التاريخ أوكلت إليه مهمة إثبات الحقيقة الدنيوية بعدما تلاشت الحقيقة الماورائية، ففي مقابل الطبيعة الصامتة و"موت الله" الذي أعلنه نيتشه، بات إنسان القرن الـ19 يواجه الزمن الذي أمل أن يستنتج منه حقيقة كيانه ومعيار أفعاله.
لكن فكرة سير التاريخ في اتجاه وغاية نهائية بدأت بالانحسار إثر مواجهتها الدمار والحروب التي طبعت القرن الـ20، بعدما وضعت القنابل الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي، والإبادة النازية لليهود، ومعسكرات الاعتقال السوفياتية، وظهور النزعة الاستهلاكية والإرهاب، هذا التوجه الفلسفي في مأزق
ذلك أن الفلسفات الكبرى التي ظهرت في القرن الـ20، عنيت الفلسفة التحليلية والفينومينولوجيا والبنيوية، لم تنشئ فلسفة للتاريخ، بل كانت عدائية تجاهها. وباستثناءات قليلة جداً نقرأها في نصوص جون ديوي وجورج لوكاتش وجان بول سارتر، كانت هذه الفلسفات المحكوم عليها بتكرار أفكار القرن الـ19، تعاني وجهة نظر غودان فقراً نظرياً شديداً، فالماركسية التي انتظرت من التاريخ، باعتباره تجلياً للحقيقة، أن يثبت صدقها، جرفت على يد التاريخ نفسه. ولم تعد الرأسمالية التي تتمثل عبقريتها الوحيدة في قدرتها على تحويل كل ما هو سلبي في الوجود إلى سلع ومصادر للربح، في حاجة إلى خصوم لكي "تصنع التاريخ"، لأنها أصبحت تملك من القوة ما يكفي لتمتص أي معارضة لصالحها.
الفلسفة التحليلية (مثل فتغنشتاين، كارناب، كواين) ركزت على تحليل اللغة والمنطق، ورفضت "السرديات الكبرى" (بما فيها التاريخية) باعتبارها غير قابلة للتحقق التجريبي أو المنطقي.
الفينومينولوجيا (هوسرل، هايدغر) اهتمت بالوعي والكينونة، لكنها تجاهلت التاريخ كعملية جمعية (إلا في حالات استثنائية مثل سارتر الذي حاول دمج الوجودية مع الماركسية).
البنيوية (ليفي-ستروس، فوكو المبكر) حلَّلت البنى الثابتة للثقافة واللغة، ونظرت إلى التاريخ كـ"انقطاعات" لا كتطور ديالكتيكي.
الاستثناءات:
جون ديوي رأى في التاريخ أداةً للتحرر عبر التجربة الديمقراطية.
جورج لوكاتش حاول إنقاذ الماركسية بإعادة تفسير التاريخ كصراع طبقي ووعي زائف.
سارتر في "نقد العقل الجدلي" حاول أن يوفق بين الحرية الفردية والضرورة التاريخية.
الرأسمالية: صناعة التاريخ دون حاجة إلى خصوم:
استيعاب المعارضة: تحويل كل نقد (مثل الحركات النسوية، البيئية، حتى الاشتراكية) إلى سلع (مثال: "الرأسمالية الخضراء"، "التمكين النسوي كماركة").
التاريخ كسوق: الرأسمالية لا تحتاج إلى سرديات كبرى، فهي تنتج "تاريخًا فوريًا" عبر الإعلام والاستهلاك (كما قال بودرييار في "سيمولاكرا والواقع")
وسائل الإعلام كفاعل رئيس: تصنع الأحداث بدلًا من نقلها (مثل حرب الخليج التي "لم تقع" حسب بودريار). تحول السلع إلى رموز دالة على المكانة الاجتماعية (مثل الشعارات والماركات). الواقع الفائق يجعل أي محاولة نقدية عديمة الجدوى
غياب الخصم الجذري: حتى اليسار اليوم (كما يرى سلافوي جيجيك) أصبح جزءًا من النظام، يُدار كـ"معارضة مسموح بها"..
مقاربات نقدية جديدة:
إسبينوزا الجديد (مثل نغري وهاردت في "الإمبراطورية") يحاولون قراءة التاريخ كشبكة قوى لا مركزية.
الايكولوجيا السياسية (نعوم تشومسكي، أندرياس مالم) تربط بين التاريخ والكارثة البيئية.
تحذير والتر بنيامين في "أطروحات حول مفهوم التاريخ":
"إن الإيمان بالتقدم الأعمى هو إيمان طائشة. التاريخ ليس قطارًا يسير حتمًا نحو التحرر، بل هو ساحة كوارث متتالية".
الرأسمالية اليوم لا "تصنع التاريخ" بل تُلغيه، بتحويله إلى دورة لا نهائية من الإنتاج والاستهلاك. ربما المهمة الفلسفية الآن هي إنقاذ التاريخ من براثن النسيان، ليس كسردية حتمية، بل كإمكانية للمقاومة — حتى لو بدت هذه المقاومة مستحيلة.
كارل لوفيت فلسفة التاريخ الحداثية، حيث يراها في جوهرها مجرد تحويل علماني (أو عقلاني ظاهري) لمفاهيم لاهوتية مسيحية . سرديات "التقدم" و"اليوتوبيا" في الفلسفة الحديثة ما تزال تسكنها نفس التطلعات الغيبية ولكن بلغة دنيوية
فلسفة التاريخ، بما تحمله من إيمان أعمى بالتقدم وسردية خلاصية جديدة، قد أدت إلى كوارث حقيقية، من أبرزها الحروب الشاملة والخراب البيئي والسياسي، أي أنها – بدلًا من أن تحقق الجنة على الأرض – ساهمت في خرابها.
الأيديولوجيات الكبرى (كالهيغلية أو الماركسية أو حتى الليبرالية) هي لاهوتات علمانية، لأنها تَعِد بالخلاص في الزمن، وتنتهي غالبًا بخلق بنى قمعية أو كارثية جديدة.
الخطاب السياسي (سواء كان ليبراليًا، اشتراكيًا، أو فاشيًا) يعتمد على تصورٍ للتاريخ كمسارٍ غائي:
الإتمام: كما في ادعاء فوكوياما (نهاية التاريخ كانتصار نهائي للديمقراطية الليبرالية).
الإلغاء: كما في الخطابات الشمولية التي تدعي "قطع الصلة بالماضي" لبناء عالم جديد (الثورة الفرنسية، البلشفية، النازية).
التاريخ كأداة إقصاء: تحوّل فكرة "صناعة التاريخ" إلى ذريعة لاستبعاد مَن يُعتبرون "خارج التاريخ" (الشعوب "البدائية"، "الرجعيون"، "الطوائف الدخيلة").
الستالينيون: اعتبروا المعارضين "أعداء التقدم" الذين يجب إزالتهم.
تُقدَّم الأيديولوجيات التوتاليتارية (النازية، الستالينية) على أنها "فلسفات تاريخية"، يتمّ اختطاف الفلسفة ذاتها لشرعنة ما هو ضدّ جوهرها (التفكير النقدي، التساؤل، احترام الكرامة الإنسانية).
وهم التماسك: افتراض أن التاريخ كتلةٌ واحدة مُتّسقة (فيما هو فوضى، صدف، وتناقضات).
وهم الغائية: أن للتاريخ "وجهة" حتمية (الاشتراكية، تفوّق العرق، نهاية التاريخ...).
المفارقة الإنسانية: كيف نجرؤ على الحديث عن "قوانين تاريخية" تحكم مليارات البشر عبر آلاف السنين، بينما:
حياة الفرد الواحد تظل لغزًا غير قابل للاختزال (كما رأى كيركغور في مفهوم "الذات").
التجربة الإنسانية غير قابلة للتعميم (معاناة ضحية معسكر اعتقال لا تُقاس بإحصاءات).
النتيجة: أي محاولة لفرض "معنى كلي" على التاريخ تقوم على العنف الرمزي (كما يشرح بيير بورديو).
التاريخ كـ"تعددية قصصية" (كما عند بول ريكور):
بدلاً من البحث عن "قانون شامل"، نقرأ التاريخ كسلسلة من الروايات المتعارضة التي يجب الاستماع إليها جميعًا (رواية المنتصرون و الضحايا).
التاريخ كـ"أرشيف للهزائم" (والتر بنيامين):
مهمة الفلسفة هي إنقاذ ذاكرة مَن طمستهم السرديات الرسمية.رفض الغائية:
الاعتراف بأن التاريخ ليس له معنى مسبق، بل هو مجال للحرية الإنسانية (مقاربة جان بول سارتر).
التاريخ كـ"فلسفة سياسية" (حنة أرنت):
تحليل كيف تُصنع الأحداث في الفضاء العمومي، لا كحتميات.
الأمل: أن تتحوّل هذه المحاكمات التاريخية إلى حوارات تهدف للمصالحة لا الانتقام
إدوارد سعيد:
"الضعفاء يكتبون التاريخ أيضاً، لكن بدمائهم أولاً، ثم بحروفهم لاحقاً".
الشرعية السياسية تأتي الآن من الأداء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، لا من "ماضٍ مجيد".
وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية حلّت محل التاريخ في تشكيل الوعي الجمعي (مثلًا: الأفلام والمسلسلات تحدد صورنا عن الماضي أكثر من الكتب المدرسية).
الماضي صار مادةً للاستهلاك (المتاحف الترفيهية، المسلسلات التاريخية، ألعاب الفيديو).
الدول تروّج لتراثها كـ"علامة تجارية" لجذب السياح، لا كأساس لهويتها.
بينيدكت أندرسون: حتى الآن، لا توجد دول ناجحة بدون "جماعات متخيلة" تُبنى جزئيًا عبر التاريخ.
التاريخ كـ"خدمة اشتراك":
منصات مثل Netflix و YouTube تتحكم بما نعرفه عن الماضي.
التاريخ الفردي:
كل شخص يصنع روايته الخاصة (عبر السوشيال ميديا).
الصراع على الذاكرة:
ليس بين دول، بل بين شركات (مثل: من يملك حقوق رواية الهولوكوست؟).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق