العلوم الإنسانية بكل فروعها قادرة على إحداث أثر فعال لتكيف الفرد مع مجتمعه بصورة إيجابية، تجعل من المجتمع افضل وارقى، وهذا ما يفعله علم النفس التربوي والاجتماعى، بل الأكثر تأثيرا في تنمية المورد البشرى العلوم الفلسفية.
فالاهتمام بعلوم الفلسفة له أهمية في الدفع بالوعي العقلي إلى مراتب من التفكير الراقي من خلال ترتيب المدركات الحسية والمعنوية ووضعها في أولويات الحاجة وعدمها، وتغليب المصالح العامة على الخاصة والمجتمعية على الفردية أي التصرف طبقا للتفكير الموضوعى. ومن هنا ينشأ الفكر الإنساني الذي يساعد على تنمية الموارد البشرية، ويدعو إلى التكامل في حركة المجتمع
وقد أدرك رئيس جامعة القاهرة الحالى الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت قيمة التفكير النقدى، وقام بتجربة فريدة في تاريخ الجامعة، بل وتعتبر الأولى من نوعها ألا وهى تطبيق دراسة التفكير النقدى لكل كليات الجامعة،
فالتفكير النقدى يعد في الواقع قديمًا قدم الفلسفة وهو بمثابة جسر للتفكير مع الآخر من خلال سمات مشتركة، فهو من أحد العوامل التي بواستطها تتغير وجهة الحوار، فإذا تحقق قبول التفكير النقدى الإيجابي لدى الطرفين تنشأ أرضية مشتركة ويتغير مفهوم الحوار إلى الحوار (تفكير مع الآخر).. فالنقد هو مقدمة مهمة للتفكير المتكامل بين الطرفين المختلفين،
++++++++++++++++++
++++++++++
الإنسان العربي، ّ يفتش عن
الطمأنينة في الدين، وعن السلام في
الكراهية، وعن السعادة في الآلام.
هذا الإنسان، يفتش عن حقائق
هاربة ومفارقة لواقعه وذاته، يظهر
كأن طبيعته مفطورة على السلام
والإيمان والتطور، ولكنه في الواقع
يعيش داخل معادلة التناقض
والتعارض
وقد أدرك رئيس جامعة القاهرة الحالى الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت قيمة التفكير النقدى، وقام بتجربة فريدة في تاريخ الجامعة، بل وتعتبر الأولى من نوعها ألا وهى تطبيق دراسة التفكير النقدى لكل كليات الجامعة،
فالتفكير النقدى يعد في الواقع قديمًا قدم الفلسفة وهو بمثابة جسر للتفكير مع الآخر من خلال سمات مشتركة، فهو من أحد العوامل التي بواستطها تتغير وجهة الحوار، فإذا تحقق قبول التفكير النقدى الإيجابي لدى الطرفين تنشأ أرضية مشتركة ويتغير مفهوم الحوار إلى الحوار (تفكير مع الآخر).. فالنقد هو مقدمة مهمة للتفكير المتكامل بين الطرفين المختلفين،
العقل النقدى والتغيير
هناك العديد من الأشياء اكتسبت مصداقيتها من استقرارها على مر الزمن، كما أن هناك العديد من الأشياء قد اكتسبت مصداقيتها بسبب شهرتها، ولكن هل يعنى الاستقرارأو الشهرة أنها حقيقية؟؟
إن ما كان مستقرا فى أذهان الناس على مدى قرون من الزمن سواء كانت أيديولوجيات فلسفية، أو وقائع تاريخية، أو حتى عقائد دينية، ثم ما استقر فى أذهان الناس فى التاريخ الحديث سواء كانت وقائع سياسية أو عسكرية أو بعض الفلسفات الحديثة والتيارات الفكرية والفنية، كل ذلك كان غالبا ما يتصادم مع المبدأ النقدى فى التفكير، ويتنافر مع فكرة إعمال العقل مع ما يعد من المألوف والمعروف والمأثور، والذى تحول على مر الزمن إلى حقائق دوجماتيقية لا تقبل النقاش، وتساوى فى ذلك العقائد الدينية، أو اتباع زعيم سياسى أو بطل رياضى.
خلط ساذج بين تقييم الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى التاريخية والحديثة، وبين الأعمال الأدبية والفنية والدعائية المعبرة عنها، على مستوى العامة فى أغلب الأحيان وعلى مستوى المتخصصين فى أوقات أخرى، فنجد تأثير ذلك من رسم صورة السوبرمان الأمريكى، وبطل المهمشين «تشى جيفارا» فى أمريكا اللاتينية، أو التضاد الواضح بين صورة الحياه فى روسيا القيصرية والصور المثالية بعد الثورة البلشفية، بالإضافة إلى الدعايات اليهودية التى رسخت للاضطهاد التاريخى والحديث، أما على المستوى المحلى، فقد ساهمت الأعمال الفنية السينمائية والغنائية بعد 1952 فى التأثير على العقل الجمعى الساذج، بشيطنة ما قبلها وتقديس ما بعدها، حتى صارت أدبيات هذه المرحلة من الرسوخ والاستقرار ليصبح ترديدها معيارا للوطنية، والتشكيك فيها بمثابة الخروج من الصف الوطنى لا محالة.
لقد حاول دعاة العقل النقدى على مدى قرون طويلة منذ ديكارت وروسو وإمانويل كانط، مرورا بهيجل وماكس فيبر وفرويد، وصولاً إلى الفلاسفة المحدثين المصريين مثل زكى نجيب محمود ومراد وهبة، التأثير فى ذهنية الناس لتفكيك القوالب الجامدة، إلا أنها كانت عصية على أى تدخل، وكان اللجوء للثوابت أسلم كثيرا من محاولة تحريكها أو حتى التشكك فى ثباتها.
فقد تجاوز العالم فى الثلاثين عاما الأخيرة عصر التكنولوجيا فى نقلة هائلة إلى عصر الاتصالات، والذى أدى بدوره إلى ثورة معلوماتية مذهلة غير مسبوقة على مر الحياة بالدخول إلى عصر المعرفة والاعتماد على الذكاء الاصطناعى وقواعد البيانات الضخمة، مما أدى بدوره إلى خلق منصات للتواصل بين البشر، أدت إلى تنحى الأدوار التقليدية لصناع القرار والدعايات الموجهة، إلى أدوار أخرى باستخدام هذه المنصات لتوصيل الأفكار،
إن الاتساق مع عصر المعرفة يستتبعه تغير فى نمط التفكير ذاته، ومن ثم بعض الأفكار الفلسفية على مر الزمن، لأن التغيير لم يعد هو التحدى، ولكن التحدى أصبح التعامل مع التغيير، فبعد أن كان التغيير موقفا فلسفيا، أصبح التغيير واقعا يعيشه الناس وليس نبوءات يسمعون بها، وإذا كنا احتجنا إلى العقل النقدى فى السابق لإحداث التغيير، فإنه يلزم إيجاد صيغة للتعامل فى عصر فقدت فيه الثوابت رسوخها، وذابت الأفكار الجامدة فى طوفان المعلومات، وأعلن العصر عن نفسه «أن التغيير قد حدث».
تأسيس النقد الثقافي وأهميته
طوّر هيجل الفلسفة النقدية، من نقد العقل إلى نقد التاريخ ونقد الحضارة ونقد الفلسفة ونقد الدين. فالنقد ليس منهجاً سلبياً بل هو منهج إيجابي يعيد بناء الثقافة على نحو جدلي، لا فرق بين العقل والواقع، بين الروح والتاريخ. فلا شيء ثابت بل كل شيء خاضع للحركة والتطور الثلاثي، بين الموضوع ونقيض الموضوع ومركب الموضوع ونقيضه، في دورة متكررة. لا فرق بين المعرفة في «ظاهريات الروح» والوجود في «علم المنطق»، فمن الدين إلى الفلسفة إلى المعرفة المطلقة.. تمحى فيه الأجزاء في هذا الكل.
ثم قام الهيجليون الشبان بمحاولة نقدية ثالثة لذلك الكل من أجل نقد الدين باعتباره «اغتراباً»، لصالح العودة إلى الإنسان عند فيورباخ. ومارس ماركس «نقد النقد» من أجل تحويل النقد الثقافي النسبي إلى نقد اجتماعي جذري. فنقد الفكر بحاجة للتحول إلى نقد الواقع، والنقد الفلسفي بحاجة إلى أن يصبح نقداً اجتماعياً.
ثم تحول النقد مع ما بعد الحداثة والتفكيكية إلى البحث عن اللاشيء. فالحداثة وهم، واستبدال ثابت بثابت، استبدال الجديد بالقديم، والعقل بالإيمان، والواقع بالنص، والبرهان بالمؤسسة، والنقد بالسلطة.. فلا يجد التفكيك شيئاً لينتهي إلى العدمية. النقد يأكل نفسه، ويدمر نفسه بنفسه، ويقضي على ما بناه. فلا أنساق ولا بدائل، ولا ثوابت.
ومازال العرب يصارعون من أجل إصلاح ديني ونزعة إنسانية وتنوير فكري علمي. ولعجزه عن الحفر في التراث القديم لاستكشاف جذور النقد، فإن المفكر العربي يستسهل نقل النقد الغربي لسد الحاجة وملء الفراغ النقدي. وسرعان ما يحاصر أمام الخطاب السلفي الذي يستمد جذوره من الماضي ويلبي حاجة وهمية في الحاضر.
فيما يبدو أبعد العلوم عن النقد، مثل علم العقائد أو علم أصول الدين أو علم الكلام.
النقد ضروري للثقافة، وأهميته كونه يضع كل ما يُعتقد اجتماعياً وثقافياً وتاريخياً أنه مسلمات ومطلقات وثوابت موضع التحليل والفحص، لبيان النشأة والتكوين ثم البنية والماهية. النقد ضروري لثقافة ترى كل شيء فيها مقدساً لا يمكن الاقتراب منه، أو فهمه أو تأويله، لأنه يتضمن معناه في داخله ويفهم عن طريق اللغة، حقيقة أم مجازاً، محكماً أم متشابهاً، مبيناً أم مجملا، مقيداً أم مطلقاً!
النقد ضروري للثقافة، وأهميته كونه يضع كل ما يُعتقد اجتماعياً وثقافياً وتاريخياً أنه مسلمات ومطلقات وثوابت موضع التحليل والفحص، لبيان النشأة والتكوين ثم البنية والماهية. النقد ضروري لثقافة ترى كل شيء فيها مقدساً لا يمكن الاقتراب منه، أو فهمه أو تأويله، لأنه يتضمن معناه في داخله ويفهم عن طريق اللغة، حقيقة أم مجازاً، محكماً أم متشابهاً، مبيناً أم مجملا، مقيداً أم مطلقاً!
النقد ضروري لثقافة ترى الحقيقة من جانب واحد، أي من منظور «الفرقة الناجية».. وهو القادر على إثبات نسبية المعرفة وتعدد الرؤى. فالحقيقة منظور بين منظورات لا يستبعد أحدُها الآخرَ. بل يتفاعل بعضها مع البعض من أجل رؤية الموضوع من كل جوانبه. الرفض المبدئي ليس نقداً. إنما النقد هو التحليل وبناء العناصر المكونة للمركبات، ونزع السلطة منها، أي سلطة التاريخ وسلطة المقدس.
النقد ضروري كأحد وسائل التحرر والتفسير الاجتماعي إعدادا للإصلاح الفكري. فقد قامت الثورات الشعبية العربية الأخيرة انطلاقاً من تجارب الفقر والقهر وضياع حقوق الإنسان، فأخفقت لأنها لم تكن مسنودة من حركة نقد ثقافي للتصورات الموروثة للعالم.
النقد الثقافي هو الثورة الدائمة التي لا تنتصر بمجرد إسقاط نظام سياسي، بل بتغير نظام عقلي وتصور للعالم يجعل الناس يتقبلون القهر ويستسلمون للمقدس المكتوب، ويؤمنون بالمخلص المنتظر!
النقد ضروري كأحد وسائل التحرر والتفسير الاجتماعي إعدادا للإصلاح الفكري. فقد قامت الثورات الشعبية العربية الأخيرة انطلاقاً من تجارب الفقر والقهر وضياع حقوق الإنسان، فأخفقت لأنها لم تكن مسنودة من حركة نقد ثقافي للتصورات الموروثة للعالم.
النقد الثقافي هو الثورة الدائمة التي لا تنتصر بمجرد إسقاط نظام سياسي، بل بتغير نظام عقلي وتصور للعالم يجعل الناس يتقبلون القهر ويستسلمون للمقدس المكتوب، ويؤمنون بالمخلص المنتظر!
محاولات نقدية غربية
ديكارت في بدايته بالشك في الموروث القديم، أو القاعدة الأولى لمنهجه، ثم البداية بنقطة جديدة هي «الأنا أفكر»، أي البداية بحرية الفكر من دون الالتزام بعقيدة دينية أو سلطة سياسية
استنباط الأفكار بعضها من بعض. ومع ذلك ثمة الأفكار الفطرية المغروزة في النفس، ليس فقط الأفكار الرياضية: الكل أكبر من الجزء، الشيء لا يخرج من اللاشيء.. ولكن أيضا فكرة «الموجود الكامل». ولما كان الوجود ضمن الكمال، فإن الله موجود وهو الموجود الكامل. وظيفة العقل هنا أيضاً تبرير عقائد الإيمان، كما كان الحال عند المتكلمين والفلاسفة. ولما كانت النفس متميزة عن البدن، وكان مصير البدن الفناء.. فإن مصير النفس الخلود. وهو تبرير آخر لخلود النفس كقضية إيمانية.
سبينوزا فهو الوحيد من تلامذته الذي جعل وظيفة العقل مستقلة عن الإيمان. وكتب بالإضافة إلى كتابه «الأخلاق» كتابه الآخر «رسالة في اللاهوت والسياسة»، والذي أثبت فيه أن حرية الفكر ليست خطراً على الإيمان ولا على سلامة الدول، بل إن القضاء على حرية الفكر فيه خطر على الإيمان وعلى سلامة الدول. فالعقل قادر على إثبات خطأ الكثير من المعتقدات والأفكار الدينية. وينتهي سبينوزا إلى أن نظام العقل هو «مواطن حر في جمهورية حرة».
وانتهى النقد التاريخي الغربي للكتب المقدسة إلى تشجيع العقل الإنساني على القيام بمهمة نقد المقدس؛ نصاً ومفهوماً، مما أعطى للعقل مكانته الجديدة أمام النص.
محاولات نقدية عربية
ظهرت محاولات للنقد في الفكر العربي المعاصر على استحياء وتردد. وظلت هامشية تتناولها النخبة فيما بينها، وليس لها تأثير على مستوى الثقافة العامة. منها كتاب «نقد الفكر الديني» (صادق جلال العظم) بعد هزيمة يونيو 1967، كشفاً للجانب الأسطوري في بعض الممارسات الدينية، وكرد فعل على الهزيمة، وتلمساً لبداية الطريق نحو النصر.. وكان رد البعض عليه بالتكفير والاستبعاد، والاتهام بالشيوعية والمادية.
ومن المحاولات النقدية العربية أيضاً كتاب «نقد الخطاب الديني» (نصر حامد أبو زيد)، كرد فعل على انتشار الخطاب الديني في الحياة العامة، بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والتحالف المصري الأميركي.
كتاب «نقد العقل الإسلامي» (محمد أركون)، والذي جاء بطريقة أكثر علمية وتاريخية وفلسفية، ذلك لاعتماده على اللسانيات المعاصرة، منتقلاً من المفَكر فيه إلى اللامفَكَّر فيه، من لحظات معينة في تاريخ الفكر الإسلامي إلى الحكم على بنية العقل الإسلامي ككل، ومن اللحظات المتغيرة إلى الجوهر الثابت. وكان لهذا الكتاب أثره على المثقفين، خاصة في المغرب العربي وفي الغرب الأوروبي حيث كان مؤلفه يعيش مهاجراً في باريس بعيداً عن الحياة الوطنية الفكرية في الجزائر وعن الحراك الأمازيغي في ولاية «تيزي أوزو» حيث ولد ونشأ.
وبقيت هذه المحاولات المعاصرة على أيدي النخبة، غير مؤثرة على الجماهير. ولم يتجاوز النقد هنا التحليل التاريخي ثم الحكم على الجوهر. وكما قام العقل التقليدي بالإيمان المسبق بالمعطيات، قام النقد المعاصر على التسليم المسبق بالأيديولوجيات، ماركسية (العظم) أو اشتراكية (أبو زيد) أو ليبرالية (أركون) أو قومية (الجابري).. وبالمناهج الغربية، الاجتماعية التاريخية (العظم)، والأدبية (أبو زيد)، واللسانية (أركون)، والبنيوية (الجابري).
وبدلاً من أن يبدأ النقد بالتحليل، انتهى بالتركيب، وبدلًا من أن يحلل الأبنية القديمة، انتهى بأن ركب أبنية جديدة موازية فوق الأبنية القديمة سرعان ما تنهار أمام الموجة السلفية والتمسك بالخطاب التقليدي القديم.
إن النقد الثقافي لابد أن يبدأ من الواقع الثقافي الذي قد يتراكم فيه التراث القديم ويتفاعل فيه التراث الغربي، ويتصارع فيه الموروث والوافد معاً. الموروث يريد أن يستمر من الماضي إلى الحاضر، والوافد يريد أن يزرع المستقبل في الحاضر، وكلاهما إغفال لمسار التاريخ. ومعظم المحاولات التي سعت للافتكاك من قيود القديم دون الوقوع في قيود الجديد تستبعد من الفريقين. تتهم من أنصار القديم بالعلمانية، ومن أنصار الجديد بالسلفية، في ثقافة ما تزال ترى ضرورة التعارض بين العناصر المكونة لها، ولا ترى إلا عنصراً واحداً.
وبدلاً من أن يبدأ النقد بالتحليل، انتهى بالتركيب، وبدلًا من أن يحلل الأبنية القديمة، انتهى بأن ركب أبنية جديدة موازية فوق الأبنية القديمة سرعان ما تنهار أمام الموجة السلفية والتمسك بالخطاب التقليدي القديم.
إن النقد الثقافي لابد أن يبدأ من الواقع الثقافي الذي قد يتراكم فيه التراث القديم ويتفاعل فيه التراث الغربي، ويتصارع فيه الموروث والوافد معاً. الموروث يريد أن يستمر من الماضي إلى الحاضر، والوافد يريد أن يزرع المستقبل في الحاضر، وكلاهما إغفال لمسار التاريخ. ومعظم المحاولات التي سعت للافتكاك من قيود القديم دون الوقوع في قيود الجديد تستبعد من الفريقين. تتهم من أنصار القديم بالعلمانية، ومن أنصار الجديد بالسلفية، في ثقافة ما تزال ترى ضرورة التعارض بين العناصر المكونة لها، ولا ترى إلا عنصراً واحداً.
النقد في مواجهة القديم
اقتصر دور العقل في علم أصول الفقه على استنباط الفروع من الأصول في القياس الشرعي. وهو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. فكل واقعة جديدة لها أصل قديم. وكل واقع متغير له أصل ثابت في النص. في حين أن النص يتوقف على فهمه واختياره. كما أن الواقع، أي «عموم البلوى» أو «المصالح العامة»، يدركه كل الناس. وهمشت الاستدلالات الحرة، مثل «المصالح المرسلة» و«الاستحسان» و«الاستصحاب» و«الاستصلاح». وهو ما يؤيده النص أيضاً «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن». والمصادر الأربعة للشرع تبدأ بالنص؛ الكتاب والسنة. وتنتهي بالواقع، الإجماع والقياس. فالأولوية للنص على الواقع. والنص متشابه، والواقع مرئي. النص سلطة، والواقع تحرر من السلطة. النص ثبات، والواقع حركة. وبالرغم من أن اللغة بها حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤول، محكم ومتشابه، مجمل ومبين، مطلق ومقيد إلا أن العلاقة بين الطرفين مثل علاقة الثابت بالمتحرك، القاعدة بالاستثناء، الأصل بالفرع.
ولم يعتمد أهل التصوف على العقل لصالح مصدر آخر للمعرفة هو الذوق أو الإلهام أو الكشف، وهو نور يقذفه الله تعالى في القلب، وشرطه التوجه إلى الله، وسلوك الطريق، والصعود في المقامات والأحوال. إنها المعرفة الإشراقية، والتي تأتي أولا ثم يبحث عن البراهين على صدقها كما هو الحال في علم الكلام. وقد وضح ذلك في «حكمة الإشراق» عند السهروردي. واتحدت نظرية الفيض أو الصدور عند الفلاسفة مع الكشف والنور الرباني عند الصوفية في المعرفة أو الفلسفة الإشراقية. وبدل أن تأتي المعرفة عن طريق الرواية أفقياً من السابق إلى اللاحق، تأتي رأسيا من أعلى إلى أدنى. لكن كيف يتم النقد في عالم من المعجزات؟ وإذا كانت علوم الحكمة علوماً، نخبوية فقد تحول التصوف إلى ثقافة شعبية من خلال الطرق الصوفية.
والعلوم النقلية الخمسة التي لها أكبر الأثر على التعليم الديني المنتشر بوفرة لم تركز على العقل منذ البداية، فهي علوم تعتمد على النص.
وعلم الحديث تم استبعاد نقد المتن لصالح نقد السند، مع أن المتن في النهاية هو ما يتوافق مع القرآن ويقبله العقل وينسجم مع المصلحة. لكن ذكر الأسانيد أصبح دليلا على العلم، أي العلم المنقول الذي لا يخضع للنقد.
وأحياناً يتحول علم السيرة إلى مجموعة من المدائح تقال في المولد النبوي، لا نقد فيها للروايات.
وفي علوم التفسير تم تهميش العقل لحساب التفسير بالمنقول، واعتمد التفسير على أقوال السابقين ومنقولات المفسرين دون تحكيم للعقل أو المصلحة ودون التعبير عن روح العصر.
وفي علوم الفقه يتم التركيز على تقليد المذاهب الأربعة التي لا خروج عليها. وأصبح السباق بين هذه المذاهب واضحاً بين الفرق الكلامية، دون أن يحاول أحد باسم العصر إعادة النظر في أحكام الغنائم والسبايا والرق.. وهي الموضوعات التي انقضت بانقضاء زمانها. وربما كذلك أيضاً في بعض أحكام الجلد والرجم، وبعض أحكام المرأة التي أصبحت -في رأي البعض- متعارضة مع حقوق الإنسان.
وباختصار فإن النقد ضد التقليد، وهو تعبير عن الحديث في مواجهة القديم.
وعلم الحديث تم استبعاد نقد المتن لصالح نقد السند، مع أن المتن في النهاية هو ما يتوافق مع القرآن ويقبله العقل وينسجم مع المصلحة. لكن ذكر الأسانيد أصبح دليلا على العلم، أي العلم المنقول الذي لا يخضع للنقد.
وأحياناً يتحول علم السيرة إلى مجموعة من المدائح تقال في المولد النبوي، لا نقد فيها للروايات.
وفي علوم التفسير تم تهميش العقل لحساب التفسير بالمنقول، واعتمد التفسير على أقوال السابقين ومنقولات المفسرين دون تحكيم للعقل أو المصلحة ودون التعبير عن روح العصر.
وفي علوم الفقه يتم التركيز على تقليد المذاهب الأربعة التي لا خروج عليها. وأصبح السباق بين هذه المذاهب واضحاً بين الفرق الكلامية، دون أن يحاول أحد باسم العصر إعادة النظر في أحكام الغنائم والسبايا والرق.. وهي الموضوعات التي انقضت بانقضاء زمانها. وربما كذلك أيضاً في بعض أحكام الجلد والرجم، وبعض أحكام المرأة التي أصبحت -في رأي البعض- متعارضة مع حقوق الإنسان.
وباختصار فإن النقد ضد التقليد، وهو تعبير عن الحديث في مواجهة القديم.
وظيفة العقل وغياب النقد
هناك سؤال عادة ما يثار في الذهن ألا وهو: لماذا غاب «النقد» لفظاً ومفهوماً ووظيفة في الثقافة العربية؟ ولماذا لم يتطور النقد الأدبي إلى نقد ثقافي ونقد اجتماعي ونقد حضاري.. إلا نادراً عند بعض الأفراد على هامش الثقافة العربية مثل الجعد بن درهم، والحلاج، وابن الراوندي، وأبي حيان التوحيدي، وابن رشد.. من القدماء، وهشام شرابي وإدوارد سعيد.. من المحدثين؟
قد يرجع ذلك إلى الوظيفة التي مارسها العقل، وهي التبرير؛ تبرير الدين وتبرير السياسة. ويعني التبرير الإيمان ببعض العقائد مسبقاً ثم جعل وظيفة العقل إيجاد البراهين على صحتها. وهو تعريف الغزالي لعلم الكلام في «المنقذ من الضلال»، أي إثبات صحة العقائد الدينية بالبراهين والأدلة اليقينية. الإيمان أولا والعقل ثانياً، المعطيات أولا وفهما ثانياً. فالله موجود، والعالم مخلوق، والنفس خالدة تثاب وتعاقب طبقاً للأعمال، مما يقتضي البعث والنشور. وهو يحدد تصوراً ثقافيا للعالم لا يمكن الخروج عليه دون اتهام بالكفر والإلحاد والدهرية.
تم ذبح الجعد بن درهم بعد خطبة العيد بيد الخطيب، لأنه تجرأ وقال إن الإنسان صاحب أفعاله ومسؤول عنها. وكُفرت «الكرامية» لأن «ابن كرام» قال بتصور مغاير لله. وتم استبعاد النسق الاعتزالي كتصور للعالم يقوم على الأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والحسن والقبح العقليان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فجوهر التوحيد هو العدل، ويتمثل العدل في قدرة الإنسان على الفهم والاختيار، والاستحقاق طبقاً للأعمال، والخير والشر في ذاتهما وليس بقدرة أو إرادة خارجية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحديد العلاقات الرأسية في المجتمع. وساد التصور الأشعري الذي يقوم على نظرية الذات والأفعال والأسماء، كما عبّر عن ذلك الغزالي في آخر «الاقتصاد في الاعتقاد». التوحيد مطلق غير مشروط بالعدل، والنص هو الذي يحدد الخير والشر، وهو خاضع لتأويل البشر.. فأصبح التبرير الديني مقدمة للتبرير السياسي، وقبول معطيات الدين مثل قبول معطيات السياسة.
وقد حدث الشيء نفسه في علوم الحكمة، أي في الفلسفة، حيث استقر النسق الفلسفي على نفس النسق الكلامي، لكن بطريقة أكثر عقلانية وباعتماد أقل على النصوص. واشتدت ثنائية الخالق والمخلوق حدة. وأصبحت ثنائية متعارضة لا يمكن التقريب بين طرفيها. صفات الخالق غير صفات المخلوق؛ وما أُعطي للخالق يسلب من المخلوق، وما يوصف به المخلوق لا يوصف به الخالق. القول بقدم العالم إنكار لهذه الثنائية، وإنكار علم الله بالجزيئات إنكارٌ للعلم الإلهي بكل شيء، كليات وجزئيات، في حين أنه في المنطق العلم بالكليات يغني عن العلم بالجزئيات، والمقدمات الكبرى تتضمن المقدمات الصغرى. وإنكار حشر الأجساد والاكتفاء بخلود النفس، خروج على الإيمان. كما أن تحويل عقائد الإيمان إلى تصورات عقلية أكثر قبولا هو خروج على الدين وسبب للاتهام بالكفر. وهي التصورات الثلاثة التي كفّر فيها الغزالي الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، والتي استمرت بعده بالرغم من محاولة ابن رشد الدفاع عنها وعن احتمالها في كتابه «تهافت التهافت». واستقرت المدينة الفاضلة على المدينة الهرمية برأسها الأعلى، ثم تتدرج الطبقات من الأعلى كمالا إلى الأقل كمالا حتى نصل إلى العمال والفلاحين والصيادين. فمن يعملون بأيديهم أقل كمالا من الذين يعملون بعقولهم. وما بين الأعلى والأدنى هناك الوزراء والقواد أي رجال الحكم. واستمر هذا التصور إلى الآن في السلطة والثروة. والمعرفة تأتي لـ«الرئيس» من الاتصال بالعقل الفعال وفيضه عليه. وهي معرفة أعلى من المعرفة الحسية والعقلية التي لدى باقي الطبقات.
++++++++++
الإنسان العربي، ّ يفتش عن
الطمأنينة في الدين، وعن السلام في
الكراهية، وعن السعادة في الآلام.
هذا الإنسان، يفتش عن حقائق
هاربة ومفارقة لواقعه وذاته، يظهر
كأن طبيعته مفطورة على السلام
والإيمان والتطور، ولكنه في الواقع
يعيش داخل معادلة التناقض
والتعارض
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق