هدية للقوميين الوطنيين والشعبويين حول العالم، إذ أعطت شرعية ومبررا للقيود على التجارة العالمية وحركة الأشخاص والبضائع، وأدركت شركات مختلفة، فجأة، مخاطر الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية المعقدة.
فأزمة تفشي الفيروس عالميا، إلى جانب كوارث عالمية أخرى مثل تغير المناخ، قد تساعد على المدى الطويل في تطوير وعي عالمي مشترك، وكلما عانى الناس في جميع أنحاء العالم من الصدمات نفسها، كانوا على اتصال أعمق مع بعضهم بعضا، وأصبحوا ضمن مجتمع عالمي مشترك، بحسب مقال المؤلف الأميركي روبرت كابلان لموقع بلومبيرغ.
العولمة الأولى والثانية
يرى كابلان أن جائحة كورونا ستكون الحدث السياسي والاقتصادي الأهم الذي سيدشن معظم الاضطرابات الجيوسياسية المحتملة في العقد المقبل، وسوف يتعمق في أعقابه نموذج جديد للعولمة تدخل إليه البشرية، ولن يكون أيضا نهاية للتاريخ.
يرى كابلان أن جائحة كورونا ستكون الحدث السياسي والاقتصادي الأهم الذي سيدشن معظم الاضطرابات الجيوسياسية المحتملة في العقد المقبل، وسوف يتعمق في أعقابه نموذج جديد للعولمة تدخل إليه البشرية، ولن يكون أيضا نهاية للتاريخ.
في المرحلة الأولى، التي استمرت من نهاية الحرب الباردة حتى وقت قريب جدا، كانت العولمة تدور حول اتفاقيات التجارة الحرة، وبناء سلاسل التوريد العالمية، وخلق وتوسيع الطبقات المتوسطة مع التخفيف من حدة الفقر المدقع، وتوسيع الديمقراطية، وزيادة كبيرة في الاتصالات الرقمية والتنقل العالمي، وعلى الرغم من ذلك كانت ثمة نكسات كبيرة لها مثل الحروب في أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط.
لكن المرحلة الثانية من العولمة مختلفة، بحسب كابلان، إذ تتشكل العولمة في مرحلتها الثانية من خلال فصل العالم إلى كتل قوى عظمى مع جيوش قوية وسلاسل توريد منفصلة، وكذلك ستشهد صعود الأنظمة الاستبدادية، وتسود فيها الانقسامات الاجتماعية والطبقية التي ولّدت الشعبوية المعاصرة، إلى جانب انزعاج الطبقة الوسطى في الديمقراطيات الغربية. باختصار ستعبّر العولمة في مرحلتها الثانية عن الانقسامات العالمية الجديدة والمتجددة.
ويتفق مع كابلان الكاتب والاقتصادي البريطاني فيليب ليجرين، حيث يرى أن جائحة كورونا سيكون لها تأثير دائم، مرجحا أن تكون بمثابة هدية للقوميين الوطنيين الذين يريدون ضوابط أكبر للهجرة والتنقل، وستعيد كذلك الاعتبار لأزمة المناخ والوعي البيئي والاستدامة.
ويرى ليجرين أن القادة الليبراليين الذين يتحدثون بعبارات لطيفة عن الحاجة إلى التعاون العابر للحدود في مواجهة تهديد مشترك، فرضوا قيودا على السفر والتجارة أكثر قسوة مما تجرأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب على فرضه في ذروة صراعه مع الصين العام الماضي.
واعتبر أن أزمة جائحة كورونا تهدد بالدخول إلى عالم أقل عولمة، وبمجرد أن يخف الوباء والذعر، فإن أولئك الذين يعتقدون أن الانفتاح على الناس والمنتجات من جميع أنحاء العالم هو شيء جيد، بشكل عام، سيحتاجون إلى الدفاع عن ذلك بطرق جديدة ومقنعة، بحسب مقال ليجرين لصحيفة فورين بوليسي الأميركية
العولمة في عصرين
تقول الحكمة التقليدية حول العولمة إنها خلقت سوقا دوليا مزدهرا، مما سمح للمصنعين ببناء سلاسل توريد مرنة عن طريق استبدال مورد أو مكون بآخر عند الحاجة، وأصبح كتاب آدم سميث "ثروة الأمم" كنزا عالميا استفادت منه الأعمال التجارية عبر تقسيم العمل المعولم، حيث وفر تخصص العمل فعالية أكبر أفضت بدورها إلى النمو، بحسب مقال مشترك لهنري فاريل أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، وأبراهام نيومان الأكاديمي بجامعة جورجتاون.
تقول الحكمة التقليدية حول العولمة إنها خلقت سوقا دوليا مزدهرا، مما سمح للمصنعين ببناء سلاسل توريد مرنة عن طريق استبدال مورد أو مكون بآخر عند الحاجة، وأصبح كتاب آدم سميث "ثروة الأمم" كنزا عالميا استفادت منه الأعمال التجارية عبر تقسيم العمل المعولم، حيث وفر تخصص العمل فعالية أكبر أفضت بدورها إلى النمو، بحسب مقال مشترك لهنري فاريل أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، وأبراهام نيومان الأكاديمي بجامعة جورجتاون.
العولمة خلقت أيضا نظاما معقدا من الاعتماد المتبادل، إذ احتضنت الشركات سلاسل التوريد والإمداد العالمية، مما أدى إلى ظهور نسيج متشابك من شبكات إنتاج ربطت الاقتصاد العالمي ببعضه بعضا، وأصبحت أجزاء منتج واحد تصنع في عشرات البلدان بشكل مشترك.
وأدى هذا التوجه نحو التخصص، في بعض الأحيان، إلى صعوبة استبدال المهارات أو المنتجات غير العادية، وبينما أصبح الإنتاج عالميا ومشتركا، أصبحت الدول أيضا أكثر اعتمادا على بعضها بعضا، لأنه لا يمكن لأي دولة أن تنتج كل السلع والمكونات والأجزاء التي يحتاجها اقتصادها، وهكذا تم دمج الاقتصادات الوطنية في شبكة عالمية واسعة من الموردين.
وبهذه الصورة فقد كشفت الجائحة عن مدى هشاشة النظام المعولم، وقد تكون النتيجة تحولا في السياسة العالمية لمواكبة تحولات ومراجعات فكرية جديدة أو حتى مراعاة لصحة وسلامة المواطنين التي أصبحت على المحك بسبب العولمة.
عبث التبشير بنهاية العولمة
تتجلى وظيفة "التقسيم العالمي للعمل"... حيث الدول التي تختزن أراضيها مصادر الطاقة والمواد الخام، ودول أخرى تحتاجها ولديها الإمكانيات والخبرات العلمية والصناعية لتعظيم القيمة المضافة لهذه المواد الأولوية بعد تحويلها لسلع وإنتاج تكنولوجي وصناعات تتكفل برفاهية البشرية وتحسين سبل الحياة... دول تمتلك الأيدي العاملة وأخرى تقتنصها وتجيد توظيف النوابغ بينها.... دول سبقت غيرها في إنتاج المعرفة والتكنولوجيا، وأخرى ما زالت تبحث عنها....
تستطيع "النزعات القومية العنصرية، أو التوجهات الإنكفائية والانعزالية أن تحدث اضطراباً في مسارات العولمة، وتوثر فى الاتجاهات الرئيسية لتطورها، بيد أنها لا تستطيع مطلقا وقفها ولن تستطيع.... والسبب باختصار أن ذلك يبدو مخالفا لقواعد تطور المجتمع الإنساني العالمي.
قد تنجح الرأسمالية المتوحشة فى فرض هيمنتها أو التحكم فى اتجاهات تطور العولمة، وأن تحيل أسواق "عالم القرية الواحدة" إلى ساحة مُحتَكرة لعدد قليل من الكيانات الاقتصادية الضخمة والشركات المتعدية للقارات والقوميات... لكن فى النهاية تعاقب موجات الثورات الصناعية والتكنولوجية، كفيل بإعادة تشكيل موازين القوى من جديد، ويفتح أفقاً باستمرار لإعادة تدوير مراكز الهيمنة، أو نقل مراكز السيطرة الاقتصادية والمالية من قارة إلى أخرى، ومن عاصمة إلى أخرى أيضا.
في سياق كهذا تستطيع أن تقول بأن السنوات القليلة القادمة ستشهد مزيدا من التباعد بين الولايات المتحدة وأوروبا، ولن يتجلى ذلك فقط في داخل الناتو والنشاط العسكري، ولكن في نماذج التجارة والضرائب، ومبادرات المناخ العالمية، وسياسات الفضاء الإلكتروني... وأن نتوقع أيضا أن تبدأ روسيا – خلال ذات الفترة- في مقاومة مبادرات الصين، وسترى أن البنية التحتية الصينية والاتصال اللذين يمتدان عبر آسيا الوسطى (السوفيتية القديمة) وأوروبا الشرقية، وعبر حوض المحيط الهندي، ومن الشمال عبر القطب الشمالي، بوصفه غلافا من ثلاث طبقات لمجال نفوذها السابق. وكذلك أن تجزم بأن العالم خلال عقد قادم لا أكثر سيعود إلى هيكل القوة متعدد الأقطاب.
بل وتستطيع أن تقول بأن السنوات القليلة القادمة ستشهد مزيدا من المقاومة للمظاهر المتطرفة للعولمة، والتي تتعارض مع متطلبات المصلحة الوطنية.
كورونا أظهرت، أكثر من ذي قبل، الحاجة إلى"أنسنة" العولمة...
والحق يقال أن "دمقرطة وأنسنة" العولمة تبدو مهمة أساسية على جدول أعمال البشرية الآن، إن أردنا تجنب المزيد من جولات الحروب المدمرة ، أو رغبنا فى وضع حد للاستخدام الجائر للثروات والمصادر الطبيعية، أو فى إبطاء وتيرة تدمير الكوكب وإعادة الاعتبار لأمننا "الطبيعي – البيئي" !
ساحاتنا العربية، منذ الأيام الأولى للجائحة، أفرزت أكثر من غيرها، نمطا من الخطاب السياسي والثقافي الذي يغلب عليه التبشير بنهاية العولمة... في حين أن الأجدر والأصوب لنا جميعا أن نسهم بنصيب ما فى مشروع "أنسنة" العولمة بدلا من الاكتفاء بهجائها أو الإصرار على عبث التبشير بنهايتها.