المكوّن الأول أقلية تستولي بالقوة على أكبر نصيب من الثروة والسلطة والاعتبار، وهذه مجموعة السادة. هم أولياء الأمر أو الرعاة الذين يدّعون دومًا الصلاح والبحث عن منفعة الرعية.
المكوّن الثاني أقلية مناهضة للأقلية الأولى، تقاوم لتوزيع أكثر عدلًا للثروة والسلطة والاعتبار، وهذه مجموعة الثوار التي سميتها شعب المواطنين.
المكوّن الثالث أغلبية تعيش على الفتات الذي تقرره حالة صراع بين السادة والثوار، وهي مجموعة الرعية التي سميتها شعب الرعايا.
كل هذه المجموعات متحركة وفي تداخل مستمر مع إمكانية المرور بالنسبة للأفراد من مجموعة لأخرى حسب ظروف الصراع.
الإنسان المفترس – نموذجًا الدكتاتور والإقطاعي والرأسمالي الجشع -، والإنسان الفارس – نموذجًا النبي والمصلح والثائر، وهو المكوّن الأساسي لشعب المواطنين -، والإنسان الفريسة – نموذجًا العبد والعامل المستنزف، وهو المكوّن الأساسي لشعب الرعايا.
داخل هذا الشعب ثمة كمّ هائل من وجع الظلم وألم الشعور بالمهانة والعجز. ثمة كره الذات لذاتها، للشعور المؤلم بأن جبنها هو الذي يمنعها من التمرد. أضف الضغينة ضد المتسببين في الوضع المهين، ورغبة الثأر منهم عاجلًا أو آجلًا، في الدنيا وإن استحال الأمر ففي الآخرة.
لتقدير كمية الضغينة والحقد، انظر ما تقطر به خطب الشعبويين وكتاباتهم، خاصة في الفضاء الافتراضي، من عنف لفظي وبذاءة مقصودة ورغبة واضحة في الإيذاء.
هؤلاء الناس هم من يصوتون لدونالد ترامب في أميركا، وناريندرا مودي في الهند، وجايير بولسونارو في البرازيل، ورودريغو دوتيرتي في الفلبين، وقيس سعيّد في تونس.
وهم كمن يصوب سلاحه إلى عدو وهمي،
الرابح الوحيد في هذه الصفقة الجديدة الخاسرة لشعب الرعايا هو من يرصد بذكاء المخزون من الضغينة ويستغله كرافعة للسلطة، صارخًا أن سبب مآسي “الشعب” هو “السيستم”، أي منظومة النخب، أكانت في الحكم أم في المعارضة.
انظر كيف يركّز الجمهوريون في أميركا حقدهم ضد كبرى الجامعات العريقة، لأنها حاضنة النخب التي لا تشاطرهم نفس التوجهات الأيديولوجية. ألم يقل نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس بصريح العبارة: “الجامعات هي العدو”؟
ليست أيديولوجيا، لأن الأيديولوجيا فكر ومشروع، بينما ليس للشعبوية إلا طاقة متفجرة من المشاعر المدمرة، أساسها الغضب والشعور بالمهانة والحقد ورغبة الانتقام، وليس لها من مشروع عدا تدمير “السيستم”.
آخر ما يحتاجه التعامل المسؤول مع الشعبوية الرفض والاستهجان والسخرية والإدانة، فما بالك بالازدراء، فأنت أمام صرخات ألم وغضب لجزء من المجتمع لم تنتبه له حتى النخب الثورية، وهي منشغلة بالصراعات داخلها ومع نخب الثورة المضادة. فكرني بكتاب مشكلتنا
التقدمي واليساري والديمقراطي
داخل كل شعب مجموعتان رئيسيتان
الأولى مجموعة تحركها القيم، والثانية مجموعة لا تحركها إلا الغرائز وأخسّ المصالح.
الترامبية وجدوا فيه أنفسهم، وأنه كان يعبر بدون مواراة عن كرههم للنخب وعنصريتهم وخوفهم من المهاجرين المهددين لما يتصورونه هويتهم، ناهيك عن تهديدهم لمواطن الشغل؟
الشعب النقي الطاهر الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من أمامه خرافة. ألم يعد واضحًا أن هناك مبالغة في التفاؤل بخصوص الطبيعة البشرية، وأن التجربة تظهر أن الأشخاص يختارون في انتخابات حرة ونزيهة أمثال ترامب وسعيّد وميلي ودوتيرتي بكل ما فيهم من أحقاد مدمرة، لأنهم بكل بساطة يشبهونهم؟
النازية منذ قرن ثورة شعبوية، وما يقع اليوم في أميركا مع ترامب ثورة شعبوية، بل وفي أقدم معاقل الديمقراطية.
ثورة أن تكون أيضًا قفزة جبارة إلى الوراء، تحركها أخطر الغرائز البشرية، أي الخوف والحقد والانتقام من أعداء حقيقيين أو متخيّلين.
المال الفاسد والإعلام الفاسد، لتوصل ديمقراطيًا إلى سدة الحكم ألدّ أعداء الديمقراطية.
الاعتراف بأن الشعبوية لا تجانب الصواب عندما تعتبر أن الديمقراطية الليبرالية في آخر المطاف صفقة ذكية بين النخب، لكي يقع التداول على السلطة دون أن تدخل في حرب دموية مكلفة، لكن مع تواصل استغلال الرعايا عبر انتخابات تتحكم فيها بالمال والإعلام، والخيار “الحر” للمخدوعين هو بين “موسى الحاج” و”الحاج موسى”؟
ما تفرضه علينا الشعبوية ليس الكفر بالشعب وبالثورة وبالديمقراطية، وإنما ضرورة الاستماع إلى صرخات الاحتجاج والألم المتصاعدة من جماهير المهمشين، ومراجعة طرق تفكيرنا لطرح البدائل الفعالة بدل ترك هذه الجماهير تجري وراء سراب كل مسيح دجال يتقدم لها كالمسيح المخلّص.
طاقات العقل الجماعي لوضع نظام ما بعد الديمقراطية – أو نظام الشورى الدستورية بمصطلح الكواكبي، أو نظام الحكم الرشيد – سمّه كما شئت، والقادر وحده على فهم الاحتجاج الشعبوي والتجاوب مع مطلبه الأساسي، أي التوزيع العادل للثروة والسلطة، وخاصة الاعتبار، وهذا أول شروط تحويل شعوب الرعايا إلى شعوب مواطنين.
الديمقراطية الليبرالية الغربية
الحريات الفردية والجماعية، والتفريق بين السلطات وتوازنها، وحتى الانتخابات، لكن في مجالات معينة يتم التوافق عليها حتى لا تصبح هذه الانتخابات مغامرة ومقامرة بمصير الشعوب، وحتى بمصير العالم كما هو الحال اليوم بعد انتخاب ترامب.
تسخير الديمقراطية عبر سياسات اقتصادية إرادية لفرض أقصى قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، لأن النظام السياسي الديمقراطي لا يثبت، خاصة في بلداننا، إلا إذا بني على قاعدة “لا حرية بدون عدالة، ولا عدالة بدون حرية”.
نحن لا نستطيع فرض المحبة على الناس، لكننا نستطيع فرض الاحترام بإجبار البيروقراطية على تعامل محترم مع الناس، وبجعل احترام المسؤولين لأنفسهم، وللناس، ولمهمتهم، أول متطلبات الاختيار والترقية، وبفرض احترام الحقيقة على الإعلام بقوانين رادعة للكذب، وبتشديد العقوبات على خطاب الكراهية والتحقير في وسائل التخاصم الاجتماعي، وعلى الأمد الطويل بإعادة كتابة البرامج الدراسية لحذف كل ما يحقّر الآخرين.. إلخ.
قيمة الاحترام، وهي لا تقل أهمية عن التنمية الاقتصادية، لأن كل أشكال العنف الفردي والجماعي، المتمثلة في الثورات الشعبوية ضد نخب متعجرفة، محركها الأساسي هو الشعور بالاحتقار.
بدائل لديمقراطية هشّة مبوّبة للاندثار، وتتابع نظم استبدادية دينية أو علمانية تكرّر نفس العبث، وثورات شعبية تُجهض، وثورات شعبوية تزيد الطين بلة؟ أي خيار آخر حتى لا يكون مستقبلنا مستقبل سيزيف، الذي حكمت عليه الأقدار بأن يعود ألف مرة ومرة لوضع الصخرة على قمة الجبل، لكي تتدحرج مجددًا نحو القاع؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق