الثلاثاء، 29 أبريل 2025

كريستيان غودان نهاية التاريخ

 التاريخ أوكلت إليه مهمة إثبات الحقيقة الدنيوية بعدما تلاشت الحقيقة الماورائية، ففي مقابل الطبيعة الصامتة و"موت الله" الذي أعلنه نيتشه، بات إنسان القرن الـ19 يواجه الزمن الذي أمل أن يستنتج منه حقيقة كيانه ومعيار أفعاله.

لكن فكرة سير التاريخ في اتجاه وغاية نهائية بدأت بالانحسار إثر مواجهتها الدمار والحروب التي طبعت القرن الـ20، بعدما وضعت القنابل الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي، والإبادة النازية لليهود، ومعسكرات الاعتقال السوفياتية، وظهور النزعة الاستهلاكية والإرهاب، هذا التوجه الفلسفي في مأزق

 ذلك أن الفلسفات الكبرى التي ظهرت في القرن الـ20، عنيت الفلسفة التحليلية والفينومينولوجيا والبنيوية، لم تنشئ فلسفة للتاريخ، بل كانت عدائية تجاهها. وباستثناءات قليلة جداً نقرأها في نصوص جون ديوي وجورج لوكاتش وجان بول سارتر، كانت هذه الفلسفات المحكوم عليها بتكرار أفكار القرن الـ19، تعاني وجهة نظر غودان فقراً نظرياً شديداً، فالماركسية التي انتظرت من التاريخ، باعتباره تجلياً للحقيقة، أن يثبت صدقها، جرفت على يد التاريخ نفسه. ولم تعد الرأسمالية التي تتمثل عبقريتها الوحيدة في قدرتها على تحويل كل ما هو سلبي في الوجود إلى سلع ومصادر للربح، في حاجة إلى خصوم لكي "تصنع التاريخ"، لأنها أصبحت تملك من القوة ما يكفي لتمتص أي معارضة لصالحها.

  • الفلسفة التحليلية (مثل فتغنشتاين، كارناب، كواين) ركزت على تحليل اللغة والمنطق، ورفضت "السرديات الكبرى" (بما فيها التاريخية) باعتبارها غير قابلة للتحقق التجريبي أو المنطقي.

  • الفينومينولوجيا (هوسرل، هايدغر) اهتمت بالوعي والكينونة، لكنها تجاهلت التاريخ كعملية جمعية (إلا في حالات استثنائية مثل سارتر الذي حاول دمج الوجودية مع الماركسية).

  • البنيوية (ليفي-ستروس، فوكو المبكر) حلَّلت البنى الثابتة للثقافة واللغة، ونظرت إلى التاريخ كـ"انقطاعات" لا كتطور ديالكتيكي.

  • الاستثناءات:

    • جون ديوي رأى في التاريخ أداةً للتحرر عبر التجربة الديمقراطية.

    • جورج لوكاتش حاول إنقاذ الماركسية بإعادة تفسير التاريخ كصراع طبقي ووعي زائف.

    • سارتر في "نقد العقل الجدلي" حاول أن يوفق بين الحرية الفردية والضرورة التاريخية.

غياب رؤية شاملة للتاريخ كإطار للمعنى أو التحرر، لصالح تفكيك السرديات أو اختزالها إلى بنى لاشعورية

الرأسمالية: صناعة التاريخ دون حاجة إلى خصوم:

العبقرية الشيطانية للرأسمالية 
  • استيعاب المعارضة: تحويل كل نقد (مثل الحركات النسوية، البيئية، حتى الاشتراكية) إلى سلع (مثال: "الرأسمالية الخضراء"، "التمكين النسوي كماركة").

  • التاريخ كسوق: الرأسمالية لا تحتاج إلى سرديات كبرى، فهي تنتج "تاريخًا فوريًا" عبر الإعلام والاستهلاك (كما قال بودرييار في "سيمولاكرا والواقع")

  • وسائل الإعلام كفاعل رئيس: تصنع الأحداث بدلًا من نقلها (مثل حرب الخليج التي "لم تقع" حسب بودريار). تحول السلع إلى رموز دالة على المكانة الاجتماعية (مثل الشعارات والماركات). الواقع الفائق يجعل أي محاولة نقدية عديمة الجدوى 

  • غياب الخصم الجذري: حتى اليسار اليوم (كما يرى سلافوي جيجيك) أصبح جزءًا من النظام، يُدار كـ"معارضة مسموح بها"..


ما بعد الحداثة (مثل ليوتار) أعلنت موت السرديات الكبرى، لكنها لم تقدّم بديلاً عن أزمة المعنى.

  • مقاربات نقدية جديدة:

    • إسبينوزا الجديد (مثل نغري وهاردت في "الإمبراطورية") يحاولون قراءة التاريخ كشبكة قوى لا مركزية.

    • الايكولوجيا السياسية (نعوم تشومسكي، أندرياس مالم) تربط بين التاريخ والكارثة البيئية.

تحذير والتر بنيامين في "أطروحات حول مفهوم التاريخ":

"إن الإيمان بالتقدم الأعمى هو إيمان طائشة. التاريخ ليس قطارًا يسير حتمًا نحو التحرر، بل هو ساحة كوارث متتالية".

الرأسمالية اليوم لا "تصنع التاريخ" بل تُلغيه، بتحويله إلى دورة لا نهائية من الإنتاج والاستهلاك. ربما المهمة الفلسفية الآن هي إنقاذ التاريخ من براثن النسيان، ليس كسردية حتمية، بل كإمكانية للمقاومة — حتى لو بدت هذه المقاومة مستحيلة.

كارل لوفيت فلسفة التاريخ الحداثية، حيث يراها في جوهرها مجرد تحويل علماني (أو عقلاني ظاهري) لمفاهيم لاهوتية مسيحية . سرديات "التقدم" و"اليوتوبيا" في الفلسفة الحديثة ما تزال تسكنها نفس التطلعات الغيبية ولكن بلغة دنيوية

فلسفة التاريخ، بما تحمله من إيمان أعمى بالتقدم وسردية خلاصية جديدة، قد أدت إلى كوارث حقيقية، من أبرزها الحروب الشاملة والخراب البيئي والسياسي، أي أنها – بدلًا من أن تحقق الجنة على الأرض – ساهمت في خرابها.

 الأيديولوجيات الكبرى (كالهيغلية أو الماركسية أو حتى الليبرالية) هي لاهوتات علمانية، لأنها تَعِد بالخلاص في الزمن، وتنتهي غالبًا بخلق بنى قمعية أو كارثية جديدة.

الخطاب السياسي (سواء كان ليبراليًا، اشتراكيًا، أو فاشيًا) يعتمد على تصورٍ للتاريخ كمسارٍ غائي:

  • الإتمام: كما في ادعاء فوكوياما (نهاية التاريخ كانتصار نهائي للديمقراطية الليبرالية).

  • الإلغاء: كما في الخطابات الشمولية التي تدعي "قطع الصلة بالماضي" لبناء عالم جديد (الثورة الفرنسية، البلشفية، النازية).

    • التاريخ كأداة إقصاء: تحوّل فكرة "صناعة التاريخ" إلى ذريعة لاستبعاد مَن يُعتبرون "خارج التاريخ" (الشعوب "البدائية"، "الرجعيون"، "الطوائف الدخيلة").

فلسفة التاريخ، التي كان يُفترض أنها تُعلي من قيمة الإنسان، أصبحت تُستخدم لنزع الإنسانية عن "الآخر".
الستالينية والنازية 
الإقصاء الرمزي
تبدأ عملية التطهير بوصف فئة ما بأنها "غير تاريخية" أو "معيقة للتقدم" (مثال: الخطاب الاستعماري عن "همجية" الشعوب الأصلية).
الخطوة الثانية: التدمير المادي
  • الستالينيون: اعتبروا المعارضين "أعداء التقدم" الذين يجب إزالتهم.

الحل 

بول ريكور، الذي رأى أن وظيفة التاريخ هي الحفاظ على الذكرى بدلاً من تبرير العنف.
 رفض الغائية (فكرة أن للتاريخ غاية محددة) لصالح رؤية تعددية (كما في فلسفة جيل دولوز)

الاستهلاكية: تحويل التاريخ إلى "ترفيه" (مسلسلات تاريخية، متاحف كسلع سياحية)
الليبرالية الجديدة: إعلان أن "التاريخ انتهى" لتحصين النظام القائم من أي نقد جذري

  •  تُقدَّم الأيديولوجيات التوتاليتارية (النازية، الستالينية) على أنها "فلسفات تاريخية"، يتمّ اختطاف الفلسفة ذاتها لشرعنة ما هو ضدّ جوهرها (التفكير النقدي، التساؤل، احترام الكرامة الإنسانية).

هذه "النظريات" تقوم على أوهام
  • وهم التماسك: افتراض أن التاريخ كتلةٌ واحدة مُتّسقة (فيما هو فوضى، صدف، وتناقضات).

  • وهم الغائية: أن للتاريخ "وجهة" حتمية (الاشتراكية، تفوّق العرق، نهاية التاريخ...).


  • المفارقة الإنسانية: كيف نجرؤ على الحديث عن "قوانين تاريخية" تحكم مليارات البشر عبر آلاف السنين، بينما:

    • حياة الفرد الواحد تظل لغزًا غير قابل للاختزال (كما رأى كيركغور في مفهوم "الذات").

    • التجربة الإنسانية غير قابلة للتعميم (معاناة ضحية معسكر اعتقال لا تُقاس بإحصاءات).

  • النتيجة: أي محاولة لفرض "معنى كلي" على التاريخ تقوم على العنف الرمزي (كما يشرح بيير بورديو).


بديل 
  • التاريخ كـ"تعددية قصصية" (كما عند بول ريكور):
    بدلاً من البحث عن "قانون شامل"، نقرأ التاريخ كسلسلة من الروايات المتعارضة التي يجب الاستماع إليها جميعًا (رواية المنتصرون و الضحايا).

  • التاريخ كـ"أرشيف للهزائم" (والتر بنيامين):
    مهمة الفلسفة هي إنقاذ ذاكرة مَن طمستهم السرديات الرسمية.

  • رفض الغائية:
    الاعتراف بأن التاريخ ليس له معنى مسبق، بل هو مجال للحرية الإنسانية (مقاربة جان بول سارتر).

  • التاريخ كـ"فلسفة سياسية" (حنة أرنت):
    تحليل كيف تُصنع الأحداث في الفضاء العمومي، لا كحتميات.

أسئلة جوهرية

 تطور التكنولوجيات العلمية بدأ بمنح غريزة الموت والعدمية التي رافقت الإنسان منذ وجوده، الوسائل الكفيلة بتدمير نفسه بنفسه، فبعدما أصبح القرن الـ20 مسرحاً لشكلين من أشكال البربرية غير المسبوقة في الحربين العالميتين والتوتاليتارية في نظاميها الستاليني والنازي، يستنتج غودان أن التاريخ، في النصف الأول من القرن الـ21 المطبوع بالعولمة،

المعاصر الضحايا هم مَن يحاكمون التاريخ
"التقدّم هو أسطورة القرن العشرين. أما القرن الحادي والعشرين، فمهمته منع هذا التقدّم من قتلنا جميعًا".
  • الأمل: أن تتحوّل هذه المحاكمات التاريخية إلى حوارات تهدف للمصالحة لا الانتقام

  •  إدوارد سعيد:
    "الضعفاء يكتبون التاريخ أيضاً، لكن بدمائهم أولاً، ثم بحروفهم لاحقاً".

  • الشرعية السياسية تأتي الآن من الأداء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، لا من "ماضٍ مجيد".


  • وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية حلّت محل التاريخ في تشكيل الوعي الجمعي (مثلًا: الأفلام والمسلسلات تحدد صورنا عن الماضي أكثر من الكتب المدرسية).


زيف الكثير من الأساطير الوطنية (مثلًا: فضائح تزوير التاريخ في إسرائيل التي كشفها ساند نفسه في كتبه السابقة).

حركات "لا للنسيان" في أمريكا اللاتينية

  • الماضي صار مادةً للاستهلاك (المتاحف الترفيهية، المسلسلات التاريخية، ألعاب الفيديو).

  • الدول تروّج لتراثها كـ"علامة تجارية" لجذب السياح، لا كأساس لهويتها.


  • بينيدكت أندرسون: حتى الآن، لا توجد دول ناجحة بدون "جماعات متخيلة" تُبنى جزئيًا عبر التاريخ.

  1. التاريخ كـ"خدمة اشتراك":

    • منصات مثل Netflix و YouTube تتحكم بما نعرفه عن الماضي.

  2. التاريخ الفردي:

    • كل شخص يصنع روايته الخاصة (عبر السوشيال ميديا).

  3. الصراع على الذاكرة:

    • ليس بين دول، بل بين شركات (مثل: من يملك حقوق رواية الهولوكوست؟).


مجتمعات لا تطلب من الأفراد أن يكونوا ذواتًا متفردة، بل مجرد أجساد قابلة للاستهلاك، في سياق تسليعي شامل . تصاعد الفردانية والمادية والبراغماتية

الذات النرجسية تعيش انغلاقًا حول ذاتها، كذلك النظام الرأسمالي يعيش استهلاكًا دائمًا لذاته، دون مرجعية خارجية أو غاية إنسانية عليا.

لاكاني لم نعد نعيش في عالم من المعني، بل في عالم من الصور، حيث الكلام نفسه يبدو فائضًا، لأن الجسد واللذة المباشرة صارا هما المرجع الوحيد للواقع. بدت الأفكار والكلمات فائضاً في مجتمع لا يحتاج الأفراد فيه إلى أن يكونوا سوى أجساد.

فالسبب الأساس لدخول التاريخ في مراحله النهائية لا يكمن بحسب غودان في الانفجار السكاني أو التلوث والاحتباس الحراري، بل في الانهيار الحاد للولادات التي تعني في ما تعنيه اتجاه الإنسان نحو فنائه الذاتي.

البشرية تعي إمكان اختفائها بالكامل، وهو أمر يختلف جذرياً عن مختلف "نهايات العالم" التي تحدثت عنها الأساطير والأديان، لأن تلك النهايات كانت من فعل الآلهة،

كتاب إرنست بلوخ "مبدأ الأمل"
سؤال بقاء البشرية














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق