الأربعاء، 15 أبريل 2020

الرأسمالية: ما الذي يحركها؟ (1)

الرأسمالية تلمس حياتنا جميعا. هي حاضرة في كل شيء حولنا تقريبا. ليست فقط في الأشياء المادية من سلع وأعمال ومنتجات، وإنما أيضا في القيم التي نتبناها والأفكار التي تحرك سلوكنا. هي حاضرة في كافة التفاصيل التي تشكل طريقة حياتنا. من بين مختلف الأفكار اللامعة التي أنتجها العقل الإنساني، ظلت هذه الفكرة الأخطر والأكثر تأثيرا. بل إنها نجحت في إزاحة الكثير من الأفكار الأخرى، أو في تحييدها وتهميشها حتى تربعت وحدها على عرش الأفكار التي تنظم الحياة والمجتمع.

الرأسمالية أكثر من مجرد نظام للاقتصاد. إنها وجهة نظر في الحياة وغايتها!

أشياء كثيرة تفرق البشر: الدين، اللغة، العرق، النوع، الوطن، الطبقة. شيء واحد تقريبا تجمعهم: السوق!
السوق ليست اختراعا جديدا. هي تنظيم قديم قدم التجمعات الإنسانية ذاتها. الحاجة إلى تبادل السلع والخدمات خلقت الحاجة إلى الأسواق، وهي الأماكن التي كان يجري فيها هذا التبادل. ولتسهيل عمليات التبادل، ظهرت النقود لتكون مخزنا للقيمة، وبحيث يمكن استبدالها بأي عدد من السلع والخدمات.
التجارة غريزة بشرية، وكذلك الجشع والطمع. الإنسان يريد أكبر قدر من النقود لتحويلها إلى سلع وخدمات تجلب له السعادة. هو يحصل على السلع المختلفة عبر التجارة مع الآخرين. كل هذا كان يحدث قبل بزوغ الرأسمالية، فما الجديد الذي أتت به؟
المشكلة أن السلع والخدمات محدودة، أو بمعنى آخر غير قابلة للزيادة. هكذا كان البشر يظنون. لم تكن هناك طرق لزيادة الإنتاج بصورة كبيرة. كان هناك اقتناع بأن الثروة ثابتة. وعليه، فإن حصول شخص على نصيب أكبر من الكعكة (أن يصبح غنيا) لا يعني سوى أنه جار على أنصبة الآخرين. ولهذا السبب على وجه التحديد فإن الأديان والنظم الأخلاقية لم تحتفل كثيرا بالغنى والثروة، بل على العكس كانت تمجد الفقراء والمساكين. الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: "اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين". المسيح (عليه السلام) قال إن دخول جمل في سم الخياط أسهل من دخول غني إلى الجنة.

الرأسمالية غيرت هذا الاقتناع الراسخ. وفقا لهذه "العقيدة" الجديدة، فإنّه من الجيد أن يكون المرء غنيا. ليس فقط بالنسبة له، ولكن بالنسبة للمجتمع أيضا. في كتابه "ثورة الأمم" (1776) جادل آدم سميث بأن الرأسمالي يفيد المجتمع، وأن أرباحه تصب في النهاية في صالح عموم الناس. لماذا؟ لأنه إذا ربح الرأسمالي أموالا أكثر، فإنه يتوسع في العمل ويقوم بتشغيل عدد أكبر من العمال، وهكذا يعود النفع على المجتمع في مجموعه. وعليه، فإنّ الجشع والطمع الرأسمالي ليست صفات مرذولة بل محركات للنمو. أي أنه من "الأخلاقي" أن يكون المرء غنيا. فكرة تبدو منطقية تماما، ولكنها ظلت منسية لقرون.

لاحظ أن الافتراض الرئيسي وراء هذه الفكرة هو أن الرأسمالي يتوسع باستمرار في أعماله. إنه يوجه أرباحه للعملية الإنتاجية لتولد بدورها أعمالا جديدة ومكاسب للجميع. هذا الافتراض يرتكز على فكرة أخرى عبقرية: بالإمكان زيادة السلع والخدمات في المستقبل. أي أن المستقبل سيكون أفضل من الماضي والحاضر.

ركيزة المنظومة الرأسمالية هي الثقة في المستقبل. إذا توفرت هذه الثقة يكون ممكنا زيادة الأرباح بصورة مهولة عبر الاستثمار في مشروعات لا وجود لها في الوقت الحاضر، ولكن يعتزم الرأسمالي إنشاءها. هذا النوع العجيب من المشروعات تطلب ضربا مختلفا من الأموال؛ أموال مستقبلية إذا جاز التعبير. هكذا ظهر ما يُسمى بالائتمان البنكي credit. إنها أموال يجري تداولها في المستقبل، وعلى أساس من الثقة في أنه سيحمل أرباحا وخيرا.

هكذا تحولت الثروة إلى رأسمال. ولهذا نميز بين الغني (الشخص الذي يمتلك نقودا كثيرة) والرأسمالي او الثري (الشخص الذي يستثمر هذه النقود باستمرار في مشروعات إنتاجية). في العصور القديمة، إذا توفرت لديك أموال إضافية يمكن أن تشيد هرما، أو تبني مقبرة لزوجتك الراحلة. في العقيدة الرأسمالية، الأموال لا مكان لها سوى في الاستثمار، والمزيد من الاستثمار.

ولكن كيف يمكن زيادة الإنتاج؟ هنا حدثت التوأمة بين الرأسمالية والثورة العلمية التي جعلت زيادة الانتاج أمرا ممكنا باستخدام تكنولوجيا جديدة. هذه التوأمة أفرزت الثورة الصناعية والباقي تاريخ معروف. الرأسمالية كانت عاملا أساسيا في الثورة العلمية التي صاحبت النهضة الأوروبية. لا وجود لمشروع علمي كبير لم يموله رأسماليون. هم دفعوا الاكتشافات العملية والكشوف الجغرافية في الاتجاه الذي يفهمونه جيدا: الربح!

هل الرأسمالية أخطر "اختراع" بشري؟ نعم. هي "الاختراع" الأخطر بالتأكيد. السبب أن المنظومة التي بشرت بها أعادت تشكيل المجتمعات والقيم والأخلاق وكل شيء حولنا تقريبا. أهم القيم التي تبشر بها الرأسمالية هي النزعة الاستهلاكية.

النظام الرأسمالي يُشبه راكب دراجة إذا توقف عن الحركة يسقط. مُحرك النظام الرأسمالي هو التوسع المستمر. هذا التوسع في الإنتاج يفترض توسعا مماثلا في الاستهلاك. الرأسمالية لا تستطيع العيش دون نزعة استهلاكية تجعلنا نشتري ما نحتاجه وما لا نحتاجه. وهكذا، يستهلك الإنسان ويستهلك حتى تصير البدانة أكبر أمراض العصر. ولعلاجها، يبتدع الرأسماليون سلعا أخرى (أطعمة خالية من السعرات). إنها دائرة جهنمية من الاستهلاك.

الرأسمالية تفترض أن القيمة الأهم في الحياة هي الربح. التراث الإنساني (الأخلاقي والديني والفلسفي) يبشر بقيم أخرى للحياة الفاضلة. هذا التناقض يشكل جوهر التوترات في المجتمعات التي أقامتها الرأسمالية.

الرأسمالية لم تأت بالنزعة الاستهلاكية فحسب، وإنما أيضا بالمنافسة القاتلة، وبانعدام المساواة (وهو لصيق بالرأسمالية)، وبالإمبريالية (التي بدأت كمشروع استثماري مع شركة الهند الشرقية، وشركة VOC الهولندية)، والإمبريالية جلبت بدورها العبودية. وهكذا. هذه الظواهر كلها مرتبطة بقيمة الربح وتحقيق المكسب كأساس للحياة السعيدة.

العجيب أن هذه القيمة (الربح والطمع في المزيد منه) ظلت تزحف حتى اقتلعت في مسيرتها المظفرة كل القيم الإنسانية والأخلاقية الأخرى. في عالم اليوم، الربح يُمثل القيمة الأولى والأعلى. لا معنى لعمل أو قيمة أو اختراع أو بحث أو فكرة أو سلعة أو خدمة دون أن ترتبط بأرباح عاجلة أو آجلة.
هنا ــ على وجه التحديد ــ تكمن خطورة الفكرة الرأسمالية بوصفها منظومة كاملة للحياة وليس فقط لإدارة الاقتصاد.
ما نعرفه من تاريخ الرأسمالية القصير (بالنسبة للتاريخ الإنساني) أنها نظام في حالة تطور مستمر. هو لا ينتج فقط المزيد من السلع والخدمات وأدوات الإنتاج والتكنولوجيا، ولكنه يُنتج أيضا أفكارا جديدة لتشغيل النظام نفسه بصورة أفضل وأكثر إنسانية (دولة الرفاهة، حقوق العمال، شبكات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، القوانين المضادة للاحتكار). ربما يكون ذلك هو سرّ بقاء الرأسمالية وصمودها أمام الأفكار المنافسة. ربما يعطينا هذا بعض الأمل في أن النظام قادر على تصحيح نفسه بإدخال تحسينات مستمرة على طريقة عمله.

الرأسمالية هي التي أنتجت العالم المعاصر، بخيره وشره، بكل ما فيه من أسباب السعادة والبهجة، وكذا من مصادر الألم والمعاناة. العالم الذي خلقته هو بالقطع أكثر غنى ورفاهية. ولكن ــ ووفقا للافتراض الجوهري في الرأسمالية ذاتها ــ هو ليس بالضرورة أفضل "العوالم الممكنة". غدا أفضل!

الرأسمالية: أصل الفكرة (2)

نحن لا نحصل على عشائنا بسبب كرم الجزار أو الخباز، ولكن بواقع سعيهم وراء مصالحهم الذاتية". تلك الجملة البسيطة، التي وردت في أشهر كتب علم الاقتصاد "ثروة الأمم" المنشور سنة 1776 لصاحبه آدم سميث، هي الجوهر الحقيقي للفكرة الرأسمالية. عبقرية "سميث" تكمن في وضع يده على هذا الجوهر: المصلحة الذاتية كمحرك للحياة الاقتصادية في أي مجتمع. هو جادل، بصورة بالغة الإقناع، بإمكان تنظيم المجتمعات الإنسانية حول هذه الفكرة. "سميث" ليس أول من يكشف عن المصلحة الذاتية، بل وغريزة الجشع، كمحرك للسلوك الإنساني. ولكنه أول من كشف للناس أن هذه الغريزة الأولية يمكن أن تكون محركا للكثير من الأمور الجيدة والنافعة لهم. بهذا المعنى، يمكن النظر لما أتى به الرجل باعتباره "ثورة" حقيقية.

لاحظ أن السوق الرأسمالية كانت موجودة طوال التاريخ. لم يخترع "آدم سميث" السوق. كانت قديمة قدم المجتمعات الإنسانية. الجديد، كان إمكانية تنظيم المجتمع كله على أساس من الفكرة الرأسمالية القائمة على الاستثمار والمخاطرة.
طوال التاريخ شكلت مراكمة رأس المال مشكلة كبرى. المشروعات تحتاج إلى أموال لا يسهل الحصول عليها. من لديهم الأموال لا يريدون المخاطرة، خاصة إن كانت ـ كما هو الحال في أغلب الأحيان ـ عالية وفوق مستوى التحمل. الثروة والغنى كانا مرادفين للادخار والاكتناز. الرأسمالية، بما وفرته من أدوات مالية مبتكرة مثل البنوك والتأمين والشركات المساهمة، خففت من عامل المخاطرة. هكذا نشأت مجتمعات كاملة في أوروبا، ثم في الولايات المتحدة، على أساس من التنظيم الرأسمالي. هذا ما يطلق عليه "المجتمع التجاري" (Commercial Society)، تمييزا له عن المجتمع الزراعي أو الإقطاعي. رأى "سميث" أن في مثل هذا المجتمع يتحول كل شخص، نوعا ما، إلى تاجر يسعى إلى تلبية حاجاته من خلال السوق. أول امبراطورية رأسمالية خالصة ـ تقوم على أساس التجارة ـ ظهرت في هولندا، ثم زاحمتها فرنسا وبريطانيا... والباقي تاريخ معروف.

عاش "سميث" في فترة تسارع عجلة النظام الرأسمالي بصورة غير مسبوقة: فورة التصنيع، انتقال الملايين للعيش في المدن، التطور التكنولوجي المذهل خاصة في وسائل المواصلات، تعاظم دور التجارة، ظهور طبقة جديدة من الرأسماليين من أصحاب الشركات والمشاريع، وأيضا طبقة من العمال... هذه الظواهر كلها ارتبطت بالرأسمالية. كان واضحا أن الفكرة تبشر بتغيير اجتماعي هادر وعميق، وليس مجرد تغيير اقتصادي. حاول "سميث" أن يفهم كيفية عمل هذا النظام. وسعى لتحليل الأساس الذي يقوم عليه، والسبل التي يمكن من خلالها توليد الثروة. أهم ما أماط "سميث" اللثام عنه هو أن السوق تعمل من تلقاء نفسها بشكل طبيعي، من خلال ما أسماه "اليد الخفية". هذه اليد الخفية هي التي تحدد الأسعار من دون أي تدخل أو تأثير. بالعكس، التدخل ـ من جانب الحكومة ـ يضعف السوق ويشوهها.

حذر سميث من أن أي اجتماع بين أرباب الصناعة الواحدة سينتهي حتما بمؤامرة على المستهلك

الكلمة المفتاح في "عالم آدم سميث" هي المنافسة. من خلال المنافسة تتحدد أسعار السلع والخدمات بصورة تلقائية. إذا زادت أسعار سلعة ما سيسارع منتجون آخرون إلى دخول السوق لتوفير المزيد منها. النتيجة الطبيعية هي انخفاض السعر إلى مستواه العادل كما يحدده مجتمع البائعين والمشترين. بنفس المنطق، لا ينبغي العمل على تقييد الواردات (بالتعريفات الجمركية)، ولا حتى إعطاء مزايا للصادرات... التبادل التجاري نفسه كفيل بتحقيق المكسب للجميع من دون أي تدخل. إلى ذلك، أضاف "سميث" فكرة أخرى نيرة هي "تقسيم العمل" كوسيلة مدهشة لمراكمة الثروة في زمن التصنيع.

هذه الأفكار التي نراها بسيطة وساطعة الوضوح ما زالت تمثل ـ إلى اليوم ـ ركيزة النظام الرأسمالي. يصعب أن نصادف جدلا حول الرأسمالية (التي طالما كانت موضعا للجدل والنقاش) من دون أن يلمس هذه المبادئ بصورة أو بأخرى. تاريخ الرأسمالية منذ آدم سميث هو، بمعنى من المعاني، صدى للأفكار التي طرحها في كتابه العجيب. أفكاره هوجمت وانتقدت، نُقحت وعُدلت. بدا في بعض الأحيان أنها اندثرت ولم تعد صالحة. ثم ما لبثت أن أطلت برأسها من جديد لتصبح محور الجدل حول كيفية تنظيم الاقتصاد. في كل منعطف في تاريخ الرأسمالية كان "سميث" حاضرا، بداية من الثورة الصناعية، وليس انتهاء بالثورة التاتشرية والتجربة الصينية! بصورة أو بأخرى، لقد طرح "سميث" كل الأسئلة والقضايا الخاصة بالمنظومة الرأسمالية... بما في ذلك تلك التي تمثل نقاط ضعف خطيرة فيها.

من المدهش حقا أن "سميث" لم يكن ينظر باعتبار كبير للرأسماليين. هو حذر من أن أي اجتماع بين أرباب الصناعة الواحدة سينتهي حتما بمؤامرة على المستهلك. الأهم، أنه رأى أن الرأسماليين لديهم من النفوذ السياسي ما يمكنهم من التأثير على الحكومة لاستصدار قوانين لصالحهم (دعم للصناعة أو تعريفات حمائية ضد المنافسة). قال بوضوح إن أي اقتراح يأتي من الرأسماليين لا بد أن يؤخذ بحذر شديد، بل "وبأكبر قدر من التشكك"!

 فهم الناس "ثروة الأمم" بطرق مختلفة. هو كان ملهما لتوماس جيفرسون وجيمس ماديسون، واعتبروا أن أفكار الحرية الواردة فيه تشكل الوجه الآخرـ الاقتصادي ـ للنظام السياسي الذي انهمكوا في صوغه وتصميمه على الجانب الآخر من الأطلنطي. "توماس بين" رأى في الكتاب جانبا راديكاليا لأنه يهاجم الأرستقراطية الراسخة. "إدموند بيرك" ـ على النقيض تماما ـ رآه يدعم فكره المحافظ. تعدد القراءات لا يعني سوى أن الكتاب انطوى على ثورة فكرية كاملة: مفهوم جديد لمجتمع إنساني قائم في الأساس على التجارة والسوق، مع الحد الأدنى من التدخل من جانب الحكومات.

الرأسمالية: كيف يجسدها "إيلون ماسك"؟ (3)

 SpaceX نجحت في إرسال واحد من أكبر الصواريخ (فالكون هيفي) إلى الفضاء. يعكس الخبر فتحا اقتصاديا وتكنولوجيا بكل المعاني. في السابق كان الفضاء مجالا حصريا للحكومات. السبب هو التكلفة العالية لإنجاز المشروعات الفضائية، وما يرتبط بها من قدرات بحثية وعلمية نادرة لا تتوفر سوى للحكومات. في الستينيات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة تنفق 4% من الميزانية الفيدرالية على مشاريع الفضاء. اليوم، يوشك الفضاء أن يتحول إلى صناعة خاصة تقبل عليها الشركات والأفراد. هناك من يتوقع أن يكون أول "تريليونير" في العالم (أي شخص لديه ألف مليار دولار) أحد رواد هذه الصناعة الفضائية الوليدة.

قصة SpaceX، لصاحبها "إيلون ماسك" تجسد "روح الرأسمالية" أكثر من أي محاضرة أو كتاب يتناول هذا النظام الاقتصادي الذي يقف وراء المعجزات العلمية والتكنولوجية في عالمنا المعاصر. سيرة "إيلون ماسك"، المولود في جنوب إفريقيا عام 1971، تقول لنا الكثير والكثير عن كيفية عمل هذا النظام. تكشف عن السبب الذي جعل من الرأسمالية النظام الوحيد القادر على اجتراح تلك المعجزات.

بدأ "إيلون ماسك" حياته العملية بشركة صغيرة Zip2 من تلك التي ندعوها بالشركات الناشئة startups لإنتاج أدلة السفر للمجلات. اقترض رأسمال الشركة (28 ألف دولار) من والده. قام عام 1999 ببيعها إلى شركة Compaq بـ 307 مليون دولار. قام بعدها باستثمار الأموال في شركة تقوم بالعمليات البنكية على الانترنت Online Banking. ثم باع الشركة لـ eBay وربح 180 مليون دولار. وفي 2001 شرع في التفكير في وضع مستعمرات على المريخ!

جوهر الرأسمالية هو الاستثمار المستمر. ذلك هو المحرك الرئيس الذي يدفعها إلى الأمام باستمرار.

الركن الثاني للرأسمالية هو الأفكار. "إيلون ماسك" يقول إنك لا بد أن تفكر فيما وراء ما هو معتاد، وأن تجد البيئة التي تكافئ هذا النوع من التفكير. التجريب عنصر أساسي في هذه العملية، والفشل أيضا! ليس غريبا أن يكون توماس إديسون هو المثل الأعلى لـ "ماسك". السبب ـ كما يقول ـ يكمن في أن إديسون نجح في نقل أفكاره إلى السوق، بينما فشل علماء آخرون ـ مثل "نيكولا تسلا" على سبيل المثال ـ في أن يفعلوا الشيء نفسه.

منذ عام 2001، وحتى الإطلاق الناجح للصاروخ هذا الشهر، خاض "ماسك" رحلة طويلة من التجربة والخطأ. من النجاحات الصغيرة والفشل المدمر. رأى أن السفر التجاري عبر الفضاء سوف يكون صيحة المستقبل. سيصير القفزة القادمة للبشر. أن يتحول بنو الإنسان إلى "جنس عابر للكواكب". إنها قفزة تساوي خروج أول الكائنات الحية من الماء إلى اليابسة!

هذا النوع من التفكير "رأسمالي" من الطراز الأول. تفكير ليس ببعيد عن روح المغامرة التي حققت القفزات الكبرى للبشرية في الأعوام الـ 500 الماضية. المسألة لا تتعلق فقط بالربح. "ماسك" قال إن الكثيرين حذروه من أنه على وشك أن يخسر أمواله في التجارب الفاشلة لصناعة صواريخ وإرسالها للفضاء. كان رده أن المكسب في حد ذاته ليس غايته. هو بالطبع يريد للشركة أن تصير مشروعا ناجحا، ولكنه لا يبحث في الأساس عن النشاط الذي يدر عليه ربحا مضمونا، وإلا كان اتجه نحو العقارات!

لاحظ أن "ماسك" هو ابن شرعي لثقافة "وادي السيليكون"، حيث يشكل الابتكار العنصر الرئيسي في منظومة اقتصادية تمثل قمة الرأسمالية المعاصرة. الابتكار يتولد من تصادم الأفكار وانفجارها، وانشطارها. يتولد من المغامرة المستمرة والشغف بالتجريب. مثلا: شاهد ستيف جوبز أفكارا مذهلة في "زيروكس"، من ضمنها فكرة "الفأرة" (Mouse) التي صارت جوهرية في الكومبيوتر الشخصي. لم تكن "زيوروكس" "رشيقة" بما يكفي لصناعة كومبيوتر بسعر مناسب على مستوى جماهيري. رأى "ستيف جوبز" هذا "الأفق الجديد" ماثلا أمامه، فما كان منه إلا أن اقتحمه. فكر في شيء قريب مما فكر فيه "ماسك": ثورة كبرى توصل الكومبيوتر إلى كل يد. "ماسك" بدوره فكر في أن يكون السفر عبر الفضاء نشاطا تجاريا، وليس حكرا على وكالة الفضاء "ناسا".

جوهره ثقافة وادي السيليكون هذا التفاعل بين أفكار خلاقة في مكان محدود جغرافيا. قوة النظام الرأسمالي تكمن في أنه يوفر الفرصة لتحويل هذه الأفكار إلى واقع. هو نظام يكافئ الابتكار، بغض النظر عمن يقوم به. أغلب الشركات الكبرى التي نعرفها اليوم، بداية من HP وليس انتهاء بـ "آبل" و"مايكروسوفت" و"غوغل" بدأت في مرآب أو كاراج. في التسعينات، سأل أحدهم "بيل غيتس" عن الشيء الذي يؤرقه ويقض مضجعه فأجاب: "أن يكون هناك شخص ما يعمل في كاراج ما على تكنولوجيا لا نعرف بها في مايكروسوفت". حدث هذا بالفعل. في التسعينات كان الفتيان "سيرجي" و"لاري" يعملان في كاراج على تطوير شيء سيغير وجه تكنولوجيا المعلومات: "غوغل".

نعود لـ "إيلون ماسك"، أول شخص يرسل صاروخا "خاصا" في مدار حول الأرض. هو سعى لشراء صاروخ من الروس عام 2002. وجد أن السعر الذي عرضوه (9 مليون دولار) مبالغا فيه، وأن تكلفة المواد الأولية الداخلة في تصنيع الصاروخ لا تتجاوز 3% من السعر. قرر صناعة الصاروخ بنفسه وأنشأ SpaceX. أخفقت الشركة ثلاث مرات في تحقيق إطلاق ناجح للصاروخ، قبل أن تنجح في المرة الرابعة عام 2008. جوهر تفكير "ماسك" هو خفض التكلفة عبر استخدام الصواريخ أكثر من مرة. ما فعله هذا الشهر، يعبد أمام البشر طريقا مدهشا نحو عالم جديد شجاع!


الرأسمالية: لماذا تفشل في العالم النامي؟ (5)

"هيرناندو دي سوتو"، الاقتصادي البيروفي الشهير (مولود في 1946)، قدم تفسيرا عجيبا لفشل الرأسمالية في بلدان العالم النامي، مقارنة بالنجاح الذي استطاعت تحقيقه في الغرب. هو يرى أن غياب تنظيم واضح وشامل للملكية الخاصة هو السر وراء الفشل في تحقيق التراكم الرأسمالي المطلوب لتوليد الثروة في الدول النامية.

للوهلة الأولى، يبدو هذا التفسير عجيبا، بل وغير قابل للتصديق. غير أن من عاش في العالم النامي ـ ككاتب هذه السطور ـ يدرك جيدا معنى أن يكون نحو نصف الاقتصاد خارج القطاع الرسمي؛ أي في منطقة رمادية تقع بين القانون واللاقانون. هذا هو ـ مثلا ـ الحال في مصر، حيث القطاع غير الرسمي ـ من صناعات صغيرة غير مقننة، ومحال غير مرخصة، ومشروعات لا سجل قانونيا لها وعقارات مبنية على أرض بوضع اليد ـ يمثل نسبة لا بأس بها من الناتج القومي الإجمالي، البعض قدرها بـ 40 في المئة!

في كتابه "سر رأس المال: لماذا تنتصر الرأسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر" (صادر بترجمة عربية عن مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 2002)، أورد "دي سوتو" تقديرات مدهشة حول حجم الاقتصاد غير الرسمي في العالم النامي. أحد الأفكار المهمة التي أشار إليها تتعلق بالعقارات غير المسجلة، أي تلك التي يحوزها أصحابها من دون أن يتمتعوا بسند ملكية قانوني لها.
غياب منظومة الملكية القانونية يحول دون الاستفادة الاقتصادية من هذه الأصول. في المنظومة الرأسمالية العقار هو أكثر من مجرد مكان للسكان. هو أصل يمكن استخدامه في توليد الثروة، من خلال الرهن العقاري وحق الارتفاق وضمانات القروض، وغيرها من الأدوات المالية. وعلى سبيل المثال، فإن 70 في المئة من الائتمان الذي تحصل عليه المشروعات الجديدة في الولايات المتحدة يأتي من سند الملكية للعقارات. العقارات تمثل 75 في المئة من الثروة في العالم المتقدم، و50 في المئة من الثروة في العالم النامي!

الفكرة التي يطرحها "دي سوتو" ثورية بحق. هو لاحظ، بعد سنوات من البحث، أن كل شيء له قيمة تجارية مسجل بشكل منظم في الغرب. "تثبيت الملكية" بهذه الصورة هو أمر جوهري من أجل استغلالها اقتصاديا. الملكية المسجلة قانونا هي الوسيلة الوحيدة لتحديد الأصول وتقصيها ومبادلتها. على النقيض، نرى الوضع في العالم النامي مختلفا بصورة جذرية.

بداية من خمسينيات القرن الماضي شهد العالم النامي ثورة اقتصادية تتشابه، على الأقل في بعض جوانبها، مع الثورة التي شهدها الغرب قبل ذلك بمائتي عام. ظهور التكنلوجيا الزراعية قلل الحاجة إلى العمالة في الفلاحة، ودفع الملايين إلى الهجرة إلى المدن. تزامن ذلك مع تحسن الطب وانخفاض نسبة وفاة حديثي الولادة. النتيجة كانت تضخما استثنائيا في حجم المدن.

هؤلاء القادمون الجدد صادفوا مشاكل في الاندماج بصورة قانونية في الحياة الاقتصادية للمدينة. أغلبهم عاش في مساكن غير مسجلة بشكل قانوني، أو أنهم قاموا ببناء مساكنهم بأنفسهم. الكثير منهم يعملون في القطاع غير الرسمي الذي لا يتمتع بحماية القانون. هذا الوضع ـ كما يخبرنا كتاب "سر رأس المال" ـ حرم الملايين من التمتع بالأصول التي يحوزونها دون أن يملكوها بشكل قانوني.
السر أن الملكية تمثل رأس مال كامن. تسجيلها بصورة قانونية ـ كما هو الحال في الغرب ـ هو السبيل الوحيد لإطلاق هذه الطاقة الكامنة. هذا يتطلب قانونا موحدا بسيطا يوفر كافة المعلومات عن الاقتصاد. يتطلب أيضا قواعد واضحة وبسيطة للتعامل في الملكية، وبما يسهل على الناس  
عملية تسجيلها. التسجيل هو ما يجعل الأصول قابلة للاستبدال، ومن ثم تسهيل الصفقات.
ترانسفير المسيري 

هذا، بدوره، يتيح للحكومات مساءلة أصحاب الملكية، والتمييز بين الملتزمين وغير الملتزمين. وفي ظل توفير الحماية القانونية للمعاملات تنضم أعداد أكبر للسوق الرسمي. نقطة القوة لدى الغرب تكمن في "حماية المعاملات" وليس مجرد حماية الملكية.

لاحظ هنا أن عملية تسجيل الملكية ليست مسألة تقنية. هي مسألة سياسية وقانونية بالدرجة الأولى. هي تتعلق بقدرة النظم السياسية والاقتصادية على دمج "القادمين الجدد" تحت مظلة القانون. الغرب واجه هذا الوضع من قبل. القرنان الـ 17 و18 شهدا بداية تدفق الهجرات من الريف إلى المدن في أوروبا. في البداية كان الحل هو التضييق على هؤلاء، بل والدعوة إلى إعادتهم إلى بلداتهم الأصلية. شهد البرلمان الإنكليزي في القرن السادس عشر تصاعد الشكاوى من حشود الشحاذين والمشردين واللصوص في لندن. صدر قانون في 1697 لا يسمح للناس بالهجرة إلى المدينة إلا إذا حصلوا على "شهادة توطن" من السلطات القائمة. ومن العجيب أن نسمع اليوم صدى لنفس هذه الأفكار والدعاوى في دول العالم النامي!

تكييف القانون ليلائم حاجات الناس والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة وأن بعض الصناعات غير المنظمة، مثل صناعة القطن في بريطانيا، أثبتت أنها أفضل وأكثر تنافسية من الصناعات الراسخة المنضوية تحت النطاق الرسمي، كصناعة الصوف.

والحال أن الولايات المتحدة تظل النموذج الأبرز على هذا التوجه نحو تطويع القانون لملاءمة أوضاع غير قانونية يخلقها المجتمع. منذ البداية ظهر أن القانون البريطاني لا يلائم مجتمعا يولد بصورة متسارعة فرصا متزايدة للحصول على الملكية. في إنكلترا، كان "وضع اليد" مخالفا للقانون. في أميركا، التي بناها المستوطنون، "وضع اليد" سابق على الحكومة ذاتها!

الاتجاه العام في الولايات المتحدة كان في صالح تقنين حالات "وضع اليد". منذ القرن التاسع عشر، اعترف القانون بأن قيام "واضعي اليد" من المستوطنين بإدخال تحسينات على الأرض يرتب لهم حقوقا قانونية. مرسوم "هومستيد" الشهير الصادر في 1862 أعطى للمستوطنين حق تملك 160 فدانا خالية مقابل الموافقة على العيش فيها وتطويرها عمرانيا. في 1866 صدر قانون مد حقوق التمليك لمن أنفق 1000 دولار على أرض وضع يده عليها. دمج حقوق الملكية غير القانونية في الإطار القانوني جعل الولايات المتحدة أكبر منتج لرأس المال في العالم!

الفكرة التي طرحها " دي سوتو" في كتابه المهم تستحق التوقف عندها. في نهاية الأمر، السر الجوهري في نجاح الرأسمالية هو القانون الذي يسمح بتنظيم المجتمع بحيث يطلق كافات طاقاته الكامنة توطئة لحشدها من أجل الانتاج وتوليد رأس المال. الخطوة الأولى هي أن يكون القانون شاملا، وبسيطا، ويشجع الجميع على الانضواء تحت مظلته. مهم للغاية أن يقتنع الناس أن البقاء خارج مظلة القانون الرسمي يكلفهم أكثر. ليس هذا التنظيم بالأمر الهين، خاصة في مجتمعات العالم النامي، بضخامة سكانها وتراكم مشكلاتها، وتعقد أوضاعها، وتشابك غابات القوانين فيها.

إن الأمر يحتاج لإرادة سياسية حديدية تهوي بمعول الإصلاح على كافة القوانين التي كبلت الانطلاق الاقتصادي في الدول النامية لعقود طويلة.

الرأسمالية.. هل اللامساواة حتمية؟ (6)

انعدام المساواة لصيق بطبيعة المجتمعات البشرية ذاتها التي تنزع إلى تمييز بعض أبنائها مقارنة بغيرهم سواء بالمكانة، أو الثروة، أو السلطة السياسية، أو التأثير الديني، أو حتى الجندر (اللامساواة بين الرجال والنساء كانت على الدوام أبرز صور اللامساواة في كافة المجتمعات البشرية عبر التاريخ).

على أن هذه الدرجة من انعدام المساواة المتأصلة في المجتمعات البشرية لا يمكن مقارنتها بما جرى بعد اكتساح الرأسمالية للعالم. المجتمعات ما قبل الرأسمالية كان طابعها الركود. قدرة الفرد على التميز وتحقيق ذاته كانت محكومة بنظم جامدة وثابتة من السلطات التقليدية؛ الدينية والسياسية. هذه النظم كانت تتحكم باختيارات الفرد ومصيره.

في المقابل، كانت هذه المجتمعات ـ على ما فيها من صور انعدام المساواة ـ تنطوي على درجة عالية من الاستقرار والأمان. بالنسبة للفرد، الشبكات العائلية والقبلية والسلطات التقليدية المختلفة كانت تمثل عامل استقرار وثبات يعصم الإنسان من تقلبات الحياة وغدر الزمان. المستقبل، في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، هو في الأغلب امتداد للماضي

"المجتمع التجاري"، الذي بزغ إلى حيز الوجود في القرن السادس عشر في أوروبا وأميركا، شأن آخر مختلف. في المجتمع التجاري لا ينتج المرء ما يستهلك، كما كان حال الأغلبية الساحقة من البشر عبر التاريخ.

في "المجتمع التجاري" الأسرة تنتج للسوق. تبيع أغلب ما تنتج، وتشتري أغلب ما تستهلك. في المجتمع الرأسمالي السوق هو المحرك لكل شيء. السوق يخلق جملة من العلاقات الاجتماعية والروابط التي تكسر المجتمع التقليدي.

مع كسر هذه الروابط تنطلق إمكانيات الفرد وتتعزز حرية الاختيار لديه. ينفتح المجال أمامه لمزيد من الاختيارات للارتقاء بحياته. في نفس الوقت، يتقلص هامش الأمان والاستقرار اللصيق بالمجتمعات التقليدية. في هذه المجتمعات القديمة، تمثل التهديد الأكبر للإنسان في الكوارث الطبيعية. في المجتمعات الرأسمالية، التهديد الأكبر هو.. الاقتصاد والسوق!

ما السبب؟
نعرف أن تقسيم العمل يعد ركنا ركينا في النظام الرأسمالي. يفضي ذلك بالضرورة إلى أن أعدادا من البشر تتخصص في الأنشطة التي تجيدها. يقود هذا إلى مزيد من الإنتاجية بالطبع. المعضلة أن الرأسمالية تقوم على فكرة "التدمير الخلاق" التي تحدث عنها "شومبيتر" حيث السلع والمنتجات وطرق الإنتاج والتنظيم الجديدة تزيح القديمة باستمرار. من شأن هذه الدينامية أن تجعل البطالة جزء لا يتجزأ من المنظومة الرأسمالية. تختفي أنشطة وتبزغ أخرى، ومن ثم يصعد أناس وينزلق آخرون إلى درك البطالة والعوز. مع البطالة يأتي انعدام المساواة. بهذا المعنى، فإن اللامساواة ليست محصلة لتطبيق سياسة بعينها، أو لانحياز طبقة ما. اللامساواة مفهوم لصيق بالرأسمالية نفسها، وجزء لا يتجزأ من نسيجها.
بيل غيتس عبر عن هذا المعنى ذات مرة بقوله: "نعم! إن درجة ما من اللامساواة تعد جزء لا يتجزأ من الرأسمالية. هي مكون جوهري في النظام ذاته. السؤال هنا: أي مستوى من اللامساواة يكون مقبولا؟ ومتى يكون ضرر اللامساواة أكبر من نفعها؟"
 تلميح بأن بعضا من اللامساواة لا يضر
هذا، في واقع الأمر، صحيح. إن مجتمعا يقوم على المساواة الكاملة والمطلقة بين أعضائه، هو في واقع الأمر مجتمع بلا حافز على التقدم والتميز والإنجاز الفردي. في مجتمع مثل هذا لا يجد البشر ما يدفعهم للاجتهاد ليكونوا أطباء*استغلال واضح لتعبي بالثانوية * على سبيل المثال. لا بد من تمييز في الدخول حتى يقبل الناس على مهن تتطلب اجتهادا استثنائيا ومهارات خاصة.
والحال أن أكبر محرك لانعدام المساواة في ظل النظام الرأسمالي كان التكنولوجيا. منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومع ظهور الماكينة والمحرك البخاري، تعمقت الفجوات داخل المجتمعات وبين البلدان.
الإنتاج في المصانع جلب دخلا أكبر من الإنتاج الزراعي. التفاوت بين الدول لم يكن كبيرا قبل الثورة الصناعية. في 1820 كانت بريطانيا وهولندا أغنى بلدين في العالم، وأكثر ثراء ثلاث مرات من الهند والصين. اليوم حجم الفجوة هو 100 إلى واحد. في عالم اليوم يقدر مجمل الثروة بـ 260 تريليون دولار.السكان في أوروبا وأميركا (وهم 20 في المئة من سكان المعمورة) يتحصلون على 67 في المئة من هذه الثروة، فيما الصين (أكبر من عدد سكان أوروبا وأميركا مجتمعتين) لديها 8 في المئة فقط من الثروة. التمايز في الدخل، على المستوى العالمي، يعكس نفس النمط. شريحة الـ 20 في المئة الأعلى دخلا من البشر يحصلون على 83 في المئة من الدخل. الـ20 في المئة الأفقر يحصلون على واحد في المئة.
والحق أن الصورة مختلطة وليست أبيضا وأسودا. نعم الأغنياء ازدادوا غنى. ولكن الرأسمالية ـ من جهة أخرى ـ انتشلت مليارات البشر من ربقة الفقر، خاصة في الربع الأخير من القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين.
الأهم أنها وفرت فرصا غير محدودة أمام البشر للارتقاء وتحسين مستوى حياتهم. غالبا ما يركز منتقدو الرأسمالية على ترويجها للسلع الاستهلاكية، ولكن حقيقة الأمر أن الرأسمالية هي التي أتاحت كذلك كافة الأدوات الثقافية (بداية من الكتاب المطبوع وانتهاء بالإنترنت) التي جعلت ارتقاء الإنسان، من حيث الثقافة والوعي، أمرا ميسورا أمام أعداد أكبر من البشر.
واقع اللامساوة لا يجعل الرأسمالية نظاما شريرا. على أنه لا يتعين ـ من جانب آخر ـ التسليم بهذا الواقع والاستسلام له باعتبار ذلك ثمنا ضروريا لجني مكاسب الرأسمالية. الحال أن تاريخ الرأسمالية هو، في أحد جوانبه، تاريخ لمحاولات مستمرة لاجتراح الأدوات والمنظومات التي تجعل هذا النظام مقبولا من قبل الأغلبية.
جرى ذلك عبر العمل على تقليص فجوة اللامساواة وتحقيق قدر أكبر من الأمان للعمال (اتحادات العمال) وغير القادرين على العمل (المعاشات وإعانات البطالة، وكان أول من ابتدعها المستشار الألماني "بسمارك" في ثمانينيات القرن التاسع عشر)، وغير ذلك من السبل انتهاء بدولة الرفاهة منذ منتصب القرن العشرين.
سيظل الجدل السياسي الأهم في عصرنا هو التالي: كيفية التوفيق بين اللامساوة اللصيقة بالنظام الرأسمالي من ناحية، مع الحفاظ على حيوية هذا النظام الذي يزدهر بالحافز الفردي من ناحية أخرى.

الرأسمالية: هل القضاء على اللامساوة هدف أخلاقي؟ (7)

صحيح أن التفاوت الطبقي اتسع، ولكن صحيح كذلك أن أناسا أكثر صاروا يعيشون حياة أفضل

 أستاذ الفلسفة الشهير هاري فرانكفورت (Harry Frankfurt) في كتابه "عن اللامساوة On Inequality" في الكتاب دحض منطقي لفكرة يراها الكثير منا مسلمة لا تقبل الجدل: اللامساواة شيء لا أخلاقي والقضاء عليها أو تخفيفها هو أمر جيد أخلاقيا ومطلوب لذاته.

 لا أساس أخلاقيا للدعوة إلى المساواة الاقتصادية بين الناس. هو يقول إنه من الناحية الأخلاقية البحتة لا يوجد ما يزعج في أن يحصل البعض على أكثر من الآخرين. لا يهم أن يحصل الجميع على نفس القدر من الأموال أو الإشباع. هذا ليس من الأخلاقية في شيء. ما يهم حقا هو أن يحصل كل شخص على ما يكفيه، وهذا مفهوم مختلف عن فكرة المساواة.

يلفت الكاتب نظرنا إلى حقيقة بسيطة: ما يزعجنا حقا من مظاهر انعدام المساواة ليس التفاوت بين الناس في مستوى الدخول، وإنما حقيقة أن هناك من يحصلون على القليل جدا. التفاوت في ذاته لا يمثل وخزا لضمائر البشر، إلا عندما يتعلق بفقر شديد. الدليل أننا لا نلاحظ التفاوت بين "المستورين" أو الميسورين من جانب وبين الأثرياء وفاحشي الثراء من جانب آخر. هذه التفاوتات لا تزعج ضمائرنا ولا تشعرنا بانعدام العدالة، رغم أنها قد تكون أوسع بكثير من التفاوت بين شخص فقير للغاية وشخص مستور. الفقر إذا هو المشكلة الأخلاقية وليس انعدام المساواة.

بمعنى آخر؛ ما ينبغي أن يكون هدفا للإصلاح ليس التفاوت الطبقي، وإنما مستوى حياة الأقل حظا ومن يعيشون ظروف الفقر المدقع. الكتاب يحاول أن يقول لنا إن هذين مفهومين مختلفان إلى حد بعيد. يضيف أن التعامل مع تحقيق المساواة باعتبارها شيئا أخلاقيا ضار، لأنه يحرف أنظارنا عن المشكلة الأساسية وهي الفقر. التركيز على اللامساوة تجعل الناس لا يفكرون في أوضاعهم وظروفهم، بقدر ما يفكرون في ظروف الآخرين وإجراء المقارنات.

خلاصة هذا الكتاب الجريء أن المهم حقا ليس مقارنة الناس حياتهم بحياة بالآخرين، ولكن أن يكون لدى الناس حياة جيدة... حياة جيدة بما يكفي، وبما يحقق الإشباع والرضا للشخص. هذا الإشباع قد يتحقق عند مستوى منخفض ومعقول من الدخل لسبب أو لآخر.

ليس كل البشر سواء في تطلعاتهم لتغيير حياتهم إلى الأفضل. قناعة الناس بحياتهم كما هي تحددها عوامل كثيرة تخضع لظروفهم وقدراتهم. أن يكيف الناس تطلعاتهم ورغباتهم تبعا لظروفهم وإمكاناتهم هو أمر لا يعيبهم في شيء. المهم أن يكون لدى الناس ما يكفي لحياة معقولة.

ما يهم حقا هو أن يحصل كل شخص على ما يكفيه، وهذا مفهوم مختلف عن فكرة المساواة

والحال أن هذا الكتاب يهز أفكارا راسخة في وعينا المعاصر جوهرها أن الثروة مرادف للنهب، وأن توزيع بعض أموال الأغنياء على الفقراء هو أمر جيد في ذاته. وقد أسهمت هذه الأفكار في تقويض "الشرعية الأخلاقية" للمنظومة الرأسمالية بصورة كبيرة في أعين أعداد هائلة من البشر. فمن الشائع والمتداول أن الرأسمالية تجعل الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرا، وأنها ـ وهذه نقطة جوهرية ـ تسهم في مفاقمة حدة التفاوت الطبقي.

والحقيقة أن الرأسمالية أسهمت بالفعل في زيادة الفارق بين الأغنياء ومن هم في الفئة الدنيا من المجتمعات، ذلك أن الرأسمالية تسمح للأغنياء ومن يرى المجتمع أنهم يقدمون سلعا نادرة (كالمغنين والممثلين ورجال الأعمال المغامرين) بتكوين ثروات كبيرة.

إلا أن الجزء الآخر من الصورة يتعلق بأن المليارات من البشر تسلقوا السلم الطبقي مخلفين وراءهم ذل العوز والفاقة. صار لديهم "ما يكفي" بتعبير "هاري فرانكفورت". في أول القرن التاسع عشر كان 95 في المئة من سكان المعمورة فقراء. اليوم 10 إلى 20 في المئة فقط هم من يمكن أن نطلق عليهم فقراء بهذا المعيار.

صحيح أن التفاوت الطبقي اتسع، ولكن صحيح كذلك أن أناسا أكثر صاروا يعيشون حياة أفضل. وهنا على المرء أن يفكر مليا: هل ما يهم هو أن يكون الناس أقرب طبقيا لبعضهم البعض (القضاء على التفاوت)، أم الأهم هو أن تتمكن أعداد أكبر من أن يكون لديهم ما يكفي (القضاء على الفقر)؟

الثابت أن المساواة في ذاتها لا تقول لنا شيئا عن مدى رفاهية المجتمع ومستوى معيشته. قد تكون هناك مساواة في الفقر وليس في الرفاهية. الدليل أن أكثر بلدين في العالم اليوم من حيث المساواة بين أبناء المجتمع (وفقا لمعامل جيني الشهير) هما السويد، ومتوسط دخل الفرد فيها 54 ألف دولار سنويا.. وأفغانستان، ومتوسط الدخل فيها 600 دولار سنويا!

شبح ماركس! (8)

 حقيقة الأمر أن أغلب ما سطره ماركس من كتابات كان عن الرأسمالية وطريقة عملها وآثارها المختلفة على بنية المجتمع، اقتصادا وسياسة وثقافة. بل إنه لم يكتب تقريبا شيئا واضحا عن شكل المنظومة التي يتصورها بديلا عن النظام الرأسمالي. بهذا المعنى، فإن ماركس يظل حاضرا في أي نقاش جاد يتناول الرأسمالية، في الفكرة والتطبيق.

 توقع أن الرأسمالية ستنهار تحت وطأة تناقضاتها الداخلية، وها هي تنتشر وتترسخ وتحوز أرضا جديدة كل يوم. هو تصور عالما يعيش فيه العمال حالة من الظلم المطلق وفي أوضاع أشبه بالعبودية، والحاصل أن الفقر المدقع تراجع، وأن مستوى معيشة العمال ظل يتحسن باستمرار، حتى أنهم صاروا يتمتعون برفاهية لم يحلم بها الملوك في العصور الغابرة (التلفزيون والهاتف الذكي مثلا!). وأخيرا، فقد تنبأ ماركس بالثورة القادمة على النظام الرأسمالي. وقد وقعت الثورات بالفعل، ولكن في آخر مكان تصوره ماركس: روسيا والصين، اللتين كانتا تعيشان على اقتصاد زراعي إقطاعي في مجمله، ولم تدلفا بعد إلى عصر التصنيع!

هذه التنبؤات الخائبة تعكس عطبا جوهريا في البنيان الفكري الماركسي. على الأقل هي تنفي عنه صفة "العلمية" التي نسبها البعض إليها. كما تخلع عنه هالة "الحتمية" التي ظلت لصيقة به

على أن أخطر الضربات التي تلقاها ماركس جاءت من "الماركسية" ذاتها. عندما تحولت بعض من أفكار ماركس إلى أيدولوجيات سياسية ونظم حكم في القرن العشرين كشفت عن خلل قاتل، بل وعن كوارث مروعة صاحبت تطبيقاتها على أرض الواقع. الملايين الذين قضوا في المزارع الجماعية والمنافي والمجاعات وحملات التطهير في روسيا والصين صبغوا الماركسية بلون أحمر قان. أحالوها مرادفا للوحشية والجنون. ظهر واضحا أن الثمن الإنساني لتطبيق أفكار هذا الفيلسوف الألماني أفدح من أي تصور. وأن اليوتوبيا التي تخيلها هي الجحيم عينه، ولا سبيل إليها إلا عبر أنهار من الدماء.

الأهم من هذا كله أن هذه النظم التي قامت تحت عنوان الماركسية فشلت بصورة مروعة في تحقيق الرفاهية لمواطنيها.
 عندما سقطت تحت وطأة فشلها وخيباتها، انهار معها صرح الفكر الماركسي، وبدا أن هذا الرجل الذي حلم يوما بتغيير العالم قد صار تاريخا لا يرغب أحد في تذكره.

والحال أن ماركسية القرن العشرين قد ولت غير مأسوف عليها. ولكن ماركس نفسه لم يغادرنا. ذلك أن أفكاره في وصف طبيعة النظام الرأسمالي لا زالت تنطوي على قدر كبير من الألمعية والعمق. وليس من قبيل المبالغة أن نقر أن الغالبية الكاسحة من النقد الذي يوجه إلى يومنا هذا للرأسمالية يمكن رده للفكر الماركسي بصورة أو بأخرى. ما قال به ماركس ببساطة هو أن الرأسمالية نظام غير عادل، وأن عيوبه ونقاط ضعفه جزء لا يتجزأ من تكوينه وبنيانه، وبالتالي لا سبيل للخروج من الفخ الذي يمثله إلا بهدمه.. أي أن نهايته تعد صيرورة تاريخية محتومة.

جوهر الفكر الماركسي أن المنظومة الرأسمالية تقوم على الربح، والربح ليس سوى ضرب من ضروب الاستغلال؛ استغلال أصحاب العمل الذين يملكون أدوات الإنتاج للعمال الذين لا يملكون سوى أن يبيعوا عملهم. من أجل تحقيق الربح، يحتاج أصحاب العمل باستمرار إلى الإبقاء على الأجور منخفضة. يساعدهم على ذلك جيش من العاطلين الراغبين في العمل، والذين يمكنون الطبقة الرأسمالية من فرض الأجور المنخفضة. المعضلة هنا أن تراجع الأجور عن حد معين يصيب المنظومة الرأسمالية كلها بالكساد لأنها ستنتج سلعا لا يستطيع أحد شراءها.
وهذا ما حدث بتعويم الجنيه المصري 

هذا التحليل ليس بالبساطة التي يبدو عليها. العلاقة بين أصحاب العمل (البرجوازيين) والعمال (البروليتاريا) لا زالت تشكل بالفعل جوهر التوترات القائمة في النظام الرأسمالي. كثيرا ما استعاد الناس هذا التحليل بإعجاب وانبهار عند كل منعطف واجهت فيه الرأسمالية أزمة أو كسادا، وما أكثر هذه المنعطفات! على أن هذا الخط في التفكير اصطدم بحقيقة لم يتنبأ بها ماركس، وهي القدرة الهائلة للنظام الرأسمالي على التكيف وإصلاح ذاته.

الكثير من أبناء الطبقات الوسطى غاضبون ولكن قلما يتحدث أحد عن بديل حقيقي أو جاد للنظام الرأسمالي

الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية شهدت صعودا مطردا لدولة الرفاهة بكل ما حملته من تأمين للوظائف وتوسع في شبكة الضمان الاجتماعي والحقوق النقابية للعمال.. هذا جرى في العالم الرأسمالي لا الشيوعي. ثمانينيات القرن الماضي، في المقابل، شهدت عودة للرأسمالية الكلاسيكية على يد تاتشر وريغان، وابتعادا عن اقتصادات الرفاهة التي أضرت بحيوية السوق. منذ التسعينيات دخل العالم إلى حقبة العولمة (التي تنبأ ماركس أيضا بأن الرأسمالية لا بد أن تقود إليها.. "إذ أنها تعشش في كل مكان، وتستوطن في كل ركن، وتبني شبكات باستمرار"). هنا يمكن القول إن شبح "ماركس" بدأ يطل من جديد.

الرأسمالية اليوم في أزمة مركبة. بعض مما تصوره ماركس عن جيش العاطلين الذين يدفعون الأجور للانخفاض تحقق في اقتصادات الغرب المتقدمة بسبب العولمة. منافسة العمالة القادمة الرخيصة القادمة من كل مكان في العالم أفضت إلى ثبات في الأجور لسنوات ـ بل وعقود ـ في بعض الاقتصاديات الرأسمالية الكبرى. ردة الفعل الثورية التي تخيلها ماركس، تحدث اليوم بصورة شعبوية لا تخفى تجلياتها على ضفتي الأطلسي. الكثير من أبناء الطبقات الوسطى غاضبون ولكن قلما يتحدث أحد عن بديل حقيقي أو جاد للنظام الرأسمالي.

عبقرية النظام الرأسمالي الحقيقية تكمن في أنه يمثل صفقة رابحة للجميع، وإن بدرجات متفاوتة. أصحاب المشروعات من الرأسماليين يربحون أكثر بالطبع، ولكن الآخرين أحوالهم تتحسن أيضا، بما في ذلك هؤلاء الذين يصعدون السلم من هوة الفقر المدقع. الإصلاح جانب مهم من قصة تطور الرأسمالية. شتان بين رأسمالية القرن التاسع عشر التي رصد "فريدريك أنجلز" وماركس مآسيها وجرائمها في مصانع بريطانيا، وبين رأسمالية اليوم.

بقاء النظام الرأسمالي وازدهاره مرهون بشرط جوهري: أن يظل صفقة رابحة للجميع. أن يكون للأغلبية العظمى مصلحة في استمراره لا هدمه. لا بديل عن الإصلاح لكي يبقى شبح ماركس بعيدا!

 المؤسسة أولا! (10)

من السمات الرئيسية في المجتمعات الإنسانية أنها تنظم نفسها في مؤسسات. المؤسسة، اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية، هي حصيلة ثقافة المجتمع وخبراته الجماعية وتجاربه المتراكمة. هي وسيلته في خلق تنظيمات تعينه على إدارة شؤونه. المؤسسة، بهذا المعنى، هي شيء عميق أشد العمق مرتبط بطبيعة المجتمع وشخصيته وتاريخه أشد ما يكون الارتباط. متى ترسخت المؤسسة يصير من الصعب تعديلها أو إصلاحها، ناهيك عن تغييرها أو تدميرها.

في كتاب "لماذا تفشل الأمم؟ (Why nations fail?)" لصاحبيه James A.Robinson وDaron Acemoglu، والذي أشرنا له في المقال الأخير من هذه السلسلة، تركيز على المؤسسة باعتبارها العامل الحاسم في التمييز بين الأمم الفاشلة الفقيرة، وتلك التي تحرز تقطع أشواطا في مضمار النمو والتقدم الاقتصادي. المؤسسة السياسية المنغلقة تفرز مؤسسات اقتصادية استغلالية لا تفيد سوى قلة قليلة، والعكس بالعكس.

النظم المغلقة هي بطبيعتها عرضة للاحتراب الداخلي والصراع على السلطة. السبب واضح: هي نظم لا يستفيد منها سوى القلة وتحتكر مصادر الثروة والمفاتيح المؤدية إليها في المجتمع عبر رسم "قواعد مانعة" لدخول الآخرين إلى ملعب السلطة أو الثروة. من هنا يكون الإغراء كبير لتغييرها بالقوة. هكذا يمكن ـ مثلا ـ تفسير ظاهرة الانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية. غير أن المشكلة أن تغيير النظم المغلقة، حتى بالثورة عليها، لا يحل أزمتها. ذلك أن النخبة الثورية الجديدة سرعان ما ترث المؤسسات القديمة فتقوم بتشغيلها لصالحها، لتعود الدائرة المغلقة من جديد وإن بنخبة مختلفة. السر يكمن في تغيير قواعد اللعبة، لا فيمن يملك الملعب!

المنظومة السياسية المنفتحة تتيح لجمهور واسع التأثير فيها من خلال معاقبة السياسيين بعدم انتخابهم مجددا

 سيادة المؤسسات الاحتكارية، للسلطة والثروة، لصالح القلة. العيب القاتل في هذه المؤسسات يكمن في أنها لا تخلق حافزا لدى الناس للابتكار والتجديد التكنولوجي وهو الأساس في توليد الثروة. على سبيل المثال، فإن مؤسسة مثل العبودية ـ وكانت سائدة في معظم حضارات العالم القديم ـ لا يمكن أن تنتج ابتكارا، إذ لا حافز لدى العبيد لابتكار شيء لن يغير من وضعهم في آخر الأمر.

لا يعني ذلك أن النظم المغلقة عاجزة عن توليد أي قدر من النمو. لقد استطاع الاتحاد السوفييتي، بنظام المزارع الجماعية وحشد الموارد للتصنيع تحت حكم ستالين، تحقيق نمو اقتصادي سريع منذ 1928 وحتى سبعينيات القرن الماضي. إلا أن هذا النمو يظل هشا وقابلا للانتكاس وله سقف لا يتجاوزه، ذلك أنه لا يوظف طاقة "التدمير البناء" في المجتمع وإنما يقوم على حشد الموارد للتصنيع من جانب الدولة.

تزامنت نشأة الرأسمالية مع تغيير بطيء في المؤسسات المنغلقة الإقصائية التي سادت عبر التاريخ. تغيير أتاح لها أن تصير، بالتدريج، أكثر انفتاحا أمام القادمين الجدد. في حالات نادرة استطاعت مجتمعات كسر دائرة المؤسسة المنغلقة التي تعيد إنتاج نفسها. نجحت هذه المجتمعات،   * البيتكوين مثال *لظروف تاريخية وتراكمات بطيئة في شكل مؤسساتها، في تغيير قواعد اللعبة!

كسر الدائرة الجهنمية! (11)

الدائرة الجهنمية هي تلك التي تنشأ بين منظومة سلطوية مغلقة ونظام اقتصادي قائم على استغلال القلة واستخراج الموارد. هي دائرة تعزز نفسها باستمرار حتى يصبح الخروج منها مستحيلا، حتى بالثورة، إذ إن النخب الجديدة ترث المؤسسات القديمة، وسرعان ما تتورط في الممارسات نفسها، كما فعل ـ مثلا ـ نظام "منغستو" الشيوعي الذي ثار على استبداد هيلا سلاسي في أثيوبيا، ليؤسس مكانه منظومة أكثر انغلاقا في السياسة والاقتصاد. والنماذج في هذا الباب لا تنتهي. في المقالين الأخيرين سبقت الإشارة إلى كتاب "لماذا تفشل الأمم؟" (?Why nations fail)، لصاحبيه James A.Robinson و Daron Acemoglu، وفيه تفصيل لهذه العلاقة العضوية بين شكل المؤسسة السياسية من ناحية، وطبيعة النظام الاقتصادي الذي تنتجه من ناحية أخرى. هذه العلاقة تمثل مدخلا جوهريا في فهم تطور الرأسمالية.

(12): الاحتكار والمنافسة!

على عكس ما يعتقد أغلبنا، فإن الرأسماليين وأصحاب الأعمال هم أشد الناس عداء للرأسمالية! في الظاهر، يتشدق أرباب الصناعة والمشروعات بإيمانهم المطلق بالنظام الرأسمالي. في حقيقة الأمر، هم يؤيدون جوانب منه تتعلق بحرية النشاط الاقتصادي وقدسية الملكية الخاصة، ويبغضون ركنا رئيسيا فيه: المنافسة المفتوحة!

الحديث هنا بالطبع عن كبار الرأسماليين وليس صغارهم. ذلك أن أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة يستفيدون من المنافسة، بل إنهم لا يستطيعون دخول السوق من الأصل إلا في ملعب مفتوح، وليس مغلقا على الكبار وحدهم. أما هؤلاء الكبار من "الحيتان" فإن الاحتكار هو سبيلهم لتحقيق أرباح هائلة. فالسوق المغلق القائم على منتج واحد، أو اثنين أو ثلاثة، يتيح للشركات الكبرى المحتكرة تحديد السعر الذي ترغب، باعتبار أنها آمنة من المنافسة المحتملة.

أسوأ أنواع الاحتكار على الإطلاق هو ذلك الذي ينشأ بالتواطؤ بين كبار رجال الأعمال والحكومات

يس غريبا، والحال هذه، أن ينبه "آدم سميث" ـ نبي الرأسمالية الأول ـ إلى مخاطر الاحتكار. هو كتب: "إن أرباب الصنعة الواحدة قلما يجتمعون إلا وانتهى لقاؤهم إلى مؤامرة ضد الجمهور، أو إلى خطة ماكرة لرفع الأسعار". وليس "سميث" استثناء في التحذير من الاحتكار، إذ تنبه إلى مخاطره كثير من الاقتصاديين والمفكرين من أرسطو وحتى "جون ستيوارت ميل".

وواقع الأمر أن المنافسة الكاملة هي حالة مثالية لا تتحقق كثيرا في الاقتصاد الواقعي. المنافسة الكاملة تعني تقاربا كبيرا في السلع المنتجة وتكاليف الإنتاج، وتخفيضا مستمرا في الأسعار. هو وضع يصب في مصلحة المستهلك من دون شك، إلا أنه لا يحقق ربحا كبيرا للشركات وأرباب الأعمال. الربح فوق المعتاد يحدث مع الأوضاع الاحتكارية، بداية من المنافسة الاحتكارية، ومرورا باحتكار القلة (Oligopoly)، ووصولا إلى الاحتكار الكامل (Monopoly)، ومعناه أن تسيطر شركة واحدة على النصيب الأكبر من السوق.

ولكن كيف يحدث الاحتكار؟ أصل الاحتكار أن تكون هناك حواجز تمنع دخول السوق، إلا للقلة من الشركات، وربما شركة واحدة. قد تكون هذه الحواجز طبيعية. مثلا: المياه والسكك الحديدية والبريد وشركات الطيران.. كلها تمثل مجالات ينشأ فيها الاحتكار بصورة طبيعية. السبب هو أن تكلفة تأسيس الشبكات التي تخدم هذه الأنشطة (وكل هذه المجالات ترتبط بصورة أو بأخرى بتأسيس شبكة كبيرة كخط سكك حديد أو محطة مياه أو كهرباء) تكون هائلة في البداية، مقارنة بتكلفة منخفضة لتشغيلها. وحالما يتم إنشاء الشبكة، يصبح من غير المجدي اقتصاديا إقامة شبكات أخرى منافسة (تأمل مثلا حالة إنشاء خطوط متنافسة للسكك الحديدية). ومن هنا يتحقق الاحتكار بصورة طبيعية في هذه الأنشطة أو حتى غيرها التي تتيح للشركات الاستفادة من "اقتصاديات الحجم الكبير" ـ كما هو الحال مع شركات البترول مثلا ـ بصورة تضع حاجزا أمام الصغار يمنعهم من دخول حلبة المنافسة.

قد ينشأ الاحتكار كذلك بواقع حصول شركة على براءة اختراع جديد. كان هذا ـ مثلا ـ هو وضع زيروكس في السبعينيات من القرن الماضي في ما يتعلق بسوق الطابعات، و"ميكروسوفت" في التسعينيات في ما يتعلق بسوق برامج تشغيل الكومبيوتر. في مثل هذه الحالات، تشكل براءة الاختراع حاجزا مانعا أمام دخول الشركات السوق.

أما الأمر المؤكد، فهو أن أسوأ أنواع الاحتكار على الإطلاق هو ذلك الذي ينشأ بالتواطؤ بين كبار رجال الأعمال والحكومات. هذا النوع من الاحتكار، الذي يسود في بلدان عربية كثيرة للأسف، يقتل المنافسة ويضر بالمستهلك ويتيح لأصحاب الأعمال الكبار أرباحا لا يمكن وصفها إلا بالنهب.

(13): العولمة والناقمون عليها!

العولمة هي نموذج الرأسمالية في عصرنا الحاضر

 المتابع للإنتاج الثقافي والأكاديمي في تلك المرحلة سيلا من الكتابات التحذيرية التي تربط العولمة بكل ما هو قبيح واستغلالي. تبارى المحللون الاقتصاديون وكبار الكتاب في تعداد مساوئ العولمة ومخاطرها على الدول النامية باعتبارها سباقا غير متكافئ تخوضه الاقتصادات الأقل نموا، وأن نتيجته محسومة لصالح الاقتصادات الأكثر تقدما وحداثة، بل وتم تصوير العولمة في هيئة أقرب إلى غول خرافي يوشك أن يبتلع الشعوب أو يقذف بها في بحر متلاطم مليء بأسماك القرش، فينتهي بها الحال أفقر مما كانت وأشد بؤسا وتخلفا!

العولمة، شأنها شأن كل الظواهر المرتبطة بالمنظومة الرأسمالية، تفرز رابحين وخاسرين

 العولمة، وعلى عكس التوقعات والتنبؤات، كانت خيرا عميما على الاقتصادات النامية، خاصة في آسيا. ومكمن السخرية هنا أن الصرخة الحقيقية المضادة للعولمة تأتي اليوم من آخر مكان يمكن توقعه: من قلب العالم الغربي المتقدم الذي أنتج هذه الظاهرة في المقام الأول!

 الفروق الكبيرة في الدخول والثروات في عالم اليوم هي وليدة تراكم طويل الأمد في النمو الاقتصادي لدى الدول الغنية. الفروق الضئيلة في معدلات النمو تتحول، بتراكم السنين والعقود والقرون، إلى فجوات هائلة. مثلا: نمو الاقتصاد بمعدل 3.5 في المئة سنويا يؤدي إلى مضاعفة حجم الاقتصاد ثلاث مرات خلال خمسة وعشرين عاما. الفروق الصغيرة في النسب المئوية تتحول إلى فروق ضخمة في مستوى الحياة والرفاهة الاقتصادية مع الوقت. في 1870 كان معدل الدخل في الدول الغنية تسعة أضعاف مثيله في الدول الفقيرة. في 1960 كان المعدل هو 38 ضعفا. في عام 1990 وصل إلى 45 ضعفا!
الأثر التراكمي للنمو يشبه "الفائدة المتراكمة" للأموال المدخرة في البنوك. الوقت الطويل (عقود وقرون) كفيل بأن يؤدي إلى مضاعفة المبلغ الأصلي الذي يتم ادخاره مرات ومرات.

ولكن كيف يحدث النمو في الأصل؟ السر في الإنتاجية. ثمة أسباب ثلاثة تؤدي إلى مضاعفة الإنتاجية: التكنولوجيا، ورأس المال المادي، ورأس المال البشري (أي التعليم والمهارات). عامل التكنولوجيا يعد حاسما في هذه المعادلة. أكثر من نصف النمو في الإنتاجية في الولايات المتحدة يأتي من التكنولوجيا، والباقي من رأس المال؛ المادي أو البشري.

السبب الرئيسي في التفاوت بين مناطق العالم المختلفة في النمو يكمن إذن في كثافة استخدام التكنولوجيا في عملية الإنتاج، فضلا عن توفر رأس المال. تبقى الدول الفقيرة هكذا طالما لم تجد سبيلا إلى مضاعفة الإنتاجية عبر الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا. ظاهرة العولمة كانت ـ على النقيض مما قالت به الأصوات المحذرة ـ حلا سحريا وطوق نجاة للدول الفقيرة أو بطيئة النمو التي استطاعت التشبث بها. ذلك أن العولمة أتاحت نقل التكنولوجيا والخبرات ورؤوس الأموال وقوة العمل عبر إسقاط الحواجز على التجارة بصورة غير مسبوقة في التاريخ البشري.

شهدت التسعينيات من القرن والعقد الأول من الألفية تفاعل ظاهرة العولمة وتمددها إلى كل ركن من أركان المعمورة. ترافق ذلك مع صعود ما يسمى بـ"اقتصاد المعرفة" الذي ينتقل بصورة أسهل كثيرا من أشكال الاقتصاد الأخرى. أتاح ذلك أمام الدول النامية ميزة مهمة: إمكانية استغلال التكنولوجيا القائمة من دون الحاجة لاختراعها، مما أهلها للحاق بسرعة وفي زمن صغير بالاقتصادات المتقدمة. كانت المحصلة نموا سريعا ومتسارعا، وخروج الملايين من دائرة الفقر، خاصة في آسيا.

الشكوى من العولمة في الدول التي لم تلحق بركابها هي ـ في حقيقة الأمر ـ انعكاس لضعف قدرة هذه الدول على الاستفادة من الفرص التي وفرتها العولمة.

على عكس ما توقع المتشائمون؛ أدت العولمة إلى تقليص الفجوات بين الدول. على أنها أفرزت نتيجة أخرى هي اتساع الفجوات في الدخل بين المناطق داخل البلد الواحد في الكثير من الاقتصادات الغربية المتقدمة (بل والنامية التي شهدت نموا صاروخيا مثل الصين). أي أن العولمة أسهمت في تقليص الفجوات ـ بصورة عامة ـ بين الدول وبعضها البعض، وفي اتساعها في داخل الدولة الواحدة.

التفسير ببساطة أن التجارة الحرة بين اقتصاد متقدم وآخر ينتمي للعالم النامي تؤدي بالضرورة إلى تراجع الأجور في الاقتصاد المتقدم بسبب المنافسة مع العمالة ذات الأجور المنخفضة في الاقتصاد النامي. أسهم ذلك بدوره في ثبات الدخول في مناطق كثيرة في العالم المتقدم وفي تخلفها عن مثيلاتها في البلد الواحد. ربما كانت هذه الظاهرة أحد البواعث الأساسية وراء ردة الفعل العكسية المضادة للعولمة في أركان مختلفة في العالم الغربي، في أوروبا والولايات المتحدة، والتي عبرت عن نفسها في موجة الشعبوية التي نشهدها الآن.

العولمة، شأنها شأن كل الظواهر المرتبطة بالمنظومة الرأسمالية، تفرز رابحين وخاسرين. هي ليست ظاهرة طبيعية، وإنما منتج بشري قابل للتعديل والتصحيح. ضبط مسار العولمة يمثل أخطر تحد أمام الرأسمالية اليوم.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق