الأحد، 3 فبراير 2019

هل ينكر القرآن 'المعلوم من الدين بالضرورة'؟ والاجماع توفيق حميد

ابتدع فقهاء الخلافة الإسلامية ما أسموه بـ"المعلوم من الدين بالضرورة" أو "ما أجمعت عليه الأمة"، وذلك للسيطرة على عقول البشر وإرهابهم فكريا، فلا يفكرون ولو للحظة في الاعتراض عليهم ـ لأن عاقبة ذلك عند هؤلاء الفقهاء هو اعتبار ذلك المعترض "مرتدا" ومن ثم إقامة "حد الردة" المزعوم عليه.

بل على العكس تماما فإن القرآن الكريم اعتبر أن اتباع الأغلبية غالبا ما يؤدى إلى ضلال فقال تعالى "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ " (سورة الأنعام 116).

فإجماع الغالبية أو الأكثرية أو الأمة ليس دليلا على الحق أو الهداية في عرف 
القرآن، بل هو أقرب إلى الضلال منه إلى الهداية.

يؤمن كثير من الفقهاء أن "حد الردة" معلوم من الدين بالضرورة، وأن منكره كافر أو مرتد، في حين أن القرآن الكريم يقول بعكس ذلك تماما كما في الآيتين التاليتين "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (سورة البقرة 256) و"وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (سورة الكهف 29).

فهل يا ترى نتبع في هذا الأمر "إجماع الأمة" أم نتبع القرآن؟!

يؤمن كثيرون أن الرسول عليه السلام سيشفع لأمته يوم القيامة، وليس هناك رد أبلغ من رد القرآن على قضية الشفاعة يوم الدين، فقال الرحمن في كتابه العزيز "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ" (سورة البقرة 254).

الدين مكتمل فيه وليس ناقصا كما يدعون، فقال جل وعلا "مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ" (سورة الأنعام 38) وقال "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ" (سورة النحل 89) وقال "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ" (سورة العنكبوت 51) وقال "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ" (سورة الأنعام 114). لا للحديث

 "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (سورة البقرة 190).

يرى كثيرون أن "الحج عرفة" أي أنهم يحددون يوما معينا لإتمام الحج، فإن لم يتم الحج في ذلك اليوم يبطل حج الإنسان. وعلى عكس ما يؤمن به هؤلاء، فإن القرآن ترك مجالا للتعجيل أو للتأخير عن هذا الموعد، فقال تعالى في الحج "فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ " (سورة البقرة 203) ثم أعطى مجالا أكبر لمدة الحج فقال "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ " (سورة البقرة 197).

يؤمن كثيرون أن الصلوات الخمس نزلت على الرسول "كاملة" في يوم الإسراء والمعراج، في حين أن سورة الإسراء التي ذكر فيها حادثة المعراج هي سورة مكية، وأن آيات الوضوء ـ على سبيل المثال هي آيات مدنية أي أن المسلمين الأوائل طبقا لهؤلاء ـ كانوا يصلون بدون وضوء على الإطلاق لعدة سنين.


يرى كثيرون أن الرسول عليه السلام ذكر أسماء عشرة من الصحابة "مبشرين بالجنة"، والحقيقة أن القرآن أقر موقف الرسول في أمر مثل هذا فقال للرسول بالحرف الواحد ليقول للناس "وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ " (سورة الأحقاف 9).

****************************
كوميديا ( المعلوم من الدين بالضرورة )
احمد صبحي منصور 

ليست هناك قائمة محددة ومتفق عليها لما يسمى بالمعلوم من الدين بالضرورة
: كيف واسمها ( المعلوم ) وكيف لا تكون معلومة و(بالضرورة ) ايضا .
 هجص السلفيين الذى يستعصى على العلاج . يتناقلون تعبيرا  ويتهمون الآخرين به وهم لا يعرفون مدلوله .
قال : هل هذا التعبير الدينى مذكور فى القرآن الكريم ؟
قلت : لا . ومطلقا .
قال :  بالتأكيد هذا التعبير موجود فى كتب التراث
قلت : حتى لو كان موجودا فى كتب التراث فهو صناعة بشرية وليست من دين الله جل وعلا .
قال : أين توجد فى كتب التراث ؟
قلت : هذا التعبير لم يكن معروفا فى عصر الصحابة ولا فى العصر الأموى ولا فى العصر العباسى ولا فى العصر المملوكى . هو تعبير حديث إستحدثه عصر الجمود العثمانى ليدافع عن المتوارث ضد أى تجديد ، وليتهم أى مجدد بأنه ينكر ( المعلوم من الدين بالضرورة ) .
قال : بالمناسبة : أسألك نفس سؤالك السابق لى : ما هو معنى هذه العبارة؟ ( المعلوم من الدين بالضرورة )
قلت : المفهوم واضح : يعنى الذى لا بد أن تعلمه غصبا عنك من الدين . يكون معلوما لك رغم انفك وانف اهلك أيضا..
قال : على هذا كان لا بد أن يضعوا هذا فى مناهج التدريس حتى لا نجهلها ولا ننكرها .
قلت : مستحيل أن يفعلوا ذلك
قال : لماذا ؟
قلت : لآنه لا بد لهم من الاتفاق على قائمة محددة : من واحد الى خمسة أو تسعة أو عشرة أو عشرين ، ، ومستحيل أن يتفقوا .
قال : ممكن أن يعقدوا مؤتمرا يتفقون فيه على قائمة محددة للمعلوم من الدين بالضرورة .
قلت : فى هذه الحالة تصبح تشريعا بشريا ما أنزل الله جل وعلا به من سلطان ، وطبقا لمنهجهم السلفى فهى بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى الاتوبيس ..أقصد فى النار .
قال : ممكن أن يستشهدوا بالقرآن ويستخلصوا منه المعلوم من الدين بالضرورة .

قلت : هم لا تنقصهم المنظمات والمراكز والهيئات ولا التمويل . ولكن ينقصهم الاجتهاد . هم يتنافسون فى الجهل والتبعية لمختلف انواع المستبد الشرقى . وكم عملوا مؤتمرات ( إسلامية ) وفشلوا . هل تذكر حرب الخليج ،وعقد مؤتمرات سُنّية  تؤيد موقف السعودية فى الاستنجاد بأمريكا ضد صدام ، ومؤتمرات أخرى من العلماء السنيين التابعين لصدام يشجبون مجىء الأمريكان .
********************************************

مفهوم التوحيد

يوسف زيدان

«مفهوم الثابت والمعلوم بالضرورة»، وردت الإشارة إلى استحالة التحديد الدقيق لمفردات: الدين، الضرورة، المعلوم.. فى تلك التهمة المريعة التى صارت نصاً قانونياً فى غفلة من الزمان، ومن المنطق، وتعرف اليوم باسم: إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.

فإذا كان «التوحيد» الذى هو السمة الأولى للدين الإسلامى، على اعتبار أن المقصود بالدين هو «الإسلام» تحديداً، لم يتم الاتفاق على معناه ومفهومه الدقيق، الضرورى، فكيف الحال مع المفاهيم الأخرى، الأقل أهمية أو ارتباطاً بالإسلام الذى كان ولايزال يعرف بدين التوحيد. وقبل مناقشة مفهوم التوحيد وتطوره التاريخى، واختلاف العلماء فيه، وانتفاء «الضرورة» عن معنى معين من معانيه، نشير فى عجالة إلى أن أحد الإخوة من المشايخ المعلقين على المقالة السابقة، قرر هو فى غمرة الحماس أن المعلومات من الدين بالضرورة، هى أمور بديهية لا تجوز مناقشتها قال: القتل مذموم وهذا معلوم من الدين بالضرورة، وكذلك الزنى مذموم، والسرقة مذمومة، والخداع مذموم. وهذه كلها بحسب رأيه، أمور معلومة من الدين بالضرورة!.

 هذه «المذمومات» من قبل الديانات مذمومة، ومن بعدها. لأن ذم القتل والزنى والسرقة والخداع، أمر عقلى وحضارى وعابر للأديان المختلفة فيما بينها لكنها متفقة على ذم هذه القبائح.. فمنذ كتب المصرى القديم فى الوادى، ومنذ وضع «حمورابى» شرائعه، وصاغت اليونان القديمة فلسفتها، وتحددت منظومة القيم التى نقلت الإنسانية من حالة الغاب إلى حالة التحضر.. وهذه مذمومات!. والأنكى، أن بعض النصوص الدينية فى حالات معينة، امتدحت هذه المذمومات التى يظن بعضهم أنها معلومة من الدين بالضرورة، أو تغاضت عنها!، وفى التوراة، مثلاً ما لا حاصر له من الدلائل المؤكدة على الاستخفاف بالقيم الإنسانية، لصالح الاعتقادات الدينية.. ولا أريد الوقوف طويلاً عند هذه النقطة، فليس الهدف من كلامنا هو مقارعة الحجة بالحجة، بقدر ما هو بيان صعوبة تحديد ما هو معلوم بالضرورة من الدين.. حتى لو كان التوحيد.


«مصر مهد التوحيد».. هذه العبارة الشهيرة التى يرددها معظم المصريين وهم فى حالة ابتهاج وهمى دال على عدم الفهم، تشير بوضوح إلى أن الملك المصرى القديم، أو الفرعون «هذه الكلمة تعنى حرفياً: البيت الكبير - بر- عا» المعروف باسم إخناتون، كان على زعمهم هو أول من وضع أساس التوحيد.. وقد اشتطَّ كثيرون، حتى من الأذكياء أمثال فرويد، وخلطوا التاريخى بالدينى وجعلوا النبى موسى «التوراتى» تلميذاً أو امتداداً للفرعون المصرى القديم، كما يظهر لنا من كتاب سيجموند فرويد: موسى والتوحيد.. لكن ذلك كله يحتاج مراجعة، وضبطا.
تاريخياً، بدأت حالة الهوس والخبل الدينى مع الملك الأب «آمون حتب رع» الذى يكتب اسمه: أمنحتب الثالث. فقد أصابت عقل الرجل لسعة، فدعاه العبطٌ إلى الزعم بأنه الصورة الكاملة لآمون، وطلب من الكهنة أو بالأحرى أرغمهم على السير به محمولاً على محفة آمون، وقد جلس على كرسى الإله الأعلى الذى يعنى اسمه حرفياً: المحتجب، المتعالى، اللامرئى «آمون، آمن، آمين» وهو الأمر الذى أحدث صدمة دينية شديدة فى ذلك الزمان، ويقال إن الفرعون فعل ذلك ليضع يده على الثروات التى كانت بيد الكهنة فى المعابد.. تولى بعد الأب المهووس ابنه الأشد هوساً «آمون حتب الرابع» الذى يعرف بالاسم الذى اختاره: آخن آتون، أو أخناتون.
لم تكن الحركة التى قام بها أخناتون حركة توحيد بالمعنى الذى نفهمه الآن من هذه الكلمة، وإنما كانت فى حقيقة الأمر نوعاً من تحريم عبادة آمون، لصالح إله مصرى قديم هو آتون «كان معبوداً مصرياً محلياً فى الزمن السابق على عصر أخناتون بقرون» وهدم أخناتون معابد آمون وجعل أحجارها لبنات بنى بها مدينته المقدسة «أخناتون» فى الصحراء لتكون مركزاً لعبادة الإله الذى تم استبداله بإله آخر. آتون المتمثل فى شعاع الشمس، بدلا من آمون الذى يطل على البشر من خلال قرص الشمس، وأدى ذلك الاستبدال وقهر الناس على عبادة هذا الإله دون ذاك إلى فوضى كبيرة بالبلاد. وتدهورت أحوال مصر وتآكلت حدودها وعاث فيها الفاسدون والمواطنون غير الشرفاء وسكان العشوائيات، ومات أخناتون فى ظروف غامضة، وحاول وريثه على العرش «توت عنخ آمون» إصلاح الأحوال واستبدل بآتون آمون، مجدداً، لكن الأمور لم تستقم معه ومات هو الآخر فى ظروف غامضة. ولم تقع الفوضى فقد فوض المجلس العسكرى القائد الجنرال «حور محب» فى حكم البلاد، وتولى من بعده زميله الجنرال «رع مسيس» المعروف عند العامة اليوم باسم: رمسيس الأول، وتولى من بعده الجنرال ست تى المشهور باسم «سيتى» وتولى من بعده الجنرال رمسيس الثانى.. واستمر المسلسل وتوالت حلقات السلسلة السلطوية بالانتقال من قائد عسكرى إلى قائد آخر. وعاد «آمون» هو المعبود الأعلى فى سائر البلاد، وفشلت محاولة أخناتون لإزاحته ووضع الإله «آتون» فى مكانه.. فهل هذا هو المقصود من العبارة الشهيرة: مصر مهد التوحيد!.
أما «التوحيد» عند اليهود فحاله عجب، ليس فقط من حيث تعدد صورة الإله الأعلى وأسمائه: يهوه، ألوهيم، الرب، رب الجنود، أهيه الذى أهيه.. وإنما أيضاً بنص السفر الأول من أسفار التوراة «سفر التكوين حيث يقول النص الدينى بالحرف الواحد على لسان الإله الأعلى حين أكل آدم من الشجرة المحرمة وقال الرب الإله: صار آدم كواحد منا يعرف الخير والشر!.. كواحد منا «سفر التكوين، الآية 22».
والمسيحيون، خصوصاً الأرثوذكس، يقولون إنهم أهل التوحيد!، مع أن المسيحية معروفة بعقيدة التثليث، وليس التوحيد «الثلاثة لا الواحد»، لكنهم يقولون إن هذه الثلاثة هى «أقانيم» أى صفات أو طبائع أو تجليات لمعبود واحد، بدليل أن العبارة الشعار فى المسيحية تقول، كاملة: باسم الآب والابن وروح القدس، إله واحد، أمين «آمن، إمن، آمون».. وهذا عندهم هو معنى التوحيد.
■ ■ ■
أما فى الإسلام، حيث «التوحيد» هو أول ركن من أركان الدين، متمثلاً فى شهادة: لا إله إلا الله.. فقد وقع الاختلاف فى دلالة معانى التوحيد، فالمعتزلة الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «أهل التوحيد والعدل» يقولون إن معنى التوحيد عندهم هو أن صفات الله هى عين ذاته. فهو تعالى «واحد» بمعنى أن التعدد لا يجوز فى حقه ولا يصح فى ذاته لكثرة الصفات الإلهية. فهى عين الذات!، وفى مذهبهم، الله قادر بقدرة هى هو «أى عين ذاته»، وعليم بعلم هو هو «أى عين ذاته» وحىّ بحياة هى هو.. وهكذا فى بقية الصفات التى لا تخرج عن نطاق الذات، وليس زائدة عليها لأنها «هى، هو».
وطبعاً، المعتزلة مسلمون من أهل السنة، مثلهم كمثل الأشاعرة الذين يتبنى «الأزهر الشريف» اليوم مذهبهم فى أصول الدين، على اعتبار أنه مذهب وسطى بين المعتزلة ونقيضهم: المشبهة، المجسمة «أى القائلين بأن لله تعالى جسما وصورة كصورة الرجل!»، فكان توسط الأشاعرة فى مسألة التوحيد، توفيقياً، فقالوا إن هناك سبع صفات إلهية هى فقط التى تعد عين الذات الإلهية، وما عداها من الصفات زائدة على الذات أو ملحقة بها. والصفات السبع الذاتية عند الأشاعرة، هى: الحياة، الإرادة، القدرة، العلم، والسمع، والبصر، الكلام.. هذه فقط من عين الذات الإلهية، وهذا هو معنى التوحيد عند الأشاعرة.. طيب، إذا كان أهم ملمح من ملامح الدين الإسلامى «التوحيد» ليس متفقاً على مفهومه، وليس فيه ما يمكن وصفه بأنه معلوم بالضرورة. فكيف الحال مع بقية المعتقدات والمعلومات الدينية التى تأتى من حيث الأهمية، بعد التوحيد.. وبالتالى، فما هو المراد من قولهم المراوغ الذى صار اليوم قانوناً مدنياً يدخل الناس السجون بسببه، وقد تصل بعض عقوباته إلى الإعدام، عند إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
ما هو ذلك المعلوم من الدين بالضرورة؟، هذا ليس سؤالاً بلاغياً أو استنكارياً، وإنما هو استفهامى بسيط.. الذين يحاسبون غيرهم لإنكارهم المعلوم من الدين بالضرورة، عليهم أولاً وقبل المحاسبة أن يحددوا بدقة ذلك «المعلوم من الدين بالضرورة» كى لا ينكره أحد.
■ ■ ■
وختاماً، نورد فيما يلى بعضا من «عقيدة» الإمام عبدالقادر الجيلانى، أحد أجلاء الأولياء الكبار فى التاريخ الإسلامى. هو من القلائل الذين لم يختلف أحد على مكانتهم، سواء من أهل السنة أو الشيعة. يقول الإمام «المتوفى سنة 561 هجرية» معلناً عقيدته فى التوحيد، واختلافها عن عقائد الجماعات الإسلامية الأخرى، التى لم يخرجها الإمام الجيلانى من نطاق الإسلام، وإنما حدد فقط اختلافه معهم فى مفهوم التوحيد ودلالته الدقيقة:
الحمد لله الذى كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأين الأين وتعزز عن الأينية، ووجد فى كل شىءٍ وتقدس عن الظرفية.. سبحانه وتعالى، لا يسبق بقبلية ولا يلحق ببعديةٍ ولا يقاس بمثليةٍ ولا يقرن بشكليةٍ ولا يعاب بزوجية ولا يعرف بجسميةٍ.. هو واحد، رداً على البيانية (أتباع بيان بن سمعان التميمى، الزاعم بأن لله تعالى أعضاء، وبأنه يتحد بجزءٍ منه مع مخلوقاته)، صمد، رداً على الثنوية (وهم القائلون بإله للنور وإله للظلام. الصمد معناها ما لا باطن له، ومن تعمد إليه الأمور فلا يقضى فيها غيره).
لا مثيل له طعنا على الحشوية (وهم القائلون بأن لله تعالى جسما ولحما ودما وحشىً وأجازوا ملامسة الله).
لا كقوله، رداً على من ألحد بالوصفية (أى الذى يزعم أن صفات الله كصفات البشر.. وسوف نتوقف فى مقالة قادمة عند مفهوم الإلحاد)، لا يتحرك متحرك إلا بإرادته، رداً على القدرية (وهم القائلون بقدرة الإنسان دون إرادة الله، هم عدة فرق وجماعات).
لا تضاهى قدرته ولا تتناهى حكمته تكذيبا للهذيلية (أتباع أبى الهذيل العلاف المعتزلى القائل بتناهى قدرة الله وسكون أهل الجنة والنار فى خاتمة المطاف).
حقوقه واجبة ولا حق لأحد عليه، نقضا لقاعدة النظامية (أتباع إبراهيم النظام المعتزلى، القائل بأن الله لابد أن يفعل الأصلح، لأن هذا واجب عليه تعالى).
عادل لا يظلم، صادق لا يخلف، متكلم بكلام قديم أزلى أنزل القرآن فأعجز الفصحاء، إرغاماً لحجج المردارية (أتباع عيسى المردار المعتزلى، القائل بأن الناس يمكنهم أن يأتوا بمثل القرآن وبما هو أفصح).
يستر العيوب ويغفر الذنوب، ألف بين قلوب المؤمنين وأضل الكافرين، رداً على الهشامية (أتباع هشام بن عمر الفوطى، القائل بحرية الفعل الإنسانى وبإنكار التدخل الإلهى فى الإيمان والكفر).
■ ■ ■
وتستمر «عقيدة» الإمام الجيلانى، على هذا النحو السابق، فتستعرض المزيد من دلالات ومعانى المفهوم الأساسى فى الإسلام «التوحيد» وبيان اختلاف مذهبه التوحيدى، عن مذاهب وآراء وأقوال الفرق الإسلامية، التى لم تتفق على مفهوم محدد للتوحيد، بحيث يعد هو المعلوم بالضرورة.. ومن أراد النظر فى بقية هذا النص الحافل فعليه بالرجوع إلى كتابى: ديوان عبدالقادر الجيلانى، القسم الثانى.
**********************************

إعادة بناء المفاهيم.. الثابتُ والمعلومُ بالضرورة

اعتبار أن الثبات مفهوم إيجابى ومطلب إنسانى، أحياناً، وفى أحيان أخرى يدل «الثبات» و«الثابت» فى عقلنا الجمعى على معانٍ سلبية ونقيصة إنسانية. انظر مثلاً، كيف يتم تكريس ودعم فكرة الثبوت فى الأذهان، عبر الختام التقليدى للحكايات الشعبية التى عادة ما تحكى عن الحب والمغامرة، لتعويض افتقاد أفراد المجتمع للحب والمغامرة، ثم تنتهى النهاية السعيدة التى يتمناها بسطاء الناس، فيفوز المحب بمحبوبته ويُسدل الستار بالعبارة العامية الشهيرة: وعاشوا فى تَبَات ونبات وخلفوا صبيان وبنات.

وطبعاً، فالتَّبَات هنا هو «الثبات» منطوقاً بالعامية المصرية التى تكره النطق بحرف الثاء لأنه يقتضى إخراج جزء من اللسان!، وفى الوعى العام العامى ميل لاجتناب هذا الأمر، على اعتبار أن إخراج اللسان هو فعل الكلاب أو الأطفال حين يغيظ بعضهم بعضاً، أما الكبار فلا يجوز لهم ذلك أو لا يكترثون به. ولذلك يبدل المصريون التاء بالثاء، فينطقون «تلج، توم، تقيل... إلخ» أو يجعلون الثاء سيناً كما هو الحال فى النطق العامى لكلمات مثل: السواب والعقاب، السرى والسريا، الشواذ والمسليين... إلخ! وهو الأمر ذاته الذى تسير عليه العامية المصرية مع حرف الذال، الذى ينقلب على الألسنة إلى «زاى» لتلافى إخراج اللسان.


وبعيداً عن هذه المسألة الصوتية (الفوناتيك) فإن مفهوم الثبات فى الوعى العام، وبحسب ختام الحكايات بالتبات والنبات وإنجاب الصبيان والبنات، يبدو كأنه هدف الحياة وعنوان السعادة.. ولكن، وعلى العكس تماماً من ذلك المعنى، يتجلى اللفظ ذاته بمعناه السلبى، بوضوح، فى كلامنا العامى حين نصف الشخص السخيف ثقيل الحضور بأنه: تبت. وبهذا الوصف المشتق من المفهوم العامى للتباتة، المرتبطة بالثقل والسخف، تكون الإدانة والقدح باللفظ ذاته المستعمل لمدح الحالة المريحة والنهاية السعيدة للقصص والحكايات: التبات والنبات.
وعلى سبيل اللعب بالمفردات، جرى سياسياً استبدال اللفظ الدال على مفهوم «الثبات» المضطربة دلالته فى الأذهان، وتم استعمال لفظ آخر يختلف شكلاً ويتفق فى المضمون، هو: الاستقرار.. وقد رأينا فى تلك السنوات التى سبقت ثورة يناير 2011 كيف كان نظام مبارك يتغنى بمناخ الاستقرار ويمتدح الأحوال المستقرة باعتبارها نقيض الفوضى، وليس الحركة!، فوجود رئيس منتخب لمدة ثلاثين سنة، ليس استئثاراً بالسلطة وإنما هو استقرارٌ وثباتٌ لا بأس معه لو جرى توريث الحكم، لينعم الناس بمزيد من الاستقرار المضمون بدلاً من الفوضى العارمة. ولم تكن كلمة «الحرية» تعنى عند النظام الحاكم إلا تهديد الاستقرار العام، وكذلك كلمة ومفهوم «الحركة» التى ارتبط لفظُها بأسماء الجماعات المناهضة سياسياً للحكم الثابت «التبت» منذ قيام ثورة أو حركة الضباط الأحرار، جداً، باعتبارها الثورة المباركة وآخر الحركات والتحركات والحكومات التى يرأسها حكامٌ لا يتزحزحون أبداً عن الكرسى الرئاسى، إلا بالوفاة أو الاغتيال. فمن أراد غير ذلك فهو يحمل الصفة المذمومة سياسياً والمطاردة دوماً من جهة الأمن، أعنى صفة «حركة».. ولذلك كان يقال: حركة كفاية، حركة 6 إبريل، حركة تمرد!.
ولما بدا للناس أن الحركات نجحت فى بدايات العام2011 تعجلوا جمع الغنائم، وانتشرت تعبيرات: الحراك الثورى، الحراك السياسى، الحراك الاجتماعى.. ثم، فجأة، عاد معظم الناس إلى قواعدهم نادمين، واجتاحهم الحنين إلى زمن الاستقرار والثبات والتبات والنبات وبؤس الصبيان والبنات من الولادة حتى الممات.
لماذا؟
لأن هذه المفاهيم كلها بحاجة إلى ضبط دلالى وإعادة بناء على أسس واضحة تحدِّد: ما هو الثابت، وما هو الموقف العام من الثبات، وكيف تكون النجاة من التلاعب اللفظى بالمفردات، وما خطورة التشويش والاضطراب فى المفاهيم العامة والتصورات الأساسية، التى منها تشتق المفاهيم والتصورات الفرعية، التى بموجبها يتحدد السلوك العام والفردى.
إن الأفكار، إن كانت واضحة فى الأذهان، صارت الأفعال رشيدة. وبالعكس، إن اضطربت المفاهيم والرؤى صارت أفعالنا خبط عشواء، أى متضاربة لا تسير على نسق واحد نحو غاية محددة.
ويرتبط بفوضى مفهوم «الثبات» فى أذهاننا عملياتُ تحايلٍ واحتيال ومراوغة، غالباً ما تنطلق من (وتأسّس على) عبارات فضفاضة غير محددة الدلالة، من مثل قولهم: ومن الثابت علمياً، وقد ثبت بالتجربة، والثابت من الدين، والثوابت الاجتماعية.. وغير ذلك من العبارات الافتتاحية التى تسبق إيراد فكرة أو رؤية يراد الترويج لها، بتمريرها بالبدء بهذه العبارات الافتتاحية، فيقال مثلاً إنه من الثوابت الاجتماعية ارتباط المصرى بوطنه، وبالأرض!.. مع أن معظم المصريين إما مهاجرون أو ساعون إلى الهجرة. أو يقال إنه من الثابت، أن المصريين أكثر شعوب العالم تديناً! كما لو كان التدين هو مساحة يمكن قياسها بالأمتار، أو درجة حرارة تقاس بالترمومتر.
وكذلك قولهم «ثبت بالتجربة» الذى يشتمل على مغالطة خطيرة، هى اعتبار أن (التجربة) أمرٌ نقوم بفعله مرة واحدة فقط. مع أن لفظ التجربة لغة واصطلاحاً هو مفرد يعنى الجمع، فعندما نقول إن العلماء يتخذون التجربة منهجاً، فإن ذلك لا يعنى قيامهم بها مرةً. وكذلك حين نقول إن التجرية «خير برهان» فإن ذلك يعنى الدعوة إلى التجريب المستمر للتأكد من الصدق، وليس معنى العبارة أن هذا الأمر أو ذاك صار مبرهناً عليه لأنه جرب مرة.
ومع هذا الاضطراب فى مفهوم التجربة، تجدنا خلال الزمن الناصرى نقول «التجربة الاشتراكية» ثم نثبت عندها سنين ونستمسك بالتباتة، كما لو كانت هذه التجربة مفردا لا يجوز جمعه، وفعلا لا يصح تكراره. مع أن التجريب منهج يقتضى التكرار للتأكد، فإذا قلنا «التجربة الاشتراكية» كان من المفترض أن يكون ذلك، متضمناً اختبار نظريات أخرى وتجربتها لاختيار الأصلح.
ويظهر الارتباط التخييلى أو الوهمى بين مفهوم «الثابت» ومفهوم «المعلوم بالضرورة» فى مجال العلم ومجال الدين، حيث يتم التلاعب بالاضطراب الكامن فى هذين المفهومين، كثيراً فى هذين المجالين.. فلنتوقف فيما يلى عند المفهوم الآخر المرتبط بمفهوم «الثبات» لنرى معاً مقدار اضطرابه.
المعلوم بالضرورة
الضرورة تعنى الحتمية وعدم قبول الاحتمالات، وهى فى الأصل مفهوم منطقى يعود إلى التصور الأرسطى للقضية الكلية الموجبة، فحين نقول «كل إنسانٍ فانٍ» فهذا يعنى منطقياً أن حياة الإنسان الفرد مؤقتة لا محالة، ومن (الضرورى) أنه سيموت يوماً مهما امتد به الأجل.. لكن المنطق الأرسطى، منطقٌ صورى. يعنى يهتم بصورة الفكر، وليس بمادته. أو بعبارةٍ أخرى، يستند إلى شكل القضية، وليس صدقها الواقعى. هو إذن، نسق «استنباطى» تصدق قضاياه فقط داخل إطاره، يعنى لا يبحث عن الصدق خارج النسق. وكذلك حال الرياضيات، فهى الأخرى نسقٌ استنباطىٌّ لا يمكن النظر إليه من خارجه، ففى نسق «هندسة أُقليدس» تكون البرهنة، وفق البديهيات والمصادرات التى يقوم عليها هذا النسق، مثل مصادرات: المتوازيان لا يلتقيان، المستقيم هو أقرب خط بين نقطة وأخرى، مجموع زوايا المثلث 180 درجة.. وهكذا، لكن الحال ليس كذلك فى الهندسيات الأخرى: هندسة ريمان، هندسة لوباتشفسكى، الهندسة الفراغية. فكل نسق فى هذه الأنساق لا يصدق إلا داخل إطاره المرسوم بالبديهيات والمصادرات التى يقوم عليها، وبالتالى فالضرورة فيه محكومة به ولا يصح أن نقول: معلوم من العلم الرياضى بالضرورة.
أما العلوم الطبيعية، فليس فيها ما هو تام اليقين أو نهائى أو معلوم بالضرورة، لأن قوانين الطبيعة (الفيزياء) وما يرتبط بها من علوم وفنون كالطب والفلك والزراعة، هى قضايا علمية بمعنى أنها تقبل الاختبار والدحض والتكذيب، وليس العكس.. فمثلاً، من أشهر القواعد والقوانين الفيزيائية: المعادن تتمدّد بالحرارة. هذه القضية العلمية ليست ضرورية، ولا تامة اليقين، وإنما هى قابلة للتكذيب والاختبار التجريبى. ولذلك تظل قائمة ومعترفا بها، حتى يظهر معدن لا يتمدد بالحرارة. وقد شُرحت هذه النقطة بالتفصيل فى دراسات ومؤلفات فيلسوف العلم المعاصر «كارل بوبر» خاصة فى كتابه: منطق الكشف العلمى. وكذلك عند فيلسوف العلم المعاصر «توماس كون» خاصة فى كتابه: بنية الثورات العلمية.. فمن أراد النظر فى التفاصيل، فليعد إلى هذين الكتابين، أو إلى أى بحث معاصر فى فلسفة العلوم. أما ما يعنينا الآن، هنا، هو أن مفهوم «المعلوم من العلم بالضرورة» هو هراء لا معنى له، إلا فى حالة وحيدة هى إعادة صياغة العبارة، وبالتالى المفهوم، فتكون مثلاً: ما استقر عليه الرأى العلمى حتى الآن، هو كذا وكذا..
ونأتى للجانب الآخر، وهو المعلوم من الدين بالضرورة (وندعو الله أن يكون كلامنا خفيفاً على القراء، ومحبطاً للمتربصين المترصدين!)، فنقول إن هذه المقولة التى اعتبرناها بمثابة القاعدة، ثم صارت قانوناً وتم ترويجها على نطاق واسع فدفع كثيرٌ من النجباء ثمناً باهظاً لانتشارها، حين خالفوا ما هو «معلوم من الدين بالضرورة».. مع أنها عبارة فضفاضة لا تدل على مفهوم محدد، وتحتاج مراجعة على مستوى الصياغة، وعلى مستوى الدلالة والمعنى.
على مستوى الصياغة واختيار المفردات، لم تحدَّد العبارة بدقة معنى كلمة «الدين» عند قولهم: المعلوم من الدين بالضرورة.. فهل هو مطلق الدين؟ وهذا بالطبع لا يصح، لأن المعلوم من ديانة الهندوس يختلف عما هو معلوم عند المسيحيين، ومعلوم من البوذية ما يخالف المعلوم من اليهودية.. وهكذا!، فهل المراد بالدين هنا هو الإسلام تحديداً؟، وهذا بالطبع لا يصح، لأن فى مجتمعنا ملايين لا يؤمنون بالإسلام كديانة، وإنما يدينون بغيره كالمسيحية أو البهائية، والمعلوم عند أصحاب هذه الديانة أو تلك، يخالف ما هو معلوم عند المؤمنين بغيرها!، فهل المراد تحديداً: المعلوم من الإسلام بحسب عقيدة أهل السنة والمذهب الأشعرى الذى يستمسك به الأزهر الشريف؟، هذا أيضاً لا يصح، لأن هناك معلوماً من الأشعرية يخالف المعلوم عند المعتزلة والإباضية والإثنى عشرية... إلخ!، فما هو مفهوم «الدين» هنا، على وجه الدقة؟!.. هذا سؤال استنكارى وليس استفهامياً.
وعلى مستوى الصياغة أيضاً، ما معنى الضرورة؟، إذا كان هناك اختلاف كبير بين علماء الدين والمفسرين والمجتهدين، ليس فقط فيما يتعلق بالتفصيلات والدقائق الشرعية والمسائل الفرعية، وإنما فى أكثر معانى الدين الإسلامى عمومية واشتمالاً وهو «التوحيد». حتى إن الإسلام ذاته يوصف بأنه: دين التوحيد. والتوحيد، هو أول القواعد الخمس الذى بنى الإسلام عليها. فهل اتفق المسلمون قديماً أو حديثاً على معنى محدد للتوحيد، بحيث يكون هذا المعنى وحده هو المعلوم من الدين بالضرورة؟.. لا. ويعرف علماءُ الدين والمتخّصصون فى الفكر الإسلامى، أن العلماء والفقهاء الكبار اختلفوا فى مفهوم التوحيد الذى هو أهم وأشهر قواعد الإسلام (وسوف نتوقف فى مقالة قادمة عند «مفهوم التوحيد» بالتفصيل، لنرى كيف اختلف حوله القدماء والمحدثون)، لكن ما يهمنا الآن هنا، هو الإشارة إلى أن الزعم بوجود «معلوم بالضرورة» من «الدين» هو مجرد زعم يحتاج إلى إعادة نظر وإعادة اعتبار، وإعادة بناء لهذا المفهوم الفضفاض.. أو يتفضّل أحد الأجلاء من مشايخنا المعاصرين بإصدار قائمة بالمعلومات من الدين بالضرورة، كيلا يخالفها أحد فيقع تحت طائلة هذا القانون الصارم غير محدد الدلالة، الذى ذهب ضحيته كثيرون.. وكثيرون فى الطريق ينتظرون، ويترقبون هفوة أو تعبيراً غير دقيق أو اجتهاداً غير مألوف، فتكون المأساة الملهاة المعتادة.
■ ■ ■
وختاماً، فإن ما نحاوله هنا- من إعادة بناء المفاهيم العامة والتصورات الأساسية- هو فى قائمة المطاف اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، ولهذا فهو لا يدعى اليقين التام أو يزعم بأنه القول الفصل أو الختام الأخير.. هى دعوةٌ لإعمال العقل فى مفردات العقل الجمعى لإعادة بنائه على نحو أرشد وأكثر دقة ومناسبة لاستيعاب العالم وتطوراته السريعة.. هى فرصةٌ لتحرير العقول من موروثاتٍ لم تراجع، وتُركت مهملةً وتراكمت حتى صارت عائقاً أمام أى انطلاقة إلى غد أفضل وأكثر وعياً بالذات وبالآخرين.. هى الثورة الثقافية التى لا غنى لنا عنها.
**********************************


المعلوم من آليات التكفير بالضرورة

لمصطلح الملغوم «المعلوم من الدين بالضرورة»، وبالبحث في اجتهادات من يرددونه الآن يسهل تعريفه بأنه الثابت من أصول الدين بدليل قطعي أو بالإجماع، «ولا يجحده إلا كافر». ربما كان من الأجدى التمسك بثنائية «الحلال بيّن والحرام بيّن» بنص الحديث النبوي، وتيسير الدين على المسلم بإرجاعه إلى الأصول، فأركان الإسلام خمسة، أما الحرام فنصوصه صريحة في القرآن الكريم القائل «اليوم أكملت لكم دينكم»، وما كان المسلمون في القرون الأولى بحاجة إلى الانتظار حتى ينتهي الإمام البخاري من جامعه الصحيح، أو يأتي مجتهد ليصك هذا المصطلح الذي يوسع دائرة الحرام والشبهات، ويجعل الدين وظيفة لها رجالها.

يسارع رجال الدين إلى إنكار مصطلح «رجال الدين»، ويلصقونه بالمسيحية حين كانت للكنيسة وصاية على العقول وكلمة عليا حتى على الملوك. ولكن الممارسة تقول إن لدينا رجال دين، وإن غلوّهم وتضارب فتاواهم يوحيان بعدم ثقتهم بأن «هذا الدين متين»، ويكفي صموده في مواجهة مكائد بدأت بالمنافقين في المدينة، وقتال الخارجين على الدولة «حروب الردة»، وتنزيهه عن الفتنة الكبرى التي حارب فيها فريق من الصحابة فريقا آخر وقتل فيها عشرات الآلاف من المسلمين. ولو وعى رجال الدين حديث «إن الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه» ما ضرهم إفطار صائم، أو إعلان مسلم عن إلحاده، وما كرسوا جهودهم للبحث عن معايير الردة، للحكم على مسلم بالكفر، وفاء لوظيفة «رجال الدين».

ما يراه بعض الغلاة من الشيوخ جحودا في خطاب إسلام بحيري ليس بأخطر على الدين من شرور استبداد سياسي يتستر بخطاب الدين ويتحالف مع رجاله، إلا إذا كان هؤلاء «الغيورون» يداعبون مشاعر العامة بتخويفهم من استهداف الدين؛ لينصرفوا عن الشأن العام، ويصبروا على سلطان جائر.

إسلام بحيري تطاول على المذاهب الإسلامية وأئمتها، «إنه مرتد. ارتد (بهذا الكلام) عن الإسلام، لأن هؤلاء الفقهاء قيمة وقامة. ارتد لأنه يقوم بإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.. أما من ينتمون إلى داعش فلا أستطيع إخراجهم من الملة لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله». فتوى غير مفاجئة إلا في طريقة التصريح بها، لا يختلف في الاعتقاد بها قائلها عن زملائه، ولكنهم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لنا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق