من موقع الحرة
كثير من الرواد التقدميين لم يكونوا تقدميين في العمق، فهم وإن
رفعوا أحدث الشعارات التقدمية فقد كانوا يكتنزون أنظمة الوعي العتيقة +كانت خطة ليقرأهم العوام وينتشروا
إن تغيير القناعات الراسخة التي تجذرت في الوعي عبر مئات السنين ليس بالأمر اليسير؛ كما توهم ويتوهم كثير من رواد الأيديولوجيات التقدمية الذين تصوروا أن نشر الأفكار التنويرية/ التقدمية عبر وسائل النشر النخبوية التي تمارس دورها بأبوية استعلائية، كفيل بتغيير نظام الوعي العام الذي تناسل ثقافيا في تراث أجيال وأجيال.
لا يمكن لمحاضرة عابرة، أو مقال في صحيفة، أو كتاب مخاتل، أو حتى درس منهجي يتيم (والذي لا يصل تأثيره إلا إلى عدد محدود، وفي دقائق محدود)، لا يكمن لكل هذا مجتمعا أن ينافس ثقافة عامة/ موروثة يتشربها الطفل رضيعا، ويشب عليها، ويتعامل بمنطقها مع محيطه الاجتماعي؛ حتى في أدق التفاصيل.
إن هذه الثقافة الموروثة ليست ثقافة ساعة عابرة من نهار، وليست ثقافة مرحلة أو محطة من محطات العمر، بل هي ثقافة تتكاثف لتحكم كل المراحل العمرية، وتتكرر مؤثراتها القولية والفعلية على مدى أربع وعشرين ساعة في اليوم (بما في ذلك منطق الأحلام)، حتى تتجسّد عادات وتقاليد وأعرافا، و"أصعب شيء في مسار تحولات التاريخ البشري هو تغيير العادات والتقاليد، لا سيما ما ترسّخ منها في العقلية الشعبية، وخصوصا ما حظي منها بصفة المقدّس، وما اندغم بترابها واندمج في تراثها، مصدر هوية الجماعة وحافظ ذكرتها التاريخية، ذاكرة المكان حيث يحقق الإنسان وجوده"(التراث العربي، خليل أحمد خليل، ص153).
لا ريب أن الإسلام يمثّل أكبر منعطف روحي وفكري في تاريخ العرب. ومع هذا لم تكن المتغيرات الروحية والفكرية التي أحدثها قادرة على تجاوز الأنساق الثقافية الموروثة التي بقيت في العمق تشتغل من خلال الوسيط الأدبياتي الإسلامي، أو على الضد منه في صراع صريح معه على أرض الواقع. وحتى في لحظات القداسة الأولى، وفي وقت كانت فيه الانعطافة الروحية/ الفكرية في أوج توهجها القدسي، وعلى يد كثير ممن أرسى الدعائم الأولى، كان المكنون الثقافي الأعمق يطل برأسه؛ مهددا كل المكتسبات التي بدت للوهلة الأولى وكأنها استقرت في أعماق النفوس، وتمكّنت من ضبط معادلات الواقع.
يمكن اعتبار ما يسمى بـ"الفتنة الكبرى" نموذجا للثقافة الأعمق عندما تكشف عن نفسها في عناد واضح وصريح مع الطارئ الثقافي/ الروحي الذي مثّله الإسلام. فبعد غياب المُلهِم/ النبي ـ ص ـ مباشرة، عادت معادلات الواقع ـ المحكومة بمنطق الثقافة المطمورة حديثا ـ لتشاغب المشروع الجديد في عَصَبه الرئيس/ تشكيل النظام السياسي ذي المرجعية الروحية. ثم كانت المفاجأة الفتنة الكبرى التي صدمت حتى أولئك الذين أصبحوا أهمّ أدواتها؛ عندما بدأ منطق الاحتراب (المتضمن منطق العشائرية الأولى المناقض لمنطق التضامن الروحي) يحاول إعادة نفسه إلى الواقع على حساب أهم وأقدس مبادئ الدين الجديد
إن هذه الواقعة بأحداثها المتتالية/ المتعاقبة صدمت وأربكت وأحرجت ـ ولا تزال تصدم وتُربك وتحرج ـ الضمير الإسلامي الذي يحاول تفسيرها وتبريرها، بل والقفز عليها بتزييف السرديات التاريخية أو تحويرها؛ تحت وطأة منطق مضمر يهمس قائلا: إن ما حدث ما كان يجوز أن يحدث أبدا. ورغم كل محاولات التفسير التبريري، ورغم كل محاولات القفز والتزييف والتحوير، لا تزال هذه الانتكاسة/ الواقعة الجارحة للضمير حيّة إلى اليوم، حتى في أدبيات المتأسلمين؛ بشكل صريح أو غير صريح.
عرب اليوم لا يزالون؛ كما كانوا، يصنعون صورا تبجيلية عن أنفسهم، وصورا تبخيسية عن الآخرين، ثم يعتقدونها حقائق واقعية لا تقبل الجدال
نجد التونسي الذي يقدم نفسه كإسلامي تقدمي/ صلاح الدين الجورشي، يقول عن هذه الفتنة الكبرى: "حدثت رجفة حقيقية كشفت طبيعة التوحش الكامن في الإنسان العربي، رغم القناعات الدينية. وبعد عشرين سنة فقط من محاولة رفع البناء والسماح للنواة بالنمو، حدث الانفجار الرهيب" (الإسلاميون التقدميون، صلاح الدين الجورشي، ص164).
إلى اليوم لا تزال النظرة التقليدية التبجيلية (التي قد لا تكون صريحة، بل هي متضمنة أحيانا حتى في مشاريع نقد التراث) تقف حائلا دون تأسيس وعي حداثي حقيقي. وإذ "لم تكن الأخبار التاريخية عند الرواة المسلمين الأوائل غاية في ذاتها، بل انحصرت قيمتها في تكوين صورة تاريخية دالة ومتسقة مع معتقداتهم وتوقعاتهم" (الإسلام شريكا، فريتس شتيبات، ص150)، فهذا واقع معرفي/ بحثي يحكمه المنطق التبجيلي. وهو واقع لم يتغير منذ فجر تاريخنا حتى اليوم إلا في حالات فردية نادرة جدا؛ رغم كل مسارات التحديث المعرفي التي يبدو أنها لا تسير في اتجاه البحث المعرفي عن الحقيقة؛ بقدر ما هي جزء من مشروع الفخر الذاتي.
لا زالت النتائج ـ في مسار الثقافة العربية ـ توضع قبل بداية البحث. لا تزال البحوث مجرد تهميش/ هوامش على المسلمات العقائدية لتأكيدها (المسلمات العقائدية المقصودة هنا هي ما يكون في السرد التاريخي، لا في السرد اللاهوتي)، بدل أن تكون نتائجها هي التي تكتب المتن العقائدي لتصور أحداث التاريخ. لهذا، بقيت هذه الثقافة تقليدية/ غير حداثية؛ فعجزت عن الوعي بذاتها؛ إذ عجزت عن مواجهة ذاتها وتحويلها إلى موضوع للبحث الموضوعي. ومن ثمّ، تحولت من أداة لنقض وتقويض الواقع التقليدي، إلى أداة لترسيخه وتحصينه؛ بترسيخ وتحصين مكوناته الأساسية التي يتأسس عليها كل ما نراه من مسلمات في كل المجالات.
الوقوف ضد يقينية المفاهيم وكذب الحقائق والشك فى الركون إلى معانى اللغة المرتبة المنظمة الممنهجة، والشك فى التاريخ وفـى خطيـة الظواهر وتسطحهـا وتراكمها الزمنى... إلا أن كل ذلك يدخل تحت مظلة واحدة، وتفسير ذلك هو أن الحداثة لم تأت منهجا متكاملا وبناءً تاما نكشف أجزاءه بالمعاينة، وإنما جاءت كمشروع لتقويض عناصر العالم القديم ومكوناته، سواء منها السياسـى والاجتماعـى والثقافـى والمنهجـى العلمـى والفكرى الاجتهادى، والاقتصادى، والمؤسساتـى والعقيدى؛ اللائكى ضد الكنسى، الجمهورى ضد الملكى، التجريبى العلمى ضد العقيدى الظنى الترجيحى المنهج الوضعى ضد الفلسفة الميتافيزيقية التعدد ضد الأحادية، اللاشعور الكشفى ضد التاريخى المتوارث، الفرد المستقل ضد الجماعة المنقادة، الشاعر المجنون ضد مهرج الملك،... الخ. فالحداثة كائن دائم التنافى لذلك نجد الحداثيين اللاتين (ثم السرياليين بعدهم) يبدأون ضد التنظيمات لكى يتحولوا إلى متحزبين شرسين دون تغيير زوايا تفكيرهم وأدواتهم
الإبداعية ومقولاتهم التقويضية لكل ما هو رجعى.
******************************************************
مهموم بالتنوير منصور النقيدان
أبرز الإشكاليات التي تُثيرها ثنائية الإسلام والحداثة والقراءة العلمية الحديثة للنصوص التأسيسية في الإسلام
قضية التجديد الديني والنقد القوي للأصولية الإسلامية وعدم مواكبة المؤسسات الدينية في الإسلام ورجال الدين لــ«لاهوت الحداثة» وما بعد الحداثة، كما حدث في المسيحية في أوروبا، التي دخلت اليوم في «الباراديغم اللاهوتي لما بعد الحداثة» في حين أن الإسلام «لا يزال غاطساً كلياً في الباراديغم اللاهوتي التكفيري للقرون الوسطى. وهذا يعني أن مشايخ الإسلام لم يسمعوا حتى الآن بالإصلاح الديني، ناهيك عن التنوير الديني ولاهوت الحداثة وما بعد الحداثة». يرى هاشم صالح أن هذا التأخر المريع في فهم الدين هو سبب كل المشاكل التي نعاني منها حالياً؛ هذا الانغلاق اللاهوتي داخل أقفاص عقائدية عفَّى عليها الزمن هو سبب صدامنا مع العالم كله حالياً"على حد تعبير صالح".
إصلاح مناهج التربية الإسلامية في المدارس في العالمين العربي والإسلامي، إذ لطالما شدد على ضرورة ترسيخ ثقافة التنوير والتفكير النقدي في النفوس والنصوص. وهو مشغول أيضاً بالقطيعة الإبستمولوجية مع العقلية التراثية التي خبرتها المسيحية في الغرب، معتبراً أنه لا بد من النظر إليها وأخذ العبر والدروس:"كان المسيحيون يرددون على مدار القرون المقولة اللاهوتية التالية: «خارج الكنيسة المسيحية الكاثوليكية البابوية الرسولية لا مرضاة عند الله ولا نجاة في الدار الآخرة»، وهي مقولة تكفيرية بامتياز. لماذا؟ لأنها تعني أن أديان الآخرين كالإسلام واليهودية والبوذية... إلخ غير مقبولة عند الله وبالتالي فأصحابها لن يحظوا بجنة الفردوس. بل ليس فقط الأديان الأخرى مدانة ضمن هذا المنظور اللاهوتي الكاثوليكي الانغلاقي، وإنما المذاهب المسيحية الأخرى مدانة أيضاً، وخصوصاً المذهب البروتستانتي. فهو معتبر بمثابة مذهب الزنادقة والهراطقة، وعليه فأتباعه لا أمل لهم بالنجاة في الدار الآخرة، هذه الفتوى الكاثوليكية سيطرت على العالم المسيحي طيلة قرون وقرون، حتى جاء مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) وتخلى عنها.
هل تعتقدون أنه تخلى عنها بسهولة؟ أبداً لا. فقد كانت تشكل جوهر العقيدة الكاثوليكية، ولكن الحداثة العلمية والفلسفية الصاعدة في أوروبا أجبرت الكاثوليكيين على إحداث هذه القطيعة المُرة مع أحد ثوابتهم العقائدية الأساسية. وهذا يعني أن الثوابت يمكن أن تتغير وتتعدل. ونحن في الإسلام- حسب صالح- نقف الآن في مواجهة الإشكالية العويصة ذاتها. فهناك فتاوى فقهية أو لاهوتية تكفر جميع الأديان الأخرى، بل وحتى جميع المذاهب الإسلامية الأخرى، ما عدا مذهب أهل الفرقة الناجية. كلهم في النار ما عدا واحدة، كلهم عقائدهم مرفوضة وغير مقبولة عند الله".
لقد طرح هاشم صالح دائماً في مؤلفاته ومقدمات ترجماته تحديات كثيرة أمامنا. هو مهموم بقضايا أساسية للخروج من دوامة التكفير والولادة المستمرة للتنظيمات التكفيرية، ونحن الباحثين والكتاب لا بد لنا من قراءتها بهدوء بغية الخروج من الواقع المرير الذي يمر به الإسلام في القرن الحادي والعشرين، والذي يعبر عن نفسه بأزمات دورية وانفجار مخيف للعنف الديني والأصوليات والصراع المذهبي والابتعاد عن أنماط التدين الشعبي التقليدي المتصالح مع الآخر والإيمان الرقيق.
********************
1- مزاعم أن التنوير ابن بيئة اجتماعية وسياق تاريخي مغاير، وبالتالي هو بضاعة غيرنا ولا تلزمنا، لأن استيرادها واستهلاكها مضر بنا ضرراً بالغاً، ومن ثم فإن من الضروري تجاهلها، والأفضل هو التشكيك فيها ودحضها. وقد روج هؤلاء كثيراً لمقولة فاسدة جعلت كثيرين يحسبون أن التنوير نقيض للإيمان.حقيقته كده
2- مزاعم أن خروجنا من مأزقنا ليس بالتنوير، الذي يعني في مقصده التقدم إلى الأمام في التاريخ، إنما بالعودة إلى الماضي، من خلال استلهام تجربته، والتمسك بمقولات وتصرفات منا عاشوا فيه، باعتبارهم «الجيل الفريد» الذي تأسس الإسلام على أكتافه، وفهم معانيه ومراميه، وعمل على نصرته.
ويزعم أصحاب هذا الموقف الملتوي، الذي يسبب خسارة فادحة لنا، أنهم متمسكون بالثوابت، وأن ما هم عليه هو الصواب لأن صلاحيته مطلقة، وإن تبدلت الأحوال وتغيرت الأجيال، وهنا يتساءل الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود: هل هنالك تناقض بين قبولنا لتلك المعايير الثابتة المطلقة من جهة، وقولنا من جهة أخرى إن الحق يتغير بتغير الموقف الذي يصادفنا،
إن المتشددين والمتطرفين توسعوا في تعيين الثوابت التي يتحدثون عنها، وأفرطوا في إقحام أمور كثيرة زاعمين أنها تدخل في باب الاعتقاد، ولذا فإن المفرّط فيها يخرج في نظرهم من الملة.
ولهذا فلا بد من أن نبذل جهداً في تحديد الثوابت تلك، وربطها في أغلبها بالمسائل العقدية الموصولة بالإيمان كما تعارف المسلمون عليه (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، أما المسائل الخاصة بالشريعة فتحتاج إلى نقاش أعمق لمعرفة الثابت منها والمتغير، وهو أمر ضروري للخروج من المتاهة التي نلف وندور فيها دون أن يلوح أمامنا أي مخرج حقيقي حتى الآن.
3- مزاعم حول وجوب أن يكون المتاح لنا من تغيير، إن دعت الضرورة الملحة إلى هذا، في حدودٍ مقدرة بأوزان تتسم بالثبات والرسوخ، إذ لا يمكن القفز على الموروث وما يحويه من معارف وقيم واتجاهات، وبالتالي يصبح الحيز المتاح للتغيير مشدوداً بحبال غليظة إلى «النقل» وليس إلى «العقل» في الغالب الأعم.
بالقطع يحوي «القرآن الكريم» آيات عديدة لا تجافي التنوير، بل تطلبه، وتفرضه، وتلح عليه، حين تنادي بضرورة إعمال العقل، والتدبر في أحوال الناس وموجودات الطبيعة، والإيمان بأن التطور من سنن الحياة، وإعلاء حرية التفكير والتعبير والتدبير، وإنهاء أي واسطة بين العبد وربه، بما يعني تحرير الإرادة الإنسانية في العبادة والإفادة.
إن التنوير ضرورة الآن، ليس لنا فقط، إنما للبشرية جمعاء، بما فيها الغرب الذي نتحدث باستفاضة عن تنويره، ولذا يقول الناقد والفيلسوف تودوروف، تحت عنوان «لماذا نحن دوماً في حاجة إلى فكر الأنوار»: «تبقى مبادئ الأنوار الكبرى راهنية أكثر من أي وقت مضى. فبمقدورنا على سبيل المثال أن نعود إليها للدفاع عن نظرية التطور.. وبإمكاننا التسلح به لنشجب وندين الحروب الحالية التي تزعم نشر الحرية والديمقراطية، ولنحترم تعدد الثقافات والسياسات، واعتبار النجاح الاقتصادي وسيلة لا غاية»
إن التنوير هو المطلوب حقاً، وليس ما يثار حالياً عن «تجديد الخطاب الديني» إذ إن ذلك يشكل الحد الأدنى الذي لا أتصور أن بمُكنته أن يخرج المسلمين من المأزق الذي يعيشونه الآن، بعد أن حول بعض المتطرفين منهم الدين من مصدر للسعادة إلى سبب للشقاء.
**************************
استندت مقاومة التنوير، كمقاومات أخرى يولع بها غير قليل من العرب، على صورة نمطية يبدو فيها خطراً على الدين، وتهديداً للمُقدَّس. وعصفت هذه المقاومة بدعوات تنويرية متكررة استُهجنت، وقُمع دعاتها أو هُمشوا. وأخفق التنويريون في بناء جسور مع مجتمعاتهم، فلم يتيسر لهم توضيح معنى التنوير بخلاف ما فعله تنويريون أوروبيون كالفيلسوف الألماني عمانويل كانط في كتابه «رد على سؤال ما هو التنوير» الصادر عام 1784.
أوضح كانط أن التنوير يعني تحرير الإنسان من حالة ذهنية متخلفة ارتاح إليها أو خضع لها طوعياً حين أقنع نفسه، أو أُقنع، بأنه عاجز عن استخدام عقله وإدراك ما يحدث حوله، ما أدى إلى توارث تقاليد الخضوع للوصاية وإعادة إنتاجها.
وعندما نتأمل هذا المعنى، ربما نخلص إلى أن مقاومة التنوير كانت في الوقت ذاته مقاومةً لأي تطور باتجاه إعمال العقل، وإدراك قدرته على إعادة صوغ الحياة على الأرض
عقلانية وعلمانية: التنوير الذي يحتاجه العرب
لم تكن حال العرب في حاجة إلى تنوير فكري، منذ بدء احتكاكهم بالغرب مطلع القرن التاسع عشر، مثلما هي الآن، مع التدهور غير المسبوق منذ قرنين. قاوم كثيرون في العالم العربي أفكاراً وأنماط حياة حديثة ظنوها تتعارض مع تقاليدهم أو قيمهم أو تراثهم أو عقيدتهم. وأنتجت هذه المقاومة فائض تخلف وتعصب وتطرف أغرق المنطقة، وفاض في العالم.
استندت مقاومة التنوير، كمقاومات أخرى يولع بها غير قليل من العرب، على صورة نمطية يبدو فيها خطراً على الدين، وتهديداً للمُقدَّس. وعصفت هذه المقاومة بدعوات تنويرية متكررة استُهجنت، وقُمع دعاتها أو هُمشوا. وأخفق التنويريون في بناء جسور مع مجتمعاتهم، فلم يتيسر لهم توضيح معنى التنوير بخلاف ما فعله تنويريون أوروبيون كالفيلسوف الألماني عمانويل كانط في كتابه «رد على سؤال ما هو التنوير» الصادر عام 1784.
أوضح كانط أن التنوير يعني تحرير الإنسان من حالة ذهنية متخلفة ارتاح إليها أو خضع لها طوعياً حين أقنع نفسه، أو أُقنع، بأنه عاجز عن استخدام عقله وإدراك ما يحدث حوله، ما أدى إلى توارث تقاليد الخضوع للوصاية وإعادة إنتاجها.
وعندما نتأمل هذا المعنى، ربما نخلص إلى أن مقاومة التنوير كانت في الوقت ذاته مقاومةً لأي تطور باتجاه إعمال العقل، وإدراك قدرته على إعادة صوغ الحياة على الأرض.
وهذا جوهر مفهوم العقلانية الذي يتعذر في غيابه تنظيم المجتمع بطريقة تفتح أمامه آفاق التقدم. ومن أهم ما فشل العرب في تنظيمه، بهذا المعنى، العلاقة بين الدولة والدين في بلدانهم. وما زال هذا الإخفاق عاملاً جوهرياً، إن لم يكن الأهم، في الأزمات الثقافية– السياسية التي لا نكاد نخرج من إحداها لندخل في ثانية، حتى أن بعضنا بات يعتقد بصعوبة، وربما استحالة، تحقيق توافق في شأن علاقة الدولة والدين على أسس عقلانية.
غير أن هذا التوافق ممكن فقط في حالة تحرير العقل العربي من صورة نمطية للعلمانية تبدو فيها مناقضة للعقائد الدينية، أو خطراً عليها. يتطلب الأمر شيئاً من العقلانية لفتح حوار جاد حول نموذج لعلمانية عربية تقوم على مبادئ ثلاثة: أولها، حياد سلطة الدولة تجاه الأديان، عوض تأسيسها على مرجعية دينية، أو اتخاذها موقفاً ضد الأديان على الطريقة السوفياتية وما يشبهها. ويعني حياد سلطة الدولة هنا التزامها ضمان حقوق المواطنين جميعهم في العبادة، وممارسة الشعائر على قدم المساواة.
وثانيها، التمييز بين المساحة السياسية، والمساحات الأخرى في المجال العام. ووفق هذا التمييز، لا يُفصل الدين عن المجال العام كله، بل عن المساحة التي يشغلها النظام السياسي، أي التي تحدث فيها التفاعلات المتعلقة بتنظيم سلطات الدولة، وصنع السياسات العامة، والتنافس بين الأحزاب وما يشبهها من كيانات.
فقد أظهرت التجربة التاريخية الإسلامية أن الخلط بين الدين والسياسة أساء إلى كليهما، وأعاق الحركة إلى الأمام في المرحلة التي انطلق فيها الغرب، وحقق نهضته، عندما أُطلق العقل من أسره، وأُرسيت قواعد شملت فصل الدين عن سلطات الدولة كافة. ولكن هذا الفصل توسع في بعض الحالات، وتجاوز سلطات الدولة إلى المجتمع، ما ساهم في تدعيم الصورة النمطية السلبية للعلمانية في كثير من الأوساط العربية. لكن لم يثبت أن هناك ضرورة لهذا التوسع، بل تتيح دراسة تجارب العلمانية في الغرب والعالم، والمقارنة بينها، استخلاص أنها تكون أكثر فائدة حين يُفصل الدين عن السياسة، وليس عن المجتمع.
ولذا يحتاج العرب إلى تنوير بعلمانية تفصل الدين عن مساحة محددة في المجال العام، وهي مساحة العمل السياسي، وليس عن المساحة التي تشغلها النشاطات الاجتماعية والثقافية، سواء في المجتمع العام، أو في المجتمع المدني بمنظماته وروابطه وجمعياته بأنواعها وأهدافها، وكل ما يتعلق بالاهتمامات التي تتجاوز الحيز الخاص للإنسان، أي أسرته وعمله وصداقاته وعلاقاته الشخصية. ويتطلب ذلك أن تدرك سلطة الدولة أخطار استخدامها الدين لدعم سياسات تنتهجها، أو تبريرها، لكي لا يكون موقفها ضعيفاً من الناحيتين المعنوية والأخلاقية إزاء توظيف أحزاب وجماعات سياسية للدين، وممارسة جمعيات وهيئات دينية وصاية على الناس والمجتمع.
ولعل آخر أمثلة هذا المجال التدخل الرسمي في قضايا كالطلاق الشفهي في مصر، والميراث في تونس، والإجهاض في الجزائر. وعندما يحدث تدخل كهذا من دون مقدمات في المجتمع، فقد يؤدي إلى آثار عكسية، لأنه يثير جدلاً يتجاوز محتوى الطرح الرسمي، ويفتح مساحات لمزاعم حول وجود خطر على الدين.
ويشمل تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، هنا، عدم توسع السلطة في استخدام الأدوات التشريعية في هذا التنظيم وترك الجزء الأكبر منه للمجتمع، بحيث يكون تدخلها في هذا الاتجاه مرتبطاً بحدوث تطور في المجتمع، أو دعمه في بدايته، وليس سعياً إلى فرضه من أعلى من دون أساس موضوعي له.
ويقود ذلك إلى المبدأ الثالث في هذا النموذج العلماني، وهو أن الدين ليس محصوراً في المجال الخاص للإنسان. والعلاقة وثيقة بين هذا المبدأ وسابقه، لأن الدين حاضر بالضرورة في المجال العام الاجتماعي– الثقافي، الذي يمتد في مساحة معتبرة في أي مجتمع. وإذا صح أن الدين هو في الأساس جزء من الحيز الخاص للإنسان، الذي لا يحق لأحد التدخل فيه، فصحيح أيضاً أنه لا يقتصر على هذا الحيز.
والحال أن الإيمان الديني يعد شأناً خاصاً تماماً، ولكن تجليات الدين تتجاوز المجال الخاص، وتشغل مساحة في المجال العام الاجتماعي– الثقافي.
وإذ تبدو العلاقة وثيقة بين العلمانية والعقلانية، سواء في مفهوم التنوير الغربي أو في التنوير الذي يحتاج إليه العرب اليوم، يصبح ضرورياً إدراك أن التقدم باتجاه هذا التنوير يتطلب عقلاً علمياً نقدياً لا يكتفي بمحاكاة التطبيقات العلمية والتقنية الحديثة، بل يربط بين المكونين التقني والمعرفي– القيمي للعلم، ويفتح الطرق المغلقة أمام إعادة تنظيم المجتمعات العربية في مختلف مناحي الحياة، وفي المقدمة تنظيم العلاقة بين الدولة والدين.
وحيد عبد المجيد
عمار علي حسن
حتمية تجديد الخطاب الحياتى والثقافى والدينى خاطب الرئيس
السيسى من تجمدت وتكلست معارفهم وضـاق أفق رؤيتهم «أنتم
َ خايفين لنضيع الدين، هو اللى إحنا فيه دا إيه ؟، فيه أكثر منه ضياع
للدين، أنتو عاوزين إيه أكتر من كده ؟.»لقد دفع فلاسفة التنوير ثمن جرأتهم الفكرية والنقدية، ليبرز فى
النهاية السؤال : هل نحن على استعداد لدفع ثمن التنوير مثلما دفع
هؤلاء ليقفزوا إلى دنيا الحداثة وما بعد الحداثة ؟
++++++++++++++++++++++++
الدين و الحداثة قراءة في الحداثة كحاجة دينية للكاتب الدكتور توفيق السيف الفصل الثاني: الإسلام والنهضة: السؤال الخطأ
إن ما في نفوس المسلمين هو إسلام ملون بلون مجتمعهم فهو إسلام متخلف مثلهم، لذلك تجدنا ندور في دائرة مغلقة، فلننظر كيف قمع الكتاب وأهل الرأي حتى بلغ ما أغلق من الصحف والمجلات في بضعة أعوام ما يزيد على المائة وسخرت دولة علماء الدين أقوى المنابر و وسائل الاتصال من الإذاعة والتلفزيون والصحف ومنابر الجمعة لدعوة الناس إلى الدين طيلة ربع قرن ومع هذا فإن معظم الدراسات والبحوث الميدانية تشير إلى تراجع مستمر في الالتزام بالدين وأن المزيد من التدين لم يغير من واقع الحال شيئاً ولا دعاة الدين قدموا نموذجاً تختلف عما تعرفه من حال بئيس في شتى الأقطار، وخلاصة الكلام إن ما لدينا من الدين هو في حقيقة الأمر النسخة القديمة من الدين التي تركها لنا أجدادنا وفيها يختلط الجوهري من الرسالة بالصور والاطارات التي هي انعكاس للظرف الاجتماعي الخاص بزمن الأجداد وهي لا علاقة لها بالعصر، وإننا بحاجة إلى نسخة جديدة من الدين نسخة تتناغم مع عصرنا الراهن في حاجاته وتحدياته وهموم أهله.
حماية الحريات العامة هي الحد الأدنى من متطلبات التحديث ويتلوها المشاركة السياسية وصولاً إلى الديموقراطية الكاملة وعلى المستوى الاقتصادي فإن الشرط الأول هو توفر البيئة المناخية للاستثمار وحماية الملكية الفردية وعلى المستوى الاجتماعي نجد العقلانية وربط مكانة الفرد بكفاءته الشخصية لا هويته الموروثة وعلى المستوى الثقافي فإن احترام العلم وتحريره من قيود الايدولوجيا والتعويل عليه في تقديم الحلول هو الشرط الأول للحداثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق