( الثورة الإنجليزية وبعدها الثورة الأمريكية، ثم الثورة الفرنسية ووضعتها على مستوى الإنسان أكثر من ذلك، سوف تعمل تلك الثورات على جعل السلطة تنبثق من تحت، عوضاً عن الإتيان بها من فوق، وسوف تجهد على إنشائها بناء على فعل واع ينبع من إرادة المواطنين). ويرى غوشيه إن الخروج من الدين، لا يعني التخلي عن المعتقد الديني، وإنما الخروج من عالم يكون الدين فيه بحد ذاته منظماً بنيوياً، يوجه الشكل السياسي للمجتمعات ويعين البنية الاقتصادية للرباط الاجتماعي، وهذا القضية تندرج في إطار يتناقض مع فهم الظاهرة الدينية من منطق البنية الفوقية، فالمجتمعات الخارجة على الدين هي بالتحديد المجتمعات التي يمكن فيها اعتبار العامل الديني بنية فوقية بالمقارنة مع بنية تحتية تعمل في غيابه على نحو تام، وهذا خطأ، بيد أن خداع النظر هو ملازم لبنية المجتمعات الحديثة، وبالمقابل في المجتمعات التي سبقت هذا الحدث، يشكل العامل الديني جزءاً لا يتجزء من النشاط الاجتماعي، فالخروج من الدين هو في المحصلة الانتقال إلى عالم يستمر وجود الأديان فيه، ولكن ضمن شكل سياسي وتنظيم جماعي. (4) وأن الخروج من الدين لايزال مستمراً، فالخروج من الدين في أوربا يتواصل من حيث كان قد ابتدأ ، بل هو يصل إلى نسبة مذهلة، أذ تسجل انهيار بالعبادات والتراجع في الانتسابات، وتناقض الأرشادات الربانية، وقبل كل شيء ربما اضمحلال المؤسسات الدينية، فالكنائس لم تعد فعلياً تتمتع بالسلطة في تحديد الإيمان ولا تستطيع فرض أركان العقيدة، وذلك حتى في نظر أولئك الذين لا يزالون يعتبرون أنفسهم أتباعهم المخلصين، وهي أقل شأناً من ذلك بكثير في ما يتعلق بتحديد الخيارات السياسية أو ضبط الأخلاق. ويذهب غوشيه أنه بعد الثورات على الكنيسة بدأ المفكرون بقبول وطرح اراء حول الدين وأي دين يقبل، فبدى لهم أن الاخلاق هي المعيار الوحيد لقبول الدين، وصحيح أنه ليس للدولة دراية بشؤون الدين ولا تمتلك أي ديانة، ولكن ذلك لايدل بالضرورة على عدم اكتراث كامل من جانبها يقودها إلى أن تقبل من دون تميز أي مذهب يعرض نفسه على الناس تحت أسم الدين، فلابد للدولة أن تحكم عليها من المنظار الاخلاقي. والمهم في الدين هي القدرة على تقديم فكرة شاملة للعالم وللإنسان وقادرة على البرهنة على صحة الخيارات الشخصية والجماعية بشكل تام ونهائي، ولابد أن يكون لدينا دين في حدود معينة، يدخل في محل معيار ملزم وهو توافق هذه الرؤية للعالم مع الرؤية الديمقراطية السياسية ويحدد هذا المعيار اسم عقائد مدركة وعقلانية. (5) ويرى غوشيه أن الديمقراطية قوضت الدين، فأدى إلى انسحاب الدين من العالم المعاصر، ومن جهة اخرى تسببت الثورة العلمية في تراجع المنظور الديني للعالم المادي وهو ما أضعف تأثير الدين على التفكير العلمي ومناهج تفسير العالم المادي، وأن انسحاب الدين يظهر بشكل أكبر في الحقل السياسي والعلمي، حيث الدين منسحب تماماً إلا على صعيد المجال الخاص، ولكن مع ذلك يحافظ الدين على البعد الروحي. (ونحن بدورنا لا نوافق غوشيه على طرحه انسحاب الدين عن العالم المعاصر، فكثير من الدول تحكم بالدين، ويكون أصل قوانينها الدين، وعلى الرغم نرى في الحكومات التي تدعي الحكم بالدين هي غير موفقه ومنصفه اتجاه شعبها). ويناقش غوشيه في عالم الحداثة، وتشكلها وتأثيرها على مصير الدين من منطلق أساسي يعتبر فيه أن زمن الحداثة الغربية وخاصة المجتمع الأوربي، هو زمن الخروج من الدين، ويعني غوشيه بالخروج من الدين ليس تهميش للدين ولاتمثل قطيعة مع الإيمان بالله، ولا تعني أن الناس باتوا لا يؤمنون بالله فهم لم يكونوا أقوياء الإيمان من قبل في كل الاحوال، إن إحدى أولى المؤشرات الصارخة على الدخول في الحداثة بصفتها خروجاً من الدين هي الإصلاح البروتستانتي الذي ولد رد فعل على ماعرف بالإصلاح الكاثوليكي. والدين عند غوشيه هو في اصله دين البشر للعالم الآخر وللكائنات العلوية وللقوى الفائقة، والدين يتضمن أولاً مبدأ الخارجية، أي القول بأن المجتمع يستمد قوانينه من خارجه لا من ذاته، ويتضمن ثانياً مبدأ المغايرة، أي القول بأن البشر مدينون بمعنى وجودهم إلى غيرهم وليس إلى بشر مثلهم، ويتضمن ثالثاً مبدأ الانفصال، أي القول بوجود فارق أو مسافة بين المجتمع ومصدره، بين الجماعة والمبدأ المؤسس والمشرع لها. وهذا البنيان الكامل للدين اخذ بالتفكك شيئاً فشيئاً في مجهود استغرق خمسة قرون وصولاً إلى عصرنا، بموازاة الإصلاح الديني، ثمة حدث برز على أنه معاصر، هو ظهور السياسة الحديثة الذي ولد على مدى قرن كامل مفهوم الدولة الحديثة، يمكنك أذن أن نرى كيف أن مساراً سياسياً ومساراً دينياً يغيران معطيان الإيمان بشكل كلي، في هذا السياق الخطي للتاريخ، احتلت السياسة الجغرافية التنظيمية والمعرفية التي كان الدين يسكنها، ويستمد قوته في المجال العام، وتشكيل وعي الإنسان، ومن ثم تجدد الوعي الاجتماعي بالتغير الحاصل، ونزع الطابع اللاهوتي عن مسار التاريخ، ومعه تسقط التبعية الدينية، وأنتقل الفرد والمجتمع إلى عصر عرف تحولاً كبيراً للايديولوجيا بتعبيراتها الجذرية والمعتدلة خلال الثلاثين سنة الماضية، مما أدى بدوره إلى إدخال الدين في عالم الاستقلالية الديمقراطية المعاصرة. وبذلك يرى غوشيه أننا نجد أنفسنا في عصر يتجه فيه المعتقد الديني إلا يكون سياسياً، فيما يتجه المعتقد السياسي ألا يكون دينياً، وهذا يدخلنا في عصر جديد من تاريخ الإنسانية، يتميز بحسب أطروحة غوشيه بأربع خصائص أساسية يمكن أجمالها فيما يلي:
1- تراجع الدين في تكوين مؤسسات الدولة والمجتمع المعاصر.
2- خصخصة الدين، واحتلال البعد الفردي للدين مكان الصدارة أمام المعتقد الجماعي ودوره في الحياة العامة الأوربية خاصة.
3- الفردانية الدينية، حيث أصبح الدين تفسيراً وممارسة، يخضع لنوع من التصور الفردي، بعيداً عن مفهوم الجماعة للدين الذي كان سائداً إلى حدود القرن التاسع عشر.
4- الابتعاد عن الممارسات الدينية الكنسية، حيث ظهرت سلوكيات غير مؤسساتية للدين تؤمن بالنسبة الدينية، وتخرق النسق المعرفي الكنسي للدين، ويظهر ذلك في موجه الخروج الكبير عن نمط المنظومة الدينية، بأعتبارها نسقاً واحداً وثابتاً ولا يتحقق الإيمان إلا بالتبعية الدينية للكنيسة، إذ أثبتت الدراسات المتعددة في مختلف الدول الأوربية، ازدياد مهماً في نسبة المتدينين المخالفين للثقافة الدينية والسلوكية للكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية. (6)
ومع ذلك لايزال المعتقد الديني يخط مساره دون أن يفقد مكانته الضمنية، في التفاعلات المجتمعية في زمن الحداثة والفردانية المعلمنة، ومن المؤشرات القوية على ذلك عودة الدين للمجال العام، وكذلك ظهور موجات جديدة من الأصوليات الدينية المركبة، التي تختلف عن الدين التقليدي المعروف تاريخياً، وفي هذا السياق يمكن للأصولية الدينية أن تغوي هؤلاء الشباب ويعتبرون قضيتهم شيئاً نبيلاً، إنهم يشعرون في أعماقهم بأنهم يتحولون إلى أشخاص جديري بالتقدير ويصبحون شخصيات مقسرة من خلال إنكار ذواتهم كأفراد وفقاً لمعاييرنا المعتادة، ولهذا يجب التنبيه إلى الحل العلمي لظاهرة الإرهاب في وسط الشباب، والذي يكمن في إيجاد سبل لتحقيق الفرد ذاته وسط مجتمع معقد التنظيم ومتعدد التفاعلات، وهذا منوط بداية بالتفكير المتعمق حول التعليم. ويرى غوشيه في الإسلام هو عقلنة للفكرة التوحيدية، أي أنه يقوم على تصور عقلاني للكائن المطلق، أذ أن الإسلام لا يتناقض مع الحداثة السياسية التي تكونت خارجه، وذلك لأنه يتضمن فكرة الفصل بين الديني والسياسي، والمذهب الإسلامي هو أكثر عقلنة، وينتج عن ذلك مذهب توحيدي أكثر جذرية وأكثر صرامة من مذهب اليهود الذي يقوم على عقيدة الشعب المختار، ومن مذهب المسيحيين الذي يقوم على عقيدة التجسيد، ويذهب غوشيه إلى وجود نزعة فلسفية في الإسلام، وأرادت من فكرة الله (جل جلاله) إبرازها من زاوية العقلانية، وكان ثم عدد كبير من الفلاسفة عملوا على بلورتها، ولكن هذا الفلسفة سرعان ما خفت نورها بعد توهج رائع، وذلك لعدة أسباب بسبب عدم تسامح الفقه، وبسبب النزعة الحرفية في قراءة النص. والفلسفة الإسلامية عقلانية في مقدماتها، لكن هذا العقل يذهب نحو الإيمان، ويقود إلى التأمل الصوفي لمعطى الوحي. والإسلام ليس غريباً عن الثقافة الغربية لوجود قرابة عميقة، بين هذا الدين والمسيحية بأعتبارهما دينين توحيديين، حتى ولو أنه من داخل هذين الدينيين هناك أختلاف عميق في المضامين الدينية، ويرى في الإسلام ليس دينياً مقاوم للعلمنة. (7)
"عودة السحر إلى العالم Reenchantment of the world"، عوض "نزع السحر عنه desantement of the word"،
فعودة الدين في زمن الحداثة لا يتطابق مع شكله المُعتقد والمُمارس في زمن ما قبل الحداثة، إذ إن العودة في زمن الحداثة تختضب بما هو دنيوي (أي علماني)، وذلك ما يتجسد في مجموعة من الأنساق أهمها نسق السياسة وحقل المعرفة.