحداثة لم تأت منهجا متكاملا وبناءً تاما نكشف أجزاءه بالمعاينة، وإنما جاءت كمشروع لتقويض عناصر العالم القديم ومكوناته، سواء منها السياسـى والاجتماعـى والثقافـى والمنهجـى العلمـى والفكرى الاجتهادى، والاقتصادى، والمؤسساتـى والعقيدى؛ اللائكى ضد الكنسى، الجمهورى ضد الملكى، التجريبى العلمى ضد العقيدى الظنى الترجيحى المنهج الوضعى ضد الفلسفة الميتافيزيقية التعدد ضد الأحادية، اللاشعور الكشفى ضد التاريخى المتوارث، الفرد المستقل ضد الجماعة المنقادة، الشاعر المجنون ضد مهرج الملك،... الخ. فالحداثة كائن دائم التنافى لذلك نجد الحداثيين اللاتين (ثم السرياليين بعدهم) يبدأون ضد التنظيمات لكى يتحولوا إلى متحزبين شرسين دون تغيير زوايا تفكيرهم وأدواتهم 
الإبداعية ومقولاتهم التقويضية لكل ما هو رجعى.
******************************************************
مهموم بالتنوير منصور النقيدان
 أبرز الإشكاليات التي تُثيرها ثنائية الإسلام والحداثة والقراءة العلمية الحديثة للنصوص التأسيسية في الإسلام


قضية التجديد الديني والنقد القوي للأصولية الإسلامية وعدم مواكبة المؤسسات الدينية في الإسلام ورجال الدين لــ«لاهوت الحداثة» وما بعد الحداثة، كما حدث في المسيحية في أوروبا، التي دخلت اليوم في «الباراديغم اللاهوتي لما بعد الحداثة» في حين أن الإسلام «لا يزال غاطساً كلياً في الباراديغم اللاهوتي التكفيري للقرون الوسطى. وهذا يعني أن مشايخ الإسلام لم يسمعوا حتى الآن بالإصلاح الديني، ناهيك عن التنوير الديني ولاهوت الحداثة وما بعد الحداثة». يرى هاشم صالح أن هذا التأخر المريع في فهم الدين هو سبب كل المشاكل التي نعاني منها حالياً؛ هذا الانغلاق اللاهوتي داخل أقفاص عقائدية عفَّى عليها الزمن هو سبب صدامنا مع العالم كله حالياً"على حد تعبير صالح".


 إصلاح مناهج التربية الإسلامية في المدارس في العالمين العربي والإسلامي، إذ لطالما شدد على ضرورة ترسيخ ثقافة التنوير والتفكير النقدي في النفوس والنصوص. وهو مشغول أيضاً بالقطيعة الإبستمولوجية مع العقلية التراثية التي خبرتها المسيحية في الغرب، معتبراً أنه لا بد من النظر إليها وأخذ العبر والدروس:"كان المسيحيون يرددون على مدار القرون المقولة اللاهوتية التالية: «خارج الكنيسة المسيحية الكاثوليكية البابوية الرسولية لا مرضاة عند الله ولا نجاة في الدار الآخرة»، وهي مقولة تكفيرية بامتياز. لماذا؟ لأنها تعني أن أديان الآخرين كالإسلام واليهودية والبوذية... إلخ غير مقبولة عند الله وبالتالي فأصحابها لن يحظوا بجنة الفردوس. بل ليس فقط الأديان الأخرى مدانة ضمن هذا المنظور اللاهوتي الكاثوليكي الانغلاقي، وإنما المذاهب المسيحية الأخرى مدانة أيضاً، وخصوصاً المذهب البروتستانتي. فهو معتبر بمثابة مذهب الزنادقة والهراطقة، وعليه فأتباعه لا أمل لهم بالنجاة في الدار الآخرة، هذه الفتوى الكاثوليكية سيطرت على العالم المسيحي طيلة قرون وقرون، حتى جاء مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) وتخلى عنها.


هل تعتقدون أنه تخلى عنها بسهولة؟ أبداً لا. فقد كانت تشكل جوهر العقيدة الكاثوليكية، ولكن الحداثة العلمية والفلسفية الصاعدة في أوروبا أجبرت الكاثوليكيين على إحداث هذه القطيعة المُرة مع أحد ثوابتهم العقائدية الأساسية. وهذا يعني أن الثوابت يمكن أن تتغير وتتعدل. ونحن في الإسلام- حسب صالح- نقف الآن في مواجهة الإشكالية العويصة ذاتها. فهناك فتاوى فقهية أو لاهوتية تكفر جميع الأديان الأخرى، بل وحتى جميع المذاهب الإسلامية الأخرى، ما عدا مذهب أهل الفرقة الناجية. كلهم في النار ما عدا واحدة، كلهم عقائدهم مرفوضة وغير مقبولة عند الله".


لقد طرح هاشم صالح دائماً في مؤلفاته ومقدمات ترجماته تحديات كثيرة أمامنا. هو مهموم بقضايا أساسية للخروج من دوامة التكفير والولادة المستمرة للتنظيمات التكفيرية، ونحن الباحثين والكتاب لا بد لنا من قراءتها بهدوء بغية الخروج من الواقع المرير الذي يمر به الإسلام في القرن الحادي والعشرين، والذي يعبر عن نفسه بأزمات دورية وانفجار مخيف للعنف الديني والأصوليات والصراع المذهبي والابتعاد عن أنماط التدين الشعبي التقليدي المتصالح مع الآخر والإيمان الرقيق.


********************
1- مزاعم أن التنوير ابن بيئة اجتماعية وسياق تاريخي مغاير، وبالتالي هو بضاعة غيرنا ولا تلزمنا، لأن استيرادها واستهلاكها مضر بنا ضرراً بالغاً، ومن ثم فإن من الضروري تجاهلها، والأفضل هو التشكيك فيها ودحضها. وقد روج هؤلاء كثيراً لمقولة فاسدة جعلت كثيرين يحسبون أن التنوير نقيض للإيمان.حقيقته كده
2- مزاعم أن خروجنا من مأزقنا ليس بالتنوير، الذي يعني في مقصده التقدم إلى الأمام في التاريخ، إنما بالعودة إلى الماضي، من خلال استلهام تجربته، والتمسك بمقولات وتصرفات منا عاشوا فيه، باعتبارهم «الجيل الفريد» الذي تأسس الإسلام على أكتافه، وفهم معانيه ومراميه، وعمل على نصرته.
ويزعم أصحاب هذا الموقف الملتوي، الذي يسبب خسارة فادحة لنا، أنهم متمسكون بالثوابت، وأن ما هم عليه هو الصواب لأن صلاحيته مطلقة، وإن تبدلت الأحوال وتغيرت الأجيال، وهنا يتساءل الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود: هل هنالك تناقض بين قبولنا لتلك المعايير الثابتة المطلقة من جهة، وقولنا من جهة أخرى إن الحق يتغير بتغير الموقف الذي يصادفنا،
 إن المتشددين والمتطرفين توسعوا في تعيين الثوابت التي يتحدثون عنها، وأفرطوا في إقحام أمور كثيرة زاعمين أنها تدخل في باب الاعتقاد، ولذا فإن المفرّط فيها يخرج في نظرهم من الملة.
ولهذا فلا بد من أن نبذل جهداً في تحديد الثوابت تلك، وربطها في أغلبها بالمسائل العقدية الموصولة بالإيمان كما تعارف المسلمون عليه (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، أما المسائل الخاصة بالشريعة فتحتاج إلى نقاش أعمق لمعرفة الثابت منها والمتغير، وهو أمر ضروري للخروج من المتاهة التي نلف وندور فيها دون أن يلوح أمامنا أي مخرج حقيقي حتى الآن.
3- مزاعم حول وجوب أن يكون المتاح لنا من تغيير، إن دعت الضرورة الملحة إلى هذا، في حدودٍ مقدرة بأوزان تتسم بالثبات والرسوخ، إذ لا يمكن القفز على الموروث وما يحويه من معارف وقيم واتجاهات، وبالتالي يصبح الحيز المتاح للتغيير مشدوداً بحبال غليظة إلى «النقل» وليس إلى «العقل» في الغالب الأعم.
بالقطع يحوي «القرآن الكريم» آيات عديدة لا تجافي التنوير، بل تطلبه، وتفرضه، وتلح عليه، حين تنادي بضرورة إعمال العقل، والتدبر في أحوال الناس وموجودات الطبيعة، والإيمان بأن التطور من سنن الحياة، وإعلاء حرية التفكير والتعبير والتدبير، وإنهاء أي واسطة بين العبد وربه، بما يعني تحرير الإرادة الإنسانية في العبادة والإفادة.
إن التنوير ضرورة الآن، ليس لنا فقط، إنما للبشرية جمعاء، بما فيها الغرب الذي نتحدث باستفاضة عن تنويره، ولذا يقول الناقد والفيلسوف تودوروف، تحت عنوان «لماذا نحن دوماً في حاجة إلى فكر الأنوار»: «تبقى مبادئ الأنوار الكبرى راهنية أكثر من أي وقت مضى. فبمقدورنا على سبيل المثال أن نعود إليها للدفاع عن نظرية التطور.. وبإمكاننا التسلح به لنشجب وندين الحروب الحالية التي تزعم نشر الحرية والديمقراطية، ولنحترم تعدد الثقافات والسياسات، واعتبار النجاح الاقتصادي وسيلة لا غاية»
إن التنوير هو المطلوب حقاً، وليس ما يثار حالياً عن «تجديد الخطاب الديني» إذ إن ذلك يشكل الحد الأدنى الذي لا أتصور أن بمُكنته أن يخرج المسلمين من المأزق الذي يعيشونه الآن، بعد أن حول بعض المتطرفين منهم الدين من مصدر للسعادة إلى سبب للشقاء.
**************************
استندت مقاومة التنوير، كمقاومات أخرى يولع بها غير قليل من العرب، على صورة نمطية يبدو فيها خطراً على الدين، وتهديداً للمُقدَّس. وعصفت هذه المقاومة بدعوات تنويرية متكررة استُهجنت، وقُمع دعاتها أو هُمشوا. وأخفق التنويريون في بناء جسور مع مجتمعاتهم، فلم يتيسر لهم توضيح معنى التنوير بخلاف ما فعله تنويريون أوروبيون كالفيلسوف الألماني عمانويل كانط في كتابه «رد على سؤال ما هو التنوير» الصادر عام 1784.


أوضح كانط أن التنوير يعني تحرير الإنسان من حالة ذهنية متخلفة ارتاح إليها أو خضع لها طوعياً حين أقنع نفسه، أو أُقنع، بأنه عاجز عن استخدام عقله وإدراك ما يحدث حوله، ما أدى إلى توارث تقاليد الخضوع للوصاية وإعادة إنتاجها.

وعندما نتأمل هذا المعنى، ربما نخلص إلى أن مقاومة التنوير كانت في الوقت ذاته مقاومةً لأي تطور باتجاه إعمال العقل، وإدراك قدرته على إعادة صوغ الحياة على الأرض

عقلانية وعلمانية: التنوير الذي يحتاجه العرب

لم تكن حال العرب في حاجة إلى تنوير فكري، منذ بدء احتكاكهم بالغرب مطلع القرن التاسع عشر، مثلما هي الآن، مع التدهور غير المسبوق منذ قرنين. قاوم كثيرون في العالم العربي أفكاراً وأنماط حياة حديثة ظنوها تتعارض مع تقاليدهم أو قيمهم أو تراثهم أو عقيدتهم. وأنتجت هذه المقاومة فائض تخلف وتعصب وتطرف أغرق المنطقة، وفاض في العالم.
استندت مقاومة التنوير، كمقاومات أخرى يولع بها غير قليل من العرب، على صورة نمطية يبدو فيها خطراً على الدين، وتهديداً للمُقدَّس. وعصفت هذه المقاومة بدعوات تنويرية متكررة استُهجنت، وقُمع دعاتها أو هُمشوا. وأخفق التنويريون في بناء جسور مع مجتمعاتهم، فلم يتيسر لهم توضيح معنى التنوير بخلاف ما فعله تنويريون أوروبيون كالفيلسوف الألماني عمانويل كانط في كتابه «رد على سؤال ما هو التنوير» الصادر عام 1784.
أوضح كانط أن التنوير يعني تحرير الإنسان من حالة ذهنية متخلفة ارتاح إليها أو خضع لها طوعياً حين أقنع نفسه، أو أُقنع، بأنه عاجز عن استخدام عقله وإدراك ما يحدث حوله، ما أدى إلى توارث تقاليد الخضوع للوصاية وإعادة إنتاجها.
وعندما نتأمل هذا المعنى، ربما نخلص إلى أن مقاومة التنوير كانت في الوقت ذاته مقاومةً لأي تطور باتجاه إعمال العقل، وإدراك قدرته على إعادة صوغ الحياة على الأرض.
وهذا جوهر مفهوم العقلانية الذي يتعذر في غيابه تنظيم المجتمع بطريقة تفتح أمامه آفاق التقدم. ومن أهم ما فشل العرب في تنظيمه، بهذا المعنى، العلاقة بين الدولة والدين في بلدانهم. وما زال هذا الإخفاق عاملاً جوهرياً، إن لم يكن الأهم، في الأزمات الثقافية– السياسية التي لا نكاد نخرج من إحداها لندخل في ثانية، حتى أن بعضنا بات يعتقد بصعوبة، وربما استحالة، تحقيق توافق في شأن علاقة الدولة والدين على أسس عقلانية.
غير أن هذا التوافق ممكن فقط في حالة تحرير العقل العربي من صورة نمطية للعلمانية تبدو فيها مناقضة للعقائد الدينية، أو خطراً عليها. يتطلب الأمر شيئاً من العقلانية لفتح حوار جاد حول نموذج لعلمانية عربية تقوم على مبادئ ثلاثة: أولها، حياد سلطة الدولة تجاه الأديان، عوض تأسيسها على مرجعية دينية، أو اتخاذها موقفاً ضد الأديان على الطريقة السوفياتية وما يشبهها. ويعني حياد سلطة الدولة هنا التزامها ضمان حقوق المواطنين جميعهم في العبادة، وممارسة الشعائر على قدم المساواة.
وثانيها، التمييز بين المساحة السياسية، والمساحات الأخرى في المجال العام. ووفق هذا التمييز، لا يُفصل الدين عن المجال العام كله، بل عن المساحة التي يشغلها النظام السياسي، أي التي تحدث فيها التفاعلات المتعلقة بتنظيم سلطات الدولة، وصنع السياسات العامة، والتنافس بين الأحزاب وما يشبهها من كيانات.
فقد أظهرت التجربة التاريخية الإسلامية أن الخلط بين الدين والسياسة أساء إلى كليهما، وأعاق الحركة إلى الأمام في المرحلة التي انطلق فيها الغرب، وحقق نهضته، عندما أُطلق العقل من أسره، وأُرسيت قواعد شملت فصل الدين عن سلطات الدولة كافة. ولكن هذا الفصل توسع في بعض الحالات، وتجاوز سلطات الدولة إلى المجتمع، ما ساهم في تدعيم الصورة النمطية السلبية للعلمانية في كثير من الأوساط العربية. لكن لم يثبت أن هناك ضرورة لهذا التوسع، بل تتيح دراسة تجارب العلمانية في الغرب والعالم، والمقارنة بينها، استخلاص أنها تكون أكثر فائدة حين يُفصل الدين عن السياسة، وليس عن المجتمع.
ولذا يحتاج العرب إلى تنوير بعلمانية تفصل الدين عن مساحة محددة في المجال العام، وهي مساحة العمل السياسي، وليس عن المساحة التي تشغلها النشاطات الاجتماعية والثقافية، سواء في المجتمع العام، أو في المجتمع المدني بمنظماته وروابطه وجمعياته بأنواعها وأهدافها، وكل ما يتعلق بالاهتمامات التي تتجاوز الحيز الخاص للإنسان، أي أسرته وعمله وصداقاته وعلاقاته الشخصية. ويتطلب ذلك أن تدرك سلطة الدولة أخطار استخدامها الدين لدعم سياسات تنتهجها، أو تبريرها، لكي لا يكون موقفها ضعيفاً من الناحيتين المعنوية والأخلاقية إزاء توظيف أحزاب وجماعات سياسية للدين، وممارسة جمعيات وهيئات دينية وصاية على الناس والمجتمع.
ولعل آخر أمثلة هذا المجال التدخل الرسمي في قضايا كالطلاق الشفهي في مصر، والميراث في تونس، والإجهاض في الجزائر. وعندما يحدث تدخل كهذا من دون مقدمات في المجتمع، فقد يؤدي إلى آثار عكسية، لأنه يثير جدلاً يتجاوز محتوى الطرح الرسمي، ويفتح مساحات لمزاعم حول وجود خطر على الدين.
ويشمل تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، هنا، عدم توسع السلطة في استخدام الأدوات التشريعية في هذا التنظيم وترك الجزء الأكبر منه للمجتمع، بحيث يكون تدخلها في هذا الاتجاه مرتبطاً بحدوث تطور في المجتمع، أو دعمه في بدايته، وليس سعياً إلى فرضه من أعلى من دون أساس موضوعي له.
ويقود ذلك إلى المبدأ الثالث في هذا النموذج العلماني، وهو أن الدين ليس محصوراً في المجال الخاص للإنسان. والعلاقة وثيقة بين هذا المبدأ وسابقه، لأن الدين حاضر بالضرورة في المجال العام الاجتماعي– الثقافي، الذي يمتد في مساحة معتبرة في أي مجتمع. وإذا صح أن الدين هو في الأساس جزء من الحيز الخاص للإنسان، الذي لا يحق لأحد التدخل فيه، فصحيح أيضاً أنه لا يقتصر على هذا الحيز.
والحال أن الإيمان الديني يعد شأناً خاصاً تماماً، ولكن تجليات الدين تتجاوز المجال الخاص، وتشغل مساحة في المجال العام الاجتماعي– الثقافي.
وإذ تبدو العلاقة وثيقة بين العلمانية والعقلانية، سواء في مفهوم التنوير الغربي أو في التنوير الذي يحتاج إليه العرب اليوم، يصبح ضرورياً إدراك أن التقدم باتجاه هذا التنوير يتطلب عقلاً علمياً نقدياً لا يكتفي بمحاكاة التطبيقات العلمية والتقنية الحديثة، بل يربط بين المكونين التقني والمعرفي– القيمي للعلم، ويفتح الطرق المغلقة أمام إعادة تنظيم المجتمعات العربية في مختلف مناحي الحياة، وفي المقدمة تنظيم العلاقة بين الدولة والدين.
وحيد عبد المجيد
عمار علي حسن


 حتمية تجديد الخطاب الحياتى والثقافى والدينى خاطب الرئيس
السيسى من تجمدت وتكلست معارفهم وضـاق أفق رؤيتهم «أنتم
َ خايفين لنضيع الدين، هو اللى إحنا فيه دا إيه ؟، فيه أكثر منه ضياع
للدين، أنتو عاوزين إيه أكتر من كده ؟.»لقد دفع فلاسفة التنوير ثمن جرأتهم الفكرية والنقدية، ليبرز فى
النهاية السؤال : هل نحن على استعداد لدفع ثمن التنوير مثلما دفع
هؤلاء ليقفزوا إلى دنيا الحداثة وما بعد الحداثة ؟
++++++++++++++++++++++++

الدين و الحداثة قراءة في الحداثة كحاجة دينية للكاتب الدكتور توفيق السيف الفصل الثاني: الإسلام والنهضة: السؤال الخطأ

إن ما في نفوس المسلمين هو إسلام ملون بلون مجتمعهم فهو إسلام متخلف مثلهم، لذلك تجدنا ندور في دائرة مغلقة، فلننظر كيف قمع الكتاب وأهل الرأي حتى بلغ ما أغلق من الصحف والمجلات في بضعة أعوام ما يزيد على المائة وسخرت دولة علماء الدين أقوى المنابر و وسائل الاتصال من الإذاعة والتلفزيون والصحف ومنابر الجمعة لدعوة الناس إلى الدين طيلة ربع قرن ومع هذا فإن معظم الدراسات والبحوث الميدانية تشير إلى تراجع مستمر في الالتزام بالدين وأن المزيد من التدين لم يغير من واقع الحال شيئاً ولا دعاة الدين قدموا نموذجاً تختلف عما تعرفه من حال بئيس في شتى الأقطار، وخلاصة الكلام إن ما لدينا من الدين هو في حقيقة الأمر النسخة القديمة من الدين التي تركها لنا أجدادنا وفيها يختلط الجوهري من الرسالة بالصور والاطارات التي هي انعكاس للظرف الاجتماعي الخاص بزمن الأجداد وهي لا علاقة لها بالعصر، وإننا بحاجة إلى نسخة جديدة من الدين نسخة تتناغم مع عصرنا الراهن في حاجاته وتحدياته وهموم أهله.
حماية الحريات العامة هي الحد الأدنى من متطلبات التحديث ويتلوها المشاركة السياسية وصولاً إلى الديموقراطية الكاملة وعلى المستوى الاقتصادي فإن الشرط الأول هو توفر البيئة المناخية للاستثمار وحماية الملكية الفردية وعلى المستوى الاجتماعي نجد العقلانية وربط مكانة الفرد بكفاءته الشخصية لا هويته الموروثة وعلى المستوى الثقافي فإن احترام العلم وتحريره من قيود الايدولوجيا والتعويل عليه في تقديم الحلول هو الشرط الأول للحداثة.

تاؤيخ الرواية العربية


 نجيب محفوظ
 لم يصل إلى هذه القمة إلا بالعمل الدائم والجهد الصبور والقراءات الواسعة: العميقة 
والشاملة فى آداب وفلسفات العالم الحديث والمعاصر على السواء
رواية «أولاد حارتنا» التى أثارت - ولا تزال تثير - تيارات الإسلام السياسى، قاله المتنبي:
وَلم أرَ فى عُيُوبِ النّاسِ شَيْئًا كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
 رواية «أولاد حارتنا» - ولا تزال - هى سيرة الصراع بين أنصار الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، وأنصار الدولة الدينية الإسلامية القائمة على استبداد يشابه النظام الدينى الاستبدادى فى إيران مثلًا؟

بدايةً من عام ١٩١٣، مع صدور رواية «زينب» للكاتب محمد حسين هيكل
 كامتداد للتيار الواقعى الذى ازدهر فى أوروبا، على يد كتّاب مثل «ديكنز» فى إنجلترا، و«بلزاك» فى فرنسا، و«جوجول» فى روسيا.
وسرعان ما ظهرت أعمال أدبية عربية تعكس الواقع وتشتبك معه خلال الخمسينيات والستينيات، لكتّاب كإحسان عبدالقدوس، نجيب محفوظ، يوسف السباعي، محمود المسعدي، وغيرهم


ومن أبرز الروايات الغربية التى اضطلعت بهذا الدور التأسيسي، رواية «الإنسان الصرصار»، أو «فى قبوي»، الصادرة فى عام ١٨٦٤، للكاتب الروسى الكبير فيودور دوستويفسكي
 فهى تعد إحدى الروايات الأولى التى انطوت على نزعة وجودية واضحة، ويعتبرها البعض أول رواية وجودية بالفعل، وموضوع الإنسان الصرصار، هو مناقشة هيمنة الأنانية القائمة على المنفعة الذاتية، والمثالية المفرطة غير العملية للإصلاح السياسى والاجتماعي، وسيطرة أسواق المال الغربية، واستحواذ التكنولوجيا على الحقيقة، وهو ما يحمل الرواية بعدًًا كونيًًا واسعًا، يتخطى حدود القرن الذى وُلدت فيه.

وتعد رواية «الجريمة والعقاب»، الصادرة فى ١٨٦٧، للكاتب نفسه، بذرة مدرسة التحليل النفسي، التى ازدهرت فيما بعد، وعلى نحو علمى ونظرى متماسك، على يد الطبيب النفسانى سيجموند فرويد، وقد اعترف فرويد، بدور دوستويفسكي، فى تسليط الضوء على الكثير من الجوانب النفسية التى تصدّى هو لتحليلها وتحويلها إلى مقولات علمية فيما بعد، والرواية تسرد حكاية طالب مثقف، فقير، يحمل أفكارًا مفادها أن تخليص المجتمع ينبغى أن يتم على أيدى بعض الأفراد الممتازين المؤهلين للاضطلاع بهذا الدور،

بالتساؤل حول دور الرواية، والأدب عمومًا، فى توجيه أو خلق تيارات فلسفية ما، وعدم إمكان ملاحظة هذا الدور فى تجربة الرواية العربية،

الواقعية القذرة أو السافرة أو واقعية القاع فى أمريكا مع كتابات «ريموند كارفر»، و«ريتشارد فورد»، و»بول أوستر»، ليتأثر بها كتاب التسعينيات فى مصر، فتظهر نصوص «أحلام محرمة» لمحمود حامد التى تمت مصادرتها، وكذلك «بهجة العمى» لياسر إبراهيم، و«فاصل للدهشة» لمحمد الفخراني، و«وقوف متكرر» لمحمد صلاح العزب، وكلها، مثل باقى النصوص الأخرى، متبِعة، وليست مبتدَعة، تحاكى الطريقة الغربية فى السرد، لكنها تسقط ذلك على الواقع المصرى والعربي،

فالرواية فن نشأ بالأساس فى فرنسا، أى أنه فى شكله الحديث، فن غربى بامتياز، وهذا أمر لا يقلل من شأن روايتنا وأدبنا،





الاثنين، 19 نوفمبر 2018

تكاملية المسار التشريعي بالمشاركة

 إدارة العملية التشريعية التى تصل فى نهايتها بصدور التشريع ما هي إلا تعبيــر عـن (النضج القانوني والسياسي للمجتمع)، فإذا أردت أن تعرف نظاما بلغ غايته فى تحقيق رغبات مواطنيه وعبر عن المشاركة السياسية والديمقراطية فيجب النظر إلى المسار التشريعي المطبق، حيث إن إدارة العملية التشريعية عملية متشابكة بها ثلاثة أركان (الركن الدستوري) لتحقيق التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية و(الركن السياسي) يتعلق بتقوية البنية الحزبية، و(الركن الفني) الذى يتعلق بضمان توافر عوامل كفاءة الأداء فى المؤسسة التشريعية و(الركن  الرابع) الذى أجد من وجهة نظرى أنه من الضرورى إضافته وهو (الركن المجتمعى) الذى يتعلق بتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية المدني لضمان توافر الممارسة الديمقراطية، حيث إن العملية التشريعية لا يمكن النظر إليها فى قالب جامد فهي وثيقة الصلة بالواقع  المجتمعى والسياسي والاقتصادي المحيط بها، وهذا ما يؤكده دور المجالس التشريعية لوظائفها ولذلك فإن إدارة العملية التشريعية تكون محصلة لتفاعل هذه الأطراف المجتمعية والسياسية والاقتصادية للوصول إلى  زيادة نسب التنفيذ والتطبيق التلقائى للقوانين والتشريعات والسياسات النابعة من إطار تشاركى  للمجتمعات.

ففلسفة التشريع يجب أن تكون  (واضحة ومرنه وصالحة للتطبيق على المدى الطويل) لضمان الاستمرارية وزيادة نسب التنفيذ الفعلية كما يجب أن تراعى (العلاقة التشاركية)  بين السلطة وأطياف المجتمع  والأمن والحريات، حيث إن هذه الخاصية تجعل المواطنين يدركون أن التشريع نابع من المجتمع بالمشاركة وجاء ليطبق وأن مجيئه ليس للتهديد، حيث إذا اعتقد المواطن أن التشريع جاء ليهدده فينصرف عنه ولا يطبقه ونعود إلى ظاهرة عدم الالتزام بالقواعد والقوانين فشَتَّانَ فى التنفيذ بين سياسات وقوانين نابعة بالمشاركة المجتمعية لجميع أطياف المجتمع وتنفيذ قرارات وسياسات وتشريعات نابعة دون المشاركة، بالإضافة إلى عامل مراعاة العلاقة النفسية بين التشريع والمواطن، وهذا عامل فى غاية الأهمية لأنه إذا كان لدى المواطن شعور وإدراك بعدم مشاركته بالعملية التشريعية وعدم ديمقراطيتها فإن هذا يؤدى إلى آثار سلبية فى العلاقة النفسية التى تربط المواطن العادى بنظامه القانوني،

ثيرا فى القوانين والتشريعات الاقتصادية والضريبية وقوانين العمل والعاملين وبعض القوانين المدنية وقوانين المرور والكهرباء وقوانين المحليات والقوانين الجمركية وقوانين الأسواق وخلافه، وخصوصا التشريعات التى تقوم على  تنظيم ثقافة المجتمعات الذاتية. 

حيث تقوم فلسفة هذا النموذج من خلال مفهوم (المشاركة المجتمعية ) لجميع أطياف المجتمع فى التشريعات والسياسات والقوانين والمقترحات وذلك وصولا إلى تجديد (الثقـةبين الحكومة والمواطنين) كأحد أدوات الديمقراطية التشاركية فى تشريع وإدارة الشأن المحلى ، ومن خلال أيضا نقل تجارب الدول بما يتناسب مع طبيعة الدولة،

آليات نموذج ( تكاملية المسار التشريعي بالمشاركة) (ILPP )
1-    الآليَّة الأولى المشكلة الموقف المقترح
•  تحديد المشكلة.
• تحديد الأطراف الفاعلة للمشكلة.
• تحديد الفئات المستهدفة للمشكلة.
• تحليل المشكلة  / المقترح من خلال نموذج (SWOT) من عوامل داخلية وخارجية و نقاط  قوة وضعف وفرص وتهديدات.
2- الآليَّة الثانية الهدف والآليات
• تحديد الهدف العام والأهداف الفرعية من التشريع.
• تحديد الآليات المستخدمة.
3- الآليَّة الثالثة  المشاركة المجتمعية من خلال التالى:  
• إنشاء  صفحة وموقع إلكترونى لعرض مسودة القانون لمدة لا تقل عن 10 أيام.
• الحوار المجتمعى  لبعض الفئات المستهدفة وأطياف المجتمع المدنى.
• نشر مسودة القانون على القنوات والصحف الرسمية وحث المجتمع على المشاركة فى إبداء الرأى.
• إنشاء قاعدة بيانات عامة لكل التشريعات الجديدة والقديمة والسياسات والمقترحات.
4- الآليَّة الرابعة الأثر والتداعيات
• دراسة الأثر والتداعيات القانونية من القانون المشرع من خلال التغذية الراجعة للآلية السابقة  (المشاركة المجتمعية).
   المردود العام لنموذج (ILPP )  تكاملية المسار التشريعي بالمشاركة
 -1المشاركة المجتمعية لجميع أطياف المجتمع فى التشريعات والسياسات والقوانين.
2-  زيادة نسب التنفيذ والتطبيق التلقائى للقوانين والتشريعات والسياسات.
3 - زيادة معدلات الثقة بين المواطن والدولة.
4 الحد من المخالفات والانتهاكات.
5 - زيادة معدلات الشفافية والديمقراطية التشاركية .
6 الحد من آثار سلبية فى العلاقة النفسية التى تربط المواطن بنظامه القانوني.
7 – ضمـان الاستمـراريـة من خلال  المشـاركة المجتمعيــة للتشـريعــات والقـوانيـن النابعـة من المجتمع بالمشاركة.
8 - ضمان التحليل والتقييم الجيد  والجودة للتشريعات والسياسات والقوانين.
9 ضمان التواصل المباشر مع المجتمع وزيادة ثقافة المجتمع فى إدراكه ومشاركته فى كل السياسات والقوانين.

+++++++++++++++++
هانى لبيب يكتب: الإصلاح.. النظام الرصين والدولة القوية!
       ٣٠/ ١١/ ٢٠١٩

 وأولويات ذلك الإصلاح هى إعادة الثقة بين المواطن والدولة.. فالدولة كيان قانونى له نطاق جغرافى محدد، يعيش فيه المواطنون، وتحكم علاقاتهم مع بعضهم أو مع جميع أشكال المؤسسات داخل الدولة من خلال قوانين محددة تستند لدستور هذه الدولة. والدولة بهذا الشكل هى كيان باقٍ ومستمر لا تتغير بتغير نظامها السياسى، كما أن الحكومة فى نهاية المطاف هى الآلية التى تقوم الدولة من خلالها بممارسة سلطاتها حسب توجهاتها السياسية والاقتصادية، وهو ما يعنى أن الدولة هى الثابت أما النظام السياسى فهو المتغير، وهو الذى يخطئ ويصيب، وهو الذى يحتاج التقييم وتعديل المسار أو تغييره حسب التحديات.

عدم وجود حالة تفاعل سياسى حقيقى بسبب الأحزاب المتهالكة والأحزاب الكارتونية وأحزاب السلع التموينية، وبسبب حالة الإعلام غير المنضبطة سواء فى عدم قدرته على التناول الموضوعى، أو الدفاع عن الثوابت، أو فشل تسويق الإنجازات والإيجابيات، أو الإخفاق فى الرد على الشائعات الموجهة، وما يتواكب مع ذلك من حالة عدم وعى حقيقى فى المجتمع.. تجعل أصحابها يميلون دائمًا إلى تصديق الأكاذيب لتبرير العديد من الإجراءات الحكومية.


الجمعة، 16 نوفمبر 2018

تفكيك العقل الأصولى

 كتابه «تفكيك العقل الأصولى..النزعات الجهادية فى الديانات الثلاث الإبراهيمية» صلاح سالم
بزوغ أفكار جديدة محفزة للتاريخ، سواء أكانت فلسفية كالحرية والنزعة الإنسانية، أم سياسية من قبيل القومية والعلمانية والديمقراطية، أم علمية حيث صارت التكنولوجيا رافعة الحياة المعاصرة، بينما تحركت الأفكار المحفزة الأخرى إلى ظل التاريخ.. هنا يرى الكاتب أن الأفكار الكبرى جميعها قد لعبت دورها المحفز فى التاريخ، لك
 فالدين ظاهرة إنسانية كبرى، لكن وتحت ضغط الحداثة كان ممكنًا أو ربما مطلوبًا، أن ينزاح الدين من المجال العام السياسى إلى المجال الخاص الفردى، متنازلاً عن طموحه إلى تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات والوصاية على العلوم والمكتشفات، غير أنه فى المقابل لم يكن مطلوبًا أن يفقد الدين كل قيمته أو يعلن عن موته بقوة سيف العقلانية الراديكالية.. فى السياق نفسه يرى الكاتب أن النزعات المادية الكامنة فى تربة العالم الحديث / العقلانى / العلمانى، وما يصاحبها من نزعات شكوكية، وأحيانًا عدمية، أصابت الإنسان بتوتر نفسى لا محدود،
 العقل الأصولى غالبًا ما يختزل الدين فى تفسير أحادى، رغم تاريخه الطويل الذى ينطوى على تجارب متعددة، ويستبطن تطبيقات متناقضة، لكل منها سياق ودلالة، تسعى القراءة الأصولية إلى محو كليهما ليسهل لها إعادة تفسير دينها فى الاتجاه الذى تريد.. والأصوليون وحدهم، يرى سالم، يدعون قدرتهم على استعادة الجوهر المؤسس لمعتقداتهم وإعادة تجسيد النموذج الأصلى للحياة الذى انطلق منه.ومن ثم بلوغ الغاية التى استهدفها، وهو الأصل الذى يتوجب دومًا العودة إليه كلما أراد أتباعه استعادة انطلاقتهم الفتية نحو غايتهم الرئيسة.وعين الأصولى، يقول الكاتب، على المستقبل، أما الماضى فهو مجرد وسيلة، مخزن لأفكار ومقولات جاهزة يستطيع الاستعارة من بينها، ومخبأ لسيوف ورماح يستطيع السحب منها ليرمى بها مخالفيه فى الاعتقاد والطائفة والمذهب.
-------------------


نحو أصولية معاصرة

الإسلام لم يعرف الأصولية كمنظومة فكرية عقائدية إلا بعد أكثر من مائتي عام على البعثة المحمدية؛ فقد كان المسلمون يمارسون الحياة في كافة مجالاتها وحقولها اللغوية والإدارية والسياسية والفكرية والدينية والاجتماعية والثقافية بدون أن تقيدهم أصول مؤطرة ومقيدة.

بعد هذه الفترة الطويلة بدأت المنظومة الفكرية العقائدية تتشكل بهدف الإجابة على الأسئلة الفيزيقية والميتافيزيقية التي طُرحت في كافة مناحي حياة المسلم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والسياسية وغير ذلك. ولقد نشأت حاجة ضرورية لهذا التأصيل والتأطير لأن الدولة في تلك الفترة كانت أعظم إمبراطورية في العالم وكانت تحتاج لمثل تلك المنظومة الأصولية كإطار مرجعي، لتحكم وتقود العالم، ولتُرسي قواعدها الخاصة التي تتماشى مع روح العصر وآلياته ومعرفياته، ولتحقق مصالح الدولة العليا واستمرارها وازدهارها.
الأصولية ليست مقصورة على دين أو مذهب ولا على أمة دون سواها، وتاريخياً كانت الأصولية حركات إصلاح وتجديد؛ وبالتالي فهي ليست حكراً على من يُسمون أنفسهم «الصحوة» التي اختطفت هذه المفردة اللُّغوية، وعملت على تجريدها من مضامينها، وقوانينها، وشروط نموها وتطورها أو تراجعها وانحطاطها.
فنحن في حاجة ماسة إلى إعادة صياغة أصولية معاصرة منفصلة عن الأصولية التراثية التي قامت في العصر العباسي الأول. نحتاج أن نبني بناءً شاملاً للثقافة العربية والفكر العربي، ولن نستطيع القيام بذلك عن طريق المجانسة أو التوفيق بين التراث وبين الواقع، بل يجب الخروج من تلك الثنائية التي نعيشها ثنائية المعاصرة والتقليد؛ لأن التخطيط للمستقبل لا يكون حسب ما كان، بل حسب ما هو كائن، وحسب ما سوف يكون ونصير إليه.
+++++++++++++++++++++++++
زمن الأصولية


«زمن الأصولية.. رؤية للقرن العشرين هو عنوان كتاب للفيلسوف المصرى الكبير الدكتور مراد وهبة 



أزمة المرأة، تناقضات العالم الإسلامى، أزمة العقل العربى، الإبداع، غاندى والأصولية، مفارقة ابن رشد،



 ثلاثة أفكار، هى: الجهاد من أجل الدفاع عن الأصول، رفض النظريات العلمية التى تتناقض مع الإيمان بالوحى الإلهى، رفض آراء الليبراليين اللاهوتيين.



والأصولية عند وهبة هى «التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى»، ومن ثم فإن انفراد الأصوليات بالهيمنة يعنى استحالة الدعوة إلى السلام، لأن السلام لا يتحقق إلا بالمفاوضات على نحو ماهو وارد فى تاريخ الحروب، والمفاوضات تستلزم الانصياع لتنازلات من قبل الطرفين المتحاربين، والتنازلات تقتضى هز ما كان ثابتاً، وبالأدق ما كان يبدو أنه مُطلق، ويكمن خطر الأصوليات الدينية فى أنها مُطلقات، والمُطلقات بالضرورة فى حالة صراع إن لم تكن فى حالة حرب، لأن المُطلق بحكم تعريفه هو واحد بالضرورة، ومن ثم فهو لا يقبل التعدد، وإذا تعدد فإن مُطلقاً واحداً هو الذى يشتهى أن يسود، ومن شأن تحقيق هذه السيادة اشتعال الحروب.



ولأن التنوير يعنى الجرأة فى إعمال العقل، فإن التنوير على علاقة تناقض حاد مع الأصوليات بسبب رفضها إعمال العقل فى النص الدينى مما ترتب عليه رفض الأصوليات للحداثة، لأن الحداثة هى ثمرة التنوير، وحيث إن الحداثة معادلة للثورة العلمية والتكنولوجية التى هى ضمير القرن العشرين، فإن الأصوليات فى هذه الحالة يمكن اعتبارها نتوءاً فى مسار الحضارة الإنسانية، ويرى وهبة أن هناك علاقة بين الدين والاقتصاد، وأن الطبقة الاجتماعية المسايرة لهذا النتوء الثقافى هى طبقة رأسمالية غير مستنيرة ويُطلق عليها مصطلح «رأسمالية طفيلية»، لأنها تتصاعد ثراءً بطريقة صاروخية بسبب تعاملها مع كل ما هو طفيلى مثل: تجارة المخدرات، والسوق السوداء، وشركات توظيف الأموال، و«الرأسمالية الطفيلية» تدخل فى علاقة عضوية مع الأصوليات الدينية، بسبب أن كلاً منهما ضد المسار التنويرى للحضارة الإنسانية.


ويرى وهبة أن «الدوجماطيقية»، أى توهم امتلاك الحقيقة المُطلقة هى مركز الصراعات، ويقع الإنسان فى هذا الوهم بحكم طبيعة العقل الإنسانى الذى يشتهى اقتناص المُطلق حتى يشعر بالأمن والأمان، إلا أن هذا الاشتهاء ليس فى الإمكان تحقيقه لأن العقل بحكم أنه إنسانى الطابع فمعرفته نسبية بالضرورة، ومع ذلك فثمة فلسفات تتخذ من المُطلق نقطة البداية، وترتب عليه ما يطيب لها من أفكار، ويؤسس عليها رجال الحكم أنظمة سياسية تتسم بالقهر والطغيان، فيُقال عنها عندئذ إنها: إما نازية، إما فاشية، إما شيوعية، إما أصولية، وهى كلها تقع تحت بند «الدوجماطيقية»، التى تفرز التعصب بالضرورة.
ولذا بدون العلمانية فإن السلام لا يستقيم، والعلمانية يعرفها مراد وهبة.
ولو تعلم الأصوليون هذا الدرس وأدركوا أنه لا أحد يمكنه امتلاك الحقيقة المُطلقة، لكفوا عن التكفير والعنف، واستراح العالم من شرور الإرهاب وإراقة الدماء، ومن خطر مُلاك الحقيقة المُطلقة.


++++++++++++++

ذهنيّة الأصولي: الخطاب ومعالم الأزمة

لكلّ مجتمع ما يبرّر عودته إلى الوراء، أو إقامته في الماضي من أجل البحث عن المزيد من التّعويض عن إخفاقات الحاضر أو غموض المستقبل؛ هو الإنسان نفسُه في كلّ زمان ومكان من يشعر بهذا الحنين الوجودي إلى الاحتماء، وكأنّ قدرنا أنْ نعيش فرادى أو جماعات مرفوقين بالتردّد، واجترار الماضي،  دون أنْ تكون لنا القدرة على اقتحام المجهول، والتخلّص من أعباء هذا الإرث الذي لم نعُد فيه سوى كائنات عاجزة عن الفهم والاستيعاب، نكون قادرين فيه على التّجاوز والانتقال. إنّه مجتمع ممزَّق بين الماضي والحاضر، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين التّاريخ والمستقبل. أو لِنقُل إنّه: "مجتمع يعاني من جروح نرجسية اكتشف فيها أمام ثقافة الآخر بأنه بلا ثقافة. لهذا لا يمكن أنْ ينتج إلاّ قطيعتين: قطيعة عن الحاضر الغربي، وقطيعة عن ماضيه نفسه[1]"، وذلك سرّ قلقه الوجودي.

الإنسان المتخلّف يشبه المجتمع المتخلف، فهو سلفي تماما لا ينتهي عشقُه للماضي عند هذا الحدّ، كما تزداد سلفيته وتبرز بمقدار النّقص الذي يحياه في واقعه، أو بمقدار الحصار الذي تفرضه عليه الثّقافة المنغلقة،
توقيف حركة النّقد، وتعطيل آلية الفكر والتّفكير[2]

لأنّ التخلُّف في نهاية المطاف ليس قصوراً في العقل، ولكنَّه إطلاق العنان للنّقل،

الخطاب الأصولي وكلّ ما يدور في فلكه هو خطاب ماضويّ يبحث عن الفردوس المفقود، غير أنّه يقدِّم نفسه للإنسان على أنّه المالك لليقين، والقابض على الحقيقة وذلك مكمن خطورته. فالعودة إلى الأصول ليس فقط عودة تأمّلية، أو وقفة للاعتبار والتأسّي، بقدْر ما هي عودة إلى حيث النّقاء والصّفاء والطّهرانية التي تجعل الإنسان ضحيّة نزعة معيارية صنمية للتّراث، 

ولا ضير ما دام الإنسان المتخلّف جزءاً من مجتمع له نفس التّوصيف السّابق يصرّ على استدامة "بنيات التخلّف والانطواء على الذّات ومواصلة تأكيد أوهام الامتياز والإصرار على الاكتفاء وتعليق العجز على مؤامرات الأعداء لتبقى الذات بريئة من الخطأ والتّقصير"[5].

الأصولية ووهم العودة:

لا يمكن أنْ نتحدّث عن ذهنية الأصولي بعيدا عن قوالب التفكير لديه، ولعلّ أهمها ذلك الالتصاق بالماضي، في تماهٍ واضحٍ يكرّس النّظرة الدّونية لكلّ ما هو حاضر ومستقبلي، ويمجّد الماضي بتعبيرات طوباوية لا تستقرّ إلا في ذهنية مثالية تقرأ التّاريخ بإطلاقية، اعتمادا على تأويلات ونصوص شاهدة على حجم التّزييف الذي يمكن أنْ يقع فيه إنسان يؤمن بحتمية أسطورة العود الأبدي، كما نظّر لها نتشه، وتعني أنّ مجموع الأحداث والظّواهر والأحداث سيتكرّر من جديد، بنفس النّظام والطريقة والمقدار الّذي وُجد فيه في الدّورة السّابقة على هذه الدّورة الثّانية. وهكذا تستمرّ الحال وتأتي دائما دورات جديدة لا نهائية ما دام الزّمان غير متناهٍ[6].

إنّ الاحتماء بالماضي بتعبير طارق حجي[7]، وهو يعدّد عيوب تفكير العقل العربي، يعيدنا إلى نقاش إشكالية التّراث، أو الموروث الدِّيني بشكل عام، إذ لكلّ باحث منطلقاته الفكرية. ومنذ أنْ توقّفتْ حركة الاجتهاد، ابتعد الموروث الدّيني عن عملية النّقد، والبحث، والتّنقيب، ونتجَ عن هذه العملية إعادة إنتاج للماضي،

كانت ولا تزال قضية التّراث من هواجس العقل التّجديدي في الفكر الديني، وكذا العقل السّلفي الذي ظلّ يقارب مشكلة التّراث، بوصفها إطاراً مقدّساً يصعب الاقتراب منه، حيث أنّ المعرفة لدى هذا العقل هي ما أنتجه الأسلاف، والمقدَّس هو ما تشكَّل في التّاريخ الماضي. فهواجس العقل السّلفي اقترنت بملامسة التّراث أو مقاربة مضامينه. وما الضّوابط، والقواعد، والسِّياجات المعرفية التي صنعها، إلاّ محاولة لتعزيز الحماية لشكْل هذا الموروث الإنساني، وضمان استمراريته لأجيال مقبلة.

 وحينما يمسُّ التّراث يمسُّ الدِّين وفق الضّرورات المنطقية لهذا العقل.

الجابري
أ- ضرورة القطيعة مع الفهم التّراثي للتّراث: بما أنّ الفكر العربي المعاصر كلّه، ينتمي من ناحية المنهج والرؤية للاتّجاه السّلفي في التّفكير. لا يجب الاختيار بين هذا المنهج، أو ذاك من المناهج الجاهزة سلفاً ( القراءة السّلفية/ اللّيبرالية/ اليسارية )، بل فحْص العملية الذِّهنية التي سيتمّ بواسطتها، ومن خلالها استخدام المنهج؛ بمعنى آخر علينا نقْد العقل، لا استخدامه بهذه الطّريقة أو تلك[11].

يلفت الجابري أيضاً داخل هذا المنهج المقترح، الانتباه إلى مسألة القطيعة الإبستمولوجية؛ فتوظيفُها في هذا السِّياق لا يعني بالضّرورة التخلي الكلّي عن مسألة التراث. فهذه الرؤية نفسُها حسب الجابري، لا تنفكُّ عن القراءات السّلفية التي كانت نتيجة طبيعية لترسّبات الفكر التّراثي في عصر الانحطاط. فالقطيعة هنا تتجاوز المعنى الدّارج، لتصير في مفهومها: "التخلّي عن الفهم التّراثي للتّراث؛ أيْ التحرّر من الرّواسب التّراثية في عملية فهمنا للتّراث."[12].

الأصولية وتكريس الجهل المقدّس:
العقل الإنساني هو القوّة الوحيدة التي يحتاج تطوّرها إلى أفكارٍ مؤلمة تخترق حدود الصمت الممكنة، لا إلى مهدئات ومسكّنات تغرق الإنسان في التفاؤل حدّ تقديس الجهل. وهنا يمكننا أنْ نتحدّث عن هذا المصطلح الفريد والمنحوت بدقّة وعناية من طرف أوليفيه روا. فالجهل ليس دوماً مقابلا للعلم، بل قد يصبح هو العلم نفسه، أو هو القداسة نفسها حينما يحاط بهالةٍ تخرج به عن سلبيته، وتتوسّل بكلّ الإمكانيات المتاحة للمحافظة عليه. ولتوضيح المصطلح "الجهل المقدّس" يرى أوليفيه روا بأنّ العولمة ساهمت بشكل سلبي في بلورة المشروع الفكري للأصوليات، سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية؛ لأنها استفادت من هذا الكمّ المتاح أمامها من التّقنيات لتنشر أفكارها على نطاق واسع[15].
 حرب ناعمة تهدف إلى السّيطرة على عقول الناس ومقدّراتهم. لم تكن العولمة إلا ذلك المارد الذي يخفي في طيّاته خطرا وجوديا على الإنسان، وبدل أنْ يتحكم فيها، تحكّمتْ فيه. 
علي حرب
ومهما فعَلْنا، فسنبقى خاضعين للتّقنية ومحرومين من الحريّة، سواء دافعنا عنها بانفعال أو أنكرناها[17].
إنّ العداء الّذي تفرضه الأصوليات اتّجاه الثّقافة كما يرى هاشم صالح، نابعٌ من كون الثّقافة بالنّسبة إليها منتوج وثني لا يضيف إلى الدّين أيّ شيء، أو إنّ الثقافة بإفرازاتها المتنوّعة تقف حائلاً ومانعا من تطبيق الدّين في المجتمع. وهكذا يتحوّل الجهل بقيمة الأشياء من فنّ ومسرح وموسيقى وسينما إلى غاية الغايات؛ أيْ الجهل الذي يحمينا من لوثة موزار وبيتهوفن ومايكل أنجلو وغيرهم كثير. والجهل الذي يحمينا من أفكار أرسطو وأفلاطون وأساطين الفكر الفلسفي القديم والمعاصر[18]. إنّها طبيعة الأصوليات وعلاقتها بالجهل حينما يرسِّخ قواعده في العقل الإنساني، ويتغوّل إلى الحدّ الذي يصيغ فيه العقول والعواطف. ومن هنا يمكننا فهْم دعوة إبراهيم البليهي إلى التّأسيس لعلم الجهل؛ أيْ ذلك العلم الذي يعرّي فظاعة الخرافة، ويكشف زيف كلّ الموروثات التي تتسلّط على الإنسان بدواعي مختلفة. وبما أنّ الجهل أصبح محمياً بفعل الثّورة التقنية، وبفعل البرامج التّعليمية التي تزكّيه وتنشره على نطاق واسع، أصبحت الحاجة ملحَّة إلى من يكشف الوهم، ويزيح السّتار عن المخبوء،

ولنستبين العلاقة بين الأصوليات والجهل المقدّس، أو الجهل المركّب، أو الدّعوة لتبنّي الخرافة وإخضاعها قسراً لقواعد العلم، لا بدّ لنا من التعرّف على مرتكزات الفكر الأصولي وأسُسه كما أشار إليها أحمد موصللي:

1- رفض الواقع: وذلك من خلال رفض نسبية التّفكير، والإيمان بمطلقيته، وكذلك رفض سلطة الشّعب، ورفض عرض الدّين على المكتشفات العلمية، ورفض دعوات التّجديد والاجتهاد.
2- تصحيح الواقع: إذا كان الواقع مرفوضا في العقل الأصولي، فإنّه يحتاج بالضّرورة إلى تصحيح، وهو العودة إلى الأصول الأولى حيث النّقاء والطّهارة والصّفاء، والابتعاد عن كلّ ما يبعد عن الفطرة الأصلية من شركٍ وبدع. كما أنّ الدّولة وفق هذا المنظور يجب أنْ تُساس بحاكمية الله وشريعته، وليس بالتشريعات الوضعية أو المكتسبات الإنسانية.
3- الثورة على الواقع: ويعتبرها الفكر الأصولي واجبٌ أخلاقي يضمن استمرارية الدّين الإسلامي، ويضمن تصحيح مسار المجتمع الإنساني، وحمايته من الانحراف عن القيم المثلى التي جاء لترسيخها[20].
تشريح العقل الأصولي: علي حرب مفكِّكاً
نحتاج لتشريح العقل الأصولي إلى المزيد من تفكيك بنياته ومرتكزاته لنكشف عن المخبوء وراء كل الأفعال والتصرّفات النّاشئة عن هذا العقل؛ لأنّ فِعل التّفكيك كما يرى علي حرب قد يكون في أبسط أشكاله وأفعاله فكٌّ للحرف لدركِ المعنى. وقد يكون اشتغالا على المعنى بتفكيك بنيته وأصوله، أو تعريف مُسبقاته أو محجوباته، أو تبيان خُدعه وألاعيبه، أو فضْح سلطته وتحكّماته، للكشف عمّا يمارسُه الكلام من الحجب والخداع والاعتباط، أو الادعاء والتحكُّم والمصادرة.[21]
الهوية العنصرية أو وهْم الخيرية: وقوع الإنسان في مصيدة الاستثناء، أو الظن أنّه يمتلك ما لا يمتلكه غيره من خصائص ومميِّزات
قول الجبران: "لا قُبْح ولا سخرية أكثر من صلاة الفرقة الناجية. سبعون فرقة للنّار وواحدة ناجية. لكَمْ جعلوا الله قاسياً، حتَّى القاضي الدّنيء لا يقبل سبعين سجينا وبريئا واحدا...من يكسب عشيرة يخسر الله. فلا عشيرة لله، إنّه مشاعٌ كما الوجود.إذن كنْ بلا فرقة تكنْ ناجياً"[23].
 الجرح الرمزي أو عقدة تفوّق الآخر
أشار إليه طرابيشي حين قال إنّ الذّات العربية تعاني من جرحٍ نرجسيٍّ