الخميس، 21 فبراير 2019

كوميديا القراءة السلفية للتاريخ

كيف أن السلفيين التقليديين قلبوا المنهجَ العلمي رأسا على عقب؛ في محاولتهم تثبيت عقائدهم الموروثة التي تشكلت قديما بفعل تجاذبات السياسة وتدافع حركة المصالح، حتى وصل بهم الأمر إلى مطالبة أتباعهم أن يُصدّقوا المستحيلات؛ لا من مبدأ إيماني خالص فحسب، وإنما أن يسحبوا هذا المبدأ اللاّعقلي/ المستحيل منطقيا على منطق البحث العلمي؛ ليجبروه ـ 
ومن حيث هو علم تحديدا ـ على التصديق باللامعقول من المنقول.

 استخفاف مُسْتَفِز بالبديهيات العقلية
وتزييف سردية الوقائع المتواترة في كتب التاريخ؛ مع الزعم ـ في الوقت نفسه ـ أنها هكذا يجب أن تكون "تاريخا" في كتب التاريخ، وليس فقط مجرد "تهويمات ميتافيزيقية" في كتب العقائد.

إن المؤرخين الأوائل، وبعضهم رجال دين، أدركوا الوقائع بكثير من التجرّد النسبي الذي لا يتوفر الآن للمعاصرين من السلفيين التقليديين

إنك تجد المجتمعات التقليدية تنحاز عاطفيا ـ دونما أدنى تفكير موضوعي ـ إلى الأشجار أو الثمار أو الحيوانات التي تنتمي إلى عالمها، وتُحِسّ أنها منها بشكل أو بآخر. ولهذا تخترع لها خصائص وفوائد، بل ومعجزات أسطورية، ولا تكتفي بذلك؛ حتى تدفع بعض أبنائها لتأكيد تلك الخصائص والفوائد والمعجزات الأسطورية بالعلم، أو بما تزعمه علما؛ خاصة عندما يكون الزمن الذي تتموضع 
فيه زمن سيادة العلم على مستوى الوعي الجماهيري العام.


ما الذي يحدث عندما يكون التفاح أو الجزر هو المنتج القومي المتوارث لمجتمع تقليدي بدائي. لا شك أن هذا المجتمع التقليدي سيتعامل مع هذا المنتج وفق منطق السلفيين؛ بالمنهج العلمي معكوسا. لن يبحث ابتداء في فوائد وخصائص التفاح أو الجزر، ثم يقرر هل هي مفيدة فعلا أم لا؟ وهل تمتلك تلك الخصائص المزعومة أم لا؟ بل سيقرر منذ البدائية، وباعتقاد سابق ناجز، أن التفاح أو الجزر مفيد، وأن له تلك الفوائد التي قال بها الأسلاف، ثم بعد ذلك سيحاول تطويع المنهج العلمي ولو بـ"تعطيبه"؛ ليؤكد ما آمن به قبل البحث، أي ليؤكد معتقده الخاص في الجزر والتفاح، وهو المعتقد الذي يحاول نقله من حالة "الخصوصية العقائدية" المشروطة بظروفها إلى عمومية الموضوعية العلمية المزعومة؛ لتحقيق مزيد من الوثوقية العقائدية، بل ومزيد من الرواج العقائدي تحت شعارات تتوسل التصديق العلمي!


بهذا المنطق التقليدي العاطفي (منطق الاعتقاد الجازم، ثم البحث عن مؤكدات هذا الاعتقاد) تجد أن "الجمل" عند قوم ما، هو الحيوان الأجمل والأجمل...إلخ الصفات الإيجابية الأسطورية المزعومة، بينما تجد "الثور" عند آخرين هو الحيوان الأجمل والأكمل...إلخ الصفات الإيجابية الأسطورية المزعومة.


لا يحاول هؤلاء وهؤلاء البحث علميا في أثر البيئة في الاصطفاء والاختيار، ولا كيف تشكّلت الأساطير عبر تاريخ زمني طويل من الارتهان المعيشي إلى هذا الحيوان أو ذاك، بل سيجري توظيف كل شيء، حتى "العلم"؛ ليخدم المعتقد الأسطوري.
ولهذا لا تعجب عندما ترى التقليديين من هؤلاء/ أصحاب الأبل وهؤلاء/ أصحاب البقر، يمارسون الخرافة حتى في عصر العلم،
فالتجهيل الذي يمارسه التقليديون لتثبيت موروثهم الاعتقادي لا ينحصر في نطاق القضايا التي تتمحور أحاديثهم و"بحوثهم" حولها، وإنما يتسع بالضرورة ليُشَكّل عطبا عقليا أكبر وأخطر؛ إلى درجة تصبح معها الكوميديا الساخرة، العابثة حدّ الفشل؛ عاجزة عن اللحاق بسردياتهم التاريخية التي يصعب تقبّلها حتى بمنطق الهزل الكوميدي.
لكن، ما الذي استجد؟ ألم يكن هؤلاء التقليديون يصنعون سردياتهم العقائدية/ التاريخية التي يستخفون فيها بعقول الجماهير منذ القرون الأولى للهجرة؟ ألم تكن كل سلفية/ كل تقليدية منذ ذلك التاريخ تستجهل وتستغفل الأتباع بالتزييف المفضوح والاستغفال المُمَنْهَج، بل وتؤسس أيديولوجيتها على هذا الاستغفال والجهل/ التجهيل؟
وغدا الفرد يستمد معارفه وقناعاته من مصادر عالمية متعولمة، ولم تعد عقائد الاستسلام الأعمى للموروث قادرة على الصمود أمام كل هذا الاختراق.
القراءة العقائدية للتاريخ
الخضوع الأعمى/ الخضوع الكامل/ الخضوع اللامتسائل لكل تفاصيل المعمار العقائدي في كل خياراته الضيقة يصبح ـ في مثل هذا السياق التقليدي ـ شرطا أوليّا لتحقيق أدنى درجات الإيمان.
هنا، لن نتناول العقائد الميتافيزيقية التي احترب حولها المتكلمون العقائديون منذ العصور الأولى، وتعصب كل واحد منها لتفاصيل معتقده وكأنه يرى "تفاصيل عالم الماوراء" رأي عين. بل سنتحدث عن عقائد تفصيلية/ فرعية، تأسست حول/ وعلى وقائع تاريخية حدثت بالفعل في مجملها،
الحرج الديني لمن يرونها تربك "تصوراتهم الحالمة/ المتخيلة" عن زمن ماض مُقدّس بأشخاصه ووقائعه ومقولاته.  بل هو "زمن مقدس" مشاع،
لم يكن الوعي الإسلامي في القرون الهجرية الأولى قادرا على استيعاب حقيقة أن أشخاصا تَمثّلهم في وعيه بصورة ملائكية، قد ضرب بعضهم بعضا بالسيوف، وطعن بعضهم بعضا بالرماح، ومزق بعضهم أجساد بعض، وأزهق بعضهم أرواح بعض؛ بينما الصورة المتخيلة (الصورة التي يستمدون ملامحها من صور التعاضد والتناصر في سياق الحضور النبوي المبهر زمن نضال التأسيس) أن أحدهم يؤثر صاحبه على نفسه ولو كان به خَصَاصة، وأن كل واحد منهم يفدي الآخر بنفسه...إلخ الانطباع المُتخيّل الذي يجري تعميمه وتعميقه فيما يتجاوز وقائعه الخاصة، في حده/ مستواه الخاص، وزمنه الخاص.
لقد كان الوعي الإسلامي، اللاحق لزمن تلك الأحداث، يتعرض لمأزق خطير على المستوى النفسي، قبل العقلي. كلما ابتعد المسلمون عن زمن الحدث/ الوقائع؛ ارتفعت درجة قداسة الأشخاص الذين شكّلوا عصب تلك الوقائع، وكلما ارتفعت درجة القداسة؛ ارتفع مستوى التأزم والحيرة والاضطراب.
بهؤلاء المتوهجين بإيحاءات القداسة على مستوى الافتراض الأخلاقي والديني، وبين ما جرى على أيديهم حقيقة؛ مما هو متواتر مؤكّد معزّز بكثير من شواهد التاريخ.
طبعا، اختلفت الفرق والمذاهب في محاولاتها لرأب هذا الصدع الكبير المؤلم على المستوى النفسي والعقلي، ومن ثم على المستوى العقائدي. وكان لكل فريق مذاهبه وطرائقه في التزييف والتحوير والتبرير من أجل بناء المعمار التديّني المتناسق القادر على توفير الحد الأدنى من الإقناع للاتباع. وبما أن ما يهمنا في هذا السياق هو المحاولات السنية التي يعتمدها أغلبية المسلمين الآن، وتؤثر ـ بالتفاعل الإيجابي معها، أو السلبي ضدها ـ على بقية المسلمين.
حاول المسلمون السنة في البداية فرض عقيدة السكوت/ الصمت (الإمساك عما شجر بين الصحابة)، أي الادعاء بأن هذه خصومات الكبار، صراع بين الآباء المؤسسين، وليس للصغار (والصغار هنا هم كل المسلمين من غير الصحابة) التحدث بما فعله الكبار؛ لأن الكبار أعلم بما يفعلون، وهم مصيبون على أي حال!
هكذا جرى تديين الصمت كفاعلية سلبية، وترفيعه ليكون عقيدة الأمة في رؤية هذه الوقائع. وطبعا، الصمت هنا نابع من يقين ناجز بأن مجرد الكلام على ما حدث في الزمن القريب المشهود بأحداثه الطازجة كفيل بإرباك المشهد الذي بدأ في نمذجة اللحظة السابقة؛ تلك النمذجة الحالمة الواهمة التي كانت جزءا من حركة الاعتراض على الحاضر، حاضر الأمويين والعباسيين المتخم بكل صور الظلم والطغيان والقهر والصراع الدامي على السلطة، بين الأشقاء من جهة، وبينهم وبين أبناء العم وبقية الطوائف من جهة أخرى.
حقا، لم تستطع "عقيدة الصمت التام" أن تصمد أمام اشتعال النقاشات التي تريد خلق مشروعيتها من ذلك الصراع التاريخي. أصبح الجميع يتحدثون عن تلك الأحداث، يحللونها، بل ويتخذون مواقف دينية وأخلاقية حيالها. لهذا، عمد السلفيون الأثريون من أهل السنة إلى تعديل "عقيدة الصمت التام"، أو تحويرها؛ لتكون "عقيدة الصمت عن تقييم ما فعله الكبار"، أي أن يكتفوا برواية الأحداث وفق ما يرونه موثوقا، ثم يكفون عن تقديم أي رأي تقييمي حيالها؛ لأن مثل هذا التقييم كان يعني قلبا للتصور الزمني السائد رأسا على عقب، ومن ورائه التصور الأخلاقي. فلا شيء أفدح، وبل ولا شيء أشد وقاحة ـ وفق هذا التصور التقليدي الأبوي ـ من أن يقوم الصغار/ الأبناء بتقييم ما فعله الكبار/ الآباء. هذا اجتراء على أصول المرجعية، اجتراء يحكم الوعي التقليدي باستحالته أخلاقيا، إن لم يكن باستحالته ـ وفق ما يتوهمون ـ معرفيا.
لكن، ومع كل هذا، اتضح أن "عقيدة الصمت عن تقييم ما فعله الكبار"، لم تكن مجدية، خاصة وأن الآخرين المخالفين يَتحدّثون ويُقيّمون، فكيف يكتفون برواية الأحداث، ويتركون التقييم لخصومهم؟!. لهذا، بدأ السلفيون التقليديون/ الأثريون في فرض قراءة تقييمه خاصة بهم، وتنازلوا عن عقيدة الصمت فعليا، حتى وإن استمروا في التأكيد عليها نظريا (بقيت كنظرية يجري تمريرها على العوام؛ حتى لا ينفتح باب الأسئلة البريئة المحرجة التي تصدر عن مبادئ أخلاقية فطرية)، فكانت العقيدة المُقرِّرَة للقراءة الخاصة، تفترض تحييد العقل في هذا المجال، ونقل تقييم الوقائع من عالمها الفعلي: عالم الواقع المرئي/ المشاهد، عالم الشهادة، عالم البشر، إلى عالم آخر، عالم الماوراء/ عالم الغيب، العالم الذي يستطيعون تشكيله وتكييفه وفق تصوراتهم الخاصة؛ دونما ارتهان إلى تفاصيل ما حدث فعلا في الواقع.
 فأنت تبحث في الأمر، وتجمع الوثائق فيه، وتفحصها، ثم تبني تصورّك/ عقيدتك عنه بناء على ما توفر لديك من معلومات موثوقة. بينما السلفيون التقليديون هنا ساروا في اتجاه معاكس تماما لأي منهج بحثي أو تصور منطقي، فقد قرروا عقيدتهم في الأشخاص والوقائع أولا، ثم وضعوا الأحداث والوقائع تحت رحمة الفرز والتفسير والتكييف العقائدي الخاص المتشكل سلفا. فمثلا، افترضوا نزاهة قادة الأحداث وتجردهم التام من أي مطمح سياسي أو مطمع دنيوي؛ قبل أن يبحثوا في دلالة الوقائع والمقولات والقرائن على ذلك، بل دون أن يهتموا بكون الوقائع والأحداث والمقولات والقرائن تقول صراحة بعكس ذلك.
هنا، لا يجري تزييف التاريخ، ولا تزوير الوقائع فحسب، وإنما يجري ـ في العمق ـ تزييف الوعي وتجريف العقل، وخلق حالة من "الدروشة البحثية" التي تتزيّا بزيّ العلم، بينما هي تنقض منطق العلم من أساسه. إنهم يريدون من أبتاعهم أن يُصدّقوا بالمستحيلات؛ لا من مبدأ إيماني خالص فحسب (فهذا مقبول في حدود منطق الإيمان)، وإنما أن يسحبوا هذا المبدأ اللاّعقلي على منطق البحث العلمي ليجبروه ـ ومن حيث هو علم تحديدا ـ على التصديق بالمستحيلات، بل وعلى افتراض كل هذا العبث علما. بمعنى أنهم يريدون، وبمنطق عقائدي خاص، تغيير الوقائع المتواترة في كتب التاريخ، مع الزعم ـ في الوقت نفسه ـ أنها هكذا يجب أن تكون في كتب التاريخ، وليس فقط في كتب العقائد!.

حتى الصحابة لم يطبقوا المنهاج النبوي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق