الخميس، 21 فبراير 2019

محمد محمود

تساؤلات حول الإجماع الفقهي

 أصل "الإجماع" الذي يعدّه أهل السنّة: المصدر الثالث للتشريع الإسلامي بعد القرآن والحديث النبوي، وسنرى كيف ولماذا اختُرع هذا الأصل، ثم كيف تحوّل من اجتهاد ظني إلى أصل لا يجوز التوقف حياله ولو بقليل من الاعتراض؛ حتى وصل الأمر بكثير من الفقهاء إلى تكفير منكريه، وتسامح بعضهم الآخر فقام بإخراج المنكرين له من الدائرة السنية (التي يعدونها الممثل الشرعي والوحيد والأكمل للصواب الديني) إلى دائرة أهل الفسق والزيغ والبدعة والضلال!

بداية، ما هو الإجماع في اصطلاح الفقهاء؟ كغيره من مفردات الفقه التقليدي تكثر تعريفاته، ولكن أشهرها عند الأصوليين أنه: "اتفاق مجتهدي أمة محمد ـ ص ـ بعد وفاته في حادثة، على أمر من الأمور الدينية في عصر من العصور". وطبعا، يدخل على هذا التعريف عدة إشكاليات في كل جزئية منه، سنعرض لبعضها لاحقا. لكن المهم أن مصدرا/ أصلا له كل تلك الأهمية المحورية/ التأسيسية في التراث الفقهي، ثم يبقى غير منضبط التعريف، بل وغير مُجْمع في تعريفه على أي جزئية من جزئياته. فكيف يُحْتَكم في تثبيت أصل "الإجماع" إلى ما يفتقر ـ حتى في أصل تعريفه ـ إلى الإجماع؟!

أما سؤال: لماذا حرص الفقهاء في بدايات عصر التدوين على اختراع هذا المصدر، وكافحوا لتثبيته في سردية الأصول الفقهية؟ فالجواب على هذا ـ كما يرى كثير من الباحثين المعاصرين ـ موجود في جدلية الصراع بين الفقهاء من جهة، والخلفاء والأمراء من جهة أخرى؛ أواخر العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، حيث وجد فيه الفقهاء ضالتهم، أقصد الفقهاء الذين كانوا يطمحون إلى توسيع نفوذهم/ هيمنتهم على الواقع، وجعلها تتمدد على مساحة أوسع من دائرة تخصصهم الديني، بضمها لمساحات من المجال الدنيوي عبر وسيلتين أضافوهما إلى مصادر التشريع، وهما: الإجماع والقياس.

بمعنى أن الفقهاء آنذاك، وجدوا أن الأوامر/ الواجبات، والنواهي/ المحرمات التي وردت فيها نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، قليلة جدا. ومن ثم، فهي من جهة؛ يكاد يعرفها جميع المؤمنين، فلا يحتاجون إلى الفقهاء فيها (وهنا تضعف سلطة الفقيه)، ومن جهة ثانية؛ مساحة الدنيوي التي هي فضاء الفعل للسياسي واسعة جدا، فلا طريقة لتقليص هذه المساحة إلا باستتباعها للديني، أو على الأقل، استتباع أكبر قدر منها (الصراع على المجتمع بين الخليفة والفقيه).

وهكذا، يستطيع الفقهاء إذا أجمعوا على أمر، أن يقتطعوه من مساحة صلاحية الخليفة ونوابه/ الأمراء؛ فيضعوه تحت سيطرتهم؛ مؤكدين أنهم إنما يضعونه تحت سيطرة الدين، وهم ليسوا إلا متحدثين بلسان الدين/ مُوقّعين عن رب العالمين؛ كما يقولون!

لكن، كيف يُقنع الفقهاءُ المجتمع/ المتلقي بأصالة هذا المصدر الذي سيجعل لهم سلطة تشريع يُشاركون بها قدسية/ سلطة النص الأصلي؟ لا يمكن أن يقتنع الناس ـ بمجرد الدعوى ـ أن الفقهاء لهم صلاحية النبي في استصدار حكم شرعي منسوب إلى الله. لإقناعهم، كان لا بد من استحضار أدلة تؤكد أصالة هذا المصدر المستحدث، الذي يراد له أن يكون ثالث مصادر التشريع، بل وأن يكون حاكما على المصدرين الأولين: القرآن والسنة؛ كما صرّح بذلك بعض الفقهاء، فالغزالي مثلا، يقول في المستصفى: "فينظر أوّل شيء في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعا، ترك النّظر في الكتاب و السنّة، فإنّهما يقبلان النّسخ، والإجماع لا يقبله. فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنّة دليل قاطع على النّسخ؛ إذ لا تجتمع الأمّة على الخطأ".

لقد استدل الفقهاء بأدلة غير مقنعة بأي حال، فهي إما أنها غير قطعية الدلالة، أو غير قطعية الثبوت. أي أنها في كل أحوالها "ظنية": ظن دلالة أو ظن ثبوت، ومع ذلك يراد لها تثبيت "أصل الإجماع" الذي بتثبيته يتقرر أن رأي البشر غير المعصومين يصبح حكما إلهيا معصوما.

لا دليل ينهض للقطع بأصل الإجماع. لا يوجد دليل واحد قطعي الثبوت قطعي الدلالة يؤكد هذا الأصل. ثم على افتراض (وهو افتراض غير متوفر بالقطع) أن ثمة دليلا صحيحا صريحا على الإجماع، فإن الخلاف الكبير والمتشعب في تطبيقه/ تنزيله على أرضية الواقع الفقهي يكفي لتقرير استحالة أن يدخل في دائرة الممكن كرأي؛ فضلا أن يكون أصلا حاسما في التشريع.

وكما حدد بعضهم الإجماع بالصحابة حصرا، فقد حدده بعضهم بصيغة أكثر عموما، فزعم أن الإجماع هو فقط إجماع "السلف الصالح"، هكذا بالعموم، مع تعذر تحديد من هم السلف الصالح، إذ بينما يدخل فيه أفراد؛ يخرجهم منه آخرون. يقول ابن تيمية في العقيدة الواسطية: "والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة". وابن تيمية والسلفيون يحددون ثلاثة قرون كحد زمني أقصى لوجود السلف الصالح. ومن ثم فهو هنا يقع في اضطراب كبير عندما يربط علة حصر الإجماع فيهم بكثرة الخلاف وانتشار الأمة بعدهم؛ لأن الأمة انتشرت وتوزعت في الأقطار في سنوات الفتح الأولى، وكثرت خلافاتها بعد أقل من ثلاثة عقود.

والأخطر من كل ذلك هو استحالة ضبط وتحديد من هم "الفقهاء المجتهدون" الذين يتحدد بهم الإجماع، وينتقض الإجماع بخلافهم. مَن هو الذي يقرر أن هذا الفقيه أو ذاك مؤهل للاجتهاد، خاصة وأن الفقهاء يؤكدون أن لا كهنوت في الإسلام، وبالتالي، لا اعتبار لتشكيل مؤسساتي في تحديد من هم "الفقهاء". وإذا كان الفقهاء المجتهدون يصبحون فقهاء مجتهدين بشهادة أقرانهم، فهل يخرق هذه الشهادة العامة واحد أو اثنان، ومن أين استمد الفقهاء الشهود مشروعية شهادتهم. ثم إذا تحدّد ـ افتراضا؛ وإلا هو مستحيل قطعا ـ مَن هم أهل الاجتهاد، فسيأتي السؤال السابق: هل يخرق الإجماع العام واحدٌ أو اثنان، يعني لو أجمع 1000 فقيه، وخالف واحد أو اثنان...إلخ، ما العدد الذي ينقض، وما أدلة تحديد العدد إن وجد...إلخ الأسئلة والاعتراضات التي تُبيّن كيف أن هذا الأصل/ الإجماع ليس هو بذاته محل إجماع أصلا، بل هو أرضية لخلاف واسع جدا؛ بحيث يستحيل أن يكون نقطة انطلاق لتحقيق توافق رؤيوي على أي صعيد.

وأخيرا، يبقى أن أشد ما في هذا المبحث الأصولي غرابة، أن هناك من الفقهاء من قال بكفر من يجحد الإجماع؛ على الرغم من كل هذا الخلاف الكبير حول كل شيء في مسألة الإجماع. كيف يُكفّر الإنسان إذا لم يعتقد بقضية لم يتفق القائلون بأصوليتها على أهم مُحدّداتها، فضلا عن تفاصيلها أو هوامش التفاصيل؟!

+++++++++++++++
التجديد الديني وأزمة الفقه التقليدي


لقد نشأ الفقه التقليدي ابن ظروفه تماما، أي أن البيئة التي تشكّل فيها هي التي صنعته، وحددت مساراته، وراكمت قدسيته عبر تاريخ طويل من التكرار والتأكيد؛ عودا وبدءا على الأصول والفروع، تعضيدا وتفسيرا وشرحا وتهميشا؛ حتى أصبحت أصوله/ أصول الفقه (تلك الأصول التي بدأت ظنية وخلافية وجدلية)، قطعية ويقينية، يُحتكم إليها ولا تُحاكم، ويُجدّد على ضوئها ولا يمسها التجديد. وبهذا تحول التجديد الديني في هذا العصر ـ وفرعه: التجديد الفقهي ـ إلى مجرد استعادة بليدة لفتاوى قديمة تمتعت بانفتاح نسبي يقوم على قاعدة التيسير، ورفع الحرج، والأخذ بأصل الإباحة؛ دونما فحص وتفكيك للأصول الحاكمة؛ ودونما حفر في الطبقات الغائرة التي تمتد فيه جذور هذه الأصول.

هذا الأصل/ الإجماع محل خلاف واسع وطويل، بحيث لم يتوفر له الإجماع حتى على أشد مفاصله وضوحا وأهمية. ولا شك أن الاضطراب الفقهي/ الأصولي الشديد المتضمن لكثير من الإشكاليات بدا واضحا من خلال ذلك العرض الموجز الذي اعتمدنا فيه على طرح الأسئلة على مسار الـتأصيل الفقهي لأصل الإجماع.

 طبيعة الممارسات الفقهية التقليدية التي بقيت إلى اليوم محصّنة ضد النقد والمراجعة الجذرية، وذلك لأسباب تتعلق بتجاذبات إرادة الهيمنة، وتقاطع المصالح بين الفقهاء ومنافسيهم في رموز الهيمنة الاجتماعية، إضافة إلى حالة الانحطاط والتخلف الجمود التي تعيشها الأمة الإسلامية منذ ألف عام؛ 
ولا تزال.

 "الإمام الشافعي" هو المؤسس الحقيقي لعلم أصول الفقه، ذلك العلم الذي يؤسس لسلطة الفقيه؛ إذ هو/ الشافعي لا يخلو من طموح سياسي مضمر يمليه عليه كونه "هاشميا"، أي من الأصل الذي كان محل النزاع في الشرعية السياسية، فالدولة العباسية التي قامت قبل مولد الشافعي بعقدين تقريبا، كانت تؤسس شرعيتها على القرابة النبوية، وأهم الثورات التي قامت ضدها في هذين العقيدين وما تلاهما كانت ثورات تتوسل بالقرابة لتدعيم شرعيتها، بل إن الشافعي ذاته اعتقل زمن الرشيد بـ"تهمة سياسية" تتعلق بالطموح السلطوي. ولا يهم هنا ثبات التهمة من عدمها؛ بقدر ما يهم ثبات أنه اعتقل بسببها، وأن السلطة آنذاك كانت ترتاب به في هذا السياق السياسي.

قال الشافعي: سل. قال ما الحجة في دين الله؟ فقال الشافعي: كتاب الله. قال: وماذا؟ قال: سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: ومن أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله؟ فتدبر الشافعي ساعة. فقال الشيخ أجلتك ثلاثة أيام، فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب، فلم يخرج أياما. قال: فخرج من البيت في اليوم الثالث، فلم يكن بأسرع أن جاء الشيخ فسلم، فجلس، فقال: حاجتي؟ فقال الشافعي: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {ومن يُشاقِقِ الرسولَ مِن بَعد ما تَبَيّنَ له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. ثم قال الشافعي إنه استعرض القرآن من أوله إلى آخره ثلاث مرات؛ ليبحث عن دليل قرآني على حجية "اتفاق الأمة"/ الإجماع الذي ذكره للشيخ كمصدر ثالث للتشريع، حتى وجد هذه الآية التي رآها دليلا.

ليس المهم هنا كون هذه الآية ظنية الدلالة، إذ تدخل الاحتمالات في تأويلها/ تفسيرها (وما دخله الاحتمال بطل به الاستدلال)، وإنما المهم والخطير هو أن الشافعي قرر الحكم قبل معرفة الدليل، ثم بحث للحكم عن دليل. إذن، ليست الأدلة النصوصية هي التي أسست للحكم، بل هو "رأي الشافعي" الذي اعتقده أولا، ثم كان البحث عن أدلة تدعم "وجهة النظر الخاصة"، ولو 
بالاعتساف.

على هذا المنوال سار ويسير الفقهاء في الأغلبية الساحقة من أحكامهم التي هي نتاج تصوراتهم، تلك التصورات الخاصة والظرفية التي تتشكل بفعل عوامل كثيرة تسبق النص الديني، منها: الوسط الثقافي والاجتماعي، والطبيعة النفسية للفقيه، والمطامع والمطامح الخاصة، وتوجهات القوى الاجتماعية والسياسية النافذة...إلخ، ثم يكون الاحتشاد لدعمها بالأدلة الشرعية والحِجَاج العقلي، وفي حال امتلاكهم شيئا من سلطة مباشرة أو غير مباشرة، فهم لا يتورعون عن إسكات المخالفين لهم في "أحكامهم الاجتهادية"، تلك الأحكام التي يطرحونها وكأنها تمتلك قداسة النص الديني/ الإلهي مطلق الصواب.

إضافة إلى كل هذا، فالإجماع يحمل بمنطقه ـ كما قرره ويقرره الفقهاء ـ مضمونا خطيرا لا يقصدونه، وهو أن الدين ـ من حيث هو دين خالص ـ لم يكتمل بوفاة النبي ـ ص ـ؛ بدليل أن ثمة بشرا يستطيعون إضافة ما ليس منه أصالة إليه، وأن هذه الإضافة تصبح ـ وفق ما يقررونه ـ من أحكام الدين. فالتشريع الديني يستمر بواسطة الإجماع مع أن الزمن المقدس للتشريع قد انتهى.
ومن هنا تصبح إدانة "البدعة" التي يُدينها الفقهاء، وخاصة في المجال الديني الخالص، لا معنى لها حقيقة؛ حتى في المجال الديني الخالص؛ لأن الإجماع يُشرّعها ضرورة؛ ولكن بشرط توافق المجتهدين ـ في عصر ما ـ عليها.
بل وتصبح العصمة لـ"غير النبي"، وهي من أهم ما يُشَنّع به السنة على الشيعة، متحققة للفقهاء السنة المجتهدين بفعل أصل الإجماع. ولا فرق هنا سوى أنها عند الشيعة في مجموعة أفراد معدودين محددين، بينما هي عند السنة في مجموعات أكبر، يجمعها زمان أو مكان؛ حسب خلافهم في تحديد من ينعقد بهم الإجماع.
وإذا كان السنة يستدلون على هذه العصمة بحديث ظني (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فإن الشيعة يستدلون بأحاديث أخرى؛ فضلا عن آيات قرآنية يتأوّلونها. ولا شك أن في كل هذا ما يدل على أن طبيعة التصور عند هؤلاء وهؤلاء واحدة؛ حتى وإن اختلفوا حدّ العداء والاستعداء، فالمسألة تتعلق بتشريع العصمة، ومن ثم بتشريع الإضافة، بصرف النظر عن التدليل والتعليل.
 "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين...إلخ"، فهذا الحديث الذي يريدون به تعزيز حجية الإجماع ينطق برفض حجية الإجماع صراحة، إذ الحق ـ وفق هذا الحديث الظني ثبوتا ـ في "طائفة من الأمة"، وليس في عمومها الذي يتحقق به الإجماع، أي أن الحق يكون في مثل هذه الحال ـ مع أقلية من الأمة، بينما عموم الأمة قد وقعت في الضلال!
هكذا يتضح بجلاء أن الفقه التقليدي غير قادر على الثبات أمام بضعة تساؤلات عابرة تحفر في أصوله؛ فكيف لو تم إخضاعه لمساءلة نقدية موضوعية شاملة لكل عناصر بنائه، ولكل مراحل تشكله؟! وإذ يتأكد عجز الفقه التقليدي عن توفير الحد الأدنى من المعقولية لمنطقه الاستدلالي حتى في أصوله؛ فإنه يتأكد بالمقابل ضرورة الاحتشاد لتجديد المنظومات الفقهية السائدة في العالم الإسلامي وفق المقاصد العليا للتشريع، وعلى ضوء مستجدات العصر؛ وإلا فإن المسلمين سيبقون أسارى الرؤى القديمة التي تسببت لهم في كل ما يعانونه الآن من مآسي وتأزمات واختناقات حضارية، لا تزال تبعدهم أكثر فأكثر عن فضاء العصر الحديث.

 ما تراه دينا صريحا في الواقع، أو هو ما تسمعه صراحة من رجل الدين/ الواعظ الديني الذي يعلن ـ بكل وضوح ينبض بالثقة الساذجة ـ أنه يتحدث بلسان الله؛ كواسطة بين السماء والأرض، بين الله والإنسان!

++++++++++++++++++++

ما بعد عصر الفقهاء

 الجابري يؤكد على أن العقل الفقهي هو المُتسيّد/ المُهيمن على مجمل حراك الحضارة العربية على امتداد تاريخها الطويل. وطبعا، ليس الجابري هو الوحيد في هذا التأكيد، فهذا الرأي هو رأي معظم الدارسين للتراث العربي؛ إذ يبدو بوضوح أن العقلية الفقهية كانت تصوغ وعي الجماهير على مدى قرون متطاولة، وأنها انطبعت ـ إلى درجة كبيرة ـ بشعبوية جماهيرية؛ بقدر ما كانت هذه الجماهيرية الشعبوية تنطبع بها، بل وتخضع خضوعا تاما لهيمنتها المتصاعدة التي ترسخت مقوماتها في الواقع العملي منذ البدايات الأولى لعصور الانحطاط، وكانت تتساوق معه باطراد.

التاريخ البعيد والقريب. لكن ماذا عن الحاضر، هل لا يزال العقل الفقهي هو المهيمن؟ هل لا يزال هو المُسيّر لمجمل الحراك الجماهيري، وبالتالي، هو الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن بؤس الواقع؟

يبدو أن المشهد الجماهيري الذي يهيمن عليه الفقيه/ الواعظ في طريقه إلى التلاشي
 الانفتاح على المعرفة المعاصرة بكل تحدياتها التي تزلزل العقل الفقهي من أعماقه، فإن ضعف البنية الداخلية للعقل الفقهي، وتناقضاتها الداخلية، وبساطة مخرجاتها، ربما تكون أهم هذه الأسباب.

إهماله للهوامش والفرعيات غير الضرورية (وهي التي كان يحتاج فيها العامي إلى الفقيه)، إضافة إلى توفر المعلومات الفقهية الجاهزة، وكونها أصبحت في متناول أصابع اليد بمسحة عابرة على شاشة الجوال، كل هذا يشير إلى أننا بدأنا عصر نهاية الفقهاء.

فالمسلم المعاصر بدأ يدرك بوضوح أن "الفقه" لم يكن علما منضبطا بالدرجة التي كان يوهمه بها الفقهاء والواعظ/ الدعاة، بل إن الاضطرابات والتناقضات والفوضى العارمة في الاجتهادات بدت وكأنها تؤكد له أن الفقه ليس علما؛ بقدر ما هو مجموعة من الانطباعات الشخصية/ الذوقية التي تشكل تهميشا على المرويات الدينية

"التقعيد العلمي" لو كان له طابع العلم لم تنقلب الأحكام عند الفقهاء من النقيض إلى النقيض. فمثلا، ما يراه فقيه من الفقهاء (جهادا/ ذِرْوةَ سَنام الإسلام/ أفضل الأعمال بعد الصلاة وبر الوالدين... إلخ) يراه فقيه آخر (عدوانا وقتلا، وجزاء صاحبه الخلود في النار)؛

الاختلافات الفقهية وما تنطوي عليه أحيانا من تناقضات عميقة كانت موجودة منذ فجر التاريخ الفقهي. لكن، ما استجد الآن، هو معرفة عموم الجماهير بهذا، وسماعهم به، وتكرره بشكل بدأ يشكل تحديا جديا لعقولهم التي تحاول التماس مع عصر العقل. قبل هذا الانفتاح الإعلامي/ التواصلي، كان عموم الناس يتبعون فقهاء من مدرسة واحدة، ومن بيئة واحدة، تقلّ فيها الخلافات أو تنعدم. ولهذا لم يكونوا يتصورون أن ما يرونه حراما قطعيا؛ بحكم فتوى فقهائهم، يراه فقهاءُ آخرون حلالا قطعيا. كان يستمعون لفقهائهم ويتصورون أنهم ينطقون بالحق المبين الذي لا مِرْية فيه، وأنهم يصدرون بهذا عن مشكاة النبوة؛ "موقعين عن رب العالمين!".

يطلق على "العلم الشرعي" مصطلح "علم" من باب المجاز أو من باب المقاربة/ المشابهة للإجرائيات العلمية

أول ما سمعت الجماهير بالخلافات والتناقضات الفقهية أصابها ما يشبه الصدمة، فبادرت تحتمي منها بتكذيبها، وإخراج ما لم تعتد عليه من دائرة الفقه الصحيح، لكن، بعد تواترها بدأت الثقة تتزعزع بالفقهاء المعاصرين؛ إذ تصورت هذه الجماهير التقليدية المنغلقة على تراثها الخاص أن هذه الخلافات والتناقضات ما هي إلا نتيجة تحولات الفقهاء المعاصرين، الذين بدأوا يتغيرون ويتنازلون تحت وطأة التحديات المعاصرة، وأن الفقه كعلم راسخ في التاريخ بريء من كل هذا الاضطراب الفوضوي، الذي بدأ يعصف بما كانوا يظنونه من البدهيات التي ليست محل نقاش.

أتذكّر الآن كيف كان الاضطراب الجماهيري الكبير بداية الانفتاح الإعلامي/ التواصلي، قبل خمسة عشر عاما تقريبا، وكيف كنت بحاجة إلى لفت انتباه الجماهير المتدينة إلى أن ما كانت تظنه "قطعيات الدين" ليست أكثر من انطباعات ذوقية تقارب النص الديني. كنت أقول بكل تبسيط ووضوح يشترطهما الخطاب الجماهيري: ليست التحولات التي نراها في المشهد الفقهي بجديدة، وأن مَن يأخذه العجب من انتقال الفتوى من النقيض إلى النقيض فهو لم يتمتع بالسياحة الفكرية في المدونات الفقهية المعتمدة في الخطاب الشرعي/ الديني.

لقد كنت بحاجة إلى التأكيد على أن تاريخ الفقه كله هو تاريخ آراء واختلافات وردود، وأن الشريعة ـ كما هي الخطاب الشرعي بعمومه ـ تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما تضافرت عليه النصوص الصحيحة الصريحة المعضودة بالإجماع العملي (كوجوب الصلاة عموما، عدد الركعات، تحريم السرقة... إلخ) وهذه قليلة ومحصورة، والأهم أنها معروفة من جميع المسلمين بحكم التدين الموروث، يعرفها تمام المعرفة جاهلهم وعالمهم، المتدين وغير المتدين. 

والقسم الثاني ـ وهو الأكثر الأعم ـ ما هو تفصيلي/ فرعي/ هامشي، ويحتاج إلى معرفة شرعية بمستوى ما، وهو مما وردت فيه نصوص؛ ولكن، إما أن ثبوتها ظني، وإما أن دلالتها ظنية، وإما أن النصوص فيه كثيرة متضاربة، وحتى بعضها، مما هو قطعي الدلالة اختلفت فيه الآراء، بل وجرى العمل بخلافه منذ أيام الأئمة/الصحابة، كما في إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم بتأويل طارئ؛ رغم كون النص فيه قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وكعدم تقسيم أرض الفتوحات الأولى؛ رغم كون النص فيه قطعي الدلالة قطعي الثبوت... إلخ الأمثلة المعرفة في التاريخ الفقهي.

لا شك أن عدم استقرار آليات الاستنباط/ أصول الفقه من أهم الأسباب في وجود هذا الخلاف والاختلاف، بل والاضطراب. فمثلا، هل عليَّ أن أتبع النص قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة، فيما لو تعارض مع مصلحة يقينية، أو راجحة (كما في المثالين السابقين: سهم المؤلفة قلوبهم، وتقسيم أرض الفتوحات)؟ سؤال محوري، ولكن ليس ثمة إجابات مقنعة وحاسمة، بل مجرد آراء، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

إن ما يتحاشى كثير من الفقهاء الاعتراف به أن آليات الاستنباط ذاتها (أصول الفقه) هي ـ في الأصل ـ مجرد اجتهادات تأويلية على ضوء النصوص من جهة، وعلى ضوء تعامل الجيل الأول مع هذه النصوص (مع أن تعاملهم هذا هو اجتهادي أيضا!). ومَن قُدّر له أن يطلع على أهم المراجع في أصول الفقه التي يُراد لها أن تضبط عملية الاستنباط يجد الخلاف فيها واسعا، وقلّما تسلم قاعدة أصولية من اعتراضات تقل أو تكثر. وهذا يعني في النهاية أن "العلم الشرعي" يطلق عليه مصطلح "علم" من باب المجاز أو من باب المقاربة/ المشابهة للإجرائيات العلمية. وإلا فليس له ما للعلم التجريبي من انضباط منهجي؛ بحيث يكون الخلاف فيه، والتعقيب عليه زيادة أو نقصا، عملا مضبوطا يجري في أضيق الحدود، ويحتاج إلى اعتراف مؤسساتي واسع.

إن الاختلافات الفقهية كانت موجودة منذ فجر التاريخ الفقهي، لكن، ما استجد الآن، هو معرفة عموم الجماهير بهذا، وسماعهم به

إن هذه السيولة في القواعد/ القوانين الفقهية، وكونها في الأصل مجرد اجتهادات تأولية؛ مهما زعم أصحابها الحسم فيها، جعلت التحولات الدراماتيكية من التحليل إلى التحريم ومن التحريم إلى التحليل سلوكا شائعا في التاريخ الفقهي، بل وفي تنوع الجغرافيا الفقهية في العصر الواحد، ليس في القضايا الخلافية فحسب، بل حتى في القضايا التي تواترت فيها النصوص أيضا. أما ما لم يرد فيه نص، وكان الحكم فيه مجرد استنباط ظني بقواعد عامة (كسد الذرائع مثلا)، أي قواعد تُحيل إلى إحداثيات الواقع، فإن التحوّل، بل والتناقض، هو المسلك المعتاد، بل وهو الطبيعي. ثم إذا أضفنا إلى ذلك كون الإجرائية الفقهية ذاتها أقرب إلى "المعرفة العامة" منها إلى "العلم التخصصي المنضبط"، عرفنا أن الفقيه محكوم ـ إلى درجة كبيرة ـ بالبيئة الاجتماعية/ الثقافية التي يتموضع فيها، وأن أفق وعيه لن يتجاوزها إلا في القليل النادر جدا (وهو الاستثناء). وطبيعي في مثل هذه الحال أن تكون الآراء الفقهية ليست أحكاما في الحقيقة، بل هي مجرد آراء عامة يستحسنها الفقيه في مرحلة ما؛ بحكم الحاضنة الثقافية، أو بحكم تحولات الواقع، أو بحكم المزاج الخاص، أو بحكم كل هذه مجتمعة متفاعلة على نحو جدلي خفي، بحيث تحكم مسار عملية التفقّه، ومن ثم مسار "الفقه الشرعي" ذاته، المسطور في مدونات الفقهاء، أو الذي في طريقه ليكون مسطورا.

أصبح اليوم معروفا لعموم جماهير المتدينين. وهي معرفة جماهرية واسعة تقود بلا شك إلى زعزعة الثقة في "الفقيه" الذي احتل موقعه المحوري في الحراك الاجتماعي بواسطة هذه الثقة التي كانت مطلقة أو شبه مطلقة عبر تاريخ طويل. والآن، هل أنا بحاجة أيضا لأضيف حقيقة باتت معروفة، وهي أن الاشتراطات التقليدية لـ"الاجتهاد الفقهي" ـ كما قررها التراث في عصور ازدهاره ـ لم تعد متوفرة في الفقهاء الجماهيريين اليوم، وأن هذا بدوره يسهم في طي صفحة تاريخ كان هو: عصر الفقهاء؟

++++++++++++++
تويتات

يريد "المسلم التقليدي" أن يجد شيئا ـ ولو وَهْما ـ يجابه به انسحاقه الحضاري أمام هذه التفوق الغربي الكاسح. لا يستطيع مغالطة الوقائع المادية هنا؛ لأنها تملأ عليه مدى سمعه وبصره. ولهذا، يهرب إلى تقسيم الحضارة إلى جانبين: مادي وروحي/ معنوي؛ ليعلن تفوقه الروحي ـ المزعوم !ـ على الغرب !

أخطر اليقينيات هي اليقينيات القائمة على قاعدة من القداسة الدينية. أما اليقينيات الأخرى: العلمية، الفلسفية، الأدبية،الفنية...فهي قابلة للجدل، هي بطبيعتها في سياق حوار دائم، وبالتالي، هي قالبة للتحوّل إلى نسبيات؛ حتى وإن ادّعت الإطلاق/ اليقين ابتداء.
او يعزي نفسه عبر ترديد كذبة أن الغرب سرق حضارتنا وعلومنا وثروتنا

المجتمع المسلم اليوم يتصور نفسه أخلاقيا؛ من حيث هو يتطهر في مسألة العلاقات بين الرجال والنساء، أي في مسألة العلاقات الجنسية التي حمل عليها المنطق الأخلاقي قسرا وحصرا؛ بينما هو في الحقيقة غير أخلاقي في عموم الأخلاق. ولو كان أخلاقيا حقا لكانت حاله غير هذه الحال: التخلف والانحطاط.

++++++++++++++++

التنوير والفقهاء المستنيرون

المنطق الفقهي التقليدي والمنطق التنويري الحداثي ـ فهل ذلك موجود فعلا على أرض الواقع؟

 أزمة الخطاب الديني الجماهيري الذي يُكوّن ـ على نحو مباشر وغير مباشر ـ الخلفية النظرية لمعظم أزماتنا؛ على اعتبار أن هذا الخطاب الديني يُحيل إلى تراث عام يتجاوز المكونات الدينية الصريحة (ما يسمى بعلوم الدين) إلى كل ما تمحور تاريخيا حول النصوص المقدسة، وتقاطع معها في سياق تفاعلها الجدلي مع حركة الواقع/ التاريخ.

مارس الانفتاح الإعلامي دورا عكسيا؛ فبدل أن يكون نافذة انفتاح على العالم الحر استغله المتطرفون بدعم جماهيري ساحق؛ لنشر وتعميم وترسيخ رؤى الانغلاق

إن ما يدعونا إلى طرح مثل هذه الأسئلة الحائرة بين الحين والآخر، هو هذا الانسداد الثقافي الذي بات يخلق وضعا ثقافيا ـ ومن ثم واقعيا/ مسلكيا ـ يؤسس لحالة من البؤس العام. هذا سبب، وثمة سبب آخر، وهو أننا نلاحظ أن لا شيء يكشف مدى بؤس المسار الفقهي/ الثقافي في عالمنا الإسلامي كما يكشفه ابتهاج "التنويريين" بأدنى انفراجة فقهية تصدر عن هذا الفقيه أو ذاك المُتفَيَقِه؛ حتى بات الإعلام التقدمي يقيم الحفلات الاحتفائية بفتاوى تفصيلية/ هامشية، يرى أنها كافية لتضيء الدرب للمسار التنويري الطويل!

لا شيء يكشف حجم التخلف الثقافي المروع في معظم أقطار العالم الإسلامي أكثر مما تكشف عنه هذه القضايا التي يتمحور حولها الجدل الفقهي/ الثقافي. قضايانا أصبحت من نوع: هل يجوز سماع الموسيقى أم لا يجوز؟ هل الحجاب واجب أم غير واجب؟ هل يجوز السلام على غير المسلم أم لا يجوز؟ هل تجوز مصافحة المرأة أم لا تجوز؟ هل إهداء الورود للمرضى جائز أم حرام؟... إلخ؛ الفتاوى الهامشية التي تعكس هامشية وعينا، والتي أصبح الموقف منها ـ انفتاحا أو انغلاقا ـ هو ما يحدد هوية الفقيه؛ من حيث علاقته بخطاب الاستنارة التي يراهن عليها التقدميون. فإذا مال الفقيه ـ بعد طول تردد قد يمتد لسنوات وسنوات؛ وبعد أن يربط أحزمة الأمان تحسبا لعواصف المعترضين ـ إلى الجواز في هذه المسائل وأشباهها، فهو ـ في تصور السائد الثقافي/ الإعلامي البائس ـ فقيه مستنير يستحق أن يُقدّم، وأن يُحتفى به كأمل واعد للخلاص من الفقه الانغلاقي المتشدد (الفقه الانغلاقي الذي لا يزال هو التراث المرجعي لمثل هذا الفقيه المستنير!).

إن هذه قضايا التي هي من هوامش الفرعيات، لو أنها نوقشت في العصور الوسطى/ عصور الظلام لكانت من دلائل التخلف والانحطاط، فما بالك وهي تناقش اليوم ـ بكل جِدّية، وبكل حِدّية ـ كقضايا مستقبلية مصيرية، تتحكم الآراء فيها/ الأحكام المستحقة بمسار وعي الأغلبية الجماهيرية، لا في حدود هذه القضايا فحسب، وإنما في كل القضايا التي تندرج في سياق عملية الهيمنة الكهنوتية التي تتغيا التحكم بمجمل الحراك المجتمعي؛ كعملية تعويض ضمني ـ واعيا وغير واع في آن ـ عن السلطة العليا التي أبعدوا عنها بالقوة منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، بل وهُمشوا على نحو صريح، مصادم ودام في معظم الأحيان.

لكن، هل يعني كل ذلك التصحر التنويري والفقر العلمائي الفقهي انعدام وجود "فقهاء مستنيرين" قادرين ـ ذاتيا ـ على تجاوز المعطيات التراثية من جهة، وعلى تحدي المحيط الاجتماعي/ الثقافي، بما في ذلك مؤسساتهم/ مرجعياتهم العلمية، من جهة أخرى؟

تصوري أن هذا النوع من الفقهاء، الذي يمكن الرهان عليه حقيقة، معدوم أو في حكم المعدوم. فأولا، وجودهم نادر جدا، وهامشي، وضعيف، وغير مؤثر، بل هم شبه معزولين على مستوى القدرة على الفعل، وعلى مستوى حجم التلقي/ الاستقبال الجماهيري. وثانيا، تجاوزهم للرؤى الانغلاقية هو في الغالب غير مُؤسس على تطورات فلسفية/ ثقافية في السياق المجتمعي الذي يتموضعون فيه، بحيث تعضد مثل هذه التطورات خطابهم؛ عندما يندرج في سياقها فاعلا ومتفاعلا. بل هم على العكس تماما، غير قادرين على الوقوف بـ"تجديدهم المتجاوز" على أرضية تراثية صلبة تمنح "استنارتهم" مشروعية واسعة تمكنها من الفعل في الواقع، كما أنهم ـ في الوقت نفسه ـ غير قادرين على مَوْضَعة خطابهم في سياق ثقافي/ ثورة ثقافية نوعية شاملة؛ إذ لا وجود لهذه في الواقع العربي/ الإسلامي من الأساس.

لعل أهم دلائل هذا الواقع المظلم أن كهنة الخطاب المتطرف، دينيا وقوميا، هم المهيمنون على عمليات تشكيل الوعي العام

كل هذا يدل على أن ما نراه ونسمعه في مسار الخطاب الديني من "انفراجات فقهية" فرعية وهامشية، يتبرع بها هذا الفقيه أو ذاك، بحيث تبدو وكأنها بوارق استنارة؛ ليست ـ في حقيقتها ـ إلا مؤشرات تحدد موقعنا في منحدرات التخلف الثقافي. فهي محاصرة من عدة جبهات: من خطاب ثقافي بائس مناهض لها في العمق؛ حتى وإن بدا أنه مناصر لها على نحو ما، وخطاب انغلاقي متشدد يشكل نقطة احتماء لكثير من الحائرين والغاضبين، وهو يكتسب مشروعيته من تجريمه لهذه الانفراجات، وخطاب أصوليات الإسلام السياسي التي تتوسل بالدين لتحقيق أهدافها السياسية، والتي يتحدد قبولها أو رفضها لهذه الفقهيات التجديدية بناء على عوائدها البراغماتية للحزب/ التيار السياسي، وخطاب مؤسسات تعتقد أن ثباتها على مقولاتها شرط وثوقيتها في الذهنية العامة للجماهير... إلخ.

هنا يتضح حجم البؤس المخيم على مجمل الخطاب الديني، لا في واقعه الراهن فحسب، وإنما في مستقبله المنظور أيضا. نعم، قد تُحدث العولمة مسارا تقدميا آخر؛ فيأتي التنوير متجاوزا لكل صور الخطاب الديني؛ بما يعني القفز على أخطر الإشكاليات الدينية بالسكوت عنها. لكن، هذا هو ما يمنحها الفرصة للانبعاث من جديد وفق تقلبات الطقس المجتمعي الإسلامي المتخم بكثير من الأزمات التي لا يبدو أنها قابلة للحل في المستقبل القريب.

رؤية متشائمة للواقع الثقافي/ الفقهي في العالم الإسلامي، والعالم العربي تحديدا. وليتها كانت كذلك، بل للأسف، هذا هو "الواقع المتشائم" بأناسه وأشيائه، والذي لا يعني التفاؤل به إلا تزييفا صريحا لوقائعه؛ بقدر ما هو تزييف لهوية تراثه الذي يتشكل وعيه من خلاله. ولعل أهم دلائل هذا الواقع المظلم أن كهنة الخطاب المتطرف، دينيا وقوميا، هم المهيمنون على عمليات تشكيل الوعي العام، وأن الانفتاح الإعلامي/ التواصلي مارس دورا عكسيا؛ فبدل أن يكون نافذة انفتاح على العالم الحر/ المتحضر/ الإنساني، وتحقيق مزيد من الفهم للذات وللآخر، استغله المتطرفون/ الانغلاقيون بدعم جماهيري ساحق؛ لنشر وتعميم وترسيخ رؤى الانغلاق وأوهام الذات عن الذات وعن الآخر. وبالتالي، وضع مزيد من العقبات الوهمية/ التصورية التي لم تكن موجودة من قبل، أو كانت موجودة ولكن على نحو واهن وخافت، وها هي اليوم أصبحت تحول دون استنبات خطاب التنوير في عالم متخلف لن ينقذ نفسه إلا بخطاب التنوير في سياق عملية تواصل إبداعي خلاق مع أهم ما فيه من مبادئ إنسانية وتقدمية أثبتت جدارتها وفاعليتها مع مرور الأيام.
ــــــــــــــــــــ+++++++++++++++

أحلام الجماهير في الشرق الأوسط

تحلم جماهير الشرق الأوسط بما تحلم به الجماهير في شتى بقاع الأرض، تحلم كغيرها بالحرية والسلام والعدل والرخاء والازدهار وتطور الأوطان على كل المستويات؛ مُتوسِّلة إلى ذلك بمبادئ وآليات وهياكل مُؤسَّساتيّة، أدركت ـ بمشاهدات عابرة، وبمقاربات خاطفة ـ أنها حقّقت للعالم الأول/ العالم المتحضر كل ما تحلم به منذ أمد بعيد، وتصوّرت ـ أو توهّمت! ـ أنها إن أرادت إنجاز ما أنجزه المتحضرون؛ فلا عليها إلا أن تقول بأنها تريده، أن تردد شعاراته؛ ليتحول الحلم المنشود ـ بقوة سحرية ـ إلى واقع يملأ مدى الأبصار والأسماع.


تنادي هذه الجماهير بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتطمح لبناء مجتمعات مُؤسّساتية مُتَعاضِدة لتحقيق "الخير العام"؛ كما هو الحال في العالم الأول/ العالم المتقدم.

يقول المفكر اللبناني الكبير/ خليل أحمد خليل: كان الجمهور العربي جمهور "الطرب السياسي"، لا جمهور "الفعل السياسي"(سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر، ص123). وفعلا، ما يأخذ بألباب الجماهير في هذه المنطقة الشرق أوسطية هي الاستعراضات السياسية، الشعارات الصاخبة؛ لا الفعل السياسي الذي يبدأ من الوعي بشروط حضور الأفكار وانفعالها وتفاعلها، مقرونا بالوعي بشروط الواقع واستحقاقاته التي لا يمكن القفز عليها بحال.

عيون الجماهير الراصدة للواقع بعيدة كل البعد عن معاينة عالم الأفكار التي صنعت هذا الواقع، أو أفرزها هذا الواقع في مدى تفاعلهما الجدلي. عيون الجماهير الحالمة مشدودة دائما إلى الواقع العيني، والأسوأ أنها ليست مشدودة إلى هذا الواقع بكُلّيته، بامتداته العمودية (خلفياته التاريخية) والأفقية (علائقه الجيو ـ سياسية)، وإنما هي مشدودة فقط إلى هذا الواقع في مستوى تمظهره العيني المباشر/ الآني.

إن السلوك البشري، الواعي واللاواعي، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعات، إنما يصدر عن تصورات ذهنية حاكمة، عن أفكار راسخة مهيمنة. وتمظهرات السلوك/ الأفعال ما هي إلا انعكاس لجدلية الأفكار في نهاية المطاف؛ حتى وإن كان ثمة مساحة واسعة ما بين "عالم الفكر" و"عالم الفعل"، مساحة متاحة لكثير من التفاعلات التي قد يوحي جهلها أو تجاهلها بتوهم الفصل بين هذين العالمين، الفصل الذي ينتهي إما إلى القول بأصالة الفكر وتحوله ـ في أغلب/ كل مستوياته ـ إلى متعاليات ميتافيزيقية، أو أصالة الواقع وتحوله إلى أصل الأصول. يتماشي مع موت نورهان

على أي حال، بما أن حديثنا هنا عن "الجماهير" تحديدا، فهو بالتالي حديث عن غياب "الفكر

الفقر والحرمان والاستبداد والجهل والبطالة...إلخ، ظواهر موجودة في أكثر من مكان، وفي كل زمان. فلماذا في لم يتحول أغلب الضحايا لكل هذا ـ وهم بالملايين ـ إلى إرهابيين أصوليين، أو إلى ثوار حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية.
إن الأفكار هي ما تحدد الوعي بالفقر والحرمان والاستبداد والجهل، وتحدد طبيعة التفاعل معه إيجابا أو سلبا. بل ثمة من الظواهر ما تكون الفكرة هي الأصل والفصل، هي خط المسار من البداية إلى النهاية.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق