نظرية عصر ما بعد الديمقراطية.
الفارق بين المثقف والإنسان العادي لا يتوقف فقط على عدد الكتب
الحضور الإعلامي والمشاركة في الحياة العامة
الفارق الأساسي بين الاثنين هو في قدرة الأول على قراءة الغد، بناءً على معطيات الماضي والحاضر. ومن لا يفعل ذلك يبقى في حالة دهشة وصدمة أمام التحولات الجديدة التي ستطرأ والتي لم يعدّ ذاته ومحيطه لاستقبالها والتفاعل معها، وهي حال العوام.
المفكر الفرنسي وعالم الاقتصاد والسوسيولوجيا والأنثروبولوجي إيمانويل تود من النمط الأول، لم يكتف بالتحليل الفكري وتناول الفلسفات القديمة والمعاصرة وضم معطيات اللحظة إليها وحسب، بل شرع ينظّر للمستقبل ويضع له أطرًا حتمية جزم أنها ستتحقق، وهو ما صادقت عليه الأيام، فثبت تنبؤه بانهيار الاتحاد السوفياتي على سبيل المثال حين كتب ذلك في كتابه المبكر ”السقطة النهائية“ منتصف السبعينات.حينها كان العصر عصر نشوة السوفيات واليسار العالمي، وكان المناخ المحيط بتود في فرنسا يرى النقيض تماما، بل يؤكد بغطرسة على أن التجربة السوفياتية ستزدهر أكثر وتتوسع في جهات الأرض. قال تود إن ذلك مجرد وهم، وأن الكيان الأحمر الضخم في طريقه إلى الزوال. وهو ما حدث لاحقًا. واليوم نعيد قراءة تود وأفكاره التي قادته من الثورة الحتمية إلى ما بعد الديمقراطية.
ولعل الحوار الذي أجرته دير شبيغل الألمانية مع تود في وقت مبكر من العام 2011 كان يعكس كل تلك التصورات اللافتة لتود، مبتدئًا من انحسار الأمية في العالم العربي، لاسيما بين النساء، واعتباره مؤشرًا على تحولات تجري هناك، كان من بينها تراجع التزاوج ما بين الأقارب، وانخفاض الولادات، فقد انخفض معدّل الولادات بنسبة النصف في العالم العربي خلال جيل واحد فقط على سبيل المثال. مع ازدياد التوجه نحو التحديث العقلاني والثقافي لدى المجتمعات العربية.
فالأصولية عند تود هي رد فعل دفاعي ”مؤقت“ على صدمة التحديث، ولكنها ليست نهاية التاريخ، وهي كما يقول ”نقطة مشتركة مع بقية العالم“.
النظم السياسية لا بدّ أن تتغيّر، تحت وطء موجة من التحول الديمقراطي تقوم بنقل العرب من حالة الرعية إلى حالة المواطنة. وهو يرفض معادلة تصادم الحضارات الشهيرة، وأن الشرق ثابت على حاله، ويعتبر أن الاعتقاد السائد بأن الإسلام غير قابل للتحوّل هو اعتقاد غربي صرف غير صحيح.
وكان من أكثر الأسئلة التي واجهها تود، ما سبب غياب النخب العربية في السنوات الأخيرة؟ لكنه اعتبر أن ذلك لا يعد أمرا يدعو إلى الدهشة. فالشباب هم البديل، واستشهد بما جرى في فرنسا وإنجلترا في الماضي، فروبسبيير كان عمره 31 سنة أثناء الثورة الفرنسية عام 1789، وكان عمره 36 سنة حين اقتيد إلى المقصلة. الشباب أكثر قوة من المتقدّمين في السن وهم الذين سيحصدون المكاسب من التغيير.
انطلق تود من رصد انهيار النظام الأبوي في المجتمعات على إثر التحولات التي جرت على الأسرة والتعليم، فالنظام البطريركي ينعكس على الحياة العامة ومنها الأنظمة السياسية التي تحكم الدول. قال تود إن ”العلاقة بين (ناس فوق) و(ناس تحت) تتغيّر. وحينما تبدأ سلطة الأب بالتعثّر، فإن النظام السياسي، إجمالاً، ينهار بدوره. والسبب هو أن نظام العائلة الذي يقوم على الارتباط بالأب وعلى التزاوج ضمن جماعة حصرية قد أعيدَ إنتاجُه ضمن قيادات هذه البلدان. إن ‘بطريرك’ العائلة (أي، ‘الأب المؤسّس’) يضع أبناءه أو أقاربه الذكور في مواقع السلطة. وهكذا تنشأ السلالات السياسية، كما في حالة الأسد الأب والأسد الابن في سوريا. وهنا يزدهر الفساد لأن العشيرة الحاكمة تدير الشؤون العامة لصالحها. وهذا يعني، بالطبع، خصخصة الدولة لتصبح شركة عائليّة“.
استخلاصات المفكر الفرنسي تقوم على أن الديمقراطية يمكن أن تتّخذ أشكالاً مختلفة وعديدة. ويضرب مثلا روسيا التي يقول عن رئيسها فلاديمير بوتين إنه محبوب وصاحب شعبية واسعة في بلاده، لكن هل هذا يعني أن روسيا دولة ديمقراطية؟ يتساءل تود.
نطاق الديمقراطية الغربية يشمل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وحسب. فبناء على تود، لم تكن لألمانيا أي مساهمة تذكر في صناعة النظام الديمقراطي العالمي المعاصر، بحكم أن الحياة الديمقراطية الألمانية في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية هي من تأسيس الحلفاء الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين. أما ألمانيا فقد أنتجت أسوأ أيديولوجيتين في التاريخ المعاصر ”الماركسية والنازية“. أما الدور الإيجابي للمفكرين الألمان فتجسد بالإصلاح الديني ونشر القراءة بعد مطبعة غوتنبرغ الألمانية. أما الديمقراطية الألمانية الحالية فيرى تود أنها مبنية على خوف مقيم ما يزال حتى اليوم يتحكّم في مسار الألمان، فهم يشعرون بأنهم ”ليسوا جزءًا نهائيًّا من الغرب“. ولذلك يميلون إلى الائتلافات السياسية في ديمقراطيتهم وليس كما يجري في بريطانيا وفرنسا وأميركا، عبر النقلات الحادة بين سياسات الأحزاب.
تود يرسم ملامح عصر ما بعد الديمقراطية من خلال خمسة محددات تنحصر في عدم اتساق الفكر والانحسار الثقافي والتعلّق بالثروة وكراهية الآخر وعدم الاستقرار النفسي
سنشهد عالمًا إسلاميا خاليا من الإسلاموية، وأن تلك مرحلة ستلي مرحلة الإسلام السياسي الراهنة، على غرار التطور الذي حصل في الغرب المسيحي والشرق الأقصى البوذي“.
ورغم أن كل تلك التحولات خاضعة لتصادم المتناقضات، إلا أن نظرية تود مبنيةٌ على تطوّر الوعي النسوي، من جهة، وعلى تكامل الأسباب التي تدفع تلك التحولات إلى التحقق وستحدث حتمًا التغيير الاجتماعي.
ولكن المجتمعات الغربية ذاتها تخضع للمعيار ذاته، فنقد تود لرد الفعل على الهجوم الذي استهدف قبل سنوات صحيفة ”شارلي إيبدو“ الفرنسية الساخرة، جعله يتساءل مستنكرا “بأي حق تنادي الحشود (في الغرب) بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاتيرية، وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حرية تعبير؟”. وهو ما يسميه تود بأوليغارشية الحشود التي تستعرض عضلاتها على أقلية من المسلمين والعرب.
في كتابه ”ما بعد الديمقراطية“ يتخوّف تود من أن الديمقراطية في العالم تمر بأزمة خانقة داعيًا إلى الحذر من انهيارها. بعد أن بقيت طويلاً فكرة مثالية عن تحقق العدالة الاجتماعية. ولأنها مثالية فقد ارتبطت بمصير المثالية الإيمانية التي مثلتها في حالة فرنسا القيم الكاثوليكية، فبتراجعها تراجع الإيمان بالعدالة الاجتماعية أيضا.
درس تود أسباب وصول الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي إلى السلطة عبر الانتخابات في فرنسا. وتساءل كيف يمكن لشخص متواضع الثقافة ومتغطرس وبعيد عن العقلانية ومؤمن بالرأسمالية المنفلتة ومنحاز إلى الأثرياء لدرجة إعفائهم من الضرائب أن ينجح في حصد أصوات الناخبين وغالبيتهم ليسوا من تلك الطبقات المستفيدة من نهجه؟
موت النبلاء موت الديمقراطية
إن النموذج الذي رصده تود في حالة ساركوزي، قاده إلى إعلان ”موت النبلاء“ في فرنسا، الأمر الذي يعني موت قيم النبلاء وقيم الفروسية والحس العميق بالواجب الاجتماعي، أولئك الذين كانوا يخوضون الحروب من أجل الآخرين.
أما من مات مع النبلاء فهي الطبقة الوسطى، كما يرى تود، وسبب ذلك هو انتصار قواعد اللعبة الجديدة التي أرساها كل من الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر، لعبة قامت على التبادل الحر الذي دمّر الطبقات الوسطى في المجتمعات الديمقراطية الغربية. تبع ذلك التأسيس اعتماد أوروبا وأميركا على اقتصاد لا يقوم على الإنتاج، ما زاد من نسب الفقر والبطالة بصورة متنامية.
ووسط ذلك المشهد تصعد العنصرية التي توجّه الضربة القاصمة للديمقراطية الغربية التي لم تنفك تؤثر فيها منذ ولادتها في اليونان حتى هيمنت عليها في مفاصل تاريخية عديدة.
بموت الديمقراطية البطيء وعدم ظهور نموذج إنساني جديد صالح للحياة، وإصرار البراغماتية الأميركية على قيادة العالم، والتي يصفها تود في كتابه ”ما بعد الإمبراطورية“ بأن حربها من أجل نشر الديمقراطية والليبرالية في العالم أفرغت من محتواها تمامًا حتى داخل أميركا ذاتها، وباتت تعني الهيمنة السياسية على العالم وحسب، ومع انحسار الدور الريادي للفكر الأوروبي، لم يبق أمام العالم من خيار سوى ابتكار صيغ جديدة، بالطبع لا يجب أن تشبه ”اتفاق الطائف اللبناني“ أو ”الديمقراطية العراقية الطائفية“ التي أرستها الولايات المتحدة بعد غزوها للعراق في العام 2003 والتي قادته إلى واقع لم يكن يخطر في بال أكثر أعدائه شراسة، ولا الديمقراطية التوافقية القائمة على المحاصصة والعبث بالحقوق والواجبات ومنح الامتيازات وفقا للقراءات من خارج مبادئ العدالة والمساواة ، وهي القيم التي يتوجب أن تدافع عنها الحوامل الاجتماعية لا ما يسمى زورا بالحواضن الشعبية التي تنظر نظرة فاشية تعميمية إلى المجتمعات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق